ما إن ادخل المكتبة في الطابق الثاني حتى تداهمني رائحة الكتب والرطوبة وخبث المياه التي تسرّبت من السقف الى الارضية وداهمت بعض كتبي التي تلفت وانكمشت، حاولت كثيراً ابعاد قطرات الماء عن غرفة المكتبة لان الكتب ترتعب من المياه فهي حتفها الاكيد وقد ضاعت مني الكثير من الكتب بسبب المياه، المهم في الامر ان المكتبة عالم كامل بديل عن عالمنا المعاش وواقعنا المرير، فيه تفتح لك الابواب لدخول عوالم اخرى، عوالم لم تكن تعرف عنها شيئاً، مليئة بالغرابة والدهشة والمتعة والفكر والفائدة، لا احسب الزمن لان الزمن هنا مفقود، تضيع المواعيد وتختفي المكالمات فلا مكان لاجهزة الموبايل، هنا الملك هو الكتاب فقط ونحن العباد والمريدون التائقون الى كلمة حب وجمال وانتقالة مع الزمن الى امكنة وازمنة اخرى ولن يستطيع احد ان يتلصص علينا، الكتاب كائن حي وبوابة الفراديس المفقودة، والمكتبة روضة من رياض الجنائن المحتجزة المعزولة في امكنة العقل والعاطفة والعيون التواقة الى متابعة ابطالها وهم يصارعون رؤاهم ومصائرهم واحداثهم الجسام، هو واحة الفكر والمعرفة مشرعة الابواب للداخلين، هنا الجنون والعقول الرزنة والشطحات اللامعقولة، هنا الحكمة والتصوف والعرفان، هنا صراخ النسوة المستوحدات والعشاق الميتين في فسح مجهولة، هنا البحار الغريق في لجة بحور مضطربة، هنا الضياع الذي ينبغي ان نمارسه كل حين، هنا تاريخ الشياطين والابالسة ومرتع الملائكة الطيبين واخبار السموات السبع، وسوف تقودك الحداثة وما بعدها الى ابعد من ذلك، الى شطآن ليس لها آخر، ثم انني اخبئ هنا مخطوطات مشاريعي الكتابية من رواية الى قصص قصيرة الى قصائد طويلة وومضات تنير لي ظلمة الليالي الحالكة السوداء، لا وقت للكتابة وانت تؤم قداسة المكتبة وملائكية حروف الكتب المضيئة في لاوعيك العميق والاصدقاء هنا كثر اميركيون وافارقة وفرنسيون وألمان وروس واميركيون لاتينيون وعرب وترك وفرس وكتاب اوربا الشرقية والهند، كل هؤلاء حاضرون معك ينتظرونك كل يوم ويرحبون بمقدمك وان تأخرت سيقلقون عليك فانت اصبحت واحداً منهم من اقوام الكلمة وسادة الحروف ورؤوس الحكمة والمعرفة والجنون في سردك وشعرك ومقالاتك ستظل واحداً من الاصوات التي تحتفظ بها المكتبة وتعتبرها إرثاً حراً لملاك الوعي والحلم والدهشة والكلام يطول .. يطول.