بالنسبة للروائي والقصاص وحتى كاتب التاريخ، التفاصيل مهمة جداً.
ولكن من الذي يهمله القصاص، وما الذي يهمله كاتب التاريخ من تفاصيل ووقائع؟
إن ذهاب القيصر "نقولا الأول" إلى دورة المياه، وخرجه منها حانقاً إلى حدٍ أنه لطم أحد خدمه ونهره بلا سبب، هذه الواقعة المفترضة لا تهم كاتب التاريخ.
إلا أن الروائي يسارع بالتقاط هذه الواقعة الصغيرة الركيكة ويتأملها باهتمام تحت مجهره، تماماً مثلما يفحص الصائغ قطعة ذهب يود التأكد من درجة نقائها.
فهذه الواقعة المفترضة تتحدد لدى الروائي كقوس صغير في الدائرة الكبيرة لصورة معينة، لتكن وجه القيصر أو أي رجل، أو أية امرأة..
إنها لمسة تشكل مع بقية اللمسات مجموع اللوحة النفسية لشخص ما.
فخروج القيصر حانقاً بلا سبب ظاهر – وقد يكون السبب المخفي مثلاً أنه عانى داخل دورة المياه نوبة إمساك !
ثم لطمه للخادم على وجهه أو قفاه، كل تلك التصرفات تدل على أن القيصر كان عصبياً في هذه اللحظة، ومن الممكن أن يستمر عصبياً طوال النهار، والروائي يهمه ذلك لأنه "يصور" لنا الشخصية، ويقدمها في حركتها وانفعالها، ولكنه يأخذ من التفاصيل والوقائع الظاهرية تلك التي تساعدنا على رؤية ما يعتمل في داخل النفس.
فالفن يعني عناية "رأسية" بالشخصية، في حين أن التاريخ يعنى بالشخصية عناية "أفقية" أي بالمجال العام لها، وبالأحداث الكبرى التي تجري حولها، وبدور الشخصية في هذه الأحداث.
ما هي القرارات التي أصدراها "نقولا الأول"، ولماذا أصدرها، وما مدى تأثير تلك القرارات على الحياة العامة، وما هي خبايا القوى السياسية التي دفعت بـ"نقولا الأول" إلى إصدار تلك القرارات؟
هكذا يفكر كاتب التاريخ.
وكاتب التاريخ لا تعنيه الحالة النفسية التي كان يشعر بها "نقولا الأول" وقت إصدار القرارات، والخواطر التي دارت في رأسه عقب إصدارها وهو مسترخ على فراشه وعيناه تحلقان في السماء عبر النافذة الكبيرة.
هي لا تعنيه لأنه لا يرسم ويخلق، فهو جامع أحداث تاريخية، إلا أنه ليس جامعاً عشوائياً، فمهمته قريبة من مهمة المهندس، إنه يبني من جديد أشياء متناثرة، ويعيد لها سياقها بقدر الإمكان، ولكنه لا يتصرف فيها، ولا يلونها، بل هو فقط يربط أطرافها بفضل نظرة مستقصية.
وهنا يأتي السؤال الذي طرحناه في البداية:
إذا كانت مهمة كاتب التاريخ تشبه – في كثير من الوجوه – مهمة المهندس، فما هو "المعيار" الذي يهمل بواسطته واقعة معينة ويهتم بأخرى؟ وكيف يكون بمستطاعه تنسيق الأجزاء المختلفة وتحقيق التحامها؟
نفس السؤال أيضاً يواجه الروائي !
الإجابة التي قدمها القرن الماضي تختلف عن الإجابة التي سادت هذا القرن، بالنسبة للاثنين: الروائي، وكاتب التاريخ.
روائي القرن التاسع عشر كان إنتاجه أشبه بـ"شاشة" عريضة ضخمة تعرض المنظر بأجمعه، بتفاصيله المهمة وغير المهمة. فإذا دخلنا – عبر الورق – بيتاً أو كنيسة، أو طفنا بشارع أو زقاق، فإن الروائي يرسم لنا كل شيء يراه بلا تفريق لأن جهده متجه إلى إعطاء "الصورة الطبيعية" بحذافيرها.
ووراء هذا الرصد الفوتوغرافي للحياة الإنسانية وللطبيعة كانت تكمن وجهة النظر أو الإجابة التي قدمها القرن التاسع عشر: إن الحياة بكاملها أحداث عريضية، مجموعة صدف، والسعيد هوالذي يحالفه الحظ، والتعاسة صدفة، والفقر صدفة، والتاريخ البشري يتحرك بلا قانون موضوعي حركة عشوائية إلا إذا قيضت له العناية المطلقة رجلاً قادراً على التأثير في مجراه المضطرب !
ولم يكن الفن الروائي يقول هذا الكلام قولاً مباشراً، وفي كثير من الأحيان لم يكن يهدف إلى أن يقوله، ولكنه – برغم ذلك – كان يقوله في النهاية من خلال اللوحات الفنية العريضة الفخمة التي تتكدس فيها التفاصيل والوقائع والأحداث حتى أن العين تتوه في أرحابها وتخرج من رؤيتها بذلك التساؤل المقلق: ماذا يعني كل ذلك، أليست الحياة البشرية مهزلة مضنية ؟!
لقد كان الروائي يهمل الوقائع التي تمنح لأشخاصه ما هو فوق اللحظة المنظورة العابرة، فالوقائع المشذبّة المقصوصة كانت تعني عنده إخلالاً بالتزام النظر إلى الحياة نظراً طبيعياً أو فوتوغرافياً ومعياره أو منهجه أو إجابته التي كان يملكها أمام كل التساؤلات هي نفس الإجابة أو المنهج أو المعيار الذي يستعمله كاتب التاريخ، أو بتعبير آخر: نفس الفلسفة.
كان كاتب التاريخ يترك بعض الوقائع الشديدة الأهمية، أو هو كان يضعها في مكان ما من السياق يبدو معه وكأنها جاءت هكذا، بمحض الصدفة، وبالتالي فإن مكانها في التاريخ المكتوب يكون مجافياً بشدة لمكانها في التاريخ الواقعي، وما ذلك إلا لأن المنهج الذي يعيد به كاتب التاريخ تلاحم العناصر الجزئية يؤثر تأثيراً عميقاً في هذا التلاحم، ويجعله – بحكم التزامه بإعطاء مشهد فوتوغرافي شامل للأحداث – يعطينا في نفس الوقت نصف الحقيقة التاريخية على الأكثر، فزحام الحوادث وتكدسها واستطرادها الزمني المهوش يؤدي إلى العجز عن فهمها، وإلى إعتبارها سلسلة مصادفات متصلة.
ولكن من الذي يهمله القصاص، وما الذي يهمله كاتب التاريخ من تفاصيل ووقائع؟
إن ذهاب القيصر "نقولا الأول" إلى دورة المياه، وخرجه منها حانقاً إلى حدٍ أنه لطم أحد خدمه ونهره بلا سبب، هذه الواقعة المفترضة لا تهم كاتب التاريخ.
إلا أن الروائي يسارع بالتقاط هذه الواقعة الصغيرة الركيكة ويتأملها باهتمام تحت مجهره، تماماً مثلما يفحص الصائغ قطعة ذهب يود التأكد من درجة نقائها.
فهذه الواقعة المفترضة تتحدد لدى الروائي كقوس صغير في الدائرة الكبيرة لصورة معينة، لتكن وجه القيصر أو أي رجل، أو أية امرأة..
إنها لمسة تشكل مع بقية اللمسات مجموع اللوحة النفسية لشخص ما.
فخروج القيصر حانقاً بلا سبب ظاهر – وقد يكون السبب المخفي مثلاً أنه عانى داخل دورة المياه نوبة إمساك !
ثم لطمه للخادم على وجهه أو قفاه، كل تلك التصرفات تدل على أن القيصر كان عصبياً في هذه اللحظة، ومن الممكن أن يستمر عصبياً طوال النهار، والروائي يهمه ذلك لأنه "يصور" لنا الشخصية، ويقدمها في حركتها وانفعالها، ولكنه يأخذ من التفاصيل والوقائع الظاهرية تلك التي تساعدنا على رؤية ما يعتمل في داخل النفس.
فالفن يعني عناية "رأسية" بالشخصية، في حين أن التاريخ يعنى بالشخصية عناية "أفقية" أي بالمجال العام لها، وبالأحداث الكبرى التي تجري حولها، وبدور الشخصية في هذه الأحداث.
ما هي القرارات التي أصدراها "نقولا الأول"، ولماذا أصدرها، وما مدى تأثير تلك القرارات على الحياة العامة، وما هي خبايا القوى السياسية التي دفعت بـ"نقولا الأول" إلى إصدار تلك القرارات؟
هكذا يفكر كاتب التاريخ.
وكاتب التاريخ لا تعنيه الحالة النفسية التي كان يشعر بها "نقولا الأول" وقت إصدار القرارات، والخواطر التي دارت في رأسه عقب إصدارها وهو مسترخ على فراشه وعيناه تحلقان في السماء عبر النافذة الكبيرة.
هي لا تعنيه لأنه لا يرسم ويخلق، فهو جامع أحداث تاريخية، إلا أنه ليس جامعاً عشوائياً، فمهمته قريبة من مهمة المهندس، إنه يبني من جديد أشياء متناثرة، ويعيد لها سياقها بقدر الإمكان، ولكنه لا يتصرف فيها، ولا يلونها، بل هو فقط يربط أطرافها بفضل نظرة مستقصية.
وهنا يأتي السؤال الذي طرحناه في البداية:
إذا كانت مهمة كاتب التاريخ تشبه – في كثير من الوجوه – مهمة المهندس، فما هو "المعيار" الذي يهمل بواسطته واقعة معينة ويهتم بأخرى؟ وكيف يكون بمستطاعه تنسيق الأجزاء المختلفة وتحقيق التحامها؟
نفس السؤال أيضاً يواجه الروائي !
الإجابة التي قدمها القرن الماضي تختلف عن الإجابة التي سادت هذا القرن، بالنسبة للاثنين: الروائي، وكاتب التاريخ.
روائي القرن التاسع عشر كان إنتاجه أشبه بـ"شاشة" عريضة ضخمة تعرض المنظر بأجمعه، بتفاصيله المهمة وغير المهمة. فإذا دخلنا – عبر الورق – بيتاً أو كنيسة، أو طفنا بشارع أو زقاق، فإن الروائي يرسم لنا كل شيء يراه بلا تفريق لأن جهده متجه إلى إعطاء "الصورة الطبيعية" بحذافيرها.
ووراء هذا الرصد الفوتوغرافي للحياة الإنسانية وللطبيعة كانت تكمن وجهة النظر أو الإجابة التي قدمها القرن التاسع عشر: إن الحياة بكاملها أحداث عريضية، مجموعة صدف، والسعيد هوالذي يحالفه الحظ، والتعاسة صدفة، والفقر صدفة، والتاريخ البشري يتحرك بلا قانون موضوعي حركة عشوائية إلا إذا قيضت له العناية المطلقة رجلاً قادراً على التأثير في مجراه المضطرب !
ولم يكن الفن الروائي يقول هذا الكلام قولاً مباشراً، وفي كثير من الأحيان لم يكن يهدف إلى أن يقوله، ولكنه – برغم ذلك – كان يقوله في النهاية من خلال اللوحات الفنية العريضة الفخمة التي تتكدس فيها التفاصيل والوقائع والأحداث حتى أن العين تتوه في أرحابها وتخرج من رؤيتها بذلك التساؤل المقلق: ماذا يعني كل ذلك، أليست الحياة البشرية مهزلة مضنية ؟!
لقد كان الروائي يهمل الوقائع التي تمنح لأشخاصه ما هو فوق اللحظة المنظورة العابرة، فالوقائع المشذبّة المقصوصة كانت تعني عنده إخلالاً بالتزام النظر إلى الحياة نظراً طبيعياً أو فوتوغرافياً ومعياره أو منهجه أو إجابته التي كان يملكها أمام كل التساؤلات هي نفس الإجابة أو المنهج أو المعيار الذي يستعمله كاتب التاريخ، أو بتعبير آخر: نفس الفلسفة.
كان كاتب التاريخ يترك بعض الوقائع الشديدة الأهمية، أو هو كان يضعها في مكان ما من السياق يبدو معه وكأنها جاءت هكذا، بمحض الصدفة، وبالتالي فإن مكانها في التاريخ المكتوب يكون مجافياً بشدة لمكانها في التاريخ الواقعي، وما ذلك إلا لأن المنهج الذي يعيد به كاتب التاريخ تلاحم العناصر الجزئية يؤثر تأثيراً عميقاً في هذا التلاحم، ويجعله – بحكم التزامه بإعطاء مشهد فوتوغرافي شامل للأحداث – يعطينا في نفس الوقت نصف الحقيقة التاريخية على الأكثر، فزحام الحوادث وتكدسها واستطرادها الزمني المهوش يؤدي إلى العجز عن فهمها، وإلى إعتبارها سلسلة مصادفات متصلة.