كنت قد اخترت مهنة الطب بشغف وحب كبيرين، كان جانبها المشرق يحجب رؤيةَ جوانبها الأخرى. لم أفكر من قبل أنه مثلما سأسعى إلى إنقاذ الأرواح سأجبر على تقبّل فقدان البعض منها، إلى أن جاء يوم المواجهة. كان يوم صيف إفريقي، شمسه حارقة وهواؤه جاف، وكان صباحي حماسيا كعادتي في كل يوم أتدرّب فيه بالمستشفى؛ دائما متحمسة لرؤية المرضى ومزاولة المهنة النبيلة. كَانت مناوبتي ذلك اليوم في قسم المستعجلات، وصلت وبدأت أتفحص سجّل المرضى كي أعرف من دخل ومن خرج في غيابي. كنت منهمكة في التفحّص وإذا بي أسمع الأصوات تتعالى وتطلب إفساح الطريق، طبعا هذا أمر اعتيادي في قسم المستعجلات، ولكن في هذه المرة كانت نبرة الأصوات مختلفة: غاضبة وخائفة ومتأملة. استجاب فريق العمل كله في لمحة بصر، أما أنا فقد كنت في غرفة الاستقبال، كانت مشاعري عبارة عن خليط من الفضول والحماس والخوف وأشياء أخرى لم أتمكن من فهمها. تركت ما كان بيدي وذهبت كي أتفقد الوضع.
كان المريض طفلا! طفل في أواخر ربيعه الأول تقريبا، ما زال في وعيه، يقلّب رأسه إلى اليمين وإلى اليسار، يحاول التقاط أنفاسه بصعوبة واضحة، يصارع من أجل الحياة. كان جلد ساقه اليسرى منفصلا عن لحمها من أسفل الحوض إلى أسفل الرجل، كانت حالته مزرية ولكنه كان يتنفّس، بصعوبة لكن يتنفّس! كانت غرفة المستعجلات كالسوق الأسبوعي، الداخل إليها أكثر من الخارج منها: طبيبان وممرضات وممرضون وطلبة، كلهم يحاولون إيجاد مدخل إلى عروقه لتزويده بالدم لأنه كان قد نزف كثيرا. اتضح أنه ينزف داخليا من حوضه المكسور أيضا، جفت عروقه ولم يستطيعوا الوصول إليها. لم يتحمل الصغير وتوقف عن التنفس ونام، التفت إلي الطبيب وأمرني بأن أضغط على صدره بينما طالب آخر بوضع جهاز الأوكسجين على أنفه، ولكنني كنت لا أزال طالبة أتعلّم! كيف أساهم في إنقاذ مستعجل كهذا؟ لم يكن لدي وقت للاعتراض أصلا واستجبت فورا لنداء المهنة النبيلة.
لامست يداي الباردتان من شدة الخوف جسده النحيل الملطخ بالدماء، بدأت بالضغط على صدره وفي داخلي صوت يصرخ يا رب. شعر الطبيب بأنني تعبت فاستبدلني بطالب آخر لمتابعة المهمة. لا شك أن تعبا داخليا كان قد انعكس على ظاهري، لأن المهمة لم تكن تتطلب جهدا جسديا، فكل ما كان في الأمر أن أضغط على صدر طفل نائم! تراجعت إلى الوراء وأخذتني أحاسيسي التي لا أعلم إن كانت تليق باستعجالية الموقف وبطبيبة مستقبلية مثلي، أخذني حس الأمومة المسبق لدي وبدأت أتخيل: ماذا لو كان هذا الطفل ابني؟ كيف سأعيش بذنب فقدان طفل بينما مهمتي أن أنقذه؟ أخذتني التساؤلات وشعرت وكأن المهنة النبيلة خدعتني؛ لم ترني أوراقها كاملة منذ البداية، انقلبت علي في لحظة ولم أعد أعرفها، لم تعد تلك المهنة التي أحببتها وكنت قد قررت اتباعها بشغف وحماس، أظهرت لي وجهها الشرير دون سابق إنذار، صدمتني!
فجأة صرخ الطبيب صرخة قوية أعادتني إلى الواقع الأليم، أمر بإيقاف كل المحاولات وقَال: لقد فقدنا المريض! عبارته تلك زعزعت كياني، لم أتمكن من قول كلمة ولكن تعابير وجهي قالت الكثير وانفجرت بتساؤلات: لماذا نوقف كل شيء؟ هل سنتخلّى عنه بهذه السهولة وهذا البرود؟ كانت صرخات مكتومة لأم عاجزة من أجل طفلها المفقود. أعتقد أن الأطباء تفهمّوا نظراتي المصدومة والرافضة لتقبّل النتيجة، لأنني كنت ومازلت طالبة مبتدئة في ميدان الطب، ليس من روتين حياتها فقدان مريض تلو الآخر بعدُ.
اقترب منّي أحد الأطباء وقال لي: " إني أتفهم تأثرك ولكننا فعلنا كل ما بوسعنا لأجل إنقاذه، لقد فقد كل دمه تعالي وانظري كيف صار جسمه أبيض". لم أرد النظر إليه لأن النظر لن ينفعه في شيء، ولكن أوامر الطبيب لا تناقش، فذهبت لأنظر، وفعلا كان جسمه أبيض وباردا كالثلج، اكتفيت من النظر والتفت كي أخرج من تلك الغرفة المشؤومة ولكن الطبيب بدأ بالشرح! بدأ بشرح ما تسبّب في موت الطفل. انصعقت! هل سأتعلم كيف يحدث الموت من خلال جسد الصغير الميت الآن؟ كيف سأطيل النظر في وجهه الآن بعد أن جاءنا حيّا يصارع الموت وضيّعناه؟ بأي قلب سأفعل ذلك؟ كتمت كل الأصوات التي كانت تأكل داخلي وقمعت دموعي المندفعة حزنا على فقدان الصغير وتظاهرت بالإصْغاء وأخذ العلم..
جمعت الممرضات جلد الصغير مع لحمه وغطوه بالثوب الأبيض الذي صار أحمر بمجرد ملامسته لجسم الصغير. خرجت مسرعة أبحث عن أي مكان أستطيع فيه التقاط أنفاسي والسماح لدموعي بالتعبير عن مشاعر الحزن والاستياء والاشمئزاز والشك التي كانت تنتابني في تلك اللحظة. في ذلك الْيَوْمَ، جلست كثيرا مع نفسي وأعدت المشهد ألف مرة، هدأتْ مشاعري وواجهتُ شكوكي بعد أن استوعبت الوجه الآخر للمهنة النبيلة. مع مرور الزمن وكسب التجربة، تصالحت معه وعرفت أن حربي مستقبلا ستكون بين فصل مشاعري التي تجعلني أكون أنا والتي وجّهتني إلى اختيار مهنة الطب النبيلة عن مهمتي المهنية كطبيبة، هذه المهمة التي تكون قاسية أحيانا إلى درجة تجريدي من أكثر شيء أحبه في نفسي: مشاعري وأحاسيسي.
هدى بوحمام
31/1/2018
كان المريض طفلا! طفل في أواخر ربيعه الأول تقريبا، ما زال في وعيه، يقلّب رأسه إلى اليمين وإلى اليسار، يحاول التقاط أنفاسه بصعوبة واضحة، يصارع من أجل الحياة. كان جلد ساقه اليسرى منفصلا عن لحمها من أسفل الحوض إلى أسفل الرجل، كانت حالته مزرية ولكنه كان يتنفّس، بصعوبة لكن يتنفّس! كانت غرفة المستعجلات كالسوق الأسبوعي، الداخل إليها أكثر من الخارج منها: طبيبان وممرضات وممرضون وطلبة، كلهم يحاولون إيجاد مدخل إلى عروقه لتزويده بالدم لأنه كان قد نزف كثيرا. اتضح أنه ينزف داخليا من حوضه المكسور أيضا، جفت عروقه ولم يستطيعوا الوصول إليها. لم يتحمل الصغير وتوقف عن التنفس ونام، التفت إلي الطبيب وأمرني بأن أضغط على صدره بينما طالب آخر بوضع جهاز الأوكسجين على أنفه، ولكنني كنت لا أزال طالبة أتعلّم! كيف أساهم في إنقاذ مستعجل كهذا؟ لم يكن لدي وقت للاعتراض أصلا واستجبت فورا لنداء المهنة النبيلة.
لامست يداي الباردتان من شدة الخوف جسده النحيل الملطخ بالدماء، بدأت بالضغط على صدره وفي داخلي صوت يصرخ يا رب. شعر الطبيب بأنني تعبت فاستبدلني بطالب آخر لمتابعة المهمة. لا شك أن تعبا داخليا كان قد انعكس على ظاهري، لأن المهمة لم تكن تتطلب جهدا جسديا، فكل ما كان في الأمر أن أضغط على صدر طفل نائم! تراجعت إلى الوراء وأخذتني أحاسيسي التي لا أعلم إن كانت تليق باستعجالية الموقف وبطبيبة مستقبلية مثلي، أخذني حس الأمومة المسبق لدي وبدأت أتخيل: ماذا لو كان هذا الطفل ابني؟ كيف سأعيش بذنب فقدان طفل بينما مهمتي أن أنقذه؟ أخذتني التساؤلات وشعرت وكأن المهنة النبيلة خدعتني؛ لم ترني أوراقها كاملة منذ البداية، انقلبت علي في لحظة ولم أعد أعرفها، لم تعد تلك المهنة التي أحببتها وكنت قد قررت اتباعها بشغف وحماس، أظهرت لي وجهها الشرير دون سابق إنذار، صدمتني!
فجأة صرخ الطبيب صرخة قوية أعادتني إلى الواقع الأليم، أمر بإيقاف كل المحاولات وقَال: لقد فقدنا المريض! عبارته تلك زعزعت كياني، لم أتمكن من قول كلمة ولكن تعابير وجهي قالت الكثير وانفجرت بتساؤلات: لماذا نوقف كل شيء؟ هل سنتخلّى عنه بهذه السهولة وهذا البرود؟ كانت صرخات مكتومة لأم عاجزة من أجل طفلها المفقود. أعتقد أن الأطباء تفهمّوا نظراتي المصدومة والرافضة لتقبّل النتيجة، لأنني كنت ومازلت طالبة مبتدئة في ميدان الطب، ليس من روتين حياتها فقدان مريض تلو الآخر بعدُ.
اقترب منّي أحد الأطباء وقال لي: " إني أتفهم تأثرك ولكننا فعلنا كل ما بوسعنا لأجل إنقاذه، لقد فقد كل دمه تعالي وانظري كيف صار جسمه أبيض". لم أرد النظر إليه لأن النظر لن ينفعه في شيء، ولكن أوامر الطبيب لا تناقش، فذهبت لأنظر، وفعلا كان جسمه أبيض وباردا كالثلج، اكتفيت من النظر والتفت كي أخرج من تلك الغرفة المشؤومة ولكن الطبيب بدأ بالشرح! بدأ بشرح ما تسبّب في موت الطفل. انصعقت! هل سأتعلم كيف يحدث الموت من خلال جسد الصغير الميت الآن؟ كيف سأطيل النظر في وجهه الآن بعد أن جاءنا حيّا يصارع الموت وضيّعناه؟ بأي قلب سأفعل ذلك؟ كتمت كل الأصوات التي كانت تأكل داخلي وقمعت دموعي المندفعة حزنا على فقدان الصغير وتظاهرت بالإصْغاء وأخذ العلم..
جمعت الممرضات جلد الصغير مع لحمه وغطوه بالثوب الأبيض الذي صار أحمر بمجرد ملامسته لجسم الصغير. خرجت مسرعة أبحث عن أي مكان أستطيع فيه التقاط أنفاسي والسماح لدموعي بالتعبير عن مشاعر الحزن والاستياء والاشمئزاز والشك التي كانت تنتابني في تلك اللحظة. في ذلك الْيَوْمَ، جلست كثيرا مع نفسي وأعدت المشهد ألف مرة، هدأتْ مشاعري وواجهتُ شكوكي بعد أن استوعبت الوجه الآخر للمهنة النبيلة. مع مرور الزمن وكسب التجربة، تصالحت معه وعرفت أن حربي مستقبلا ستكون بين فصل مشاعري التي تجعلني أكون أنا والتي وجّهتني إلى اختيار مهنة الطب النبيلة عن مهمتي المهنية كطبيبة، هذه المهمة التي تكون قاسية أحيانا إلى درجة تجريدي من أكثر شيء أحبه في نفسي: مشاعري وأحاسيسي.
هدى بوحمام
31/1/2018