ماذا يعني الدينُ في المجال العام؟! هل يعني توظيفاً له على نطاق أعم أم تأسيساً لقيم أخرى؟ سؤال لن يجد اجابةً واضحةً إلاَّ بفض الاشتباك الغامض بين طرفيه. لأنَّ المعنى لا يتعين فيما هو معروف ولا يعطينا وضعاً جاهزاً لأية علاقةٍ. وإذا كانت المسألة كذلك، هل تصّحُ كلمةُ "استعمالٍ" بصدد المُقدَّس؟ فعلى الاستعمالُ أنْ يتخفف من تراكمه التاريخي وأَلاَّ يفقأ عينَ أيَّة مفاجئات واردة، لأنَّه يرتهن هنا بالمعتقد كنظامٍ رمزيٍّ؛ أي يعطي الدين نفسَّه (بنفسه) مبرراً للتدخل في الحياة، بل يبرز علاماته في أخص مجرياتها. ودوماً لدي أصحابه ذخيرتُّهم الخطابية لإثبات هذا الأمر. حيث تفرز رؤى يخلعونها على الأشياء، ويرونها يقينيةً إزاء أي شأن ولو كان مغايراً. رسالة الدين تمنحُ دافعَ الممارسة لمعتنقيه، دافع التخطي بلا حدود، إنْ لم تحسم المواقف تجاه العالم والإنسان والحياة والموت.
لكن هناك استدراكاً فلسفياً كالتالي: أليس ذلك فخاً أيديولوجياً لما هو ديني دون حذرٍ؟! ألاَ يضع الحال الدين مرتبكاً وسط التنوع البشري؛ أي التهديد بتصفية المقدس؟!
مجدَّداً ربما الأمر غيرُ محدد، لذلك نتساءل: كيف لشيءٍ كالدين تأتي أهميته من نفسه؟ الدين متفرداً يستمدُ مشروعيته من ذاته بخلاف أي نشاطٍ آخر. ولأنَّه مؤسسٌ على الإيمانٍ، فمشروعيته تظل ساريةً بقدر مبرراتها الخاصة. بل يتنازل المتدينون عن قلُّوبهم ابتغاء تجسيدِّها في فعلٍ ماديٍّ، تنازُل هم يرونَّه عملاً مقدَّساً يستحيل تركُّه.
ولئن كان الموضوع كذلك، فالفكرة بهذا التوصيف ستصطدم بقضاياً كثيرةٍ. كيف لإيمان مكتفٍ بتجربته أنْ يصير مؤسسات عموميةً، وأنْ يتخلَّق كعلاقات وقيم وأفعال خارج الأفراد، وأنْ يكون جلباباً وطقساً ومنديلاً وشعاراً جامعاً كشعار" الإسلام هو الحل"؟!
لا يغدو الدين ديناً بهذه الطريقة، بحكم كونَّه يخضع للفعل الإنساني، تاركاً قواه التَّصورية تمسّح(تنظِّف) جذورها عبر أشكال أكثر اتساعاً. هي المفارقة إذن التي تقول: حينما يدخل الدين فضاءً عمومياً، يتجنب أعباءً أيديولوجية ليتواصل مع الآخر. كلُّ تصور ديني محكومٌ بهذا البُعد طالما أنَّه أمام آخر وإنْ كان مُؤمناً به. وإذا لم يُدرك المتشدِّدون ذلك، يعتبرون الدين أداةَ إرهابٍ لا يَقصُد أفراداً فقط بل المجتمع إجمالاً. النتيجة الأخطر: أنه ما لم يتجسد الايمانُ خلال بدائل أبعد من الأهداف الضيقة، سيصبح الدين قناعاً برجماتياً pragmatic mask للمآربِ.
تحولات الدين
دأبت الجماعات الدينية( اسلامية وغيرها) على إغراق الحس العام بالشعارات والرموز والنصوص المقدسة. لم يدركوا أنَّ الاغراق هو ذاته اغراق للشعار في عملية تَمزُّق حيٌّ. لأنَّ المعتّقدَ شعارٌ ليس يبلغه جميع الناس بالأسلوب ذاته والأيديولوجيا نفسها. وهذا سر خوف جماعات كهذه من" رُهاب الواقع"(1)، بل يسعون لتعميته بأدخنة الخطابات وألعابها. فلئن كان الشعارُ والنص مقولتين لغويتين، فإنَّهما حجابٌ سيميائيٌّ لعمل شيء أعمق. يُعيدان كتابة الفعل على أكبر نطاق بفضل مخزونهما الرمزيِّ. هنا لا يبتعد التاريخ الدلالي للعلامة الدينية عن مكوثه كأبي الهول عبر الواقع. بينما الواقع يمثل رغبةً هي" الكتلة الفاعلة"(2) في الوجود الاجتماعي.
لكَّم حاولت الجماعات الاسلامية اقتناص الفرصة تماهياً مع هذه الرغبة. سعت- أثناء الربيع العربي وبعده- إلى مبادلة الرغبة بكتل الحشود السياسية. التّيار الديني يرشقُ الشعارات في كلَّ تظاهرةٍ عامة. ليس من باب أسلمة المجتمع كما يتم الزعم، هذه القشرة البرانية كقشرة الذهب المزيف، لكن لكّون المجتمع عصيَّاً على التواطُؤ الخاطف. فبناء الواقع عملية تاريخية ثقافية طويلة الأمد ولا تنتهي. وبما أنَّ التيار السابق لا يملك إلاَّ دفاتره التراثية القديمة، فماذا يعمل سوى تفتيشها بحثاً عن حلول سريعة أثناء الأزمات بطريقة جحا حين يُفلّس؟!
استعمالُ الدين يعني تحويلهtransform إلى قوةٍ لتنشيط التصورات الخاملة. ولذلك تمثل نبرات الوعظ والدعوة محركاً غير ذاتي لإثارة التضامن والتكاتف لهذا الهدف. بينما المسألة مختلفة تماماً وهي أنَّ الدين ليس مادةً ولا محتوى ولا وسيلة وإلاَ لأصبح شيئاً مغايراً لنفسه. وإذا كان ثمة دينٌ، فإنَّه يأخُذ مظهراً فردياً بالدرجة الأولى. ولن يتجلى بكامل عتاده الرمزي في أي محيط عام. حتى في أنظمة حاكمة تتبنى لاهوتاً سياسياً يضمن هيمنتها، لا يطغى الدين إلاَّ كمرجعية مسكوتٍ عنها رغم الاعتراف البارز. ومن حيث زرعها في العقل الجمعي تختفي مع تراكم التطورات الحياتية، فتتوارى في سلوكيات وبرامج نظرية وشكلية، في عبادات وشعائر بدلالات فردية أكثر منها نمطاً مُوّحداً. بل يُختَّبر الدين عندئذ اختباراً خطيراً، لأنَّه يجري تعريته تاريخياً لعيون فاحصة. هل كان لأيَّة ممارسات دينية أنْ تتعرض للنقد إلا بانصرافها في حياة مفتوحةٍ؟!
هكذا لا يمر الدينُ في المجال العام دونما شيءٍ ما يحدث في أبنيته الصامدة. بذرةً مضادةً بأعمق مدى لمسيرته الروحية، وسيتعرض بكل قسوة لما تتحقق من رواسب أيديولوجية. على الأقل لن يجري كما هو ولا مثلما يحاول معتنقوه الارتباط بتجاربه الأصلية. فلا يمكن تنحية الدين عن المذاهب ولا ساحات العرض كالسلع والبضائع، وفي ذات الوقت يستحيل إمساك مقدساته بلا تأرُّخ وإعادة صياغة(3). الفكرة نفسها(أي الدين الخالصpure religion) هي فكرة بلا منطق إلاَّ إذا تأسست على الصرامة الوجودية، وذلك هو المستحيل لأنه ضد إيقاع الحياة.
هذا الأمر له ثغراته المزدوجة، لأنَّها تثبت عكسها:
أولاً: سيُفرض الدينُ فرضاً بحكم الاعتراف به رسميَّاً حتى وإنْ قبلته أطراف المجتمع قاطبةً. الفرضُ يعني وضعَ الدين على فوهة التساؤل اليومي: كيف ذلك، ولماذا، وماذا بعدٍ؟ لأنَّ المؤمنين يتابعون بعضهم بعضاً مع الطقوس والشعائر. ناهينا عما يمثله المختلفون دينياً من علامات استفهام في أدق التفاصيل والمواقف.
ثانياً: سيبلغ الدين- بمعتقدات أصحابه– إمكانية مختلفة عما يقصدها، مختلفة التنوع في النظر إليه ما لا يُحدُّ، وإذا كان ذلك يجري على مستوى الدين الواحد فما بالنا بأديان عدّةٍ؟!
ثالثاً: ينبغي إيجاد نموذج خارج الأفراد يستثمر قوى الدين، أي لا مفر من تحويله إلى تجربة غير روحانية.
رابعاً: يمتنع المؤمنون عن استباحة المغايرين، يظهرون مواقفهم المحتملة فقط إزاء الحياة. لكن يعدُّ الامتناع ملزماً ولا خيار لهم فيه. لأنَّ مجالاً عاماً بحكم نسبيته يستحيل الهيمنة عليه. وإذا أُخذ بقبضة دينيةٍ، سيكون مصيرها التفكُّك والتحلُّل.
المجال العام
في ضوء ما سبق، يمتص المجالُ العام قدرات الدين نافياً سلطة المقدس. فالتغير حاضرٌ في تفاصيله كما أنَّ تبادل المواقع التأويلية أمرٌ لازم بالدرجة ذاتها. حاولت فلسفةُ التنوير نزع الطابع الديني بإظهار تباين المقدس بتباين المجتمعات معرفياً وفكرياً(4).
إنَّ القداسةَ هي هذا المجال نفسه دونما مقدساتٍ ودونما آلهة ودونما سلطات أبدية. يكتسب المجال صفة القداسة لأنه مجال للاختلاف. إنَّ الدولة ميتافيزيقا سياسية دنيوية تستهلك المقدس إلى الرمق الأخير. وبدلاً من عجن الإرادة العامة باللاهوت كما حدث في عصور سالفة، فإنَّها تعجنها بالحرية والديمقراطية وقيم التنوع. ولا يمرّ ذلك التخلُق العام(أي الظهور وإمكانية الانبثاق والاستقلال للأفراد والحريات) اعتباطاً. ولئن حَمل الدينُ من تلقاء نفسه أسبابَ وجوده، فلم يعد منفرداً بذاته، لقد قفز خارج ذاته- أو هكذا يجب- عبر كياناتٍ متطورة تاريخياً للإرادة العامة.
في هذا الوضع لن يُفهم أيُ مبررٍ ديني إلاَّ بواسطة مبررات الآخرين، مبررات المؤمنين تحديداً. فهم باشتقاق اللفظ مؤتمنون على ما في قلوبهم حتى يبلغونه واقعاً( أو كما يعرف الإيمان بأنَّه ما وقر في القلب وصدقه العمل). وهذا ما قد يُسمى بتطبيق تعاليم الدين أو بعبارة الجماعات الإسلامية تطبيق الشريعة. لكن هذا نفسه يُفشل كلَّ محاولات امتلاك الآخر باسم الدين، ويأخُذ هؤلاء في جعل الحياة مسوغاً كلياً لهبوط الوحي في التجربة الإنسانية. كما لو كان هبوطه من السماء قد حدث تواً لا سلفاً!!
ذلك " الجعْل" يتشابك فيه البُعد الروحيُّ مع البعدين السلوكي والاجتماعي. ويظل مميزاً بهيمنة الاعتقاد على الممارسة لاستعادتها كلما تفلَّتت منه. بالتالي يستحيل صبغ المجال العام بسمات دين بعينه دون فشل الاثنين معاً(5). والتجارب السياسية للحكم الديني أياً كان نبوياً أم بشرياً لم يحكم من غير قوى حركية من طبيعة المجال العام. إذن لم ولن يكون حُكماً بأمر فوقيٍّ قاهر لا رادَّ له، بل حكم ناجم عن استثمار تلك الطبيعة.
لأجل ذلك سيُفرض علينا تحديد المعنى بالنفي كعادة اللاهوت السالب. فلم يعد الدين بتلك الأطر وعياً مفارقاً، إنما قد يتهيأ انبثاقه من باطن الأشياء على طريقة التصوف. الموضوعات المادية بإمكانها الرمز إليه. فجأة تستحيل إلى شبكة دالةٍ على معتقداته. هكذا صُورت بعض أشكال الأجنة في أوضاع معينة كدلالة على مظهر ديني، أو بوصفها معبرةً عن آيات كونية. وللحقيقة فقد يمثل الانسان والكون من زاوية كهذه مجازاً بلاغياً لوجود الله. كافة الأديان تشترك في تصوير دلالي كهذا(6)، إنْ لم تكن تلك السمة تقرب رؤى الدين (لاأقول الدين كما هو) في لاوعي أصحابه من الاستعارات الخيالية. استعارات كانت كفيلةً قديماً بملء الكون بالأرواح النورانية والكائنات الشريرة والكواكب والنجوم المؤثرة على مصائر البشر.
لكن رغم هذه الصور إلاَّ أنَّها لا تمس المجال العام بعمقٍ. ربما تبتعد بمنحاها الأسطوري عن التأثير في أحوال المجتمعات. ونحن نعتبرها غير مرتبطة بها مباشرة ولا نحبذ أنْ تؤدي مهمة في هذا الارتباط.
إزاء ذلك نميزُ بين ثلاثةِ جوانب في الدين.
1- مصدر الدين، وهو الله أو القوة العليا في جميع الديانات تقريباً.
2- وجود هذا المصدر في مرجعية نصيةٍ، أي كتاب مقروء بقانون الدين نفسه أو كتاب منظور(الكون) بإسقاطه على الواقع.
3- تشكل هذه المرجعية عبر نظام أو أبنية قيمية ومعرفية وثقافيةٍ.
النقطة الأخيرة هي التي تتغلغل في المجال العام. إذ تشكل المرجعيَّة الدينية حتى يعود متجسدّاً بعد إنْ كان معتقَدَّاً. الفكرة بهذا المعنى تمثل نمطاً من الحياة وتؤكد عليه الطقوس والأفعال الرمزية. ونلاحظ أن الجوانب الثلاثة ليست واحدة. فالمطلوب من المؤمنين البحث عن تطابقها، بل لن يتم عمل ايماني دونما تطابق بين (المصدر- المرجعية- النظام).
وإنْ كان النظام غير مكتمل، فلأنَّه يحتاج إلى حقائق جديدة مع كل واقع. هو تجربة مبتكرة في ظهورها، غير أنَّ الثقافة الدينية( لا الدين) تحشوها بمادة تقليدية، وتجعل إيقاع الطقس الديني كأنَّه مواد حياتية ملموسة. وتدريجياً يستغرق الطقس ملكات أصحابه ومواردهم الذهنية حالاً محلَّ تفاصيل الحياة. فأيُ ثقافة مغلقة تطمس الإدهاش الأولِّي، الإثارة الغضة لتلك الموارد، تغدو عملية نقل لا تغيُر فيها. ويتعين على المؤمنين حفظ الأثر حذو الأثر والسلوك حذو السلوك والعقل حذو العقل. كقطع من القرميد المتراص تمسك سقف الفكر تحت إطار محكَّمٍ. وهذه إمكانية تجعل كلَّ تصور ديني قابلاً للانحراف رغم إحْكّامه. ليس بطريقة الصواب والخطأcorrectness and error وهذا أمر مهم أيضاً. لكن التصور سيكون عرضة باستمرار إلى نزوع شكلي، فالشكل كمظهر مخاتل وغَوّاء هو مرآة العمل الديني العام.
طبعاً لا يكون هذا الوضع الشكلي بصدد المعتقد والايمان بوصفيهما خاصين. هذان لهما جذورهما في أعماق المؤمنين ولا سبيل إلى كشفهما. كما أنَّ أي دين مكتمل بنفسه طالما يتمتع بفرض مبرراته الذاتية وطالما كان نسقه الرؤيوي شاملاً وغير بائن الثغرات. والأديان من تلك الجهة أديان تامة وتعيش تجربة الاكتمال الخاصة. ليس هناك اختلاف بين الأحدث أو الأقدم منها حتى ولو كانت أنماطاً أولية من المعتقدات. كل ذلك فقط يختلف داخل المجال العام... لكن ما السبب؟
الدين خارج ذاته
عسف مستعملي الدين يطرح مواقعه تحت أقدام الساسة ورجال السلطة في تاريخ الوعي العربي الإسلامي. فهؤلاء انتهكوا المجال العام انتهاكاً أجهز عليه. وترك به بثوراً لم تندمل إلاَّ بعد تراكم تاريخي طويل. إنَّ أيَّة ظاهرة هيمنة على الوعي الجمعي كان إطارها هياكل سياسية قهرت المجتمع، وأرغمت فاعليه للتنازل عن الشأن العام لأصحاب السلطة الحاكمة... تلك المواقع كانت غارقة بأفكار آسنة منذ قرون.
طبعاً المشروع الديني كان قادراً على نكأ الجراح، وبدلاً من تطهيرها أغرق المجتمع في ذات المظاهر ومارس نفس السلوكيات بأسلوب أعنف. ليس لأنَّه لا يعرف الواقع، بل لأن الأدوار اللاهوتية السياسية واحدة في تاريخنا الثقافي. فكثيراً ما تبادلت السيناريوهات والممثلين. أكاد أقول كتبت الحوار بينهم وبين بقية المجتمع بنفس اللهجة وعزمت على انجاز مصالحها ضد عامة الناس. فلم يتجنب الفقهاء التورط داخل قصر خليفة وعبر شبكة تأويل ديني للسلطة. ولم يتورع الساسة عن استعمال الدين لخدمة حكمهم.
هكذا تركت السياسة أحذيتها لكي يرتديها الأيديولوجيون الدينيون دونما معرفة بطبيعة التطور التاريخي ولا بضرورة تجديد خطابهم وغربلة الأفكار التي قُبرت في أكمامها.
في الأخير يتعامل هذا "الفكر التلفيقي" مع المشكلات كتعامل الطاهي مع مواد الطبخ. يحاول ايجاد صيغة لخلط بعضها البعض، فإذا فاته مذاقٌ يُكثر البهارات لتجنب الطعم الكريه. وفي هذه الحالة " بهارات الدين"(7)هي الأوضح لتغطي إهدار السياق المعرفي والاجتماعي. وإذا خرج الطعامُ مناسباً يرسل وصفته السحرية إلى مناحي الفكر تحت غطاء الأيديولوجيا.
ذلك يعني نقل القداسة إلى المجال العام مع تنوع المقدسات واختلافها. بكلمات أوضح: الانسان حيوان تقديسي، ويتعذر نزع تقديسه للموضوعات والمعاني. لكنه عندما يقدِّس( يحترم- يقدر) فضاءً مفتوحاً من الرؤى يقلل التعصب المقيت لمقدس أحادي الأيديولوجيا. من ثم علينا النظر إلى أبنية السياسة والدين بصورة مغايرة.
والسؤال الجوهري: كيف تعدِّد(السياسة والدولة والحق والغير) انغلاقاً دينياً عنيفاً؟!
1- السياسة.
ليست السياسة من ساسَ يسُوس بوقعها المعجمي الحيواني. لكن يمكن طرح تعريف جديد: أنَّ السياسة بمثابة الموت المؤجل لأية دوجما فكرية تغلق الأفق. السياسة فن الفناء غير المطلق لكل ما هو مطلق وتام الإنجاز. وأي مقدس سيهدف إلى تصنْيم صورتِّه سيكون فحماً حجرياً في آتون الممارسة. سيتحدد ضمن صورة هو خارجها لكنه سيشعل فتيلاً لانفجار كيانه الصوري المؤطَّر سلفاً. ثمة علاقة نادرة الظهور بين السياسة والجنون وألعاب البهلوان.
التوقيع البهلواني في الفعل السياسي هو إكسير تاريخي لدهاقنة السلطة. البهلوان يفهم في الدين أكثر مما يفهم رجل الدين خطابه. كان ملحوظا تحوُّل المتشددين الإسلاميين إلى بهلوانات خطابية. لأن المفارقة: ستنسخ السياسة أكثر من صورة لهذا الإسلامي، فيغدو لاعباً في السيرك وحركيا ومقنعاً وخطيباً مفوَّهاً في جلباب واحدٍ. لا لشيءٍّ إلاَّ لأنه داخل السياسة دون العناية بتحولاتها. أين التقديس؟ إنَّ مخزوناً تمثيلياً بهلوانياً هو نفسه الخطاب السياسي الديني. ويقبل السيرك السياسي أعضاء السيرك الديني دونما ضغوط، يعطيهم مساحةً لإبراز عضلاتهم البلاغية. والأثر اللغوي يراوح بين البوليتيكا بالمضمون السياسي Politics والاستعمال الشائع للحيل والألاعيب. لقد رأينا ذلك متجسداً في الآراء الدينية حول الديمقراطية وحول اجراءاتها.
دخول الخطاب الديني هذا المجال لا يبعد مضمونه عن بوليتيكا اللاوعي المراوغ، اللاوعي جراب ضخم كما الحياة يغص بالمناورات والصراعات(كما يقال شعبياً: يا ما في الجراب يا حاوي). الخطاب الديني يطرح أساليب مؤثرة بذات المنطق الثقافي الغالب. والخطاب عمل سياسي في المقام الأول، مما سيعود عليه بالتآكل المفاهيمي والدلالي لما يؤسس. لأن السياسة فضاءٌ لصراع الرغبات والدهاء وليس شرطاً قبولها أو عقلّنتها.
2- الدولة.
جميع الأيديولوجيات الدينية الاسلامية تسعى لإقامة دولة الخلافة. لكن الدولة بالنسبة للخطاب الديني أشبه بنباتات الزهور آكلة الحشرات، تفرز مواداً وروائح جاذبةً، فإذا بها تصبح قاتلاً متوحشاً، تذيب الأنسجة وتسحق العظام. الجماعات الإسلامية رغم تكفيرهم للدولة، لكنهم يحولونها إلى صنم لاهوتي بعنوان أسلمة النظم السياسية. فالدولة تكنولوجيا سياسية وهي أسوأ أفضل الأطر المطروحة لتدبير شؤون الإرادة العامة.
لكن الإسلاميين يعتبرونها داراً لرعاية أيتام وعجائز وثكالى التاريخ. وفي كل الحالات يعتبر الإسلاميون أنفسهم هؤلاء الأيتام، فلقد فُطموا سياسياً بحرمانهم التاريخي من أثداء السلطة ولم يجدوا أباً رحيماً ولا أماً رؤوماً( خطاب المظلومية). فما كانوا إلاَّ دفع انفسهم لاهثين على مقاعد الحكم، وقد انهمكوا في هذه الرضاعة البديلة لكل رحيقها المعنوي. رأينا الإخوان المسلمين بمصر يبتلعون الدولة جغرافياً وإدارياً. كانت الجماعة نوعاً من الكائنات المنقرضة كالماموث والديناصور مع التوائها الجغرافي عبر المدن والقرى، ثم تعاملت مع طبيعة الدولة بهذا الفهم البدائي، لم تدرك طبيعة الحياة المعاصرة ولا آليات الحكم الديمقراطي ولا قيم التعددية السياسية.
لم يكن حتى رئيسهم(مرسي) يفهم تاريخ أية دولة يحكم. كان رئيساً على كف مرشد ليس أكثر؛ أي كان محمولاً على غيره مثل العرض في المنطق. وقد أحالته مفاهيم الدولةُ كجهاز مدني حساسٍ سياسياً للتقاعد المبكر. أكبر أعداء الإخوان ليس الأحزاب ولا المختلفون أيديولوجياً ولا العلمانيون إنما كيان الدولة والأنظمة الحداثية التي تطرد التشدد. لأنَّهم عاجزون عن استيعاب حقيقتها ولا كيفية إدارتها. هناك خصاء سياسي حدث لكلِّ جماعة إسلامية تزعم ذكورة دولة الخلافة، لأنَّها لم تكن دولة إنما إقطاعية لاهوتية يجيء المرشدُ وجهها، بينما يعمل الرئيس في ديوانه الوهمي.
3- الحق.
كلُّ مبرر لاهوتي ليس حقاً وإنْ ظهر هكذا لكونه قائم على خلفيات ذاتية. بينما الحق الفعلي يستعصى على اختراق مبرراته الموضوعية واستنفادها. الحق لا يستجيب للون ولا لشكلٍّ ولا مركز لكونه خارج الانحياز، خارج إمكانية لي عنق إرادته العامة. الحق هو فائض الوجود بالنسبة لأية أيديولوجيا دينية تناوئ الآخر، فلا تشعر به إلى حين تنتهك ذاتها. الحق يتجاوز الديانات والمذاهب. لأنَّه يخصُ الإنسانَ كإنسانٍ كوني لا يُجدي لونه ولا عرقه ولا طائفته ولا تنظيمه الديني. لذلك استعصت فكرةُ الحق على الترويض في تاريخ المجتمعات الإسلامية. وهي أقرب الأفكار لتعرية الجذور السحيقة للتسلُّط الميتافيزيقي باسم العقيدة.
إنه بالرغم من ترديد مقولة الحق إلاَّ أنَّ الجماعات الدينية لا تعرفُ ماذا تفعل إزاءها. الحقُ ليس دينياً ولا أيديولوجيا ولا اجتماعياً ولا سياسياً ولا تاريخياً. إنَّه ليس جميع ذلك. إضافة إلى هذا يعتبر حقاً فوق الشروط، لكونه مشروطاً بنفسه حيادياً إزاء كلِّ الرهانات والقوى والتوازنات. فهو غير مؤجَّل ولو أُجل سيجدُّ من يطالب به دائماً. وإن غاب المطالب سيكون المجتمع إجمالاً موضِّع تساؤل. لأنَّ الحق ليس ملكاً لفرد إنما ذا مكانة كلية يبحث عنها الأفراد.
أيضاً الحق أكثر من كونَّه مقولة انطولوجيةً تتّجسد في مؤسسات ولوائح وقوانين ودساتير. ثمة إيماءة إسلامية بارزة أنَّ الله يستجيب لدعوة المظلوم: "وعزتي وجلالي لأنصُرنك ولو بعد حينٍ"، وإيماءة أخري لم تفهمها جماعات الإرهاب: " اتقِ دعوةَ المظلوم ولو كان كافراً"... ما مدلول ذلك؟ الحق أبعد من الدين نفسه ويساوي الوجود الإلهي في شرطه لذاته خارج العالم، ويوازي الحق قسمَّ الإله على ذاته تبعاً لقدراته اللانهائية. إذن تفكِّك مقولة الحق أيَّ أيديولوجيا دينية تضيِّع حقاً كان مفعولاً. فالحق يخلق مجالاً حراً يترصد من يعتدي عليه ولو باسم الدين.
4- الغير.
ليس الغيرُ بعيداً عنّا، حيث لا وجود أو هكذا نتمنى تجاوزه أنطولوجياً. هذا التمني الذي يزيح كلَّ ما يُمثل خطراً على الأنا. يستقر الغير داخلنا في صور ليس أوضحها الأنَّا مقلُّوباً بشكل ساخرٍ. إننا نقلَّبه على جميع الأوجه كراهيةً وحباً للنقيض. رجال الجماعات الدينية يقتلون الغير المختلف عنهم بينما هو فيهم؛ أي يضعونه في رداء وثني لتصفيته من جذوره.
الغير هو الممقوت فتحاً لقوس الكراهية إلى نهايته القصوى. يحتوى على كلِّ نقائصنا وكل شراستنا. وهذا الغير عصيٌّ دوماً على الدين، لأنَّه لا يخضع لمنطقه أصلاً. يكفي أنَّه لا يؤمن به ولا يضمر أدنى اعترافٍ تجاهه. الغير بكل أوزانه يعني استدعاء المجال العام قاطناً فيه على مرمى الأنا متجسداً ومترقباً. هل يمكن تجاوز الغير؟ ليس بإمكان الدين تجاوز الغير. وذلك باعتراف الدين نفسه: "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". هذا العمل بمثابة فتح جبهة للغير في جدار الدين. الغيرُ يسكن تاريخ الدين وليس بعيداً عنه. ودراما الشيطان في الخطاب الإسلامي: أنَّه "يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق"، كيف نقتل أو نكفر الغير إذن؟!
واثباتاً لقضية أبعد، فالنفس تحمل النجدين(الضلال والهدى) معاً. نحن إذن الغير بالقوة في شكل وجود بالفعل بلغة أرسطو. والقضية تدمر أيَّة أيديولوجية لاهوتية تزعم خلوصها النقي في قلوب مؤمنة. وتثبت استحالة وجود جماعة مصطفاة خارج التاريخ.
الهامش:
1- نظراً لعمل الجماعات الاسلامية تحت الأرض بأساليب سرية، فالواقع يمثل بالنسبة إليهم مصدراً للرعب الديني. والحقيقة ليس هذا السبب فقط بل يعتبرونه كفراً بواحاً يواجهونه بكل عنف. بالتالي يعدُّ الواقع رُهاباً يتجنبونه بالعزل الشعوري والحياتي. قد يقال إنهم يحاولون الاستيلاء عليه... فكيف يعتبر رهاباً؟ هم يقابلون الرُهاب بالحشود البشرية التي تصارع القوى الأخرى. وفي المقابل يعد الواقع غامضاً غموض الجماعات برغم معرفة نشأتها وأفكارها.
فلكم أساء الإخوان المسلمون فهم وتحليل الثورة المصرية لا لشيء إلاَّ لأنَّ الوضع الاجتماعي- من وجهة نظرهم- وضعاً منحرفاً عن درب الإسلام. وكذا الوضع السياسي إذ يتجه نحو محاربة الدين دوماً. بالتالي لا تكفر الجماعات السياسيين بل يحاولون استئصالهم من الواقع. وأخيراً بعد خروج الإخوان من السلطة فاشلين فشلاً ذريعاً سيكون الواقع نكبة أكبر من نكبة الأندلس وفلسطين. وسيتحول الواقع إلى ذاكرة مظلمة، بحجم الرغبة في وجود الاسلام!!
2— الرغبة في الحياة العامة كتلة سائلة لدى الجماعات الدينية كما هي بمنطق الثقافة العربية ومنطق الجموع الغفيرة. إنها بلغة مادية تتجلط كالدماء من أجل التأثير في الواقع. فمن أجل تحريك الأحداث الثورية كانت الجماعات والأحزاب والنقابات تسهم في هذا التكتل العام كأنه مادة محتشدة سياسياً. ومن ثم تنشأ الأحزاب والجماعات دونما تأثير حقيقي. وهذه الرغبة ناتجة عن انعدام الاختلاف الفعلي في الثقافة العربية كما أنها ترتكز إلى رغبة القطيع في الاستنفار لإدامة الصراع. وبفضل غياب الديمقراطية والنقد وروح التسامح تأخذ شكلاً جمعياً من العداء العام المتدثر مرة بالدين وأخرى بالطائفة وغيرهما بالأيديولوجيا.. وهكذا. لهذا تلتهم الرغبة الجمعية كل بعدٍ فردي أو ليبرالي مستنير واضعةً له داخل ماكينة الكتلة ليخرج معدوماً مثل الفضلات!!
3- كل تصور ديني بمثابة إعادة لذاته وحذفها بالوقت نفسه، لجزء منه ولتراكم ما عليه كما تتراكم الطبقات الجيرية على الأسنان. بكل قوى الدين(ميتافيزيقا- شريعة- طقوس- رأسمال رمزي) يتحدد في شكل بسيط ينفض عنه غباراً دائماً. هذا ناتج عن نقصان الإيمان الكافي لإتمام العمل الديني بما فيه الاعتقاد. كذلك لا يتعين الدين بحكم مطلقه إلا في أقنية التصور البشري ونحن نعرف أن كل تحديد سلب. إذن يجري السلب بنائياً داخل أية موضوعات دينية. حتى أنَّ هناك مقولة تدل على كون القلب أتياً من التقلب فيواجهه الفقهاء بدعاء وقائي: "يا مُقلِّب القلوب ثبت قلبي على إيمانك".
4- اتجه فلاسفة النهضة( فولتير وهوبر وهيوم) ومن قبلهم بودن إلى نزع الأساطير والطابع الثيولوجي عن العالم. فنشأ الدين الطبيعي حتى يتركز النظر حول ماهية الأشياء في ذاتها. وهذا الأمر جعل الدين في حالة فعل غير مادي؛ أي تقرر سياق الدين دون خلعه على الكائنات. كما أنه وضع الأشياء في مجالها الطبيعي دونما أساطير وأسرار. فلقد كانت الأساطير تصنع من العالم كائنات ذات إمكانيات خارقة وبالتالي تخضع للتقديس. إذ ذاك كما في العصور القديمة يغدو التقديس طبقة ميتافيزيقية سميكة تخفي الطبيعة وتأسطرها.
وصحيح أن الأساطير خملت وتراجعت، لكن الوظيفة الاستعارية والدينية لم تنته بعد. إنَّ استعمالاً للدين بهذا الشكل –حتى ولو في نطاق محدود- يخلع على الأشياء أردية مقدسة ليست لها ولن تكون. لعلنا نرى هذه القداسة التي يتعامل بها أعضاء الجماعات الدينية مع الشيوخ سلفاً وراهناً. إنه التعامل ذاته الذي يستعيد وظائف الديانات القديمة. ولهذا فالمجال العام يبطل مفعول هذه الوظيفة التي تتكرر كالفيروسات التي توجد منذ ملايين السنوات. والمجال العام حين يبني نفسه على العقلانية والديمقراطية والاستنارة إنما يأخذ القداسة. لكن بمنظور عدم المساس به لا تحويله إلى لاهوت سياسي ولا اجتماعي. إنَّه قداسة أرضية ناتجة عن عدم المساس بالآخر انساناً وإرادة.
5- مشكلة جماعات العنف الديني هي هذا الإصرار على اقحام الخطاب الأيديولوجي في المجتمع. لقد تناسوا طبيعة المجتمعات وكيف تتغير وأية ثقافة تواكب التطور المعرفي والفكري. فالخطاب ينضح بمشكلات ضاربة في القدم منذ العصور الاسلامية الأولى لم تعد لتساير الزمن الراهن. فلا هم يعنون أنفسهم بفهم المجتمع ولا هم يطورون من أساليبهم ولا طروحاتهم. وإذا كانت الديانات جميعاً قد بدأت بالدعوى تدريجياً فنشأ هؤلاء المحيطون بالأنبياء فإنَّ الخطاب المشار إلية يؤدلج المشكلات والتحولات بحسب المرجعية الصارمة لأزمنة سابقة. أزمنة لم تتعرض لنفس القضايا ولا لنفس الاختلاف المعرفي ولا لذات الضخ التكنولوجي ولا الانجازات الراهنة.
6- هناك وجه آخر لعدم تجسد الدين في أشكال عامة كأنَّه مادة ومحتوى. فنفي الصفات المادية عن الله كما في الشهادة وكما في الصفات حيث لا يحتويه مكانٌ ولا زمانٌ ولا جهةٌ إنما تمتد إلى الدين جميعه. فكل تصور ديني يسلب نفسه بنفسه كما يبرر ذاته بذاته. وهذا خطر محاولة فرضه كنمط سياسي أو اجتماعي.
وهذا النفي له أكثر من دلالة: أولاً: لا يبلغ إنسان ولا جماعة الحقيقة الدينية من تلقاء ذاته. هي فقط صورة مجازية لنمط من الحياة قابلة للمناقشة والتغير. ثانياً: نفي النفي إيجاب، بمعنى إذا كان الدين لا يقر بنظام سياسي ولا اجتماعي واحدٍ، فإنَّ رفع هذا النفي يتم في مجال عام لا يتلون ولا يختلط بأي أيديولوجيا لاهوتية. إنّه الحقيقة القصوى لتواريخ من الصراعات الدينية والمذهبية. ثالثاً: لا توجد سلطة دينية ولا قدرة على التكتل باسمها في صورة الجماعات والمذاهب السياسية.
7- لا ينفصل المصطلح عن جريان الكلام الديني على ألسن الناس والمسؤولين بمناسبة وبدونها. لقد اتخذ الدين كإيمان اكسسواراً اجتماعياً social accessories للرواج في المجال الاجتماعي. والكلام(مثل النصوص والآيات والأحاديث ومقولات الفقهاء) يشابه الأحجبة والتمائم في المجتمعات الوثنية. تلك التمائم التي تعلق في الآذان والأنوف والشفاه لاستحضار أرواح الآلهة. والحوارات والخطب في الثقافة الاسلامية ظلت مطرزة بهذه الأيقونات الرمزية طوال التاريخ السياسي والاجتماعي. ليس لأن أصحابها من حفظة الدين إنما كنوع من الرأسمال الشائع. حتى أصبح النص الديني المؤسس أو غيره مشاعاً في التداول والفهم والتفسير والالتزام الأيديولوجي. ونظراً لأن الخطاب الديني تجارة لا تبور، فإنه سينحرف نحو العنف. فالتنظيمات الاسلامية لم تأخذ رأياً من المجتمع الاسلامي ولا غيره(كل المجتمع) حتى تؤول النصوص الأصلية بمرجعية قاتلة متمثلة في كتابات بعض الشيوخ والأسلاف. وهذه الحالة جزء رئيس من مشكلة الارهاب: أنَّ النص المقدس مشاعٌ تُفعل به شتى الأفاعيل الأيديولوجية. بالتالي يأتي الإرهابي ليتناوله بوصفه مبرراً لقتل الآخرين.
لكن هناك استدراكاً فلسفياً كالتالي: أليس ذلك فخاً أيديولوجياً لما هو ديني دون حذرٍ؟! ألاَ يضع الحال الدين مرتبكاً وسط التنوع البشري؛ أي التهديد بتصفية المقدس؟!
مجدَّداً ربما الأمر غيرُ محدد، لذلك نتساءل: كيف لشيءٍ كالدين تأتي أهميته من نفسه؟ الدين متفرداً يستمدُ مشروعيته من ذاته بخلاف أي نشاطٍ آخر. ولأنَّه مؤسسٌ على الإيمانٍ، فمشروعيته تظل ساريةً بقدر مبرراتها الخاصة. بل يتنازل المتدينون عن قلُّوبهم ابتغاء تجسيدِّها في فعلٍ ماديٍّ، تنازُل هم يرونَّه عملاً مقدَّساً يستحيل تركُّه.
ولئن كان الموضوع كذلك، فالفكرة بهذا التوصيف ستصطدم بقضاياً كثيرةٍ. كيف لإيمان مكتفٍ بتجربته أنْ يصير مؤسسات عموميةً، وأنْ يتخلَّق كعلاقات وقيم وأفعال خارج الأفراد، وأنْ يكون جلباباً وطقساً ومنديلاً وشعاراً جامعاً كشعار" الإسلام هو الحل"؟!
لا يغدو الدين ديناً بهذه الطريقة، بحكم كونَّه يخضع للفعل الإنساني، تاركاً قواه التَّصورية تمسّح(تنظِّف) جذورها عبر أشكال أكثر اتساعاً. هي المفارقة إذن التي تقول: حينما يدخل الدين فضاءً عمومياً، يتجنب أعباءً أيديولوجية ليتواصل مع الآخر. كلُّ تصور ديني محكومٌ بهذا البُعد طالما أنَّه أمام آخر وإنْ كان مُؤمناً به. وإذا لم يُدرك المتشدِّدون ذلك، يعتبرون الدين أداةَ إرهابٍ لا يَقصُد أفراداً فقط بل المجتمع إجمالاً. النتيجة الأخطر: أنه ما لم يتجسد الايمانُ خلال بدائل أبعد من الأهداف الضيقة، سيصبح الدين قناعاً برجماتياً pragmatic mask للمآربِ.
تحولات الدين
دأبت الجماعات الدينية( اسلامية وغيرها) على إغراق الحس العام بالشعارات والرموز والنصوص المقدسة. لم يدركوا أنَّ الاغراق هو ذاته اغراق للشعار في عملية تَمزُّق حيٌّ. لأنَّ المعتّقدَ شعارٌ ليس يبلغه جميع الناس بالأسلوب ذاته والأيديولوجيا نفسها. وهذا سر خوف جماعات كهذه من" رُهاب الواقع"(1)، بل يسعون لتعميته بأدخنة الخطابات وألعابها. فلئن كان الشعارُ والنص مقولتين لغويتين، فإنَّهما حجابٌ سيميائيٌّ لعمل شيء أعمق. يُعيدان كتابة الفعل على أكبر نطاق بفضل مخزونهما الرمزيِّ. هنا لا يبتعد التاريخ الدلالي للعلامة الدينية عن مكوثه كأبي الهول عبر الواقع. بينما الواقع يمثل رغبةً هي" الكتلة الفاعلة"(2) في الوجود الاجتماعي.
لكَّم حاولت الجماعات الاسلامية اقتناص الفرصة تماهياً مع هذه الرغبة. سعت- أثناء الربيع العربي وبعده- إلى مبادلة الرغبة بكتل الحشود السياسية. التّيار الديني يرشقُ الشعارات في كلَّ تظاهرةٍ عامة. ليس من باب أسلمة المجتمع كما يتم الزعم، هذه القشرة البرانية كقشرة الذهب المزيف، لكن لكّون المجتمع عصيَّاً على التواطُؤ الخاطف. فبناء الواقع عملية تاريخية ثقافية طويلة الأمد ولا تنتهي. وبما أنَّ التيار السابق لا يملك إلاَّ دفاتره التراثية القديمة، فماذا يعمل سوى تفتيشها بحثاً عن حلول سريعة أثناء الأزمات بطريقة جحا حين يُفلّس؟!
استعمالُ الدين يعني تحويلهtransform إلى قوةٍ لتنشيط التصورات الخاملة. ولذلك تمثل نبرات الوعظ والدعوة محركاً غير ذاتي لإثارة التضامن والتكاتف لهذا الهدف. بينما المسألة مختلفة تماماً وهي أنَّ الدين ليس مادةً ولا محتوى ولا وسيلة وإلاَ لأصبح شيئاً مغايراً لنفسه. وإذا كان ثمة دينٌ، فإنَّه يأخُذ مظهراً فردياً بالدرجة الأولى. ولن يتجلى بكامل عتاده الرمزي في أي محيط عام. حتى في أنظمة حاكمة تتبنى لاهوتاً سياسياً يضمن هيمنتها، لا يطغى الدين إلاَّ كمرجعية مسكوتٍ عنها رغم الاعتراف البارز. ومن حيث زرعها في العقل الجمعي تختفي مع تراكم التطورات الحياتية، فتتوارى في سلوكيات وبرامج نظرية وشكلية، في عبادات وشعائر بدلالات فردية أكثر منها نمطاً مُوّحداً. بل يُختَّبر الدين عندئذ اختباراً خطيراً، لأنَّه يجري تعريته تاريخياً لعيون فاحصة. هل كان لأيَّة ممارسات دينية أنْ تتعرض للنقد إلا بانصرافها في حياة مفتوحةٍ؟!
هكذا لا يمر الدينُ في المجال العام دونما شيءٍ ما يحدث في أبنيته الصامدة. بذرةً مضادةً بأعمق مدى لمسيرته الروحية، وسيتعرض بكل قسوة لما تتحقق من رواسب أيديولوجية. على الأقل لن يجري كما هو ولا مثلما يحاول معتنقوه الارتباط بتجاربه الأصلية. فلا يمكن تنحية الدين عن المذاهب ولا ساحات العرض كالسلع والبضائع، وفي ذات الوقت يستحيل إمساك مقدساته بلا تأرُّخ وإعادة صياغة(3). الفكرة نفسها(أي الدين الخالصpure religion) هي فكرة بلا منطق إلاَّ إذا تأسست على الصرامة الوجودية، وذلك هو المستحيل لأنه ضد إيقاع الحياة.
هذا الأمر له ثغراته المزدوجة، لأنَّها تثبت عكسها:
أولاً: سيُفرض الدينُ فرضاً بحكم الاعتراف به رسميَّاً حتى وإنْ قبلته أطراف المجتمع قاطبةً. الفرضُ يعني وضعَ الدين على فوهة التساؤل اليومي: كيف ذلك، ولماذا، وماذا بعدٍ؟ لأنَّ المؤمنين يتابعون بعضهم بعضاً مع الطقوس والشعائر. ناهينا عما يمثله المختلفون دينياً من علامات استفهام في أدق التفاصيل والمواقف.
ثانياً: سيبلغ الدين- بمعتقدات أصحابه– إمكانية مختلفة عما يقصدها، مختلفة التنوع في النظر إليه ما لا يُحدُّ، وإذا كان ذلك يجري على مستوى الدين الواحد فما بالنا بأديان عدّةٍ؟!
ثالثاً: ينبغي إيجاد نموذج خارج الأفراد يستثمر قوى الدين، أي لا مفر من تحويله إلى تجربة غير روحانية.
رابعاً: يمتنع المؤمنون عن استباحة المغايرين، يظهرون مواقفهم المحتملة فقط إزاء الحياة. لكن يعدُّ الامتناع ملزماً ولا خيار لهم فيه. لأنَّ مجالاً عاماً بحكم نسبيته يستحيل الهيمنة عليه. وإذا أُخذ بقبضة دينيةٍ، سيكون مصيرها التفكُّك والتحلُّل.
المجال العام
في ضوء ما سبق، يمتص المجالُ العام قدرات الدين نافياً سلطة المقدس. فالتغير حاضرٌ في تفاصيله كما أنَّ تبادل المواقع التأويلية أمرٌ لازم بالدرجة ذاتها. حاولت فلسفةُ التنوير نزع الطابع الديني بإظهار تباين المقدس بتباين المجتمعات معرفياً وفكرياً(4).
إنَّ القداسةَ هي هذا المجال نفسه دونما مقدساتٍ ودونما آلهة ودونما سلطات أبدية. يكتسب المجال صفة القداسة لأنه مجال للاختلاف. إنَّ الدولة ميتافيزيقا سياسية دنيوية تستهلك المقدس إلى الرمق الأخير. وبدلاً من عجن الإرادة العامة باللاهوت كما حدث في عصور سالفة، فإنَّها تعجنها بالحرية والديمقراطية وقيم التنوع. ولا يمرّ ذلك التخلُق العام(أي الظهور وإمكانية الانبثاق والاستقلال للأفراد والحريات) اعتباطاً. ولئن حَمل الدينُ من تلقاء نفسه أسبابَ وجوده، فلم يعد منفرداً بذاته، لقد قفز خارج ذاته- أو هكذا يجب- عبر كياناتٍ متطورة تاريخياً للإرادة العامة.
في هذا الوضع لن يُفهم أيُ مبررٍ ديني إلاَّ بواسطة مبررات الآخرين، مبررات المؤمنين تحديداً. فهم باشتقاق اللفظ مؤتمنون على ما في قلوبهم حتى يبلغونه واقعاً( أو كما يعرف الإيمان بأنَّه ما وقر في القلب وصدقه العمل). وهذا ما قد يُسمى بتطبيق تعاليم الدين أو بعبارة الجماعات الإسلامية تطبيق الشريعة. لكن هذا نفسه يُفشل كلَّ محاولات امتلاك الآخر باسم الدين، ويأخُذ هؤلاء في جعل الحياة مسوغاً كلياً لهبوط الوحي في التجربة الإنسانية. كما لو كان هبوطه من السماء قد حدث تواً لا سلفاً!!
ذلك " الجعْل" يتشابك فيه البُعد الروحيُّ مع البعدين السلوكي والاجتماعي. ويظل مميزاً بهيمنة الاعتقاد على الممارسة لاستعادتها كلما تفلَّتت منه. بالتالي يستحيل صبغ المجال العام بسمات دين بعينه دون فشل الاثنين معاً(5). والتجارب السياسية للحكم الديني أياً كان نبوياً أم بشرياً لم يحكم من غير قوى حركية من طبيعة المجال العام. إذن لم ولن يكون حُكماً بأمر فوقيٍّ قاهر لا رادَّ له، بل حكم ناجم عن استثمار تلك الطبيعة.
لأجل ذلك سيُفرض علينا تحديد المعنى بالنفي كعادة اللاهوت السالب. فلم يعد الدين بتلك الأطر وعياً مفارقاً، إنما قد يتهيأ انبثاقه من باطن الأشياء على طريقة التصوف. الموضوعات المادية بإمكانها الرمز إليه. فجأة تستحيل إلى شبكة دالةٍ على معتقداته. هكذا صُورت بعض أشكال الأجنة في أوضاع معينة كدلالة على مظهر ديني، أو بوصفها معبرةً عن آيات كونية. وللحقيقة فقد يمثل الانسان والكون من زاوية كهذه مجازاً بلاغياً لوجود الله. كافة الأديان تشترك في تصوير دلالي كهذا(6)، إنْ لم تكن تلك السمة تقرب رؤى الدين (لاأقول الدين كما هو) في لاوعي أصحابه من الاستعارات الخيالية. استعارات كانت كفيلةً قديماً بملء الكون بالأرواح النورانية والكائنات الشريرة والكواكب والنجوم المؤثرة على مصائر البشر.
لكن رغم هذه الصور إلاَّ أنَّها لا تمس المجال العام بعمقٍ. ربما تبتعد بمنحاها الأسطوري عن التأثير في أحوال المجتمعات. ونحن نعتبرها غير مرتبطة بها مباشرة ولا نحبذ أنْ تؤدي مهمة في هذا الارتباط.
إزاء ذلك نميزُ بين ثلاثةِ جوانب في الدين.
1- مصدر الدين، وهو الله أو القوة العليا في جميع الديانات تقريباً.
2- وجود هذا المصدر في مرجعية نصيةٍ، أي كتاب مقروء بقانون الدين نفسه أو كتاب منظور(الكون) بإسقاطه على الواقع.
3- تشكل هذه المرجعية عبر نظام أو أبنية قيمية ومعرفية وثقافيةٍ.
النقطة الأخيرة هي التي تتغلغل في المجال العام. إذ تشكل المرجعيَّة الدينية حتى يعود متجسدّاً بعد إنْ كان معتقَدَّاً. الفكرة بهذا المعنى تمثل نمطاً من الحياة وتؤكد عليه الطقوس والأفعال الرمزية. ونلاحظ أن الجوانب الثلاثة ليست واحدة. فالمطلوب من المؤمنين البحث عن تطابقها، بل لن يتم عمل ايماني دونما تطابق بين (المصدر- المرجعية- النظام).
وإنْ كان النظام غير مكتمل، فلأنَّه يحتاج إلى حقائق جديدة مع كل واقع. هو تجربة مبتكرة في ظهورها، غير أنَّ الثقافة الدينية( لا الدين) تحشوها بمادة تقليدية، وتجعل إيقاع الطقس الديني كأنَّه مواد حياتية ملموسة. وتدريجياً يستغرق الطقس ملكات أصحابه ومواردهم الذهنية حالاً محلَّ تفاصيل الحياة. فأيُ ثقافة مغلقة تطمس الإدهاش الأولِّي، الإثارة الغضة لتلك الموارد، تغدو عملية نقل لا تغيُر فيها. ويتعين على المؤمنين حفظ الأثر حذو الأثر والسلوك حذو السلوك والعقل حذو العقل. كقطع من القرميد المتراص تمسك سقف الفكر تحت إطار محكَّمٍ. وهذه إمكانية تجعل كلَّ تصور ديني قابلاً للانحراف رغم إحْكّامه. ليس بطريقة الصواب والخطأcorrectness and error وهذا أمر مهم أيضاً. لكن التصور سيكون عرضة باستمرار إلى نزوع شكلي، فالشكل كمظهر مخاتل وغَوّاء هو مرآة العمل الديني العام.
طبعاً لا يكون هذا الوضع الشكلي بصدد المعتقد والايمان بوصفيهما خاصين. هذان لهما جذورهما في أعماق المؤمنين ولا سبيل إلى كشفهما. كما أنَّ أي دين مكتمل بنفسه طالما يتمتع بفرض مبرراته الذاتية وطالما كان نسقه الرؤيوي شاملاً وغير بائن الثغرات. والأديان من تلك الجهة أديان تامة وتعيش تجربة الاكتمال الخاصة. ليس هناك اختلاف بين الأحدث أو الأقدم منها حتى ولو كانت أنماطاً أولية من المعتقدات. كل ذلك فقط يختلف داخل المجال العام... لكن ما السبب؟
الدين خارج ذاته
عسف مستعملي الدين يطرح مواقعه تحت أقدام الساسة ورجال السلطة في تاريخ الوعي العربي الإسلامي. فهؤلاء انتهكوا المجال العام انتهاكاً أجهز عليه. وترك به بثوراً لم تندمل إلاَّ بعد تراكم تاريخي طويل. إنَّ أيَّة ظاهرة هيمنة على الوعي الجمعي كان إطارها هياكل سياسية قهرت المجتمع، وأرغمت فاعليه للتنازل عن الشأن العام لأصحاب السلطة الحاكمة... تلك المواقع كانت غارقة بأفكار آسنة منذ قرون.
طبعاً المشروع الديني كان قادراً على نكأ الجراح، وبدلاً من تطهيرها أغرق المجتمع في ذات المظاهر ومارس نفس السلوكيات بأسلوب أعنف. ليس لأنَّه لا يعرف الواقع، بل لأن الأدوار اللاهوتية السياسية واحدة في تاريخنا الثقافي. فكثيراً ما تبادلت السيناريوهات والممثلين. أكاد أقول كتبت الحوار بينهم وبين بقية المجتمع بنفس اللهجة وعزمت على انجاز مصالحها ضد عامة الناس. فلم يتجنب الفقهاء التورط داخل قصر خليفة وعبر شبكة تأويل ديني للسلطة. ولم يتورع الساسة عن استعمال الدين لخدمة حكمهم.
هكذا تركت السياسة أحذيتها لكي يرتديها الأيديولوجيون الدينيون دونما معرفة بطبيعة التطور التاريخي ولا بضرورة تجديد خطابهم وغربلة الأفكار التي قُبرت في أكمامها.
في الأخير يتعامل هذا "الفكر التلفيقي" مع المشكلات كتعامل الطاهي مع مواد الطبخ. يحاول ايجاد صيغة لخلط بعضها البعض، فإذا فاته مذاقٌ يُكثر البهارات لتجنب الطعم الكريه. وفي هذه الحالة " بهارات الدين"(7)هي الأوضح لتغطي إهدار السياق المعرفي والاجتماعي. وإذا خرج الطعامُ مناسباً يرسل وصفته السحرية إلى مناحي الفكر تحت غطاء الأيديولوجيا.
ذلك يعني نقل القداسة إلى المجال العام مع تنوع المقدسات واختلافها. بكلمات أوضح: الانسان حيوان تقديسي، ويتعذر نزع تقديسه للموضوعات والمعاني. لكنه عندما يقدِّس( يحترم- يقدر) فضاءً مفتوحاً من الرؤى يقلل التعصب المقيت لمقدس أحادي الأيديولوجيا. من ثم علينا النظر إلى أبنية السياسة والدين بصورة مغايرة.
والسؤال الجوهري: كيف تعدِّد(السياسة والدولة والحق والغير) انغلاقاً دينياً عنيفاً؟!
1- السياسة.
ليست السياسة من ساسَ يسُوس بوقعها المعجمي الحيواني. لكن يمكن طرح تعريف جديد: أنَّ السياسة بمثابة الموت المؤجل لأية دوجما فكرية تغلق الأفق. السياسة فن الفناء غير المطلق لكل ما هو مطلق وتام الإنجاز. وأي مقدس سيهدف إلى تصنْيم صورتِّه سيكون فحماً حجرياً في آتون الممارسة. سيتحدد ضمن صورة هو خارجها لكنه سيشعل فتيلاً لانفجار كيانه الصوري المؤطَّر سلفاً. ثمة علاقة نادرة الظهور بين السياسة والجنون وألعاب البهلوان.
التوقيع البهلواني في الفعل السياسي هو إكسير تاريخي لدهاقنة السلطة. البهلوان يفهم في الدين أكثر مما يفهم رجل الدين خطابه. كان ملحوظا تحوُّل المتشددين الإسلاميين إلى بهلوانات خطابية. لأن المفارقة: ستنسخ السياسة أكثر من صورة لهذا الإسلامي، فيغدو لاعباً في السيرك وحركيا ومقنعاً وخطيباً مفوَّهاً في جلباب واحدٍ. لا لشيءٍّ إلاَّ لأنه داخل السياسة دون العناية بتحولاتها. أين التقديس؟ إنَّ مخزوناً تمثيلياً بهلوانياً هو نفسه الخطاب السياسي الديني. ويقبل السيرك السياسي أعضاء السيرك الديني دونما ضغوط، يعطيهم مساحةً لإبراز عضلاتهم البلاغية. والأثر اللغوي يراوح بين البوليتيكا بالمضمون السياسي Politics والاستعمال الشائع للحيل والألاعيب. لقد رأينا ذلك متجسداً في الآراء الدينية حول الديمقراطية وحول اجراءاتها.
دخول الخطاب الديني هذا المجال لا يبعد مضمونه عن بوليتيكا اللاوعي المراوغ، اللاوعي جراب ضخم كما الحياة يغص بالمناورات والصراعات(كما يقال شعبياً: يا ما في الجراب يا حاوي). الخطاب الديني يطرح أساليب مؤثرة بذات المنطق الثقافي الغالب. والخطاب عمل سياسي في المقام الأول، مما سيعود عليه بالتآكل المفاهيمي والدلالي لما يؤسس. لأن السياسة فضاءٌ لصراع الرغبات والدهاء وليس شرطاً قبولها أو عقلّنتها.
2- الدولة.
جميع الأيديولوجيات الدينية الاسلامية تسعى لإقامة دولة الخلافة. لكن الدولة بالنسبة للخطاب الديني أشبه بنباتات الزهور آكلة الحشرات، تفرز مواداً وروائح جاذبةً، فإذا بها تصبح قاتلاً متوحشاً، تذيب الأنسجة وتسحق العظام. الجماعات الإسلامية رغم تكفيرهم للدولة، لكنهم يحولونها إلى صنم لاهوتي بعنوان أسلمة النظم السياسية. فالدولة تكنولوجيا سياسية وهي أسوأ أفضل الأطر المطروحة لتدبير شؤون الإرادة العامة.
لكن الإسلاميين يعتبرونها داراً لرعاية أيتام وعجائز وثكالى التاريخ. وفي كل الحالات يعتبر الإسلاميون أنفسهم هؤلاء الأيتام، فلقد فُطموا سياسياً بحرمانهم التاريخي من أثداء السلطة ولم يجدوا أباً رحيماً ولا أماً رؤوماً( خطاب المظلومية). فما كانوا إلاَّ دفع انفسهم لاهثين على مقاعد الحكم، وقد انهمكوا في هذه الرضاعة البديلة لكل رحيقها المعنوي. رأينا الإخوان المسلمين بمصر يبتلعون الدولة جغرافياً وإدارياً. كانت الجماعة نوعاً من الكائنات المنقرضة كالماموث والديناصور مع التوائها الجغرافي عبر المدن والقرى، ثم تعاملت مع طبيعة الدولة بهذا الفهم البدائي، لم تدرك طبيعة الحياة المعاصرة ولا آليات الحكم الديمقراطي ولا قيم التعددية السياسية.
لم يكن حتى رئيسهم(مرسي) يفهم تاريخ أية دولة يحكم. كان رئيساً على كف مرشد ليس أكثر؛ أي كان محمولاً على غيره مثل العرض في المنطق. وقد أحالته مفاهيم الدولةُ كجهاز مدني حساسٍ سياسياً للتقاعد المبكر. أكبر أعداء الإخوان ليس الأحزاب ولا المختلفون أيديولوجياً ولا العلمانيون إنما كيان الدولة والأنظمة الحداثية التي تطرد التشدد. لأنَّهم عاجزون عن استيعاب حقيقتها ولا كيفية إدارتها. هناك خصاء سياسي حدث لكلِّ جماعة إسلامية تزعم ذكورة دولة الخلافة، لأنَّها لم تكن دولة إنما إقطاعية لاهوتية يجيء المرشدُ وجهها، بينما يعمل الرئيس في ديوانه الوهمي.
3- الحق.
كلُّ مبرر لاهوتي ليس حقاً وإنْ ظهر هكذا لكونه قائم على خلفيات ذاتية. بينما الحق الفعلي يستعصى على اختراق مبرراته الموضوعية واستنفادها. الحق لا يستجيب للون ولا لشكلٍّ ولا مركز لكونه خارج الانحياز، خارج إمكانية لي عنق إرادته العامة. الحق هو فائض الوجود بالنسبة لأية أيديولوجيا دينية تناوئ الآخر، فلا تشعر به إلى حين تنتهك ذاتها. الحق يتجاوز الديانات والمذاهب. لأنَّه يخصُ الإنسانَ كإنسانٍ كوني لا يُجدي لونه ولا عرقه ولا طائفته ولا تنظيمه الديني. لذلك استعصت فكرةُ الحق على الترويض في تاريخ المجتمعات الإسلامية. وهي أقرب الأفكار لتعرية الجذور السحيقة للتسلُّط الميتافيزيقي باسم العقيدة.
إنه بالرغم من ترديد مقولة الحق إلاَّ أنَّ الجماعات الدينية لا تعرفُ ماذا تفعل إزاءها. الحقُ ليس دينياً ولا أيديولوجيا ولا اجتماعياً ولا سياسياً ولا تاريخياً. إنَّه ليس جميع ذلك. إضافة إلى هذا يعتبر حقاً فوق الشروط، لكونه مشروطاً بنفسه حيادياً إزاء كلِّ الرهانات والقوى والتوازنات. فهو غير مؤجَّل ولو أُجل سيجدُّ من يطالب به دائماً. وإن غاب المطالب سيكون المجتمع إجمالاً موضِّع تساؤل. لأنَّ الحق ليس ملكاً لفرد إنما ذا مكانة كلية يبحث عنها الأفراد.
أيضاً الحق أكثر من كونَّه مقولة انطولوجيةً تتّجسد في مؤسسات ولوائح وقوانين ودساتير. ثمة إيماءة إسلامية بارزة أنَّ الله يستجيب لدعوة المظلوم: "وعزتي وجلالي لأنصُرنك ولو بعد حينٍ"، وإيماءة أخري لم تفهمها جماعات الإرهاب: " اتقِ دعوةَ المظلوم ولو كان كافراً"... ما مدلول ذلك؟ الحق أبعد من الدين نفسه ويساوي الوجود الإلهي في شرطه لذاته خارج العالم، ويوازي الحق قسمَّ الإله على ذاته تبعاً لقدراته اللانهائية. إذن تفكِّك مقولة الحق أيَّ أيديولوجيا دينية تضيِّع حقاً كان مفعولاً. فالحق يخلق مجالاً حراً يترصد من يعتدي عليه ولو باسم الدين.
4- الغير.
ليس الغيرُ بعيداً عنّا، حيث لا وجود أو هكذا نتمنى تجاوزه أنطولوجياً. هذا التمني الذي يزيح كلَّ ما يُمثل خطراً على الأنا. يستقر الغير داخلنا في صور ليس أوضحها الأنَّا مقلُّوباً بشكل ساخرٍ. إننا نقلَّبه على جميع الأوجه كراهيةً وحباً للنقيض. رجال الجماعات الدينية يقتلون الغير المختلف عنهم بينما هو فيهم؛ أي يضعونه في رداء وثني لتصفيته من جذوره.
الغير هو الممقوت فتحاً لقوس الكراهية إلى نهايته القصوى. يحتوى على كلِّ نقائصنا وكل شراستنا. وهذا الغير عصيٌّ دوماً على الدين، لأنَّه لا يخضع لمنطقه أصلاً. يكفي أنَّه لا يؤمن به ولا يضمر أدنى اعترافٍ تجاهه. الغير بكل أوزانه يعني استدعاء المجال العام قاطناً فيه على مرمى الأنا متجسداً ومترقباً. هل يمكن تجاوز الغير؟ ليس بإمكان الدين تجاوز الغير. وذلك باعتراف الدين نفسه: "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". هذا العمل بمثابة فتح جبهة للغير في جدار الدين. الغيرُ يسكن تاريخ الدين وليس بعيداً عنه. ودراما الشيطان في الخطاب الإسلامي: أنَّه "يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق"، كيف نقتل أو نكفر الغير إذن؟!
واثباتاً لقضية أبعد، فالنفس تحمل النجدين(الضلال والهدى) معاً. نحن إذن الغير بالقوة في شكل وجود بالفعل بلغة أرسطو. والقضية تدمر أيَّة أيديولوجية لاهوتية تزعم خلوصها النقي في قلوب مؤمنة. وتثبت استحالة وجود جماعة مصطفاة خارج التاريخ.
الهامش:
1- نظراً لعمل الجماعات الاسلامية تحت الأرض بأساليب سرية، فالواقع يمثل بالنسبة إليهم مصدراً للرعب الديني. والحقيقة ليس هذا السبب فقط بل يعتبرونه كفراً بواحاً يواجهونه بكل عنف. بالتالي يعدُّ الواقع رُهاباً يتجنبونه بالعزل الشعوري والحياتي. قد يقال إنهم يحاولون الاستيلاء عليه... فكيف يعتبر رهاباً؟ هم يقابلون الرُهاب بالحشود البشرية التي تصارع القوى الأخرى. وفي المقابل يعد الواقع غامضاً غموض الجماعات برغم معرفة نشأتها وأفكارها.
فلكم أساء الإخوان المسلمون فهم وتحليل الثورة المصرية لا لشيء إلاَّ لأنَّ الوضع الاجتماعي- من وجهة نظرهم- وضعاً منحرفاً عن درب الإسلام. وكذا الوضع السياسي إذ يتجه نحو محاربة الدين دوماً. بالتالي لا تكفر الجماعات السياسيين بل يحاولون استئصالهم من الواقع. وأخيراً بعد خروج الإخوان من السلطة فاشلين فشلاً ذريعاً سيكون الواقع نكبة أكبر من نكبة الأندلس وفلسطين. وسيتحول الواقع إلى ذاكرة مظلمة، بحجم الرغبة في وجود الاسلام!!
2— الرغبة في الحياة العامة كتلة سائلة لدى الجماعات الدينية كما هي بمنطق الثقافة العربية ومنطق الجموع الغفيرة. إنها بلغة مادية تتجلط كالدماء من أجل التأثير في الواقع. فمن أجل تحريك الأحداث الثورية كانت الجماعات والأحزاب والنقابات تسهم في هذا التكتل العام كأنه مادة محتشدة سياسياً. ومن ثم تنشأ الأحزاب والجماعات دونما تأثير حقيقي. وهذه الرغبة ناتجة عن انعدام الاختلاف الفعلي في الثقافة العربية كما أنها ترتكز إلى رغبة القطيع في الاستنفار لإدامة الصراع. وبفضل غياب الديمقراطية والنقد وروح التسامح تأخذ شكلاً جمعياً من العداء العام المتدثر مرة بالدين وأخرى بالطائفة وغيرهما بالأيديولوجيا.. وهكذا. لهذا تلتهم الرغبة الجمعية كل بعدٍ فردي أو ليبرالي مستنير واضعةً له داخل ماكينة الكتلة ليخرج معدوماً مثل الفضلات!!
3- كل تصور ديني بمثابة إعادة لذاته وحذفها بالوقت نفسه، لجزء منه ولتراكم ما عليه كما تتراكم الطبقات الجيرية على الأسنان. بكل قوى الدين(ميتافيزيقا- شريعة- طقوس- رأسمال رمزي) يتحدد في شكل بسيط ينفض عنه غباراً دائماً. هذا ناتج عن نقصان الإيمان الكافي لإتمام العمل الديني بما فيه الاعتقاد. كذلك لا يتعين الدين بحكم مطلقه إلا في أقنية التصور البشري ونحن نعرف أن كل تحديد سلب. إذن يجري السلب بنائياً داخل أية موضوعات دينية. حتى أنَّ هناك مقولة تدل على كون القلب أتياً من التقلب فيواجهه الفقهاء بدعاء وقائي: "يا مُقلِّب القلوب ثبت قلبي على إيمانك".
4- اتجه فلاسفة النهضة( فولتير وهوبر وهيوم) ومن قبلهم بودن إلى نزع الأساطير والطابع الثيولوجي عن العالم. فنشأ الدين الطبيعي حتى يتركز النظر حول ماهية الأشياء في ذاتها. وهذا الأمر جعل الدين في حالة فعل غير مادي؛ أي تقرر سياق الدين دون خلعه على الكائنات. كما أنه وضع الأشياء في مجالها الطبيعي دونما أساطير وأسرار. فلقد كانت الأساطير تصنع من العالم كائنات ذات إمكانيات خارقة وبالتالي تخضع للتقديس. إذ ذاك كما في العصور القديمة يغدو التقديس طبقة ميتافيزيقية سميكة تخفي الطبيعة وتأسطرها.
وصحيح أن الأساطير خملت وتراجعت، لكن الوظيفة الاستعارية والدينية لم تنته بعد. إنَّ استعمالاً للدين بهذا الشكل –حتى ولو في نطاق محدود- يخلع على الأشياء أردية مقدسة ليست لها ولن تكون. لعلنا نرى هذه القداسة التي يتعامل بها أعضاء الجماعات الدينية مع الشيوخ سلفاً وراهناً. إنه التعامل ذاته الذي يستعيد وظائف الديانات القديمة. ولهذا فالمجال العام يبطل مفعول هذه الوظيفة التي تتكرر كالفيروسات التي توجد منذ ملايين السنوات. والمجال العام حين يبني نفسه على العقلانية والديمقراطية والاستنارة إنما يأخذ القداسة. لكن بمنظور عدم المساس به لا تحويله إلى لاهوت سياسي ولا اجتماعي. إنَّه قداسة أرضية ناتجة عن عدم المساس بالآخر انساناً وإرادة.
5- مشكلة جماعات العنف الديني هي هذا الإصرار على اقحام الخطاب الأيديولوجي في المجتمع. لقد تناسوا طبيعة المجتمعات وكيف تتغير وأية ثقافة تواكب التطور المعرفي والفكري. فالخطاب ينضح بمشكلات ضاربة في القدم منذ العصور الاسلامية الأولى لم تعد لتساير الزمن الراهن. فلا هم يعنون أنفسهم بفهم المجتمع ولا هم يطورون من أساليبهم ولا طروحاتهم. وإذا كانت الديانات جميعاً قد بدأت بالدعوى تدريجياً فنشأ هؤلاء المحيطون بالأنبياء فإنَّ الخطاب المشار إلية يؤدلج المشكلات والتحولات بحسب المرجعية الصارمة لأزمنة سابقة. أزمنة لم تتعرض لنفس القضايا ولا لنفس الاختلاف المعرفي ولا لذات الضخ التكنولوجي ولا الانجازات الراهنة.
6- هناك وجه آخر لعدم تجسد الدين في أشكال عامة كأنَّه مادة ومحتوى. فنفي الصفات المادية عن الله كما في الشهادة وكما في الصفات حيث لا يحتويه مكانٌ ولا زمانٌ ولا جهةٌ إنما تمتد إلى الدين جميعه. فكل تصور ديني يسلب نفسه بنفسه كما يبرر ذاته بذاته. وهذا خطر محاولة فرضه كنمط سياسي أو اجتماعي.
وهذا النفي له أكثر من دلالة: أولاً: لا يبلغ إنسان ولا جماعة الحقيقة الدينية من تلقاء ذاته. هي فقط صورة مجازية لنمط من الحياة قابلة للمناقشة والتغير. ثانياً: نفي النفي إيجاب، بمعنى إذا كان الدين لا يقر بنظام سياسي ولا اجتماعي واحدٍ، فإنَّ رفع هذا النفي يتم في مجال عام لا يتلون ولا يختلط بأي أيديولوجيا لاهوتية. إنّه الحقيقة القصوى لتواريخ من الصراعات الدينية والمذهبية. ثالثاً: لا توجد سلطة دينية ولا قدرة على التكتل باسمها في صورة الجماعات والمذاهب السياسية.
7- لا ينفصل المصطلح عن جريان الكلام الديني على ألسن الناس والمسؤولين بمناسبة وبدونها. لقد اتخذ الدين كإيمان اكسسواراً اجتماعياً social accessories للرواج في المجال الاجتماعي. والكلام(مثل النصوص والآيات والأحاديث ومقولات الفقهاء) يشابه الأحجبة والتمائم في المجتمعات الوثنية. تلك التمائم التي تعلق في الآذان والأنوف والشفاه لاستحضار أرواح الآلهة. والحوارات والخطب في الثقافة الاسلامية ظلت مطرزة بهذه الأيقونات الرمزية طوال التاريخ السياسي والاجتماعي. ليس لأن أصحابها من حفظة الدين إنما كنوع من الرأسمال الشائع. حتى أصبح النص الديني المؤسس أو غيره مشاعاً في التداول والفهم والتفسير والالتزام الأيديولوجي. ونظراً لأن الخطاب الديني تجارة لا تبور، فإنه سينحرف نحو العنف. فالتنظيمات الاسلامية لم تأخذ رأياً من المجتمع الاسلامي ولا غيره(كل المجتمع) حتى تؤول النصوص الأصلية بمرجعية قاتلة متمثلة في كتابات بعض الشيوخ والأسلاف. وهذه الحالة جزء رئيس من مشكلة الارهاب: أنَّ النص المقدس مشاعٌ تُفعل به شتى الأفاعيل الأيديولوجية. بالتالي يأتي الإرهابي ليتناوله بوصفه مبرراً لقتل الآخرين.