كنتُ قد توقفت عند وصولي إلي سجن طرة قادما من منفاي في الوادي الجديد، وبعد إلقائي في إحدي الزنازين، ومكوثي وحدي ما يقرب من ساعة، سمعت أصواتا في الخارج، ثم فُتح باب الزنزانة ودخل عدد من الناس لم أتبين ملامحهم في الضوء الشحيح. بعد أن استقروا علي أبراشهم، انتبهوا لي وسألني أحدهم عن اسمي، وفوجئتُ به يعرفني. رحبّ بي وعرفت أن اسمه عبده كراوية، فتذكرت أنني كنتُ قد تعرّفت عليه وعلي مجموعة من شباب منطقة القناة المهجّرين بعد الهزيمة في قهوة إيزافيتش، وانخرط عبده في النضال النقابي في المصنع الذي يعمل فيه بعد عودة المهجرين بدءا من عام 1975 .
شعرت، بسكينة وهدوء للمرة الأولي منذ بداية اليوم. بدا لي أن الشباب الذين دخلوا منذ قليل معتادون علي الحبس ويتصرفون بتلقائية وهم يحكون لبعضهم البعض عما جري في تحقيقات النيابة. وكانت أجهزة الأمن حريصة علي خروج هؤلاء المتهمين للتحقيق معهم وحبسهم بمعرفة النيابة في جُنح الليل، بسبب ما يقومون به إذا تم إرسالهم أثناء النهار من هتافات وضجيج شديد للفت الأنظار إليهم، كجزء من نضالهم ضد من يحبسونهم، خصوصا أن نيابة أمن الدولة كان مكانها آنذاك في وسط البلد في شارع زكي بالتوفيقية.
نمتُ بعمق. نوم بلا أحلام. لم أشعر بنفسي مطلقا إلا في صباح اليوم التالي.
الأيام الأولي كانت كئيبة، وكان هناك تشديد علينا في فتح وإغلاق الزنازين ودخول دورة المياه والخروج لطابور الشمس، إلي جانب الاعتماد علي طعام السجن، وهو ليس طعاما في حقيقة الأمر، مع منع الصحف والأقلام.. وتطول وتمتد قائمة الممنوعات، والأهم منع الاتصال بين الزنازين، فكل زنزانة تخرج للذهاب لدورة المياه وحدها، ودورات المياه مُهينة ولا حواجز بينها.
كانوا قد أخلوا لنا عنبرا في الدور الأرضي يضم مجموعة من الزنازين المتجاورة، وحالوا بيننا وبين المساجين الجنائيين، لكننا استطعنا في الليل أن ننادي علي بعضنا البعض، وكل زنزانة تقوم بتقديم أسماء ساكنيها للزنازين الأخري، واكتشفتُ أنني أعرف الكثيرين. طلاب ونقابيين وكتابا من بينهم مثلا عماد أبوغازي وبراء الخطيب وتيمور الملواني وأسامة خليل وغيرهم وغيرهم، من القاهرة والإسكندرية والقناة وأسيوط وقنا .
وعندما خرجت، للتحقيق في النيابة في الليلة التالية، لم يستغرق التحقيق دقائق قليلة وأنا مقيّد، وسألني وكيل النيابة أسئلة قليلة جدا مثل هل أنت منضم لتنظيم سري يسعي لقلب نظام الحكم أو ماقولك في اتهامك بـكذا وكيت وأجبته طبعـا بـ: ماحصلــش
و ماعرفش، فأمر بحبسي وعدت إلي السجن دون أن يأمر المحقق بفك قيدي أثناء التحقيق.
وبعد مايقرب من أسبوع من التضييق والتشديد ومطالبنا المتزايدة بحقوقنا كمساجين تحت التحقيق طبقا للوائح السجن، وهي أمور كان يعرفها جيدا زملاؤنا ممن اعتادوا علي الحبس والإفراج ثم الحبس والإفراج، كما يعرفون جيدا طرق الضغط والتلويح بالإضراب وما إلي ذلك، سمحوا لنا أخيرا بالخروج من زنازيننا والمشي داخل العنبر فقط.
وبعد عدة أيام زادت مطالبنا وبدأ التلويح الحقيقي من جانب العارفين بالإضراب، وتجمعنا خارج الزنازين. أنا من جانبي لم أكن ملما بمثل تلك الأساليب والطرق، فهي حبستي الأولي، وكنت أشعر بالحاجة إلي الاستحمام وأعاني من قلّة السجائر، ومن عدم معرفتي لمصير عائشة، علي الرغم من أنني كنت أعرف الكثيرين، وعلي الرغم من أغلبهم كانوا يتعاملون ببساطة واعتيادية أغاظتني.
جاء الحل من حيث لا أتوقع، فبينما كنا نسير في الصباح، خلال نصف الساعة الممنوحة لنا بالمشي خارج الزنازين في فناء العنبر، فوجئنا بـ"بستلة" مياه مملوءة بالقاذورات تُلقي علينا من أحد الطوابق العليا حيث عنابر وزنازين الجنائيين. كنت قريبا جدا من المكان الذي ألقيت منه، ولو كانت طالتني أو طالت أحد الزملاء، فمن المؤكد أنها كانت ستصيبه في مقتل، لأن الأرضية التي سقطت عليها تحطمت تماما..
في الأسبوع القادم أستكمل إذا امتد الأجل
* كتابة
شعرت، بسكينة وهدوء للمرة الأولي منذ بداية اليوم. بدا لي أن الشباب الذين دخلوا منذ قليل معتادون علي الحبس ويتصرفون بتلقائية وهم يحكون لبعضهم البعض عما جري في تحقيقات النيابة. وكانت أجهزة الأمن حريصة علي خروج هؤلاء المتهمين للتحقيق معهم وحبسهم بمعرفة النيابة في جُنح الليل، بسبب ما يقومون به إذا تم إرسالهم أثناء النهار من هتافات وضجيج شديد للفت الأنظار إليهم، كجزء من نضالهم ضد من يحبسونهم، خصوصا أن نيابة أمن الدولة كان مكانها آنذاك في وسط البلد في شارع زكي بالتوفيقية.
نمتُ بعمق. نوم بلا أحلام. لم أشعر بنفسي مطلقا إلا في صباح اليوم التالي.
الأيام الأولي كانت كئيبة، وكان هناك تشديد علينا في فتح وإغلاق الزنازين ودخول دورة المياه والخروج لطابور الشمس، إلي جانب الاعتماد علي طعام السجن، وهو ليس طعاما في حقيقة الأمر، مع منع الصحف والأقلام.. وتطول وتمتد قائمة الممنوعات، والأهم منع الاتصال بين الزنازين، فكل زنزانة تخرج للذهاب لدورة المياه وحدها، ودورات المياه مُهينة ولا حواجز بينها.
كانوا قد أخلوا لنا عنبرا في الدور الأرضي يضم مجموعة من الزنازين المتجاورة، وحالوا بيننا وبين المساجين الجنائيين، لكننا استطعنا في الليل أن ننادي علي بعضنا البعض، وكل زنزانة تقوم بتقديم أسماء ساكنيها للزنازين الأخري، واكتشفتُ أنني أعرف الكثيرين. طلاب ونقابيين وكتابا من بينهم مثلا عماد أبوغازي وبراء الخطيب وتيمور الملواني وأسامة خليل وغيرهم وغيرهم، من القاهرة والإسكندرية والقناة وأسيوط وقنا .
وعندما خرجت، للتحقيق في النيابة في الليلة التالية، لم يستغرق التحقيق دقائق قليلة وأنا مقيّد، وسألني وكيل النيابة أسئلة قليلة جدا مثل هل أنت منضم لتنظيم سري يسعي لقلب نظام الحكم أو ماقولك في اتهامك بـكذا وكيت وأجبته طبعـا بـ: ماحصلــش
و ماعرفش، فأمر بحبسي وعدت إلي السجن دون أن يأمر المحقق بفك قيدي أثناء التحقيق.
وبعد مايقرب من أسبوع من التضييق والتشديد ومطالبنا المتزايدة بحقوقنا كمساجين تحت التحقيق طبقا للوائح السجن، وهي أمور كان يعرفها جيدا زملاؤنا ممن اعتادوا علي الحبس والإفراج ثم الحبس والإفراج، كما يعرفون جيدا طرق الضغط والتلويح بالإضراب وما إلي ذلك، سمحوا لنا أخيرا بالخروج من زنازيننا والمشي داخل العنبر فقط.
وبعد عدة أيام زادت مطالبنا وبدأ التلويح الحقيقي من جانب العارفين بالإضراب، وتجمعنا خارج الزنازين. أنا من جانبي لم أكن ملما بمثل تلك الأساليب والطرق، فهي حبستي الأولي، وكنت أشعر بالحاجة إلي الاستحمام وأعاني من قلّة السجائر، ومن عدم معرفتي لمصير عائشة، علي الرغم من أنني كنت أعرف الكثيرين، وعلي الرغم من أغلبهم كانوا يتعاملون ببساطة واعتيادية أغاظتني.
جاء الحل من حيث لا أتوقع، فبينما كنا نسير في الصباح، خلال نصف الساعة الممنوحة لنا بالمشي خارج الزنازين في فناء العنبر، فوجئنا بـ"بستلة" مياه مملوءة بالقاذورات تُلقي علينا من أحد الطوابق العليا حيث عنابر وزنازين الجنائيين. كنت قريبا جدا من المكان الذي ألقيت منه، ولو كانت طالتني أو طالت أحد الزملاء، فمن المؤكد أنها كانت ستصيبه في مقتل، لأن الأرضية التي سقطت عليها تحطمت تماما..
في الأسبوع القادم أستكمل إذا امتد الأجل
* كتابة