يرى غادامير( كل مراجعة لتذّهن المعنى واستحضاره المسبق يمكنها ان تتصور استحضارا جديدا لمعنى جديد. قد تهيأ عدة تصورات متنافسة إلى أن تؤسس وحدة المعنى بصورة واضحة)*, ان الرصد الذي يقوم به القارئ العارف يأتي عن خلفية معرفية متنامية من خلال استيعابه للمنهج التأويلي واشتراطاته التي من شأنها الحيلولة دون الوقوع في فخاخ الحكم المسبق/ القبلي, وهذا يأتي بعد قراءة مستفيضة للنص, تبرز من خلالها تصورات عدة, باتجاه المعنى الذي أنتجه النص أو استحضارا جديدا للمعنى أو مخالفة تامة لكل ما رشح آنفا, لذا على القارئ الخبير متابعة هذا الخيط السري الذي يربط جميع التصورات التي لم تأتِ عن فراغ قطعا لكنها وبحسب, هيدغر, إذ ( يؤكد موضوعه العلمي انطلاقا من الأشياء نفسها بتشكيل المكتسب والمدرك والمتصور المسبقين )*, فإنتاج المعنى يأتي من عدة مرجعيات معرفية سواء أكانت مكتسبة/ خارجية, أو مدركة/ ذاتية / داخلية, أو متصورة/ رؤى/ أفكار, ممكن ان يستمدها القارئ البارع من الخبرة التي يتحلى بها, وهي تتويج للمكتسب والمدرك, الذي تم تبيانه فيما سبق ذكره, فانّنا نجد للقارئ فهما مسبقا للأشياء, ولمَّا يتناول نصا شعريا يحمل ذات التصور للمعنى/ الحكم القبلي, وهذا بحد ذاته لا يشكلُ خلافا للان, كما يرى هيدغر ( أن الفهم يتحدد باستمرار بحركة التصور للفهم المسبق)*, أنما لو تحقق معنى جديدا خلاف المعنى الذي تم تصوره, ولم يتغير الحكم المسبق, فهنا يعدُّ مثلبة على القارئ, مع الأخذ بنظر الاعتبار انَّه يتحلى بالحياد تجاه النص, فللنص قصديته , نعم قد نؤول معنى أو عدة معان من خلال فهمنا للنص, متكئين على نوايا النص, أو ذهن الكاتب نفسه, لكنه لا يسوغ لنا الإبقاء على الفهم الذي يتقاطع وقصدية النص, لذا لا يمكننا ان نبتعد أكثر, كما يرى دريدا, ( إذ ليس هناك شيء خارج النص)*, وأن نفسح مجالاً لتأويل المسكوت عنه كلما اقتضت الضرورة, بإشارة أو إجراء مباشر, لذا وبعد استعراض هذه الرؤى حول تأويل النص الشعري, سنتناول مجموعة ( أعمل الآن..قرب مقبرة )* للشاعر منذر عبد الحر,كإجراء تطبيقي, لبيان إشكالية الحكم القبلي.
جندي فقد ذراعا في حرب ما
يستوقفني:
اعطني حقي منك!
أنت بكامل أعضائك
وأنا بكامل عطبي
أركض خلف سراب وطن لايعرفني
أن القراءة الفاحصة للنص الشعري تمكننا من الوصول إلى جوانية الانتظار الدقيقة, لأجل استحضار المعنى, بعد أن فارقنا سطحه بقراءة أولى فاحصة, غادرنا فيها الفهم المباشر, وشرعنا في أول خطوة لاستحضار المعنى الشعري العميق, أن دلالة الجندي الذي فقد ذراعه تشي بمفارقة لكونها واقعا معاشا لوطن الحروب التي جرت الويلات على أبنائه, فمن فقد أحد أعضائه وعاش رهين العاهة والمطالبة باسترداد ما فقد, ان هو مواطن/ جندي بجزء ميت, و الأشد إيلاما أنه دفع التضحيات إلى وطن سراب, (أركض خلف سراب وطن لايعرفني), وهذه مأساتنا وطن لا يعرف من أبنائه غير الأصحاء منهم, نجد هنا المفارقة, فالوطن على الرغم من كل الحروب التي مرت يبدو بكامل عافيته, أما أبنائه أما قتلى أو مشوهين, ندرك أنه ممزق من الداخل, لكنه معافى من الخارج/ الظاهر, لذا لا نخلي مسؤوليته عما يجري حتى لو كان بعافية ظاهرية.
ألست في أرض حرام ؟
انظر هناك حقل ألغام
هذه ليست مدينة
هذا قناص
تلك دورية
هؤلاء جرحى
لقد حملنا الحرب معنا من طفولتنا ص23
أن تأويل النص الشعري لا يعطي للقارئ الحرية المطلقة في اصدار الاحكام المسبقة عند بروز معنى ما, فتأويل النص الشعري يفضي لمعان عدة, وعليه يجب ان يكون هناك تطابق بين معنى النص والمعنى الجديد الذي تمَّ استحضاره في فهم القارئ, فالمدينة هنا لا تفضي الى ذاكرة البراءة المصحوبة بالسلام, فهي مدن تعيش حالة انقطاع مع أبنائها, فما بالك لو أنَّها لم تبتعدَ عن ساحة حرب , أرض حرام / حقل الغام/ قناص/ دورية حراسة/ جرحى, فمعالم المدينة غائبة, وكيف بنا ونحن نستدعي الطفولة, الطفولة التي سفكتْ براءتها الحرب, (لقد حملنا الحرب معنا من طفولتنا ), نفهم من خلال جملة المعطيات التي زخر بها النص, أننا في مقبرة ولسنا في مدينة, فمن مقومات المدن الحفاظ على مدنيَّتها, ووقوفها بالضد من عسكرة المجتمع المدني الأمن, ان دلالة العسكرة هذه أنتجت معنى جديدا كونها مقبرة.
....ها أنذا ..
اشرب الماء من بئر راكد
رميت فيه الأنقاض والجثث ص33
أن إدراك معنى النص الشعري من خلال القراءة الواعية التي تحقق انتاج معنى جديدا, مُتأتٍ من خلال تطابق فهم القارئ العارف لمعنى النص, فنحن لا نحاكم النص معتمدين عما يدور في ذهن المؤلف, بقدر محاكمة النص من دون الالتفات للحكم القبلي, البئر وما يشكله من علامة الارتواء, هو الآخر لم يسلم من فوضى الحرب التي طالت يدها المدن/ المباني/ الإنسان/ الأرض, فالخراب/ الحرب له فعل السحر في فناء الاشياء, بل انّه بلغ سعة وامتدادا منقطع النظير, وبنظرة فاحصة للنص نجد المدينة تعاني انقراض النوع بدلالة (ها أنذا) , , لذا تبرز مفارقة تبادل المهام فالبئر كالمدينة مارس فعل المقبرة, بمعطى دلالي أنتج معنى جديدا يحمل الفرادة هنا, فالمقابر/ الموتى, تنتظر الزائرين علَّها تبلغ رشفة ماء تروي عطش رمال القبر الساخن, إلا أنَّنا نجد البئر/ القبر, هو من يهبّ الماء للزائرين والأموات في ارتواء دائم.
كيف أعيد لهفتي
وأنا أرى السواد فوق كل شيء34
لأجل استحضار المعنى, يجب الأخذ بنظر الاعتبار المعاني التي تنتج عن الفهم للنص الشعري, مع التزام الحياد في استحضار جديدٍ للمعنى, من دون الركون الى الحكم القبلي, لذا لزاما علينا مراعاة تطابق المعنى المستحضر مع المعنى الذي أراده النص, فأن لم تتطابق لا يمكننا أن ننحاز للمعنى الذي تم تأويله, بل يجب علينا الكد وإعادة قراءة النص الشعري, فحين نتناول بنية السواد التي تشكل علامة للحزن/ الموت, تبرز دهشة القارئ, وهي ترى السواد يلف الأشياء في إعادة حساب لللهفة التي حملته للوطن, إبصار السوّاد, وقف حائلا دون تحقيق الفرحة, السواد هنا لم يدثر جزءاً محددا, فهو لم يكن دثار, و أنما سواد قدم ليغطي الأشياء/ عموم الوطن, السواد/ الحزن/ الموت, فوق كل شيء,نجد هنا استحضار معنى السواد, الذي جاء مصاحبا لمعنى الموت/الحرب/ المقابر.
أراك تغتسل بمطر النار
أفزعت الطائرات أطفالك
وهرب عشاقك الى البراري
والمدن البعيدة
مضى أبناؤك إلى الكهوف ص35
عند معاينة النص الشعري يجب مراعاة المعنى الذي ذهب إليه النص, بقراءة متدبرة كي يتسنى لنا مطابقته والفهم الذي ينتج معنى متوافقا مع المعنى الذي قصده النص, فالمدينة والأبناء متساوين في تلقي مآسي الحروب التي تدور رحاها لتقضم المدينة وساكنيها, المدينة التي تغتسل بماء النار/ الرصاص, ويستفيق أطفالها على صوت أزيز الطائرات, هي مدن الخوف المجاني, وان أرادت ان تتنفس متناسية الضجيج هذا تصطدم بهروب عشاقها إلى البراري والمدن البعيدة, لتشكل علامة شاخصة للمنافي, أما الأبناء إلى الكهوف, وما تشكله من دلالة للعزلة, لم يبقَ إلا شبح أسمه الحرب تحوم على الوطن / المقبرة, فمن صفات المقابر/ المدن, هروب الجميع منها بالأخص لو كانت مرتعا للدمار.
هل أنت أدرد حقا ؟
هل بلغت شاطئ اليأس
وأنت تنظر جثث أبنائك الغرقى
بين السفن التائهة
والصواري العوانس ص36
عندما نشرع في تأويل نص شعري باذخ الرؤى يجب علينا فتح أكثر من نافذة لأجل استحضار جديد للمعنى وصولا لتطابق الرؤى, حتى أننا نفتح نافذة لتأويل المسكوت عنه في إعادة لفهم النص وفق هذا الاستحضار الجديد الذي يجعلنا نعيد الإحكام التي اطلقناها مسبقا, لفتح أفقٍ جديدٍ للنص, فخطاب الأبناء هنا وجه بشكل مباشر للوطن, خطاب تداخلت فيه الجرأة, فالجندي الجسور و الابن الذي خذله الأب/ الوطن, لم يكن الخطاب مجانيا هذه المرة بل أتى عن تراكم للنكبات, فالدهشة تلف السؤال, قبل السائل, كأنهما في حيرة من معرفة وعدم معرفة سابقة بهكذا وطن, ما كل هذا السكون, هل يبدو الدرد, حالة مُخجلة, في فترة الهرم/ سن اليأس, (هل أنت أدرد حقا ؟/هل بلغت شاطئ اليأس), أم أنه أدعاء للدرد المبكر, وما ادعاء العاهة قصور في الرؤية والتدبر, عاهة لا يطال الأبناء منها غير الخذلان , الأبناء غرقى في حاضر دامٍ ومستقبل مجهول, وما تشكله السفن التائهة , عن المراسي/ الأرض, من علامة لضياع الأبناء, فهي من غير ربان, كما الصواري العوانس التي أضاعت الفنار/ الوطن.
في الارض التي لا تؤوي أحدا
ثمة أحلام
ثمة قرى هربت من الخرائط
ومنسيون أججوا خصبهم
وهم يقضون نهاراتهم بالرحيل
ولياليهم بالتعلق بالنجوم ص61
من خلال قراءة متأنية للنص الشعري نكون قد اقتربنا من الفهم/ التأويل, الذي يتماها مع المعنى الذي أنتجه, فعبر سياق النص يبرز شعور عالٍ بالتيه, فالوطن انتماء, وما المنافي القسرية إلا مِشرط الجراح الذي فرق بين الجنين/ الأبناء والرحم/ الأرض/ الوطن, فتراه يصرخ لا لشيء يؤذيه وإنما ألفته للأمان في ذلك الرحم, مالها هذه الأرض/ الأوطان لا تؤوي أحدا/ الأبناء, حتى القرى هربت من الخرائط/ الوطن, والقرى هنا علامة شكلت للأبناء التي تسكنها, الخرائط لم تنتمِ يوما لأبنائها المنسيين في المنافي, حتى أنها لا تدرك الأرض التي وطأتها أقدامهم, فهم يقضون نهاراتهم بالرحيل, ولياليهم متعلقة بالنجوم, أي انفصال هذا عن تراب الوطن/ الرحم, وأي تربة هذه التي لا تؤدي إلى العيش أو الموت الكريم حتى داخل رحمها, أم أن هذهِ التربة غير منتمية أصلا لهذه الخرائط/ الأوطان, أم ان الخرائط مجت هذا الضجيج/ المنفى/ الموت المتكرر, ورفضت كونها خرائط لمقبرة.
الغرباء الذين جاءوا
طوقوا الشجيرة
أطلقوا الرصاص عليها
وداسوا على جثتها بمجنزراتهم
لم تبك
أنا بكيت من قبوي ص68
في استحضار جديد للمعنى وبعيدا عن الحكم القبلي الذي يسير بخطى متجاوره مع النص, ليحفظ الحيادية من خلال فهم يفضي إلى مع مراعاة عدم التحيِّز في إصدار الإحكام القبلية ليتسنى لنا الوصول إلى جوهر النص الشعري, فالوطن/ الخرائط الذي لم يبقَ منه إلا شجرة, كعلامة للأمل, بعد تكرار الحروب والدمار والمنافي, صار وطننا مطوقا بالغرباء , الغرباء الذين أطلقوا على خضرته الرصاص, فأضحى الوطن / الأرض, مقبرة طالت يدها الأمل/ الشجيرة, التي مثل علامة للديمومة, حتى أنهم مثلوا بجثة القتيل/ الشجيرة (وداسوا على جثتها بمجنزراتهم), أو لوطن لم يرفعْ صوته بالرفض حتى, لهكذا إيغال في القسوة وقتل للأمل الأخير في ان يؤسس لحياة فوق الارض/الوطن/ المقبرة ,وما بكاء المنفي/ الابناء, إلا علامة لرفض استقبال جثة جديدة, ما أقسى أن يشيع الشجر كجثة إلى مقبرة, لتتشكل علامة الفصل بين الوطن والأبناء, فالوطن اراد أن يبقى خريطة فحسب فلم يبادر ليكون رحماً للحياة, بقدر كونه رحم للحروب والموت, كان رحما بسعة مقبرة.
نشدو للوطن
هذا الغراب المنسوج من شغافنا
هو الأم الجالسة في باب الفجيعة
بانتظار أبنائها العائدين ص126
إنَّ محاكمة النص الشعري وفق الحكم القبلي الذي يبديه القارئ مسبقا يقف حائلا والوصول إلى المعنى الذي أنتجه النص, لذا علينا إخضاع هذه الإحكام والرؤى إلى الاستبدال في حالة اكتشاف المعنى الذي قصده النص في مخالفة لما تم فهمه, فالوطن/ الغراب, الغراب المصرِّح الأول في إنشاء مقبرة, (هابيل) لم يسلم من القتل ولم تعصمه الاقدار ان يدفن بايمائة من غراب, هذا الوطن/ الغراب, الذي أن نعق, نشد للحرب والدمار والموت, وأن صرَّح, فتصريح لفتح عشرات المقابر, هذا الوطن/ الغراب, الذي نسج من شغاف الأبناء المنفيين, هو تلك إلام التي تجلس عند باب الفجيعة, الأم/ الرحم النافق/ الأرض/ المقابر , التي تنتظر جثث الأبناء بعدما عصرتهم منافي الجوع والمسير عبر خرائط الأوطان الأخرى, لتلف بالأعلام تحت سلطة نشيد, نعيق الغراب.
في يوم ما ....
سيعرف القادم الى متحفنا
أننا عزل
محرومون
بلادنا شوارع مهجورة ص146
أنَّ استحضار المعنى في النص الشعري, يوجب على القارئ التحرر من قيد تشظي الرؤية, لأجل إدراك المعنى الذي أريد بثه في النص الشعري, كي يجعله ضمن فضاءه, وبهذا يكون قد اقترب من ساحل المعنى ليحقق تلاقيا مع مراسيه, فالحكم القبلي لا يعد مبتغى القارئ الخبير, فالمبتغى الحقيقي هنا إدراك وحدة المعنى من خلال التأويل/ فهم النص الشعري, وصولا إلى تطابق الرؤى بين القارئ والنص, فالمتحف وما يشكله من علامة لتخليد تاريخ وطن مضى بأهله, لم يبقَ من الوطن سوى متحف/ تاريخ, تحت سلطة الخرائط, فالقادم أن تنبه وسأل لِمَ كل هذا الحرب/الدمار/ الموت, ما هذه المومياءات المحنطة / الأبناء ؟, إنهم بأصابع بيضاء لم يلوثها البارود ولم يخفِ نقائها القتل, بعدما سلبها التحنيط سمة الحياة, ما هذا الهزال, العيون تروي فجائع الجوع والخوف والموت والنفي, المتحف هنا شكل مع القادم/ الوافد/ الزائر, علامة للبوح بالفناء, كون المدينة ذات الشوارع المهجورة, ما هي إلا مقبرة, والقادم أتى ليلقي التحية, فالقيت على أموات/ الأبناء, جمعتهم مقبرة كبيرة/ متحف, فالزائر كان يتجول بالمدينة/ متحفهم الكبير, في إنتاج لمعنى الأوطان/ الخرائط, التي لا تعدو أكثر من كونها مقبرة, نعم قد يتم الكشف عن معنى جديد لم يدركه الشاعر نفسه, فيتم استحضار جديد للمعنى برؤى جديدة, تؤسس للتأويل/ للفهم في ضوء ما سبق وفي ضوء الكشف عن المسكوت عنه في النص الشعري, بمدرك خارج سلطة وعي الشاعر لكن لا يمكن لنا الخروج عن سلطة النص ذاته, أن النص قد يفصح عن رؤى تقع تحت طائلة تأثيرات خارجية بمدرك داخلي/ باطني/ اللاوعي, سواء أغاب المعنى أم حضر في ذهن الشاعر لحظة إنشاء النص, لكنه لم يخرج عن سلطة النص( لا شيء خارج النص), فلا يمكن لنا أن ننسب للقارئ, ما قد يقع تحت مصطلح تطور المفردة أو تنامي الفكرة أو النوع الشعري, فالأمر خاضع لتطور المرحلة الكتابية في أي شكل شعري قديما كان أم حديثا, وما قد يتم كشفه في نص شعري ما, فأننا عند فحص عينات أخرى نجد شعراء آخرين قد بلغوا ما وصل إليه الشاعر منذر عبد الحر, لكن بقي أمر الفرادة أو السبق في تطور الثيمة وتنامي النص, الذي يحب له, هذا كلُّه من مهام النقد, مع مراعاة الشكل الشعري الذي أبدع فيه.
.....................................
*فلسفة الـتأويل, هانس غيورغ غادامير,منشورات الاختلاف الجزائر.ط2-2006,ص12
*المصدر نفسه, ص125
*المصدر نفسه, ص126
* النقد الثقافي, عبد الله الغذامي, المركز الثقافي العربي, الدار البيضاء- المغرب, ط3, 2005, ص35
* أعمل الآن.. قرب مقبرة, منذر عبد الحر, وزارة الثقافة-العراق-بغداد, ط1- 2013
جندي فقد ذراعا في حرب ما
يستوقفني:
اعطني حقي منك!
أنت بكامل أعضائك
وأنا بكامل عطبي
أركض خلف سراب وطن لايعرفني
أن القراءة الفاحصة للنص الشعري تمكننا من الوصول إلى جوانية الانتظار الدقيقة, لأجل استحضار المعنى, بعد أن فارقنا سطحه بقراءة أولى فاحصة, غادرنا فيها الفهم المباشر, وشرعنا في أول خطوة لاستحضار المعنى الشعري العميق, أن دلالة الجندي الذي فقد ذراعه تشي بمفارقة لكونها واقعا معاشا لوطن الحروب التي جرت الويلات على أبنائه, فمن فقد أحد أعضائه وعاش رهين العاهة والمطالبة باسترداد ما فقد, ان هو مواطن/ جندي بجزء ميت, و الأشد إيلاما أنه دفع التضحيات إلى وطن سراب, (أركض خلف سراب وطن لايعرفني), وهذه مأساتنا وطن لا يعرف من أبنائه غير الأصحاء منهم, نجد هنا المفارقة, فالوطن على الرغم من كل الحروب التي مرت يبدو بكامل عافيته, أما أبنائه أما قتلى أو مشوهين, ندرك أنه ممزق من الداخل, لكنه معافى من الخارج/ الظاهر, لذا لا نخلي مسؤوليته عما يجري حتى لو كان بعافية ظاهرية.
ألست في أرض حرام ؟
انظر هناك حقل ألغام
هذه ليست مدينة
هذا قناص
تلك دورية
هؤلاء جرحى
لقد حملنا الحرب معنا من طفولتنا ص23
أن تأويل النص الشعري لا يعطي للقارئ الحرية المطلقة في اصدار الاحكام المسبقة عند بروز معنى ما, فتأويل النص الشعري يفضي لمعان عدة, وعليه يجب ان يكون هناك تطابق بين معنى النص والمعنى الجديد الذي تمَّ استحضاره في فهم القارئ, فالمدينة هنا لا تفضي الى ذاكرة البراءة المصحوبة بالسلام, فهي مدن تعيش حالة انقطاع مع أبنائها, فما بالك لو أنَّها لم تبتعدَ عن ساحة حرب , أرض حرام / حقل الغام/ قناص/ دورية حراسة/ جرحى, فمعالم المدينة غائبة, وكيف بنا ونحن نستدعي الطفولة, الطفولة التي سفكتْ براءتها الحرب, (لقد حملنا الحرب معنا من طفولتنا ), نفهم من خلال جملة المعطيات التي زخر بها النص, أننا في مقبرة ولسنا في مدينة, فمن مقومات المدن الحفاظ على مدنيَّتها, ووقوفها بالضد من عسكرة المجتمع المدني الأمن, ان دلالة العسكرة هذه أنتجت معنى جديدا كونها مقبرة.
....ها أنذا ..
اشرب الماء من بئر راكد
رميت فيه الأنقاض والجثث ص33
أن إدراك معنى النص الشعري من خلال القراءة الواعية التي تحقق انتاج معنى جديدا, مُتأتٍ من خلال تطابق فهم القارئ العارف لمعنى النص, فنحن لا نحاكم النص معتمدين عما يدور في ذهن المؤلف, بقدر محاكمة النص من دون الالتفات للحكم القبلي, البئر وما يشكله من علامة الارتواء, هو الآخر لم يسلم من فوضى الحرب التي طالت يدها المدن/ المباني/ الإنسان/ الأرض, فالخراب/ الحرب له فعل السحر في فناء الاشياء, بل انّه بلغ سعة وامتدادا منقطع النظير, وبنظرة فاحصة للنص نجد المدينة تعاني انقراض النوع بدلالة (ها أنذا) , , لذا تبرز مفارقة تبادل المهام فالبئر كالمدينة مارس فعل المقبرة, بمعطى دلالي أنتج معنى جديدا يحمل الفرادة هنا, فالمقابر/ الموتى, تنتظر الزائرين علَّها تبلغ رشفة ماء تروي عطش رمال القبر الساخن, إلا أنَّنا نجد البئر/ القبر, هو من يهبّ الماء للزائرين والأموات في ارتواء دائم.
كيف أعيد لهفتي
وأنا أرى السواد فوق كل شيء34
لأجل استحضار المعنى, يجب الأخذ بنظر الاعتبار المعاني التي تنتج عن الفهم للنص الشعري, مع التزام الحياد في استحضار جديدٍ للمعنى, من دون الركون الى الحكم القبلي, لذا لزاما علينا مراعاة تطابق المعنى المستحضر مع المعنى الذي أراده النص, فأن لم تتطابق لا يمكننا أن ننحاز للمعنى الذي تم تأويله, بل يجب علينا الكد وإعادة قراءة النص الشعري, فحين نتناول بنية السواد التي تشكل علامة للحزن/ الموت, تبرز دهشة القارئ, وهي ترى السواد يلف الأشياء في إعادة حساب لللهفة التي حملته للوطن, إبصار السوّاد, وقف حائلا دون تحقيق الفرحة, السواد هنا لم يدثر جزءاً محددا, فهو لم يكن دثار, و أنما سواد قدم ليغطي الأشياء/ عموم الوطن, السواد/ الحزن/ الموت, فوق كل شيء,نجد هنا استحضار معنى السواد, الذي جاء مصاحبا لمعنى الموت/الحرب/ المقابر.
أراك تغتسل بمطر النار
أفزعت الطائرات أطفالك
وهرب عشاقك الى البراري
والمدن البعيدة
مضى أبناؤك إلى الكهوف ص35
عند معاينة النص الشعري يجب مراعاة المعنى الذي ذهب إليه النص, بقراءة متدبرة كي يتسنى لنا مطابقته والفهم الذي ينتج معنى متوافقا مع المعنى الذي قصده النص, فالمدينة والأبناء متساوين في تلقي مآسي الحروب التي تدور رحاها لتقضم المدينة وساكنيها, المدينة التي تغتسل بماء النار/ الرصاص, ويستفيق أطفالها على صوت أزيز الطائرات, هي مدن الخوف المجاني, وان أرادت ان تتنفس متناسية الضجيج هذا تصطدم بهروب عشاقها إلى البراري والمدن البعيدة, لتشكل علامة شاخصة للمنافي, أما الأبناء إلى الكهوف, وما تشكله من دلالة للعزلة, لم يبقَ إلا شبح أسمه الحرب تحوم على الوطن / المقبرة, فمن صفات المقابر/ المدن, هروب الجميع منها بالأخص لو كانت مرتعا للدمار.
هل أنت أدرد حقا ؟
هل بلغت شاطئ اليأس
وأنت تنظر جثث أبنائك الغرقى
بين السفن التائهة
والصواري العوانس ص36
عندما نشرع في تأويل نص شعري باذخ الرؤى يجب علينا فتح أكثر من نافذة لأجل استحضار جديد للمعنى وصولا لتطابق الرؤى, حتى أننا نفتح نافذة لتأويل المسكوت عنه في إعادة لفهم النص وفق هذا الاستحضار الجديد الذي يجعلنا نعيد الإحكام التي اطلقناها مسبقا, لفتح أفقٍ جديدٍ للنص, فخطاب الأبناء هنا وجه بشكل مباشر للوطن, خطاب تداخلت فيه الجرأة, فالجندي الجسور و الابن الذي خذله الأب/ الوطن, لم يكن الخطاب مجانيا هذه المرة بل أتى عن تراكم للنكبات, فالدهشة تلف السؤال, قبل السائل, كأنهما في حيرة من معرفة وعدم معرفة سابقة بهكذا وطن, ما كل هذا السكون, هل يبدو الدرد, حالة مُخجلة, في فترة الهرم/ سن اليأس, (هل أنت أدرد حقا ؟/هل بلغت شاطئ اليأس), أم أنه أدعاء للدرد المبكر, وما ادعاء العاهة قصور في الرؤية والتدبر, عاهة لا يطال الأبناء منها غير الخذلان , الأبناء غرقى في حاضر دامٍ ومستقبل مجهول, وما تشكله السفن التائهة , عن المراسي/ الأرض, من علامة لضياع الأبناء, فهي من غير ربان, كما الصواري العوانس التي أضاعت الفنار/ الوطن.
في الارض التي لا تؤوي أحدا
ثمة أحلام
ثمة قرى هربت من الخرائط
ومنسيون أججوا خصبهم
وهم يقضون نهاراتهم بالرحيل
ولياليهم بالتعلق بالنجوم ص61
من خلال قراءة متأنية للنص الشعري نكون قد اقتربنا من الفهم/ التأويل, الذي يتماها مع المعنى الذي أنتجه, فعبر سياق النص يبرز شعور عالٍ بالتيه, فالوطن انتماء, وما المنافي القسرية إلا مِشرط الجراح الذي فرق بين الجنين/ الأبناء والرحم/ الأرض/ الوطن, فتراه يصرخ لا لشيء يؤذيه وإنما ألفته للأمان في ذلك الرحم, مالها هذه الأرض/ الأوطان لا تؤوي أحدا/ الأبناء, حتى القرى هربت من الخرائط/ الوطن, والقرى هنا علامة شكلت للأبناء التي تسكنها, الخرائط لم تنتمِ يوما لأبنائها المنسيين في المنافي, حتى أنها لا تدرك الأرض التي وطأتها أقدامهم, فهم يقضون نهاراتهم بالرحيل, ولياليهم متعلقة بالنجوم, أي انفصال هذا عن تراب الوطن/ الرحم, وأي تربة هذه التي لا تؤدي إلى العيش أو الموت الكريم حتى داخل رحمها, أم أن هذهِ التربة غير منتمية أصلا لهذه الخرائط/ الأوطان, أم ان الخرائط مجت هذا الضجيج/ المنفى/ الموت المتكرر, ورفضت كونها خرائط لمقبرة.
الغرباء الذين جاءوا
طوقوا الشجيرة
أطلقوا الرصاص عليها
وداسوا على جثتها بمجنزراتهم
لم تبك
أنا بكيت من قبوي ص68
في استحضار جديد للمعنى وبعيدا عن الحكم القبلي الذي يسير بخطى متجاوره مع النص, ليحفظ الحيادية من خلال فهم يفضي إلى مع مراعاة عدم التحيِّز في إصدار الإحكام القبلية ليتسنى لنا الوصول إلى جوهر النص الشعري, فالوطن/ الخرائط الذي لم يبقَ منه إلا شجرة, كعلامة للأمل, بعد تكرار الحروب والدمار والمنافي, صار وطننا مطوقا بالغرباء , الغرباء الذين أطلقوا على خضرته الرصاص, فأضحى الوطن / الأرض, مقبرة طالت يدها الأمل/ الشجيرة, التي مثل علامة للديمومة, حتى أنهم مثلوا بجثة القتيل/ الشجيرة (وداسوا على جثتها بمجنزراتهم), أو لوطن لم يرفعْ صوته بالرفض حتى, لهكذا إيغال في القسوة وقتل للأمل الأخير في ان يؤسس لحياة فوق الارض/الوطن/ المقبرة ,وما بكاء المنفي/ الابناء, إلا علامة لرفض استقبال جثة جديدة, ما أقسى أن يشيع الشجر كجثة إلى مقبرة, لتتشكل علامة الفصل بين الوطن والأبناء, فالوطن اراد أن يبقى خريطة فحسب فلم يبادر ليكون رحماً للحياة, بقدر كونه رحم للحروب والموت, كان رحما بسعة مقبرة.
نشدو للوطن
هذا الغراب المنسوج من شغافنا
هو الأم الجالسة في باب الفجيعة
بانتظار أبنائها العائدين ص126
إنَّ محاكمة النص الشعري وفق الحكم القبلي الذي يبديه القارئ مسبقا يقف حائلا والوصول إلى المعنى الذي أنتجه النص, لذا علينا إخضاع هذه الإحكام والرؤى إلى الاستبدال في حالة اكتشاف المعنى الذي قصده النص في مخالفة لما تم فهمه, فالوطن/ الغراب, الغراب المصرِّح الأول في إنشاء مقبرة, (هابيل) لم يسلم من القتل ولم تعصمه الاقدار ان يدفن بايمائة من غراب, هذا الوطن/ الغراب, الذي أن نعق, نشد للحرب والدمار والموت, وأن صرَّح, فتصريح لفتح عشرات المقابر, هذا الوطن/ الغراب, الذي نسج من شغاف الأبناء المنفيين, هو تلك إلام التي تجلس عند باب الفجيعة, الأم/ الرحم النافق/ الأرض/ المقابر , التي تنتظر جثث الأبناء بعدما عصرتهم منافي الجوع والمسير عبر خرائط الأوطان الأخرى, لتلف بالأعلام تحت سلطة نشيد, نعيق الغراب.
في يوم ما ....
سيعرف القادم الى متحفنا
أننا عزل
محرومون
بلادنا شوارع مهجورة ص146
أنَّ استحضار المعنى في النص الشعري, يوجب على القارئ التحرر من قيد تشظي الرؤية, لأجل إدراك المعنى الذي أريد بثه في النص الشعري, كي يجعله ضمن فضاءه, وبهذا يكون قد اقترب من ساحل المعنى ليحقق تلاقيا مع مراسيه, فالحكم القبلي لا يعد مبتغى القارئ الخبير, فالمبتغى الحقيقي هنا إدراك وحدة المعنى من خلال التأويل/ فهم النص الشعري, وصولا إلى تطابق الرؤى بين القارئ والنص, فالمتحف وما يشكله من علامة لتخليد تاريخ وطن مضى بأهله, لم يبقَ من الوطن سوى متحف/ تاريخ, تحت سلطة الخرائط, فالقادم أن تنبه وسأل لِمَ كل هذا الحرب/الدمار/ الموت, ما هذه المومياءات المحنطة / الأبناء ؟, إنهم بأصابع بيضاء لم يلوثها البارود ولم يخفِ نقائها القتل, بعدما سلبها التحنيط سمة الحياة, ما هذا الهزال, العيون تروي فجائع الجوع والخوف والموت والنفي, المتحف هنا شكل مع القادم/ الوافد/ الزائر, علامة للبوح بالفناء, كون المدينة ذات الشوارع المهجورة, ما هي إلا مقبرة, والقادم أتى ليلقي التحية, فالقيت على أموات/ الأبناء, جمعتهم مقبرة كبيرة/ متحف, فالزائر كان يتجول بالمدينة/ متحفهم الكبير, في إنتاج لمعنى الأوطان/ الخرائط, التي لا تعدو أكثر من كونها مقبرة, نعم قد يتم الكشف عن معنى جديد لم يدركه الشاعر نفسه, فيتم استحضار جديد للمعنى برؤى جديدة, تؤسس للتأويل/ للفهم في ضوء ما سبق وفي ضوء الكشف عن المسكوت عنه في النص الشعري, بمدرك خارج سلطة وعي الشاعر لكن لا يمكن لنا الخروج عن سلطة النص ذاته, أن النص قد يفصح عن رؤى تقع تحت طائلة تأثيرات خارجية بمدرك داخلي/ باطني/ اللاوعي, سواء أغاب المعنى أم حضر في ذهن الشاعر لحظة إنشاء النص, لكنه لم يخرج عن سلطة النص( لا شيء خارج النص), فلا يمكن لنا أن ننسب للقارئ, ما قد يقع تحت مصطلح تطور المفردة أو تنامي الفكرة أو النوع الشعري, فالأمر خاضع لتطور المرحلة الكتابية في أي شكل شعري قديما كان أم حديثا, وما قد يتم كشفه في نص شعري ما, فأننا عند فحص عينات أخرى نجد شعراء آخرين قد بلغوا ما وصل إليه الشاعر منذر عبد الحر, لكن بقي أمر الفرادة أو السبق في تطور الثيمة وتنامي النص, الذي يحب له, هذا كلُّه من مهام النقد, مع مراعاة الشكل الشعري الذي أبدع فيه.
.....................................
*فلسفة الـتأويل, هانس غيورغ غادامير,منشورات الاختلاف الجزائر.ط2-2006,ص12
*المصدر نفسه, ص125
*المصدر نفسه, ص126
* النقد الثقافي, عبد الله الغذامي, المركز الثقافي العربي, الدار البيضاء- المغرب, ط3, 2005, ص35
* أعمل الآن.. قرب مقبرة, منذر عبد الحر, وزارة الثقافة-العراق-بغداد, ط1- 2013