ظهر صادق جلال العظم (1934-2016)، بعد سنوات طويلة مِن محاكمته ببيروت (1969)، مع يوسف القرضاوي، في مناظرة تلفزيونية، ومع أن حديثه ليس فيه ما يتعرض للدين، إلا أن المتصلين كانوا يلقون السَّلام على القرضاوي ويتجاهلون العظم، مع الرَّد عليه بأغلظ الألفاظ وأعنفها، إشارة إلى إخراجه مِن الملة، حتى سمعتُ أحدهم قالها، ولم أتأكد حينها هل كان مازحاً أم جاداً! واصفاً المناظرة بالمبارزة، وبما لا يجوز التَّشبيه: «برز الإيمان كلُّه إلى الشِّرك كلِّه»! والحديث معروف في بعض كتب التَّاريخ كـ«التَّأريخ المستبصر» لابن المُجَاور (ت 690ه).
كان عنوان المناظرة «بين الدِّين والعلمانية». ومعلوم أن القرضاوي كإسلامي يعتبر العلمانية كفراً، حسب كتابه «الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه»، وليس أكثر من تكفير العلمانية لدى الصحوويين، مثل «العلمانية نشأتها وتطورها» لسفر الحوالي، وتلامذة سيد قطب (أعدم 1966) وشقيقة محمد قطب (ت 2014). لكن الذي اعتبر العظم الشرك كله والقرضاوي الإيمان كله، لم يفهم أن الجدل كان في الفكر الديني وليس الدِّين نفسه، وهؤلاء لا يريدون التمييز بين الفكر الديني، وفيه نتاج البشر من تفسير وتأويل، والدِّين العبادة والإقرار بوجود الخالق، مثلما لا يريدون التمييز بين الإسلام السياسي والإسلام الدِّين، لهذا اعتبروا «السياسة عبادة».
طُلب من العظم، في البرنامج المذكور، تعريف العلمانية فقال نصاً: «ترتيب سياسي واجتماعي، في وقت واحد، وأنا هنا أُقدم التعريف للعلمانية ليس بالمطلق، في كلِّ زمان ومكان، وإنما التَّعريف بالعلمانية بما يهمنا ببلداننا العربية بصورة خاصة، كترتيب سياسي ملائم لشروط العصر الذي نعيش فيه، أُعرف العَلمانية على أنها الحياد الإيجابي للدولة وأجهزتها وأدواتها ومؤسساتها إزاء الأديان والمذاهب والطوائف والفِرق والأثنيات الموجودة في مجتمع ما، أو التي يتألف منها ذلك المجتمع، وأُشدد على الحياد الإيجابي، أي أنها دولة ترعى كل هذه الأديان والطوائف». ثم أتى على نموذج الهند حيث تعيش أقلية مسلمة كبيرة محمية بالعلمانية.
ذلك مجمل الموضوع الذي دار حوله الجدل، والذي جعل القرضاوي الإيمان كلّه بينما العظم الشّرك كلّه! وأين هو الإيمان وأين الشرك مما دار بينهما؟! إنما جرى الحديث بين مؤمن بدولة دينية وغير مؤمن بها، جدل في أفكار بشرية لا صلة له بإيمان أو شرك.
أكثر اللقاءات أو المقابلات التي جرت للعظم يبرز فيها هذا التصور (إيمان وشُرك). كانت البداية بكتابه «نقد الفكر الديني» (1969)، والرجل أثاره مشهدٌ كأن مبتدعه أراد السخرية بضحايا حرب 1967، وتشرد الفلسطينيين من أرضهم، عندما كتبت الصُّحف المصرية واللبنانية آنذاك مبشرةً بخروج السيدة مريم لتزيل آثار الهزيمة بمعجزة، فاُعتبر ما جاء في «نقد الفكر الديني» عن هذا الموضوع طعناً بالدين، ثم اُضيف نقاشه لقضية «إبليس»، وإشارته إلى الذين يحاولون تكبيل القرآن بنظريات علمية، وكان يناقش كتاب يوسف مروّة «الإسلام تجاه تحديات الحياة المعاصرة»، الذي ميز آيات في الرياضيات وأخرى في النسبية وعلم الجيولوجيا.. ما اعتبره العظم «توفيقاً تعسفياً محضاً».
قُدم العظم للمحاكمة بتهمة ازدراء الدينين المسيحي والإسلامي معاً، فنفى أن يكون ما كتبه موجهاً للعقائد الدينية، بقدر ما كان للفكر الديني، بما يخص العقل لا العقيدة. نسى المحرضون، على شاكلة من اعتبره «الشرك كله»، أن الشهرستاني (ت 548ه) جعل المقدمة الثالثة من كتابه «الملل والنِّحل»، وكان شافعي الفقه أشعري العقيدة، حواراً بين «إبليس» والذات الإلهية، ولم يرده أحد، وأن شقيق الإمام أبي حامد الغزالي (ت 505ه)، محمد الغزالي (ت 520ه)، وكان يُدرس في المدرسة النَّظامية ببغداد، له رأي مختلف في هذه القضية (ابن الجوزي، المنتظم). بمعنى أن الأمر كان مطروقاً، وفي تلك العهود لا في هذا العصر الذي مِن المفروض أن يكون العقل فيه محمياً.
أُغلقت القضية ضد العظم، وكان حينها كمال جنبلاط (اغتيل 1977) وزيراً للداخلية، فحاور العظم في مكتبه حوار الثقافة، كذلك استضافه مفتي طرابلس نديم الجسر (ت 1980) في ندوة عن كتابه وبحضور موسى الصدر (قتل 1978)، من دون اعتباره «الشرك كلَّه». أما هو فعندما أُدخل المعتقل وانتزعت نظاراته منه فطلب نسخة من القرآن، فكيف يقرؤها بدون النظارات، فسقط بأيديهم وأعادوها له (حديث تلفزيوني مع العظم).
رحل العظم، وحتى آخر لقاء به (2013)، لم يتراجع في نقد الفكر الملتبس، ورجالاته الذين مازالوا يراكمون الأفكار في إخضاع الدين للسياسة. أما الدين كعقيدة فلم يمسه العظم بسوء. أنشد القرضاوي في تلك المناظرة: «سارت مشرقةً وسرتُ مغرباً/ شتانِ بين مشرقٍ ومغربِ»(الصَّفدي، الوافي بالوفيات)، وهو بيتٌ أكثرَ الأولون مِن إنشاده ولم يُعرف قائله، لكنَّ الأحقَ بالشكوى من التّباعد هو ابن دمشق، فهو يريد إسلام الحرية لا الاستبداد الديني والمحاكمات على الظن والترصد!
* صادق جلال العَظم.. المحاكمة!
رشيد الخيون
جريدة الاتحاد
كان عنوان المناظرة «بين الدِّين والعلمانية». ومعلوم أن القرضاوي كإسلامي يعتبر العلمانية كفراً، حسب كتابه «الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه»، وليس أكثر من تكفير العلمانية لدى الصحوويين، مثل «العلمانية نشأتها وتطورها» لسفر الحوالي، وتلامذة سيد قطب (أعدم 1966) وشقيقة محمد قطب (ت 2014). لكن الذي اعتبر العظم الشرك كله والقرضاوي الإيمان كله، لم يفهم أن الجدل كان في الفكر الديني وليس الدِّين نفسه، وهؤلاء لا يريدون التمييز بين الفكر الديني، وفيه نتاج البشر من تفسير وتأويل، والدِّين العبادة والإقرار بوجود الخالق، مثلما لا يريدون التمييز بين الإسلام السياسي والإسلام الدِّين، لهذا اعتبروا «السياسة عبادة».
طُلب من العظم، في البرنامج المذكور، تعريف العلمانية فقال نصاً: «ترتيب سياسي واجتماعي، في وقت واحد، وأنا هنا أُقدم التعريف للعلمانية ليس بالمطلق، في كلِّ زمان ومكان، وإنما التَّعريف بالعلمانية بما يهمنا ببلداننا العربية بصورة خاصة، كترتيب سياسي ملائم لشروط العصر الذي نعيش فيه، أُعرف العَلمانية على أنها الحياد الإيجابي للدولة وأجهزتها وأدواتها ومؤسساتها إزاء الأديان والمذاهب والطوائف والفِرق والأثنيات الموجودة في مجتمع ما، أو التي يتألف منها ذلك المجتمع، وأُشدد على الحياد الإيجابي، أي أنها دولة ترعى كل هذه الأديان والطوائف». ثم أتى على نموذج الهند حيث تعيش أقلية مسلمة كبيرة محمية بالعلمانية.
ذلك مجمل الموضوع الذي دار حوله الجدل، والذي جعل القرضاوي الإيمان كلّه بينما العظم الشّرك كلّه! وأين هو الإيمان وأين الشرك مما دار بينهما؟! إنما جرى الحديث بين مؤمن بدولة دينية وغير مؤمن بها، جدل في أفكار بشرية لا صلة له بإيمان أو شرك.
أكثر اللقاءات أو المقابلات التي جرت للعظم يبرز فيها هذا التصور (إيمان وشُرك). كانت البداية بكتابه «نقد الفكر الديني» (1969)، والرجل أثاره مشهدٌ كأن مبتدعه أراد السخرية بضحايا حرب 1967، وتشرد الفلسطينيين من أرضهم، عندما كتبت الصُّحف المصرية واللبنانية آنذاك مبشرةً بخروج السيدة مريم لتزيل آثار الهزيمة بمعجزة، فاُعتبر ما جاء في «نقد الفكر الديني» عن هذا الموضوع طعناً بالدين، ثم اُضيف نقاشه لقضية «إبليس»، وإشارته إلى الذين يحاولون تكبيل القرآن بنظريات علمية، وكان يناقش كتاب يوسف مروّة «الإسلام تجاه تحديات الحياة المعاصرة»، الذي ميز آيات في الرياضيات وأخرى في النسبية وعلم الجيولوجيا.. ما اعتبره العظم «توفيقاً تعسفياً محضاً».
قُدم العظم للمحاكمة بتهمة ازدراء الدينين المسيحي والإسلامي معاً، فنفى أن يكون ما كتبه موجهاً للعقائد الدينية، بقدر ما كان للفكر الديني، بما يخص العقل لا العقيدة. نسى المحرضون، على شاكلة من اعتبره «الشرك كله»، أن الشهرستاني (ت 548ه) جعل المقدمة الثالثة من كتابه «الملل والنِّحل»، وكان شافعي الفقه أشعري العقيدة، حواراً بين «إبليس» والذات الإلهية، ولم يرده أحد، وأن شقيق الإمام أبي حامد الغزالي (ت 505ه)، محمد الغزالي (ت 520ه)، وكان يُدرس في المدرسة النَّظامية ببغداد، له رأي مختلف في هذه القضية (ابن الجوزي، المنتظم). بمعنى أن الأمر كان مطروقاً، وفي تلك العهود لا في هذا العصر الذي مِن المفروض أن يكون العقل فيه محمياً.
أُغلقت القضية ضد العظم، وكان حينها كمال جنبلاط (اغتيل 1977) وزيراً للداخلية، فحاور العظم في مكتبه حوار الثقافة، كذلك استضافه مفتي طرابلس نديم الجسر (ت 1980) في ندوة عن كتابه وبحضور موسى الصدر (قتل 1978)، من دون اعتباره «الشرك كلَّه». أما هو فعندما أُدخل المعتقل وانتزعت نظاراته منه فطلب نسخة من القرآن، فكيف يقرؤها بدون النظارات، فسقط بأيديهم وأعادوها له (حديث تلفزيوني مع العظم).
رحل العظم، وحتى آخر لقاء به (2013)، لم يتراجع في نقد الفكر الملتبس، ورجالاته الذين مازالوا يراكمون الأفكار في إخضاع الدين للسياسة. أما الدين كعقيدة فلم يمسه العظم بسوء. أنشد القرضاوي في تلك المناظرة: «سارت مشرقةً وسرتُ مغرباً/ شتانِ بين مشرقٍ ومغربِ»(الصَّفدي، الوافي بالوفيات)، وهو بيتٌ أكثرَ الأولون مِن إنشاده ولم يُعرف قائله، لكنَّ الأحقَ بالشكوى من التّباعد هو ابن دمشق، فهو يريد إسلام الحرية لا الاستبداد الديني والمحاكمات على الظن والترصد!
* صادق جلال العَظم.. المحاكمة!
رشيد الخيون
جريدة الاتحاد