من مذكرات الأديب العربي السوري خليل هنداوي
الإهداء
"إلى والديّ الراقدين المتجاورين في مقبرة الباشورة(1) ببيروت
حيث لن يكتب لي القدر الرقاد معهما"
خليل
قصة حياتي
1906
" كم يسرني ويملأ نفسي غبطة أن أكون كذلك الجدول الصغير الذي لا يزال يجري منذ سنين، ليسقي هذه الأزهار، والواحات التي تمتد على ضفتيه.
وأن أكون كتلك الشجرة الباسقة التي ذهبت منها فروع وأغصان كثيرة، تمتع بظلها، وتنفع بخيرها.
فلتهنأ هذه الجذور في أعماق التراب، لأنها تبقى حية بأزهارها وثمارها وذكرياتها، ولا ضير عليها، بعد أن تيبس ، أن تمسي وقوداً في النار المقدسة، لتتحول إلى رماد.
وما الرماد إلا تلك الزهرة البيضاء المتفتحة التي لا تذبل بعد أن تنطفئ النار.
هذا هو عزائي في الحياة ، وأكرم به من عزاء جميل ".
خليل
مقدمة
هذه هي قصة حياتي.
تدفعني إلى الوراء، بدلاً من أن تنطلق بي إلى الأمام.
ولكن ... هل كانت الحياة تقاس بمقياس الأيام الماضية والآتية؟ وهل كان الجديد، دائماً، شيئاً مسلوخاً عن القديم.
أليست الشجرة الحية تجمع بين الجذور العتيقة ، المدفونة في التراب، وبين الأوراق والأزهار الجديدة التي يتنفس بها الربيع، كل ربيع؟
ولكن، هل أراني قادراً على تحليل حياتي، حين أروي قصة حياتي؟ لأن الحياة نفسها، ذات السر المجهول ، تأبى أن تتكشّف بأعماقها ودوافعها لعين صاحبها.
إننا نزعم أننا نعرف حياتنا كل المعرفة، وأننا نتحكم في هذه الحياة، ونحن في الحقيقة، لا نستطيع أن ندرك إدراكاً واعياً، من حقيقتها، ولو جزءاً من أجزائها.
لذلك، كان الذين يترجمون عن حياتهم أشباه أغبياء، أو مخدوعين على الأقل، حين يساور أنفسهم أنهم قادرون على إحصاء كل حادثة من حوادثها، وتحليل كل خفية من خفاياها، في عدد من الصفحات لا تستطيع - مهما طالت - أن تحلل مكنونات ساعة واحدة من ساعات هذه الحياة. أو أن تكشف عن كهف واحد من كهوف هذه النفس التي لا تحد رغباتها ولا تحصى ميولها.
وأنا أدرك أن السفينة التي تمخر البحر، وتحول شراعها نحو ناحية، قد تكون في الوقت ذاته، هدفاً لتيار خفيّ، عميق، يجذبها من الأسفل، بأكثر مما تجذبها الريح من الأعلى.
هذه قصة حياتي تبدأ بقصة طفولتي.
إذا تذكرت هذه الطفولة تذكرت من عاشوا معي أطفالاً، وإذا استدعيت هذه الطفولة لتمشي أمامي على عكازيها الضعيفين تصورت طفولاتٍ لا تعدّ ولا تحصى، تمشي مشية طفولتي، كلها يسوقها الألم، ويحدوها الشقاء، إلى الجهاد التي منعتها الحرب وأهوالها أن تعيش سعيدة، منطلقة.
وكأنما هذه الطفولات تجاهد، فيما يجاهد من أجله المحاربون، تجاهد من أجل الخبز الذي احتكره أعداء الشعب.
من هذه الطفولات من يخوض العباب ولا يعود، ومنها من يخوض ويعود متعباً، مكدوداً. ومن ذا الذي لا يذكر أولئك الأطفال المتزاحمين في كل مكان، على الأرصفة الرمادية، في الدروب المهجورة، أمام أطباق الخبز المحترقة على من لا يملك النقود، وقد عمل بهم الجوع، فلم يترك منهم إلاّ جلوداً على عظامٍ ناتئة، تتحرك كالأشباح، قد خنق اليأس أصواتهم، وغلّ الجوع أيديهم، فهم في حالةٍ لا يستطيعون دفع الموت عنهم، وقد أيقنوا بأنهم ملاقوه، وإنما يستعجلونه ليستنقذهم من آلام الحياة التي أصبحت لعنة عليهم.
أجل، أتمثل هؤلاء، وأنا واحد منهم ...
أتمثل الشاردين الذين لم تترك الحرب آباءهم، وما أكثرهم. والذين انتزع الجوع منهم أمهاتهم، فهم يعيشون ويمشون، ولكن أسماءهم سجلت سلفاً على شواهد القبور المنسية.
أذكر هؤلاء، وأذكر طفولتهم التي كافحت كفاح طفولتي.
وهكذا، لا أجد طفولتي وحدها، في ميدان الكفاح، وإذا نظرت إلى نفسي لم أجد نفسي وحدها، ومن أنا حتى أشغل الناس بنفسي؟
ولكني أتصوّر أولئك الذين كانوا مثلي أطفالاً، وجاهدوا مثلي في سبيل الخبز والحياة، وما كان أكثرهم.
أناديهم، فتكتظ الشوارع بهم، فأرى منهم بقية الأحياء يمشون، والأموات منهم يكرّون أمامي كالأشباح الشاحبة.
هذه صورة طفولتي التائهة، المجاهدة التي رافقت التائهين على الدروب، وطاردت الرغيف، والرغيف يركض أمامها.
في هذه الصورة، لن تجد تاريخ طفولتي وحدها، بل إنك واجد فيها تاريخ كل طفولة ...
هذه هي ... قصة حياتي .
قصة حرصت بها على الأمانة ، وليس من همي أن أظهر نفسي رجلاً نبيلاً، مبرءاً من كل عيب، ولكن همي أن أظهر فيها إنساناً... مجرد إنسان له حسناته وسيئاته، وتجاربه وخطيئاته.
إنسان خلق قبل كل شيء، من لحم ودم وعصب.
وإن في إظهار الإنسان كما هو منزلة تجعله أسمى من الإنسان الذي يحتال في إخفاء عيوبه، وإظهار محاسنه الصحيحة والزائفة.
فأقرؤوا فيها "الإنسان" قبل أن تقرؤوا فيها "الأديب".
وفن سير الحياة فن طرقه العرب على قلة، كما طرقه الغربيون على كثرة.
ولهذا الفن طريقتان: أن يكتب الرجل نفسه قصة حياته بيده، أو أن يكتبها آخر، معتمداً على الوثائق والنصوص، ولاشك أن الطريقة الأولى أقرب إلى الحقيقة، لأنها تنبض بحياة صاحبها.
وقد يكون الضرب الثاني مثلاً في الروعة، إذا تولاّه كاتب مرموق تصله بمن يروي قصته، صداقة وصلات قريبة.
ولعل كتاب "جبران خليل جبران( 2)" الذي روى فيه "ميخائيل نعيمة( 3)" حياة جبران في قصة ممتعة، مؤثرة، هو أول كتاب في الأدب العربي يستحق التقدير.
وقد نقم بعض النقاد على "نعيمة" أنه تنكّر للصداقة، حين راح يصور لنا جبران بحقيقته البشرية. وهم - بحكم ريائهم- لا يودون أن يروا في جبران إلا نبياً كنبيه، طهراً وصفاء، وقد فاتهم أن تصوير جبران كبشري هو أروع من تصويره كنبي. وما كان للإنسان أن يكون معصوماً، ولا للأنبياء أن يكونوا معصومين من الخطأ والخطيئة، والصورة التي تتخللها البقع السود، والنقط البيض أبلغ من صورة بيضاء، ناصعة كاذبة ليس فيها شيء.
وهكذا ستراني هنا، كما حييت، مجردا من كل ثوب مستعار، حياة شقية، معذبة بآلامها، قلقة بخطيئاتها، عزيزة بتساميها.
وقد كان جديراً بي أن أنقم على هذه الحياة، ولكني، مع هذا فخور بها، لأنها هي التي حفّزتني إلى العمل. وفي الحق أن ليست المعجزة في أن تنبت الحبة في حقل تعهّده البستاني بالشق، والحرث، والسقي، ولكن المعجزة، كل المعجزة، في أن تشق هذه الحبة الضعيفة، المهملة طريقها في الصخرة الصمّاء، وتنبت، وترتفع شامخة
إلى الأعلى.
حواشي سفلية
1) جبانة الباشورة: تقع هذه المقبرة في منطقة البسطة التحتا المجاورة لساحة رياض الصلح وسط مدينة بيروت. تعتبر جبانة الباشورة من الجبانات الإسلاميّة القديمة، وقد أطلق عليها قديماً إسم تربة سيدنا عمر، نسبة إلى الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وكانت في البدء بمثابة سد ترابي كبير، وهذه الجبانة الواقعة قبلي مدينة بيروت القديمة كانت بدون سور يحميها، إلى أن أحيطت بسور حوالي العام 1892م، وقد سعى ببنائه الشيخ عبد الرحمن الحوت نقيب السادة الأشراف، وذلك للمحافظة على حرمة قبور المسلمين. ومن ملامح هذه الجبانة القبر المعروف في بيروت باسم (قبر الوالي)، وهو قبر والي سورية أحمد حمدي باشا الذي دفن في الباشورة. ولكن بعد أن عزمت الدولة في أوائل القرن العشرين توسيع طريق الباشورة، اضطرت بلدية بيروت إلى نقل بعض القبور إلى داخل الجبانة ومنها قبر الوالي الذي لا يزال إلى اليوم مميزاً في مظهره وشكله حيث تتوجه القبة .
كلمة الباشورة يتداولها الناس في بيروت كلما ودعوا للمرة الأخيرة واحد منهم وأودعوه الثرى ليكون في رحاب ربه وجواره الكريم، وهذه الكلمة التي أصبحت علماً على مقبرة المسلمين الرئيسيّة في بيروت هي في الأساس من المصطلحات العسكرية التي لها علاقة بمنشآت الدفاع والاستحكامات الحربيّة، فقد كان العرب يطلقون هذه الكلمة على البرج المتعالي على مداخل قلاعهم وأسوارهم ليباشروا منه الدفاع عن مدنهم ويسميها الإفرنج بلغتهم Barbacaneهكذا قال المستشرق الألماني فان برشام (Max Van Berchem) المتخصص بالآثار الإسلاميّة والفنون العسكرية عند العرب. ماكس فان برشام (1863 - 1921): ولد ماكس فان برشم في جنيف في عام 1863 وزاول دراسته هناك قبل التوجه الى شتوتغارت ثم لايبتسيغ بألمانيا حيث حصل على شهادة الدكتوراه بأطروحة قدمها عن الضرائب العقارية في الإسلام في عام 1886. توجه في عام 1886 إلى مصر حيث اكتشف العديد من الكتابات والآثار الإسلامية المعرضة للاندثار والتي لم يسبق أن تم جردها وتوثيقها. وهي المهمة التي تولاها بالشروع في تحليل أحياء القاهرة والتقاط صور لتلك المعالم والكتابات. كان ماكس فان برشم أول من تفطن لأهمية هذه الكتابات وما يمكن أن تقدمه من معلومات لفهم التاريخ فهما جيدا. شرع في أعماله بمصر وبرفقة عدد من المساعدين ما بين عامي 1887 و 1890. وقد تردد على فلسطين والقدس للقيام بنفس الأبحاث خلال السنوات 1988، 1893، 1894 و 1914. كما زار سويا خلال سنوات 1894 و 1895 و 1914. في ربيع عام 1921 وأثناء زيارته لمصر للاشراف على طبع كتابه "Corpus de Jerusalem" مرض واضطر للعودة إلى جنيف حيث توفي بعد بضعة أسابيع من ذلك.
وكان أبناء بيروت يطلقون على الشخص الذي يقوم بتجهيز الميت، وغسله وإعداده للدفن (النصولي)، وما يزال هذا الاسم يطلق على إحدى العائلات البيروتيّة حتى اليوم، ولمقبرة الباشورة اليوم أربعة أبواب كلها تقع في جدارها الغربي، اثنان منهما يستعملان والبابان الآخران لا يستعملان، أما البابان الرئيسيان فواحدهما يقع في الناحية الشماليّة من المقبرة إلى جهة الغرب يليه درج حجري ينتهي بسقيفة من الإسمنت المسلح يستعملها المشيعون للجنائز في واجبات التعزية بالميت، والباب الآخر من الجهة الجنوبيّة من الجدار الغربي وهذا الباب متصل مباشرة بأرض المقبرة.
الباشورة اشتهرت على لسان الناس باسم (التربة)، وهي تدار اليوم من قِبل إحدى اللجان التابعة لجمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة قي بيروت.
2) )جبران خليل جبران شاعر لبناني، ولد في 6 كانون الثاني 1883 م في بلدة بشري شمال لبنان وتوفي في نيويورك 10 نيسان 1931 م بداء السل. سافر مع أمه وإخوته الى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1895، فدرس فن التصوير وعاد الى لبنان، وبعد أربع سنوات قصد باريس حيث تعمق في فن التصوير. عاد الى الولايات المتحدة الامريكية وأسس مع رفاقه "الرابطة القلمية" وكان رئيسها. كان في كتاباته اتجاهين، احدهما يأخذ بالقوة ويثور على العقائد والدين، والآخر يتتبع الميول ويحب الاستمتاع بالحياة.
3) ميخائيل نعيمة ولد في جبل صنين في لبنان عام 1889 وانهى دراسته المدرسية في مدرسة الجمعية الفلسطينية في بسكنتا وتبعها بخمس سنوات جامعية في بولتافيا الأوكرانية بين عامي 1905 و 1911 ، ثم اكمل دراسته في الولايات الامريكية المتحدة (منذ ديسمبر 1911) وحصل على الجنسية الامريكية . انضم الى الرابطة القلمية وكان نائبا لجبران خليل جبران في الرابطة القلمية ،التي أسسها أدباء عرب في المهجر ، عاد الى بسكنتا عام 1932 واتسع نشاطه الأدبي . لقّب ب"ناسك الشخروب" ، توفي عام 1988. يعدّ ميخائيل نعيمة مدرسة انسانية فريدة .. ومذهب ناصع من أنبل مذاهب الفكر الإنساني، العربي والعالمي. من مؤلفاته: همس الجفون، البيادر، كان ما كان، الأوثان، سبعون، المراحل، كرم على درب، مذكرات الأرقش، مسرحية الآباء والبنون، مرداد، أيوب، جبران خليل جبران، اليوم الأخير، في مهب الريح، هوامش، دروب، أكابر، أبو بطة، أبعد من موسكو ومن واشنطن، صوت العالم، النور والديجور.
الإهداء
"إلى والديّ الراقدين المتجاورين في مقبرة الباشورة(1) ببيروت
حيث لن يكتب لي القدر الرقاد معهما"
خليل
قصة حياتي
1906
" كم يسرني ويملأ نفسي غبطة أن أكون كذلك الجدول الصغير الذي لا يزال يجري منذ سنين، ليسقي هذه الأزهار، والواحات التي تمتد على ضفتيه.
وأن أكون كتلك الشجرة الباسقة التي ذهبت منها فروع وأغصان كثيرة، تمتع بظلها، وتنفع بخيرها.
فلتهنأ هذه الجذور في أعماق التراب، لأنها تبقى حية بأزهارها وثمارها وذكرياتها، ولا ضير عليها، بعد أن تيبس ، أن تمسي وقوداً في النار المقدسة، لتتحول إلى رماد.
وما الرماد إلا تلك الزهرة البيضاء المتفتحة التي لا تذبل بعد أن تنطفئ النار.
هذا هو عزائي في الحياة ، وأكرم به من عزاء جميل ".
خليل
مقدمة
هذه هي قصة حياتي.
تدفعني إلى الوراء، بدلاً من أن تنطلق بي إلى الأمام.
ولكن ... هل كانت الحياة تقاس بمقياس الأيام الماضية والآتية؟ وهل كان الجديد، دائماً، شيئاً مسلوخاً عن القديم.
أليست الشجرة الحية تجمع بين الجذور العتيقة ، المدفونة في التراب، وبين الأوراق والأزهار الجديدة التي يتنفس بها الربيع، كل ربيع؟
ولكن، هل أراني قادراً على تحليل حياتي، حين أروي قصة حياتي؟ لأن الحياة نفسها، ذات السر المجهول ، تأبى أن تتكشّف بأعماقها ودوافعها لعين صاحبها.
إننا نزعم أننا نعرف حياتنا كل المعرفة، وأننا نتحكم في هذه الحياة، ونحن في الحقيقة، لا نستطيع أن ندرك إدراكاً واعياً، من حقيقتها، ولو جزءاً من أجزائها.
لذلك، كان الذين يترجمون عن حياتهم أشباه أغبياء، أو مخدوعين على الأقل، حين يساور أنفسهم أنهم قادرون على إحصاء كل حادثة من حوادثها، وتحليل كل خفية من خفاياها، في عدد من الصفحات لا تستطيع - مهما طالت - أن تحلل مكنونات ساعة واحدة من ساعات هذه الحياة. أو أن تكشف عن كهف واحد من كهوف هذه النفس التي لا تحد رغباتها ولا تحصى ميولها.
وأنا أدرك أن السفينة التي تمخر البحر، وتحول شراعها نحو ناحية، قد تكون في الوقت ذاته، هدفاً لتيار خفيّ، عميق، يجذبها من الأسفل، بأكثر مما تجذبها الريح من الأعلى.
هذه قصة حياتي تبدأ بقصة طفولتي.
إذا تذكرت هذه الطفولة تذكرت من عاشوا معي أطفالاً، وإذا استدعيت هذه الطفولة لتمشي أمامي على عكازيها الضعيفين تصورت طفولاتٍ لا تعدّ ولا تحصى، تمشي مشية طفولتي، كلها يسوقها الألم، ويحدوها الشقاء، إلى الجهاد التي منعتها الحرب وأهوالها أن تعيش سعيدة، منطلقة.
وكأنما هذه الطفولات تجاهد، فيما يجاهد من أجله المحاربون، تجاهد من أجل الخبز الذي احتكره أعداء الشعب.
من هذه الطفولات من يخوض العباب ولا يعود، ومنها من يخوض ويعود متعباً، مكدوداً. ومن ذا الذي لا يذكر أولئك الأطفال المتزاحمين في كل مكان، على الأرصفة الرمادية، في الدروب المهجورة، أمام أطباق الخبز المحترقة على من لا يملك النقود، وقد عمل بهم الجوع، فلم يترك منهم إلاّ جلوداً على عظامٍ ناتئة، تتحرك كالأشباح، قد خنق اليأس أصواتهم، وغلّ الجوع أيديهم، فهم في حالةٍ لا يستطيعون دفع الموت عنهم، وقد أيقنوا بأنهم ملاقوه، وإنما يستعجلونه ليستنقذهم من آلام الحياة التي أصبحت لعنة عليهم.
أجل، أتمثل هؤلاء، وأنا واحد منهم ...
أتمثل الشاردين الذين لم تترك الحرب آباءهم، وما أكثرهم. والذين انتزع الجوع منهم أمهاتهم، فهم يعيشون ويمشون، ولكن أسماءهم سجلت سلفاً على شواهد القبور المنسية.
أذكر هؤلاء، وأذكر طفولتهم التي كافحت كفاح طفولتي.
وهكذا، لا أجد طفولتي وحدها، في ميدان الكفاح، وإذا نظرت إلى نفسي لم أجد نفسي وحدها، ومن أنا حتى أشغل الناس بنفسي؟
ولكني أتصوّر أولئك الذين كانوا مثلي أطفالاً، وجاهدوا مثلي في سبيل الخبز والحياة، وما كان أكثرهم.
أناديهم، فتكتظ الشوارع بهم، فأرى منهم بقية الأحياء يمشون، والأموات منهم يكرّون أمامي كالأشباح الشاحبة.
هذه صورة طفولتي التائهة، المجاهدة التي رافقت التائهين على الدروب، وطاردت الرغيف، والرغيف يركض أمامها.
في هذه الصورة، لن تجد تاريخ طفولتي وحدها، بل إنك واجد فيها تاريخ كل طفولة ...
هذه هي ... قصة حياتي .
قصة حرصت بها على الأمانة ، وليس من همي أن أظهر نفسي رجلاً نبيلاً، مبرءاً من كل عيب، ولكن همي أن أظهر فيها إنساناً... مجرد إنسان له حسناته وسيئاته، وتجاربه وخطيئاته.
إنسان خلق قبل كل شيء، من لحم ودم وعصب.
وإن في إظهار الإنسان كما هو منزلة تجعله أسمى من الإنسان الذي يحتال في إخفاء عيوبه، وإظهار محاسنه الصحيحة والزائفة.
فأقرؤوا فيها "الإنسان" قبل أن تقرؤوا فيها "الأديب".
وفن سير الحياة فن طرقه العرب على قلة، كما طرقه الغربيون على كثرة.
ولهذا الفن طريقتان: أن يكتب الرجل نفسه قصة حياته بيده، أو أن يكتبها آخر، معتمداً على الوثائق والنصوص، ولاشك أن الطريقة الأولى أقرب إلى الحقيقة، لأنها تنبض بحياة صاحبها.
وقد يكون الضرب الثاني مثلاً في الروعة، إذا تولاّه كاتب مرموق تصله بمن يروي قصته، صداقة وصلات قريبة.
ولعل كتاب "جبران خليل جبران( 2)" الذي روى فيه "ميخائيل نعيمة( 3)" حياة جبران في قصة ممتعة، مؤثرة، هو أول كتاب في الأدب العربي يستحق التقدير.
وقد نقم بعض النقاد على "نعيمة" أنه تنكّر للصداقة، حين راح يصور لنا جبران بحقيقته البشرية. وهم - بحكم ريائهم- لا يودون أن يروا في جبران إلا نبياً كنبيه، طهراً وصفاء، وقد فاتهم أن تصوير جبران كبشري هو أروع من تصويره كنبي. وما كان للإنسان أن يكون معصوماً، ولا للأنبياء أن يكونوا معصومين من الخطأ والخطيئة، والصورة التي تتخللها البقع السود، والنقط البيض أبلغ من صورة بيضاء، ناصعة كاذبة ليس فيها شيء.
وهكذا ستراني هنا، كما حييت، مجردا من كل ثوب مستعار، حياة شقية، معذبة بآلامها، قلقة بخطيئاتها، عزيزة بتساميها.
وقد كان جديراً بي أن أنقم على هذه الحياة، ولكني، مع هذا فخور بها، لأنها هي التي حفّزتني إلى العمل. وفي الحق أن ليست المعجزة في أن تنبت الحبة في حقل تعهّده البستاني بالشق، والحرث، والسقي، ولكن المعجزة، كل المعجزة، في أن تشق هذه الحبة الضعيفة، المهملة طريقها في الصخرة الصمّاء، وتنبت، وترتفع شامخة
إلى الأعلى.
حواشي سفلية
1) جبانة الباشورة: تقع هذه المقبرة في منطقة البسطة التحتا المجاورة لساحة رياض الصلح وسط مدينة بيروت. تعتبر جبانة الباشورة من الجبانات الإسلاميّة القديمة، وقد أطلق عليها قديماً إسم تربة سيدنا عمر، نسبة إلى الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وكانت في البدء بمثابة سد ترابي كبير، وهذه الجبانة الواقعة قبلي مدينة بيروت القديمة كانت بدون سور يحميها، إلى أن أحيطت بسور حوالي العام 1892م، وقد سعى ببنائه الشيخ عبد الرحمن الحوت نقيب السادة الأشراف، وذلك للمحافظة على حرمة قبور المسلمين. ومن ملامح هذه الجبانة القبر المعروف في بيروت باسم (قبر الوالي)، وهو قبر والي سورية أحمد حمدي باشا الذي دفن في الباشورة. ولكن بعد أن عزمت الدولة في أوائل القرن العشرين توسيع طريق الباشورة، اضطرت بلدية بيروت إلى نقل بعض القبور إلى داخل الجبانة ومنها قبر الوالي الذي لا يزال إلى اليوم مميزاً في مظهره وشكله حيث تتوجه القبة .
كلمة الباشورة يتداولها الناس في بيروت كلما ودعوا للمرة الأخيرة واحد منهم وأودعوه الثرى ليكون في رحاب ربه وجواره الكريم، وهذه الكلمة التي أصبحت علماً على مقبرة المسلمين الرئيسيّة في بيروت هي في الأساس من المصطلحات العسكرية التي لها علاقة بمنشآت الدفاع والاستحكامات الحربيّة، فقد كان العرب يطلقون هذه الكلمة على البرج المتعالي على مداخل قلاعهم وأسوارهم ليباشروا منه الدفاع عن مدنهم ويسميها الإفرنج بلغتهم Barbacaneهكذا قال المستشرق الألماني فان برشام (Max Van Berchem) المتخصص بالآثار الإسلاميّة والفنون العسكرية عند العرب. ماكس فان برشام (1863 - 1921): ولد ماكس فان برشم في جنيف في عام 1863 وزاول دراسته هناك قبل التوجه الى شتوتغارت ثم لايبتسيغ بألمانيا حيث حصل على شهادة الدكتوراه بأطروحة قدمها عن الضرائب العقارية في الإسلام في عام 1886. توجه في عام 1886 إلى مصر حيث اكتشف العديد من الكتابات والآثار الإسلامية المعرضة للاندثار والتي لم يسبق أن تم جردها وتوثيقها. وهي المهمة التي تولاها بالشروع في تحليل أحياء القاهرة والتقاط صور لتلك المعالم والكتابات. كان ماكس فان برشم أول من تفطن لأهمية هذه الكتابات وما يمكن أن تقدمه من معلومات لفهم التاريخ فهما جيدا. شرع في أعماله بمصر وبرفقة عدد من المساعدين ما بين عامي 1887 و 1890. وقد تردد على فلسطين والقدس للقيام بنفس الأبحاث خلال السنوات 1988، 1893، 1894 و 1914. كما زار سويا خلال سنوات 1894 و 1895 و 1914. في ربيع عام 1921 وأثناء زيارته لمصر للاشراف على طبع كتابه "Corpus de Jerusalem" مرض واضطر للعودة إلى جنيف حيث توفي بعد بضعة أسابيع من ذلك.
وكان أبناء بيروت يطلقون على الشخص الذي يقوم بتجهيز الميت، وغسله وإعداده للدفن (النصولي)، وما يزال هذا الاسم يطلق على إحدى العائلات البيروتيّة حتى اليوم، ولمقبرة الباشورة اليوم أربعة أبواب كلها تقع في جدارها الغربي، اثنان منهما يستعملان والبابان الآخران لا يستعملان، أما البابان الرئيسيان فواحدهما يقع في الناحية الشماليّة من المقبرة إلى جهة الغرب يليه درج حجري ينتهي بسقيفة من الإسمنت المسلح يستعملها المشيعون للجنائز في واجبات التعزية بالميت، والباب الآخر من الجهة الجنوبيّة من الجدار الغربي وهذا الباب متصل مباشرة بأرض المقبرة.
الباشورة اشتهرت على لسان الناس باسم (التربة)، وهي تدار اليوم من قِبل إحدى اللجان التابعة لجمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة قي بيروت.
2) )جبران خليل جبران شاعر لبناني، ولد في 6 كانون الثاني 1883 م في بلدة بشري شمال لبنان وتوفي في نيويورك 10 نيسان 1931 م بداء السل. سافر مع أمه وإخوته الى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1895، فدرس فن التصوير وعاد الى لبنان، وبعد أربع سنوات قصد باريس حيث تعمق في فن التصوير. عاد الى الولايات المتحدة الامريكية وأسس مع رفاقه "الرابطة القلمية" وكان رئيسها. كان في كتاباته اتجاهين، احدهما يأخذ بالقوة ويثور على العقائد والدين، والآخر يتتبع الميول ويحب الاستمتاع بالحياة.
3) ميخائيل نعيمة ولد في جبل صنين في لبنان عام 1889 وانهى دراسته المدرسية في مدرسة الجمعية الفلسطينية في بسكنتا وتبعها بخمس سنوات جامعية في بولتافيا الأوكرانية بين عامي 1905 و 1911 ، ثم اكمل دراسته في الولايات الامريكية المتحدة (منذ ديسمبر 1911) وحصل على الجنسية الامريكية . انضم الى الرابطة القلمية وكان نائبا لجبران خليل جبران في الرابطة القلمية ،التي أسسها أدباء عرب في المهجر ، عاد الى بسكنتا عام 1932 واتسع نشاطه الأدبي . لقّب ب"ناسك الشخروب" ، توفي عام 1988. يعدّ ميخائيل نعيمة مدرسة انسانية فريدة .. ومذهب ناصع من أنبل مذاهب الفكر الإنساني، العربي والعالمي. من مؤلفاته: همس الجفون، البيادر، كان ما كان، الأوثان، سبعون، المراحل، كرم على درب، مذكرات الأرقش، مسرحية الآباء والبنون، مرداد، أيوب، جبران خليل جبران، اليوم الأخير، في مهب الريح، هوامش، دروب، أكابر، أبو بطة، أبعد من موسكو ومن واشنطن، صوت العالم، النور والديجور.