أدب السجون احمد يعقوب ابكر - لقاء مع القائد ياسر عرمان في زنزانته.. (متوضئاً بالثورة ، حالماً بوطنٍ أخضر)

(1)
عقارب الساعة تتحرك ببطءٍ متعمد وهي تشير نحو الواحدة صباحاً بتوقيت الوطن المفجوع ، سماء الخرطوم متشحة بالسواد ، ثمة نُجيماتٍ خِلاسيات مترعات بالحزن الشفيف الذي يهطل من مقلة صبي لم يبلغ الحُلم بعد،والمدينة التي كان الثّوارُ فيها يعزفون على وتر الاماسي أغنيات الفرح الاتي بسودان جديد أصبحت أشبه بروما بعد الحريق، أنينٌ خافت ونواحُ أمهات ثكلى ونشيج رجال ، وعندما يبكي الرجال تهتز الجبال الراسيات وعروق الارض ويتيتّمُ الحزن ذاته، الشوارع خالية من السابلة ، وإبلُ الجنجويد تبعر فوق الاسفلت ، لاشئ غير المتاريس ، وحيث النيل العظيم يتلون بدماء الشهداء رافضاً أن يخفي الجرائم في عمقه- فطفق يلفظُ ألاجساد الطاهرة الى شاطئيه.

(2)
لحظتئذٍ كان القائد ياسر عرمان يتكئُ على فولاذ زنزانته ويكتب بالطبشور على الحائط أحلام الفقراء بغدٍ أجمل ومنفستو البلاد الخضراء ودساتيرٍ مستقبلية لوطن محتل من قبل بقايا الانكشارية واولاد الدفتردار ومليشيا الرعب والموت الاسود، ويتلو لدرويش ( ياصديقي ، لن يصب النيل في الفولغا ، ولا الكنغو ولا الاردن ولا نهر الفرات ، كل نهر وله نبع ....ومجرى....وحياة، ياصديقي ....أرضنا ليست بعاقر كل أرض ، ولها ميلادها كل فجر وله موعد ثائر!)، فرغ من تلاوته وحدق في سقف زنزانته الحالكة السواد ثم ابتسم ثلاثاً ،ففي الاولى رأى البلاد وهي تودع عهودها المظلمة وثمة هسيسٌ لفجر مشرق يلون سماوات الوطن بالضياء وفي الثانية رأى سنابل القمح تتمايل على وقع ايقاعات الحصاد والنيل العظيم يصفق بشاطئيه طرباً، وفي الثالثة كان شهدائنا الابرار ينثرون الورد من علياء فردوسهم على ( الوطن ، الام ، الحبيبة....) وضحكاتهم تعلو أجنحة الملائكة، حينها ردد القائد في سره ( على هذه الارض ما يستحق الحياة، تردد أبريل ، آراء امرأة في الرجال ، كتابات اسخيليوس ،اول الحب ، عشب على حجر ، أمهات تقفن على خيط ناي وخوف الغزاة من الذكريات)(1).

(3)
ألفيته في زنزانته يترنم باغنية كجراي ( مافي داعي تقولي مافي)، أخبرته أنني قادمٌ من تلك الفجاج البعيدة ودود الحنين الى الوطن يأكلني وأن زادي الذي أحمله فقط هدير الثوار وشئ من متاريس الجسور وروحي مترعةٌ بالعصيان، قال لي ( أجلس يا جيش أحمر) ففي جعبتي الكثير مثل هذا الافق !واضاف دعني أسالك ، ماذا فعل الثوار بعد فض الاعتصام ؟ قلت المدينة ترفل في نعيم المتاريس والنيل يأبى ان يبتلع الشهداء، مرت غمامة حزنٍ على وجهه ثم أردف كيف هي المعنويات ؟ قلت كما السماء في الليالي المقمرة واضحة وعالية وسامقة ، أقلعت سحابة الحزن عن وجهه وقال : ردد معي الاتي ( جميلة الى هذا الحد ، حد أن ينصفني الخريف، او يرج ذاكرتي جفاف متسكعة في براري النشيد،ومدائن الهتاف والهتاف قرى ..ميناء وارياف طليقة منطلقة او كما تستثنى في البراحات السهول فالتة عن روح القطيع، مفردة حد الاشتهاء ضمن سرب الانفلات معجونة بثمار الحب والاختلاف...)(2).

(4)
فرد ذراعيه في الهواء كأنه يحتضن كل الاجيال أو كانه يستقبل الوطن الاخضر الذي رءآه في الحلم ناهضاً كفقمة تنثر زبد البحر عن جسدها ، تنحنح قليلاً ورطب حلقه بتلاوة الاية الخالدة في كتاب الثورة ( حرية سلام وعدالة ، والثورة خيار الشعب) وطفق يخطب في الملأ المحتشد من كل بقاع الوطن ( إن بلادنا الجميلة ستودع عهودها المظلمة قريباً ، لقد أنجزنا ثورة ستدون في كتب التواريخ والازمنة ولقد كانت كلمة السر فيها "السلمية" ان هذا السلاح الذي يدعى بالسلمية لهو أشد وقعاً على قوى الظلام واخطبوط الشر فلنحافظ على سلميتنا، لقد كانت تضحياتنا عظيمة فنيلنا الخالد وحده يكفي أن يكون شاهداً على ما ارتكب من مجازر ، ودماء ابطالنا الشهداء لن تروح هدراً فهذه الارض تقف شاهدةُ عيان على ما أُرتكب بحق هذا الشعب العظيم ، إننا لانريد سوى السلام الشامل والعادل وإنهاء الحروب التي أقعدت ببلادنا ومنعتها من الاستفادة من هذه الموارد البشرية والمادية ، وكما نريد ايقاف أوارُ الحروب فاننا ايضاً نريد بناء دولة ديمقراطية مدنية دولة المواطنة بلا تمييز ...، صفق الحشد وارتفع هدير الثوار عالياً وطارت حمامة بيضاء ورسمت في الافق غصن زيتون ورنمت الكنائس وارتفعت دعوات المساجد وقام بوذا من شجرة التين ومشى متثاقلاً بعد أن بلغ النيرفانا وتناولت جدتي التي لاتقوى على النهوض عشائها ونثر الكجوري حبات الذرة على رؤس الحشد ... ثم اردف " هذه الارض لنا ، ولطالما رفع ثوارنا شعار الشعب يريد بناء سودان جديد فاننا نعاهدكم ان نكون اول من يحمل هذا الهم والذي حملناه لثلاث عقود ونيف قد خلت ، لقد كان مجيئنا الى البلاد بغرض أن نتعلم من هذه الثورة العظيمة ومن الاجيال الجديدة من الشباب والنساء ومن المهمشين وأولئك الذين قدموا أنفسهم فداءاً لهذه البلاد).. ارتفع هدير الثوار عالياً ( مدنياااااااااو)، ابتسم القائد ابتسامة انتصار الوطن وتوسد أرض الزنزانة مجدداً.

(5)
في هذه الزنزانة التي تحمل روائح أجساد ثائرة اعتقلت من قبل وعذبت لا لاشئ الا لانها تناضل من اجل غد أفضل ، كان القائد ياسر عرمان ينام على ارضها الصلدة متوسداً بقايا خرقٍ تركت على هامش رصيف المعتقل الكبير وحيث لا ضياء الا ضياء مجد الوطن ونوره في الافئدة كانت حلكة الليالي الموحشة يزينها القائد برسم الخطط الكبيرة لوطن يحمل سنابل قمحٍ ممتلئة لينثرها على تواريخ عجاف، وبندول الساعة يخطو مهرولا نحو الرابعة قال لي القائد هذه رسالتي اليهم فلتكن مشيئة الثورة أن تصل اليهم في قصورهم ، قلت وما فحواها قال: ( وقل للذي هام منتشياً لثلاثين عمراً بورد القصر ان ايامنا دولا بيننا *" والورود التي في حديقة قصرك ليست كتلك التي في القبور" ، والبلاد التي قطعتها يداك على مطبخ الذل في قدرة الصبر تغلي* ..ألم يخبروك الذين أتوا القصر قبلك ، أن الجدار الذي تحتمي عنده كان من دم أجدادنا ودموع ميارمنا الراحلات !؟ ألم يخبروك بأن الارامل في دمعتهن صلاة على المصفى ودعاء عليك؟!)(3) أخذت رسالة القائد الرفيق واستأذنت بالرحيل وأنا ارى ملامح الوطن المرهق في عينيه ، خطوت نحو الاسوار ثم انشدت ملتفتاً اليه " وسد الان رأسك ، متعبة هذه الرأس ..متعبةٌ مثلما اضطربت نجمة في مداراتها ، امس قد مر طاغية من هنا ....نافخاً بوقه تحت اقواسها وانتهى حيث مر ، كان سقف رصاص ثقيلاً ، تهالك فوق المدينة والناس...... في البدء كان السكون الجليل وفي الغد كان اشتعالك ، وسد الان رأسك كان احتجابك كان غيابك كان اكتمالك )(4)


هوامش.
(1) محمود درويش
(2) كناكة قصيدة للشاعر يحي فضل الله
(3) انس عبدالصمد نجم
(4) التراب المقدس للشاعر محمد الفيتوري.

احمد يعقوب
السبت 8 يونيو 2019

* عن:
Abdelaziz Baraka Sakin

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
810
آخر تحديث
أعلى