مقدمة لابد منها:
بدايات الغربة والتي سأنشرها في حلقات أسبوعية هي إستمرارية لذكريات الزمن القاسي التي سبق ونشرتها على بعض المواقع الأكترونية. وبين الأثنتين (الذكريات، وبدايات) يوجد تداخل وتكامل وتشابه بينهما. فأنا أعتبر غربتي بدأت منذ دخولي السجن وأنا لم أبلغ السابعة عشر، حيث عشت بعيدا، عن الأهل والأصدقاء والمدينة والحارة، عشت فيها بين أربعة جدران في وقت كنت بعمر بحاجة الى محبة وحنان ورعاية الوالدين، وكونت علاقات و صداقات جديدة لاتتناسب وسني . ففي السجن الشوق والحنين للأم والأب والأشقاء، والجو العائلي بكل دقائقه، وللأحبة ينمو ويتعاظم بمرور الزمن كما هو الحال في الغربة. الفرق انك في الغربة قد تكون متمتعا ببعض الحرية وربما حرية لم تكن تحلم بها، كما هو الحال في السويد، ولكن في السجن حتى الحرية تكون محروما منها وتقتصر على حياتك السجنية، فتحركاتك اليومية الروتينية لاتتعدى سوى أمتار عن فراشك، وأصدقاؤك والمحيطين بك تلتقيهم يوميا، ولاتسمع صوت أمرأة أو طفل، أوحتى صوت حيوان ماعدا صوت الطيور. ففي سجن نقرة السلمان يوميا وفي الساعة الحادية عشر كنا نتراهن على ضبط الوقت ونعتمد في ذلك على نهيق حمار نسمعه يوميا في نفس الوقت من خلف جدران السجن، ونحس بالنشوة وكأننا نسمع أم كلثوم وليس نهيق حمار!. وفي سجن الكوت وفي آخر الليل حيث الهدوء، كان يتهادى الى مسامعنا من بعيد عبر الأثير صوت أصحاب السيارات وهم ينادون على المسافرين: نفرين بغداد! فكنا نلزم الصمت مطربين على صوت المنادي وهو يداعب آذاننا وأحاسيسنا ويشعرنا بمرارة السجن.
والآن في وطني الجريح يعيش شعبنا غربة مريرة لم يعشها من قبل، بفضل سياسات النظام المقبور وحروبه العبثية وسياساته من حجر فكري وأعلامي وسياسي ونشر التخلف والتعصب والتفكك العائلي كي يحافظ على ديمومته، ثم الأحتلال والأرهاب والمليشيات، ونشر العادات والشعائر الدينية المتخلفة للحفاظ على ديمومة الأحزاب الدينية الطائفية. فالى هذا الشعب المعذب والذي أبتلى بأرهاب صدام والتكفيريين والمليشيات الطائفية والمحتلين الف تحية، واقول لآبد للليل ان ينجلي، وتعود البسمة والأمن لأبناء شعبنا من مختلف الطوائف والقوميات .
***********
بدايــات الغربــــة /1
قضيت عدة أيام في أحد فنادق براغ بأستضافة أتحاد الطلاب العالمي مستريحا من عناء السفر بالقطار من بغداد حتى وصولي براغ في جمهورية جيكوسلوفاكية الأشتراكية السابقة. خلال هذه الايام تمتعت بجمال مدينة براغ مدينة التماثيل والاثار، والتقيت حينها بأحد زملائي في سجن نقرة السلمان، وهو الزميل المهندس صباح محمود شكري، وقد أستعدنا ذكرياتنا عن تلك الأيام وتبادلنا مانعرفه من أخبار عن بقية الزملاء. كنت أرتاد مقهى (أُبسني دوم) وهي مقهى يرتادها الكثير من الطلبة العراقيين كما كانت المقهى المحببة لشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري. تعودت خلال أيامي القصيرة والمعدودة في براغ من تناول وجبة فطوري البسيطة صباح كل يوم في هذه المقهى. وكان الجواهري بملابسه الأنيقة وربطة عنقه وطاقيته التي أهدها له الاكراد وبقي معتزا بها طول حياته أعتزازاً بنضال الكرد ، يجلس أحيانا كثيرة بمفرده متأملا ويرشف قهوته. كنت أراقبه وهو يحتسي فنجان قهوته أو الشاي بهدوء وتأمل وكأنه يفكر في قصيدة يهديها لهذا الشعب والبلد الطيب الذي أستضافه أطيب أستضافة دون أن يطلب منه قصيدة مدح لرئيسه ثمنا لأستضافته، ففضل أن يقول الشعر في بائعة السمك دون أن يغضب ذلك رئيس الدولة والحزب. وفي أحد الأيام تجرأت وتوجهت لطاولته وعرفته بنفسي، وحدثته عن بعض أحاديث والدي وذكرياته عن النجف ومجالسها الأدبية والشعرية. ذكرته برواية والدي عن دوره في تبرأة أحد الشعراء النجفيين من الكفر، حيث أن هذا الشاعر (للأسف لم أعد أتذكر أسمه) وفي أحد المجالس النجفية الأدبية قرأ قصيدة طويلة أثارت لغطا وهيجانا بين الحاضرين وأتهم هذا الشاعر بالكفر وأختلف الحاضرون، بين مدافع عن الشاعر ومتهمين له، بنقل ما أنشده هذا الشاعر فلم يكن هناك من بين الحاضرين من هو قادرا على تذكر وبدقة أبيات القصيدة ماعدا الجواهري. وأستمرت المجاذبات والأتهامات لذلك الشاعر بالكفر وتطورت القضية وأحيل الشاعر الى محكمة شرعية أو ماشابه ذلك، وبما أن المحكمة الشرعية لاتثق بما يعيده الشاعر المتهم من قصيدته على أسْماعِها طلب أن يستشهد بأحد الحاضرين في المجلس وهو الجواهري الشاب والشاعر الصاعد علّه يتذكر القصيدة ويكون شاهدا على أن قصيدته لاتحوي من بين أبياتها مايشير الى الكفر، ووافقت المحكمة على أستدعاء الجواهري وأعاد إنشاد القصيدة كاملة، وكانت شهادة الجواهري هذه سبباً في تبرأة هذا الشاعر وأنقاذه من تهمة الكفر. ويذكر والدي بأن المحكمة برأت الشاعر ولكن معظم أعظاؤها، وحتى الوسط الادبي النجفي يعتقد بأن الجواهري نجح في تحريف بعض الابيات مما يبعد تهمة الكفر، حيث أن الجواهري أعاد أنشاد القصيدة الطويلة وكانت مطابقة لما أفاد به الشاعر أمام المحكمة!! تذكر الجواهري الحادثة وهو يبتسم ويهز رأسه مؤكدا هذه القصة، وأكد لي بأن شهادته كانت صادقة وأن البعض أتهمه فعلا بتحريف أحد أبياتها لنفي صفة الكفر في القصيدة. كان هذا لقائي الأول والوحيد بشاعر العرب الأكبر، وقد أبدى أهتماما بأخبار الوالد وحدثته بمعاناة الوالد والعائلة بعد أنقلاب 8 شباط الدموي، وكيف كنا في سجن نقرة السلمان نتطلع الى نشاط لجنة الدفاع عن حقوق الشعب العراقي والتي كانت برئاسته. كان يستمع لي وهو يهز رأسه بألم لتلك الاحداث، ويحمل الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم مسؤولية تلك المآسي و يردد من حين لآخر، كلما رويت له قصة من قصص الاعتقالات العشوائية والتعذيب والمحاكمات المهزلة، بعض أبيات قصيدته التي أنشدها أثناء أنقلاب بكر صدقي في أواسط الثلاثينات وكأنما يعاتب الزعيم عبد الكريم قاسم ليقول له أني أفهم طبيعة هذا الشعب المتمرد والقاسي وحبه للأنتقام، وقد حذرت من هذه المآسي منذ الثلاثينات، لماذا لم تسمع نصيحتي وتتخلى عن سياستك التي أختصرتها بمقولتك (عفا الله عما سلف)!:
فضيق الحبل وأشدد من خناقهم.............فربما كان في إرخائه ضرر
...............................
تصور الامر معكوسا وخذ مثلا = ماذا يجرونه لو أنهم نصروا
والله لأقـتيد زيد باسم زائــدة = ولأصطلى عامر والمبتغى عمر
غادرت براغ مساء يوم الجمعة 28 تشرين الثاني 1969 متوجها الى بولونية للألتحاق بدراستي ألتي تأخرت عنها كثيراً. كان معي في مقصورة القطار أم بولونية وأبنتها الشابة، وكانت الأم وأبنتها تتميزان بالفضول البولوني في التعرف على الغرباء وتجاذب الحديث معهم. كان هذا أول لقاء لي بالبولون، وقد تركتا المرأتان لدي أنطباعا إيجابيا عن طبيعة المجتمع البولوني، فكانتا تحدثانني بهدوء ولغة بسيطة مطعمة بكلمات أنكليزية ومصحوبة بأشارات تمثيلية عن سفرتهما وتحاولان أن توضحا لي أهمية المدن البولونية التي يمر بها القطار . وصلت صباح اليوم الثاني الى وارشو. كنت أتوقع أن يكون هناك بأنتظاري أحداً من أتحاد الطلبة البولون ( ZSP ) ، هذا ما أخبروني به في أتحاد الطلاب العالمي في براغ عندما حجزوا لي للسفر، وقد طلبت منهم للأحتياط أن يدونوا لي عنوان مقر أتحاد الطلاب البولوني. وصل القطار الى محطة وارشو الغربية في حدود العاشرة صباحا. توقفت منتظراً على رصيف المحطة وأنا أبحث بين الوجوه عليّ أجد من جاء للقائي، حتى فرغ الرصيف من المسافرين، إلا من بعض البولون الطفيليين الذين ينتشرون في محطات القطار لتصيد بعض السواح والمسافرين. بعد أن فقدت الأمل في الأنتظار توجهت ألى موقف التاكسي لأستأجار أحدها لأيصالي لمقر الأتحاد. وقد أستقبلوني سواق التاكسي بترحاب وكل واحد منهم يناديني ويسألني عن وجهتي. لم أكن أعرف اللغة البولونية ولكن ألحاحهم ودعوتهم لي بالصعود الى سياراتهم من خلال فتح أبوابها وهم يؤشرون لي بالتفضل للصعود كان كافياً لفهم كلامهم المبهم بالنسبة لي. كانت المزايدة بينهم تتناقص حول ثمن نقلي بعد أن أطلعتهم على العنوان المطلوب والذي لايبعد عن المحطة أكثر من 3 كلم، فمن عشرة دولارات أي ربع ماتبقى في جيبي أنخفضت الأجرة حتى وصل العرض الى دولار وأنا واقف في مكاني أنظر حولي علّي أجد من جاء للقائي ولو متأخراً فيجنبني مصرف التاكسي. وبعد أن يأست من الأنتظار توجهت لأحدهم وقد أخرجت من محفضتي ربع دينار عراقي لم أتمكن من صرفه وكنت أحتفظ به كمصرف أثناء السفر بعد مغادرتي بغداد، وبلغة أنكليزية لم يسبق لي أن مارستها في حياتي العملية وضحت للسائق أن قيمة هذه العملة العراقية أكثر من نصف دولار، وهذا كل مايمكن أن أدفعه! تفاجأت بموافقته السريعة وبدون تردد، ربما خوفا من منافسة زملائه وسرقة هذا الزبون وهو يدفع بالعملة الصعبة! سار التاكسي يخترق مركز مدينة وارشو وهو يتوقف عند الأشارات الضوئية. وعند كل إشارة ضوئية يتوقف عندها، يمسك السائق ألربع دينار بيديه ويرفعه أمامه وهو ينظر اليه بإمعان ويسألني بالأنكليزية للتأكد: هالف دولار (يقصد نصف دولار)؟ فأجيبه نعم. كان الربع دينار العراقي في ذلك الوقت فعلاً يساوي أكثر من نصف دولار أمريكي، ولكن لم أكن أعرف أن البنوك في بولونية أو ربما خارج العراق لآ تصرف العملة الصغيرة التي تقل عن الدينار، وقد عرفت ذلك بعد أن رويت لبعض الزملاء الحادث. وبذلك يكون هذا السائق المسكين قد خسر الأجرة بدل أن يكسب من دون أن أقصد ذلك.
في مقر ألأتحاد وبعد أن قدمت نفسي لهم طلبوا مني الأنتظار حتي يحجزوا لي للسفر لمدينة وودج، حيث يوجد فيها أكبر معهد (كوبجنسكيكو) لتعليم اللغة البولونية للطلبة الأجانب، والوحيد في بولونية. أثناء وجودي في المقر جاء الزميل صبري السعد، وكان يرأس حينها جمعيتنا الطلابية في بولونية وهو طالب يدرس الطب، وقدمه البولون لي، لكنه تركني معتذرا وأوعدني بالعودة لي بعد دقائق. كنت بحاجة ماسة لمساعدته فأنا ألاقي صعوبة بالتحدث باللغة الأنكليزية مع البولون، وكنت أريد أن آخذ فكرة عن المدينة التي سأذهب لها وهل يوجد هناك من العراقيين يمكن الأستعانة بهم. لكن الزميل بدل من أن يشرح لي الوضع وكيفية ذهابي الى وودج أو أعطائي بعض ألأسماء والعناوين في تلك المدينة للأتصال بها ومساعدتي عند الضرورة، غادر حتى بدون توديعي! أصطحبني مسؤول العلاقات مع المنظمات الأجنبية (ستانيسواف ياجك)* ألى أحد المطاعم لتناول الغداء، وبعدها رافقني الى محطة القطار. كانت المحطة مزدحمة بالناس ومن الصعب التحرك بين الحشود وأنا أدفع بعربة محملة بالحقائب الثقيلة. وعندما وصل القطار تجمع المسافرون حول الباب وهم يتدافعون وكأنه يوم الحشر. ولم أفلح في الصعود الى القطار مع حقائبي، وأنتظرنا للقطار التالي. ومن حسن الحظ تمكنت من الصعود في القطار التالي، ولكن الأزدحام لم يكن هيناً ولا توجد أماكن للجلوس وممرات القطار كانت مزدحمة بالواقفين. وبسبب التدافع وضيق المكان أصبحت بعيداً عن حقائبي ولم أعد أراها بسبب كثرة المسافرين الذين يصعدون بالعشرات في كل محطة يتوقف فيها القطار ويشكل المسافرون الجدد موجات تدفعني بعيدا ولم أعد قادرا على البقاء بجانب حقائبي ، وكنت قلقا على حقائبي من السرقة ولم أتمكن من أختراق المسافرين لأكون قريبا ورقيبا على كل ماأملك من ثروة بعد سفرتي المضنية، فأذا ماسرقت أو ضاعت حقائبي فأني سأبقى من دون ملابس ولايمكنني تعويضها بالشراء لعدم قدرتي المالية.
وصلت وودج مساءً وتوجهت نحو موقف التاكسي وكان الدور طويلا جداً، كنت متردداً في الوقوف في الدور وغير متأكد من أن هذا دورا للتاكسي، فتوجهت الى الواقف الأول في الدور وكانت أمرأة في الخمسينات من العمر وسألتها بالأنكليزية عن العنوان. لم يكن معهد اللغة البولونية للأجانب يبعد عن التاكسي أكثر من كيلومتر واحد، وقدرت هذه الأنسانة الطيبة وضعي ومنحتني دورها بعد أن ترخصت من الواقفين بالدور.
لم يكن في المعهد حينها أي مسؤول ماعدا الشغيلة المسؤولين عن حفظ مفاتيح غرف الطلبة ومراقبة الزوار ومايحدث في المعهد، ويطلق عليهم بالبولوني (البورتير). أستدعوا أحد الطلبة من الأكراد العراقيين ليتفاهم معي وأسمه خسرو. وأخذني هذا الزميل الى غرفته، ووضح لي أن الموظفين في المعهد غير متواجدين وعلي الأنتظار الى يوم الأثنين بسبب العطلة. ومن حسن الحظ كان خسرو من أوائل الطلبة الذين وصلوا وهو يجيد البولونية الى حد ما لأنه قضى ثلاثة سنوات في يوغسلافية يدرس الطب وهذا سهل عليه تعلم اللغة بسرعة لوجود شبه لحد ما في اللغتين. وقد رافقني خسرو معظم الوقت وهو الذي تدبر أمر الحصول على بطاقات الطعام لتناول الوجبات الثلاثة في مطعم المعهد.
يــتـبـع
*- ناشط طلابي أصبح فيما بعد عضوا في المكتب السياسي لحزب العمال البولوني ووزيرا للخارجية.
* محمد علي الشبيبي - بدايات الغربة/1
بدايات الغربة والتي سأنشرها في حلقات أسبوعية هي إستمرارية لذكريات الزمن القاسي التي سبق ونشرتها على بعض المواقع الأكترونية. وبين الأثنتين (الذكريات، وبدايات) يوجد تداخل وتكامل وتشابه بينهما. فأنا أعتبر غربتي بدأت منذ دخولي السجن وأنا لم أبلغ السابعة عشر، حيث عشت بعيدا، عن الأهل والأصدقاء والمدينة والحارة، عشت فيها بين أربعة جدران في وقت كنت بعمر بحاجة الى محبة وحنان ورعاية الوالدين، وكونت علاقات و صداقات جديدة لاتتناسب وسني . ففي السجن الشوق والحنين للأم والأب والأشقاء، والجو العائلي بكل دقائقه، وللأحبة ينمو ويتعاظم بمرور الزمن كما هو الحال في الغربة. الفرق انك في الغربة قد تكون متمتعا ببعض الحرية وربما حرية لم تكن تحلم بها، كما هو الحال في السويد، ولكن في السجن حتى الحرية تكون محروما منها وتقتصر على حياتك السجنية، فتحركاتك اليومية الروتينية لاتتعدى سوى أمتار عن فراشك، وأصدقاؤك والمحيطين بك تلتقيهم يوميا، ولاتسمع صوت أمرأة أو طفل، أوحتى صوت حيوان ماعدا صوت الطيور. ففي سجن نقرة السلمان يوميا وفي الساعة الحادية عشر كنا نتراهن على ضبط الوقت ونعتمد في ذلك على نهيق حمار نسمعه يوميا في نفس الوقت من خلف جدران السجن، ونحس بالنشوة وكأننا نسمع أم كلثوم وليس نهيق حمار!. وفي سجن الكوت وفي آخر الليل حيث الهدوء، كان يتهادى الى مسامعنا من بعيد عبر الأثير صوت أصحاب السيارات وهم ينادون على المسافرين: نفرين بغداد! فكنا نلزم الصمت مطربين على صوت المنادي وهو يداعب آذاننا وأحاسيسنا ويشعرنا بمرارة السجن.
والآن في وطني الجريح يعيش شعبنا غربة مريرة لم يعشها من قبل، بفضل سياسات النظام المقبور وحروبه العبثية وسياساته من حجر فكري وأعلامي وسياسي ونشر التخلف والتعصب والتفكك العائلي كي يحافظ على ديمومته، ثم الأحتلال والأرهاب والمليشيات، ونشر العادات والشعائر الدينية المتخلفة للحفاظ على ديمومة الأحزاب الدينية الطائفية. فالى هذا الشعب المعذب والذي أبتلى بأرهاب صدام والتكفيريين والمليشيات الطائفية والمحتلين الف تحية، واقول لآبد للليل ان ينجلي، وتعود البسمة والأمن لأبناء شعبنا من مختلف الطوائف والقوميات .
***********
بدايــات الغربــــة /1
قضيت عدة أيام في أحد فنادق براغ بأستضافة أتحاد الطلاب العالمي مستريحا من عناء السفر بالقطار من بغداد حتى وصولي براغ في جمهورية جيكوسلوفاكية الأشتراكية السابقة. خلال هذه الايام تمتعت بجمال مدينة براغ مدينة التماثيل والاثار، والتقيت حينها بأحد زملائي في سجن نقرة السلمان، وهو الزميل المهندس صباح محمود شكري، وقد أستعدنا ذكرياتنا عن تلك الأيام وتبادلنا مانعرفه من أخبار عن بقية الزملاء. كنت أرتاد مقهى (أُبسني دوم) وهي مقهى يرتادها الكثير من الطلبة العراقيين كما كانت المقهى المحببة لشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري. تعودت خلال أيامي القصيرة والمعدودة في براغ من تناول وجبة فطوري البسيطة صباح كل يوم في هذه المقهى. وكان الجواهري بملابسه الأنيقة وربطة عنقه وطاقيته التي أهدها له الاكراد وبقي معتزا بها طول حياته أعتزازاً بنضال الكرد ، يجلس أحيانا كثيرة بمفرده متأملا ويرشف قهوته. كنت أراقبه وهو يحتسي فنجان قهوته أو الشاي بهدوء وتأمل وكأنه يفكر في قصيدة يهديها لهذا الشعب والبلد الطيب الذي أستضافه أطيب أستضافة دون أن يطلب منه قصيدة مدح لرئيسه ثمنا لأستضافته، ففضل أن يقول الشعر في بائعة السمك دون أن يغضب ذلك رئيس الدولة والحزب. وفي أحد الأيام تجرأت وتوجهت لطاولته وعرفته بنفسي، وحدثته عن بعض أحاديث والدي وذكرياته عن النجف ومجالسها الأدبية والشعرية. ذكرته برواية والدي عن دوره في تبرأة أحد الشعراء النجفيين من الكفر، حيث أن هذا الشاعر (للأسف لم أعد أتذكر أسمه) وفي أحد المجالس النجفية الأدبية قرأ قصيدة طويلة أثارت لغطا وهيجانا بين الحاضرين وأتهم هذا الشاعر بالكفر وأختلف الحاضرون، بين مدافع عن الشاعر ومتهمين له، بنقل ما أنشده هذا الشاعر فلم يكن هناك من بين الحاضرين من هو قادرا على تذكر وبدقة أبيات القصيدة ماعدا الجواهري. وأستمرت المجاذبات والأتهامات لذلك الشاعر بالكفر وتطورت القضية وأحيل الشاعر الى محكمة شرعية أو ماشابه ذلك، وبما أن المحكمة الشرعية لاتثق بما يعيده الشاعر المتهم من قصيدته على أسْماعِها طلب أن يستشهد بأحد الحاضرين في المجلس وهو الجواهري الشاب والشاعر الصاعد علّه يتذكر القصيدة ويكون شاهدا على أن قصيدته لاتحوي من بين أبياتها مايشير الى الكفر، ووافقت المحكمة على أستدعاء الجواهري وأعاد إنشاد القصيدة كاملة، وكانت شهادة الجواهري هذه سبباً في تبرأة هذا الشاعر وأنقاذه من تهمة الكفر. ويذكر والدي بأن المحكمة برأت الشاعر ولكن معظم أعظاؤها، وحتى الوسط الادبي النجفي يعتقد بأن الجواهري نجح في تحريف بعض الابيات مما يبعد تهمة الكفر، حيث أن الجواهري أعاد أنشاد القصيدة الطويلة وكانت مطابقة لما أفاد به الشاعر أمام المحكمة!! تذكر الجواهري الحادثة وهو يبتسم ويهز رأسه مؤكدا هذه القصة، وأكد لي بأن شهادته كانت صادقة وأن البعض أتهمه فعلا بتحريف أحد أبياتها لنفي صفة الكفر في القصيدة. كان هذا لقائي الأول والوحيد بشاعر العرب الأكبر، وقد أبدى أهتماما بأخبار الوالد وحدثته بمعاناة الوالد والعائلة بعد أنقلاب 8 شباط الدموي، وكيف كنا في سجن نقرة السلمان نتطلع الى نشاط لجنة الدفاع عن حقوق الشعب العراقي والتي كانت برئاسته. كان يستمع لي وهو يهز رأسه بألم لتلك الاحداث، ويحمل الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم مسؤولية تلك المآسي و يردد من حين لآخر، كلما رويت له قصة من قصص الاعتقالات العشوائية والتعذيب والمحاكمات المهزلة، بعض أبيات قصيدته التي أنشدها أثناء أنقلاب بكر صدقي في أواسط الثلاثينات وكأنما يعاتب الزعيم عبد الكريم قاسم ليقول له أني أفهم طبيعة هذا الشعب المتمرد والقاسي وحبه للأنتقام، وقد حذرت من هذه المآسي منذ الثلاثينات، لماذا لم تسمع نصيحتي وتتخلى عن سياستك التي أختصرتها بمقولتك (عفا الله عما سلف)!:
فضيق الحبل وأشدد من خناقهم.............فربما كان في إرخائه ضرر
...............................
تصور الامر معكوسا وخذ مثلا = ماذا يجرونه لو أنهم نصروا
والله لأقـتيد زيد باسم زائــدة = ولأصطلى عامر والمبتغى عمر
غادرت براغ مساء يوم الجمعة 28 تشرين الثاني 1969 متوجها الى بولونية للألتحاق بدراستي ألتي تأخرت عنها كثيراً. كان معي في مقصورة القطار أم بولونية وأبنتها الشابة، وكانت الأم وأبنتها تتميزان بالفضول البولوني في التعرف على الغرباء وتجاذب الحديث معهم. كان هذا أول لقاء لي بالبولون، وقد تركتا المرأتان لدي أنطباعا إيجابيا عن طبيعة المجتمع البولوني، فكانتا تحدثانني بهدوء ولغة بسيطة مطعمة بكلمات أنكليزية ومصحوبة بأشارات تمثيلية عن سفرتهما وتحاولان أن توضحا لي أهمية المدن البولونية التي يمر بها القطار . وصلت صباح اليوم الثاني الى وارشو. كنت أتوقع أن يكون هناك بأنتظاري أحداً من أتحاد الطلبة البولون ( ZSP ) ، هذا ما أخبروني به في أتحاد الطلاب العالمي في براغ عندما حجزوا لي للسفر، وقد طلبت منهم للأحتياط أن يدونوا لي عنوان مقر أتحاد الطلاب البولوني. وصل القطار الى محطة وارشو الغربية في حدود العاشرة صباحا. توقفت منتظراً على رصيف المحطة وأنا أبحث بين الوجوه عليّ أجد من جاء للقائي، حتى فرغ الرصيف من المسافرين، إلا من بعض البولون الطفيليين الذين ينتشرون في محطات القطار لتصيد بعض السواح والمسافرين. بعد أن فقدت الأمل في الأنتظار توجهت ألى موقف التاكسي لأستأجار أحدها لأيصالي لمقر الأتحاد. وقد أستقبلوني سواق التاكسي بترحاب وكل واحد منهم يناديني ويسألني عن وجهتي. لم أكن أعرف اللغة البولونية ولكن ألحاحهم ودعوتهم لي بالصعود الى سياراتهم من خلال فتح أبوابها وهم يؤشرون لي بالتفضل للصعود كان كافياً لفهم كلامهم المبهم بالنسبة لي. كانت المزايدة بينهم تتناقص حول ثمن نقلي بعد أن أطلعتهم على العنوان المطلوب والذي لايبعد عن المحطة أكثر من 3 كلم، فمن عشرة دولارات أي ربع ماتبقى في جيبي أنخفضت الأجرة حتى وصل العرض الى دولار وأنا واقف في مكاني أنظر حولي علّي أجد من جاء للقائي ولو متأخراً فيجنبني مصرف التاكسي. وبعد أن يأست من الأنتظار توجهت لأحدهم وقد أخرجت من محفضتي ربع دينار عراقي لم أتمكن من صرفه وكنت أحتفظ به كمصرف أثناء السفر بعد مغادرتي بغداد، وبلغة أنكليزية لم يسبق لي أن مارستها في حياتي العملية وضحت للسائق أن قيمة هذه العملة العراقية أكثر من نصف دولار، وهذا كل مايمكن أن أدفعه! تفاجأت بموافقته السريعة وبدون تردد، ربما خوفا من منافسة زملائه وسرقة هذا الزبون وهو يدفع بالعملة الصعبة! سار التاكسي يخترق مركز مدينة وارشو وهو يتوقف عند الأشارات الضوئية. وعند كل إشارة ضوئية يتوقف عندها، يمسك السائق ألربع دينار بيديه ويرفعه أمامه وهو ينظر اليه بإمعان ويسألني بالأنكليزية للتأكد: هالف دولار (يقصد نصف دولار)؟ فأجيبه نعم. كان الربع دينار العراقي في ذلك الوقت فعلاً يساوي أكثر من نصف دولار أمريكي، ولكن لم أكن أعرف أن البنوك في بولونية أو ربما خارج العراق لآ تصرف العملة الصغيرة التي تقل عن الدينار، وقد عرفت ذلك بعد أن رويت لبعض الزملاء الحادث. وبذلك يكون هذا السائق المسكين قد خسر الأجرة بدل أن يكسب من دون أن أقصد ذلك.
في مقر ألأتحاد وبعد أن قدمت نفسي لهم طلبوا مني الأنتظار حتي يحجزوا لي للسفر لمدينة وودج، حيث يوجد فيها أكبر معهد (كوبجنسكيكو) لتعليم اللغة البولونية للطلبة الأجانب، والوحيد في بولونية. أثناء وجودي في المقر جاء الزميل صبري السعد، وكان يرأس حينها جمعيتنا الطلابية في بولونية وهو طالب يدرس الطب، وقدمه البولون لي، لكنه تركني معتذرا وأوعدني بالعودة لي بعد دقائق. كنت بحاجة ماسة لمساعدته فأنا ألاقي صعوبة بالتحدث باللغة الأنكليزية مع البولون، وكنت أريد أن آخذ فكرة عن المدينة التي سأذهب لها وهل يوجد هناك من العراقيين يمكن الأستعانة بهم. لكن الزميل بدل من أن يشرح لي الوضع وكيفية ذهابي الى وودج أو أعطائي بعض ألأسماء والعناوين في تلك المدينة للأتصال بها ومساعدتي عند الضرورة، غادر حتى بدون توديعي! أصطحبني مسؤول العلاقات مع المنظمات الأجنبية (ستانيسواف ياجك)* ألى أحد المطاعم لتناول الغداء، وبعدها رافقني الى محطة القطار. كانت المحطة مزدحمة بالناس ومن الصعب التحرك بين الحشود وأنا أدفع بعربة محملة بالحقائب الثقيلة. وعندما وصل القطار تجمع المسافرون حول الباب وهم يتدافعون وكأنه يوم الحشر. ولم أفلح في الصعود الى القطار مع حقائبي، وأنتظرنا للقطار التالي. ومن حسن الحظ تمكنت من الصعود في القطار التالي، ولكن الأزدحام لم يكن هيناً ولا توجد أماكن للجلوس وممرات القطار كانت مزدحمة بالواقفين. وبسبب التدافع وضيق المكان أصبحت بعيداً عن حقائبي ولم أعد أراها بسبب كثرة المسافرين الذين يصعدون بالعشرات في كل محطة يتوقف فيها القطار ويشكل المسافرون الجدد موجات تدفعني بعيدا ولم أعد قادرا على البقاء بجانب حقائبي ، وكنت قلقا على حقائبي من السرقة ولم أتمكن من أختراق المسافرين لأكون قريبا ورقيبا على كل ماأملك من ثروة بعد سفرتي المضنية، فأذا ماسرقت أو ضاعت حقائبي فأني سأبقى من دون ملابس ولايمكنني تعويضها بالشراء لعدم قدرتي المالية.
وصلت وودج مساءً وتوجهت نحو موقف التاكسي وكان الدور طويلا جداً، كنت متردداً في الوقوف في الدور وغير متأكد من أن هذا دورا للتاكسي، فتوجهت الى الواقف الأول في الدور وكانت أمرأة في الخمسينات من العمر وسألتها بالأنكليزية عن العنوان. لم يكن معهد اللغة البولونية للأجانب يبعد عن التاكسي أكثر من كيلومتر واحد، وقدرت هذه الأنسانة الطيبة وضعي ومنحتني دورها بعد أن ترخصت من الواقفين بالدور.
لم يكن في المعهد حينها أي مسؤول ماعدا الشغيلة المسؤولين عن حفظ مفاتيح غرف الطلبة ومراقبة الزوار ومايحدث في المعهد، ويطلق عليهم بالبولوني (البورتير). أستدعوا أحد الطلبة من الأكراد العراقيين ليتفاهم معي وأسمه خسرو. وأخذني هذا الزميل الى غرفته، ووضح لي أن الموظفين في المعهد غير متواجدين وعلي الأنتظار الى يوم الأثنين بسبب العطلة. ومن حسن الحظ كان خسرو من أوائل الطلبة الذين وصلوا وهو يجيد البولونية الى حد ما لأنه قضى ثلاثة سنوات في يوغسلافية يدرس الطب وهذا سهل عليه تعلم اللغة بسرعة لوجود شبه لحد ما في اللغتين. وقد رافقني خسرو معظم الوقت وهو الذي تدبر أمر الحصول على بطاقات الطعام لتناول الوجبات الثلاثة في مطعم المعهد.
يــتـبـع
*- ناشط طلابي أصبح فيما بعد عضوا في المكتب السياسي لحزب العمال البولوني ووزيرا للخارجية.
* محمد علي الشبيبي - بدايات الغربة/1