بين حافظ والرصافي: احتفلت الدوائر الأدبية في العراق بالذكرى الخامسة لوفاة شاعر العراق الكبير معروف الرصافي.
ومن الملابسات الأدبية الطريفة أن تقوم وجوه المشابهة بينه وبين شاعر النيل حافظ إبراهيم، وأن تقوم هذه الوجوه على التقارب في منابع الإلهام، والتشابه في منزع الشعر، والاتفاق في كثير من الآراء، ووجهات النظر، وأمور الحياة.
فقد عاش الشاعران أغلب حياتهما في أحضان العسر، وبين ظلال الاضطراب في أمور الدنيا، ولقيا صنوفاً من العذاب النفسي، والحرمان المادي؛ ففاضا شكوى مرّة من زمانهما الخؤون، وقومهما السادرين، الموغلين في بوادي الجهالة ونكران الفضل، وضياع الجميل.
مات والدا الشاعرين وهما لم يتجاوزا الرابعة، فاضطر حافظ إلى الانضواء تحت كنف خاله، يعينه على تدبير حياته، ويساعده على بناء مستقبله. ونزحت أمّ الرصافي إلى بغداد وبين يديها طفلها، تحاول أن تقف في مهب الرياح من العوز والإملاق.
وحياة الشاعرين في تلك الفترة قاسية أشد القسوة، عسيرة أعنف العسر، تركت في شعرهما تلك الظلال الحزينة، والنغمات الشاكية. وسرعان ما رأى حافظ حياته في بيت خاله مفعمة بالمرارة، لانصرافه عن الدرس والتحصيل وغيابه من البيت، وإقباله على الأدب تلك الملهاة المحرقة! فاضطر إلى الدخول في المدرسة الحربية على رغم ما فيها من شظف وجفاء وسوء إدارة، وتعرض بعد ذلك إلى كثير من الأساليب الاستعمارية الجافة. وكذلك اضطرت الأحوال المعاشية معروفاً إلى الدخول في المدرسة الحربية ببغداد، ولم يستطع المضي بها حتى النهاية، فتركها إلى النضال في سبيل وطنه العزيز، وشعبه المكبل بكبول العبودية والفوضى والاستغلال.
وظل الاثنان يكافحان المستعمر، ويعلنانها حرباً على النازلين عليهم بالقوة والجبروت، ويوجهان الجماهير الشعبية، ومواكب الحرية، إلى وجهة صحيحة، يلهبان النفوس بالحماس.. حتى إذا ما تحقق الأمل، وانقشعت الغيوم السوداء، لم يسكتا، فظل الاثنان في معركة مع الواقع الرازح تحت أعباءٍ من ذوي المنافع الخاصة، وتحت وطأةٍ من نكران الجميل.
ومن الطريف أن كلا الشاعرين وجد في حياته مَنْ يسنده في مضمار حياته المعنوية، ويقوم حياته، ويفزع إليه إن اشتد به الخطب، فاتصل حافظ بالإمام الشيخ محمد عبده ولجأ إليه في أزماته واضطراب أموره، واتصل الرصافي بالآلوسي فتزود منه زاده بالأدب والعلم القديم ومدّه بالقوة على مجابهة الحياة.
وهناك ما هو أكثر طرافة من ذلك، وهو تنازع حافظ وشوقي على الإمارة الشعرية، نعرف ذلك إذا نفذنا إلى أعماق حافظ، وسبرنا نفسه، وفي ذلك يقول الدكتور أحمد أمين بك: «ولعل حافظاً كان يرى في أعماق نفسه أن شوقي لم يفضله في شاعريته، وإنما فضله بقربه إلى القصر وأنه شاعر الأمير!». وكذلك نشأ هذا النزاع بين الزهاوي والرصافي في العراق، وحوادث تجافيهما ونزاعهما على الإمارة معروفة لكل من درس حياة الشاعرين العراقيين.
ومجال اتفاق حافظ مع الرصافي في الآراء ووجهات النظر فسيح واسع، كموقفهما من المرأة، وتأييدهما للأتراك في بادىء الأمر، ونضالهما ضد الأجانب، ومناداتهما بالوحدة العربية في كثير من الأحايين.
الواقعية في الأدب:
يقول جورج ديهاميل: «إن الواقع لا ينفد.. ولكن هذا لا يعني أنه سهل الإدراك!».
تلك حقيقة يجدر أن نلتفت إليها، فالواقع ليس ميسوراً لكل فهم، مبتذلاً لأي صاحب قلم. ذلك لأن الواقع غير تلك الصور الخارجية التي تطالعنا لأول وهلة، وتتراءى لنا في كل مكان، بل الواقع شيء أثمن من هذا وأعز منالاً. الواقع يحتاج إلى تجربة طويلة وإحساس عميق، ويحتاج إلى سبر الأغوار والنفاذ إلى الأعماق، ويحتاج إلى صبر ومعاناة للظفر بما هو فوق السطوح وخلف الظواهر من الأشياء. ومن هنا كان الواقع بالغ الصعوبة للذين يمرون بمحفتهم على حقل الحياة، سِراعاً لا يتريثون؛ يزيغهم اللون ولا يبهرهم الجوهر، ويوقفهم الجرم ولا يعرفون ما خلف الجرم. حتى إذا كتبوا لم يكتبوا إلا عن تلك الظواهر، ولم يقيسوا إلا بمقياس السطوح، فيأتي أدبهم كذباً وخداعاً، ويصبح عملهم بهرجة وطلاء، وينقلب الواقع بين أيديهم صوراً باهتة لا تدل على شيء، تتعهدها الألفاظ الجميلة، والتعابير المحنطة بالرعاية والتجميل، لتخرج إلى الملأ دمية براقة الألوان!
الفوتوغرافية في الأدب غير الواقعية فيه، فالأولى عمل العين المكلفة بتسجيل السطوح، والثانية ثمرة البصيرة الثاقبة المكلفة بالخلوص إلى الأعماق. الأولى سهلة الإدراك، ميسورة التناول، عديمة العناء، لا تقف على قدميها أمام تيار الزمن الجارف، ولا تعطرها نسمة من نسمات الخلود.. أما الثانية فعلى النقيض من ذلك، أدب المثابرة والممارسة الطويلة، والاستيعاب الشامل. ومثل هذا النوع من الأدب يمدّ الإنسانية بالقوة، ويشدّ أزرها في معركة المصير.
إن أغلب أدبنا العربي ـ اليوم ـ زَبَد يطوف على سطح حقائق الأشياء. فهو أدب القشور والظواهر المزيفة. ذلك لأن أغلب أدبائنا يصعب عليهم إدراك الواقع وهم يمرون سراعاً بحقل الحياة!
كتاب من العراق:
لو رأيت أحدهم لعرفت من هيئته ومظهره الخارجي أنه فنان! ولو ضمك مع أحدهم مجلس، وأنصت إلى حديثه، واطلعت على آرائه، وقرأ لك شيئاً من نتاجه، لما فاتك أن تدرك أن هذا الفنان متأثر بالغرب وأدبه وفنه تأثراً قوياً عميقاً.
كلهم ساخط متبرم، وكلهم مرهف الحس يعبد الحرية، وكلهم يتخذ تلك المذاهب الجديدة في الأدب والفن صورة لحريته المعبودة، ومنفذاً لنفسه المتبرمة، وعوناً له على تلك المتناقضات التي يراها في بيئته، فيتألم منها، ويضيق بها، ويسخط عليها أشد السخط؛ لأن حياتهم عبث تمضي إلى غير غاية، وملل يُذبل كل شوق، ولهذا فقد أطلقوا على أنفسهم (جماعة الوقت الضائع)! الوقت الضائع في قفار من الملل والوحدة والتفاهة المريرة!
هذه الجماعة التي نشأت في العراق تضم طبقة مستنيرة من الشباب العراقي، منهم الشاعر بلند الحيدري، والمثال جميل حمودي، والفنان إبراهيم اليتيّم، والقصصي نزار سليم الذي أريد أن أحدّث القارئ عن كتابه الجديد «أشياء تافهة».
وفي عنوان الكتاب ما يشعر بمذهب الجماعة في الأدب والحياة، ونظرتهم إلى الأشياء.
والكتاب مجموعة صغيرة من الأقاصيص تجمعها رابطة النظرة الموحدة، فالقارىء يحس عند نهاية كل قصة بتفاهة الحياة، فتمط شفتيك بازدراء وتبرم بتلك القوة الخفية ـ القدر ـ تلك التي تعبث بمصائر الناس من وراء حجاب!
هناك بعض القصاصين، حين يريدون أن يعبروا عن مثل هذه الأفكار، وحين يريدون أن يضعوا لقصصهم «فلسفة حياة» يلجأون إلى التهويل والمغالاة، ويفزعون إلى التضخيم لإبراز الصورة بإطار من القوة والجاذبية، في حين أن بإمكان هؤلاء أن يعبروا عن أفكارهم ببساطة، من غير تهويل ولا مغالاة إن أسعفتهم المقدرة الفنية التي تهيمن على القصة وتمدها بالحرارة والحياة.
مجلة «الثقافة» المصرية، 1950
رائد الرواية العراقية الحديثة
لم يكن الروائي العراقي (1927 ـ 1990) رائداً في تطوير موضوعات الرواية العراقية الحديثة، وتقنيات وفنون السرد وتحليل الشخصية وتوظيف المكان والزمان ومعطيات الحياة اليومية، فحسب؛ بل كانت منافحاً لا يكلّ، مخلصاً دائماً ومتشدداً أحياناً، في الدفاع عن مذهب واقعي حقيقي، وليس «فوتوغرافياً»، في فنون القصّ جميعها، وعلى رأسها الرواية. كانت التنظيرات الماركسية في هذا المضمار، خلال خمسينيات القرن الماضي، هي معينه الأبرز؛ خاصة وأنّ معرفته باللغة الروسية أتاحت له الاطلاع على نصوص عديدة، روسية وغربية، لم تكن مترجمة إلى العربية حينذاك. أما إقامته في مصر، التي قصدها للدراسة والعلاج، فقد أتاحت له الاقتراب من حلقات سلامة موسى الفكرية، ولقاءات نجيب محفوظ الأدبية؛ ومن هنا جاء نشاطه الصحفي في مجلة الثقافة المصرية، خلال الخمسينيات أيضاً.
التوغل في قيعان الحياة الشعبية العراقية هو السمة الكبرى في أعمال فرمان الروائية، وهو في هذا لا يبدأ البتة من التقاط السطح، أياً كانت مغرياته الكثيرة، بل يثابر على التنقيب في عمق بشري، معيشي وشعوري؛ لا يتنبه القارئ إلى ثرائه، وتركيب عناصره المعقدة، إلا بعد أن تتكامل تدريجياً صوره المتعددة والمتقاطعة. هذه حال روايته الرائدة «النخلة والجيران»، 1966، التي غاصت في خفايا المجتمع العراقي خلال المرحلة الأولى من الانتداب البريطاني، وشخّصت مشهداً تشريحياً اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً عريضاً، تتدافع في داخله حكايات الأفراد داخل حكايات الجماعة، وتتشظى فيه روح العراق كما أرواح رجاله ونسائه، في المستويات المادية مثل تلك الرمزية، وفي الواقعة الفعلية مثل التمثيلات الأسطورية.
أعمال فرمان الأخرى ضمّت :»خمسة أصوات»، «المخاض»، «القربان»، «ظلال على النافذة»، «آلام السيد معروف»، و»المرتجى والمؤجل». كذلك أغنى المكتبة العربية بترجمات رفيعة من الأدب الروسي، بينها أعمال تورجنيف وبوشكين، وقصص غوركي ودستويفسكي، فضلاً عن رواية تولستوي «القوزاق»، ورواية جنكيز إيتماتوف «المعلم الأول».
غائب طعمة فرمان
* عن
أدب واقع لا يسهل إدراكه
ومن الملابسات الأدبية الطريفة أن تقوم وجوه المشابهة بينه وبين شاعر النيل حافظ إبراهيم، وأن تقوم هذه الوجوه على التقارب في منابع الإلهام، والتشابه في منزع الشعر، والاتفاق في كثير من الآراء، ووجهات النظر، وأمور الحياة.
فقد عاش الشاعران أغلب حياتهما في أحضان العسر، وبين ظلال الاضطراب في أمور الدنيا، ولقيا صنوفاً من العذاب النفسي، والحرمان المادي؛ ففاضا شكوى مرّة من زمانهما الخؤون، وقومهما السادرين، الموغلين في بوادي الجهالة ونكران الفضل، وضياع الجميل.
مات والدا الشاعرين وهما لم يتجاوزا الرابعة، فاضطر حافظ إلى الانضواء تحت كنف خاله، يعينه على تدبير حياته، ويساعده على بناء مستقبله. ونزحت أمّ الرصافي إلى بغداد وبين يديها طفلها، تحاول أن تقف في مهب الرياح من العوز والإملاق.
وحياة الشاعرين في تلك الفترة قاسية أشد القسوة، عسيرة أعنف العسر، تركت في شعرهما تلك الظلال الحزينة، والنغمات الشاكية. وسرعان ما رأى حافظ حياته في بيت خاله مفعمة بالمرارة، لانصرافه عن الدرس والتحصيل وغيابه من البيت، وإقباله على الأدب تلك الملهاة المحرقة! فاضطر إلى الدخول في المدرسة الحربية على رغم ما فيها من شظف وجفاء وسوء إدارة، وتعرض بعد ذلك إلى كثير من الأساليب الاستعمارية الجافة. وكذلك اضطرت الأحوال المعاشية معروفاً إلى الدخول في المدرسة الحربية ببغداد، ولم يستطع المضي بها حتى النهاية، فتركها إلى النضال في سبيل وطنه العزيز، وشعبه المكبل بكبول العبودية والفوضى والاستغلال.
وظل الاثنان يكافحان المستعمر، ويعلنانها حرباً على النازلين عليهم بالقوة والجبروت، ويوجهان الجماهير الشعبية، ومواكب الحرية، إلى وجهة صحيحة، يلهبان النفوس بالحماس.. حتى إذا ما تحقق الأمل، وانقشعت الغيوم السوداء، لم يسكتا، فظل الاثنان في معركة مع الواقع الرازح تحت أعباءٍ من ذوي المنافع الخاصة، وتحت وطأةٍ من نكران الجميل.
ومن الطريف أن كلا الشاعرين وجد في حياته مَنْ يسنده في مضمار حياته المعنوية، ويقوم حياته، ويفزع إليه إن اشتد به الخطب، فاتصل حافظ بالإمام الشيخ محمد عبده ولجأ إليه في أزماته واضطراب أموره، واتصل الرصافي بالآلوسي فتزود منه زاده بالأدب والعلم القديم ومدّه بالقوة على مجابهة الحياة.
وهناك ما هو أكثر طرافة من ذلك، وهو تنازع حافظ وشوقي على الإمارة الشعرية، نعرف ذلك إذا نفذنا إلى أعماق حافظ، وسبرنا نفسه، وفي ذلك يقول الدكتور أحمد أمين بك: «ولعل حافظاً كان يرى في أعماق نفسه أن شوقي لم يفضله في شاعريته، وإنما فضله بقربه إلى القصر وأنه شاعر الأمير!». وكذلك نشأ هذا النزاع بين الزهاوي والرصافي في العراق، وحوادث تجافيهما ونزاعهما على الإمارة معروفة لكل من درس حياة الشاعرين العراقيين.
ومجال اتفاق حافظ مع الرصافي في الآراء ووجهات النظر فسيح واسع، كموقفهما من المرأة، وتأييدهما للأتراك في بادىء الأمر، ونضالهما ضد الأجانب، ومناداتهما بالوحدة العربية في كثير من الأحايين.
الواقعية في الأدب:
يقول جورج ديهاميل: «إن الواقع لا ينفد.. ولكن هذا لا يعني أنه سهل الإدراك!».
تلك حقيقة يجدر أن نلتفت إليها، فالواقع ليس ميسوراً لكل فهم، مبتذلاً لأي صاحب قلم. ذلك لأن الواقع غير تلك الصور الخارجية التي تطالعنا لأول وهلة، وتتراءى لنا في كل مكان، بل الواقع شيء أثمن من هذا وأعز منالاً. الواقع يحتاج إلى تجربة طويلة وإحساس عميق، ويحتاج إلى سبر الأغوار والنفاذ إلى الأعماق، ويحتاج إلى صبر ومعاناة للظفر بما هو فوق السطوح وخلف الظواهر من الأشياء. ومن هنا كان الواقع بالغ الصعوبة للذين يمرون بمحفتهم على حقل الحياة، سِراعاً لا يتريثون؛ يزيغهم اللون ولا يبهرهم الجوهر، ويوقفهم الجرم ولا يعرفون ما خلف الجرم. حتى إذا كتبوا لم يكتبوا إلا عن تلك الظواهر، ولم يقيسوا إلا بمقياس السطوح، فيأتي أدبهم كذباً وخداعاً، ويصبح عملهم بهرجة وطلاء، وينقلب الواقع بين أيديهم صوراً باهتة لا تدل على شيء، تتعهدها الألفاظ الجميلة، والتعابير المحنطة بالرعاية والتجميل، لتخرج إلى الملأ دمية براقة الألوان!
الفوتوغرافية في الأدب غير الواقعية فيه، فالأولى عمل العين المكلفة بتسجيل السطوح، والثانية ثمرة البصيرة الثاقبة المكلفة بالخلوص إلى الأعماق. الأولى سهلة الإدراك، ميسورة التناول، عديمة العناء، لا تقف على قدميها أمام تيار الزمن الجارف، ولا تعطرها نسمة من نسمات الخلود.. أما الثانية فعلى النقيض من ذلك، أدب المثابرة والممارسة الطويلة، والاستيعاب الشامل. ومثل هذا النوع من الأدب يمدّ الإنسانية بالقوة، ويشدّ أزرها في معركة المصير.
إن أغلب أدبنا العربي ـ اليوم ـ زَبَد يطوف على سطح حقائق الأشياء. فهو أدب القشور والظواهر المزيفة. ذلك لأن أغلب أدبائنا يصعب عليهم إدراك الواقع وهم يمرون سراعاً بحقل الحياة!
كتاب من العراق:
لو رأيت أحدهم لعرفت من هيئته ومظهره الخارجي أنه فنان! ولو ضمك مع أحدهم مجلس، وأنصت إلى حديثه، واطلعت على آرائه، وقرأ لك شيئاً من نتاجه، لما فاتك أن تدرك أن هذا الفنان متأثر بالغرب وأدبه وفنه تأثراً قوياً عميقاً.
كلهم ساخط متبرم، وكلهم مرهف الحس يعبد الحرية، وكلهم يتخذ تلك المذاهب الجديدة في الأدب والفن صورة لحريته المعبودة، ومنفذاً لنفسه المتبرمة، وعوناً له على تلك المتناقضات التي يراها في بيئته، فيتألم منها، ويضيق بها، ويسخط عليها أشد السخط؛ لأن حياتهم عبث تمضي إلى غير غاية، وملل يُذبل كل شوق، ولهذا فقد أطلقوا على أنفسهم (جماعة الوقت الضائع)! الوقت الضائع في قفار من الملل والوحدة والتفاهة المريرة!
هذه الجماعة التي نشأت في العراق تضم طبقة مستنيرة من الشباب العراقي، منهم الشاعر بلند الحيدري، والمثال جميل حمودي، والفنان إبراهيم اليتيّم، والقصصي نزار سليم الذي أريد أن أحدّث القارئ عن كتابه الجديد «أشياء تافهة».
وفي عنوان الكتاب ما يشعر بمذهب الجماعة في الأدب والحياة، ونظرتهم إلى الأشياء.
والكتاب مجموعة صغيرة من الأقاصيص تجمعها رابطة النظرة الموحدة، فالقارىء يحس عند نهاية كل قصة بتفاهة الحياة، فتمط شفتيك بازدراء وتبرم بتلك القوة الخفية ـ القدر ـ تلك التي تعبث بمصائر الناس من وراء حجاب!
هناك بعض القصاصين، حين يريدون أن يعبروا عن مثل هذه الأفكار، وحين يريدون أن يضعوا لقصصهم «فلسفة حياة» يلجأون إلى التهويل والمغالاة، ويفزعون إلى التضخيم لإبراز الصورة بإطار من القوة والجاذبية، في حين أن بإمكان هؤلاء أن يعبروا عن أفكارهم ببساطة، من غير تهويل ولا مغالاة إن أسعفتهم المقدرة الفنية التي تهيمن على القصة وتمدها بالحرارة والحياة.
مجلة «الثقافة» المصرية، 1950
رائد الرواية العراقية الحديثة
لم يكن الروائي العراقي (1927 ـ 1990) رائداً في تطوير موضوعات الرواية العراقية الحديثة، وتقنيات وفنون السرد وتحليل الشخصية وتوظيف المكان والزمان ومعطيات الحياة اليومية، فحسب؛ بل كانت منافحاً لا يكلّ، مخلصاً دائماً ومتشدداً أحياناً، في الدفاع عن مذهب واقعي حقيقي، وليس «فوتوغرافياً»، في فنون القصّ جميعها، وعلى رأسها الرواية. كانت التنظيرات الماركسية في هذا المضمار، خلال خمسينيات القرن الماضي، هي معينه الأبرز؛ خاصة وأنّ معرفته باللغة الروسية أتاحت له الاطلاع على نصوص عديدة، روسية وغربية، لم تكن مترجمة إلى العربية حينذاك. أما إقامته في مصر، التي قصدها للدراسة والعلاج، فقد أتاحت له الاقتراب من حلقات سلامة موسى الفكرية، ولقاءات نجيب محفوظ الأدبية؛ ومن هنا جاء نشاطه الصحفي في مجلة الثقافة المصرية، خلال الخمسينيات أيضاً.
التوغل في قيعان الحياة الشعبية العراقية هو السمة الكبرى في أعمال فرمان الروائية، وهو في هذا لا يبدأ البتة من التقاط السطح، أياً كانت مغرياته الكثيرة، بل يثابر على التنقيب في عمق بشري، معيشي وشعوري؛ لا يتنبه القارئ إلى ثرائه، وتركيب عناصره المعقدة، إلا بعد أن تتكامل تدريجياً صوره المتعددة والمتقاطعة. هذه حال روايته الرائدة «النخلة والجيران»، 1966، التي غاصت في خفايا المجتمع العراقي خلال المرحلة الأولى من الانتداب البريطاني، وشخّصت مشهداً تشريحياً اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً عريضاً، تتدافع في داخله حكايات الأفراد داخل حكايات الجماعة، وتتشظى فيه روح العراق كما أرواح رجاله ونسائه، في المستويات المادية مثل تلك الرمزية، وفي الواقعة الفعلية مثل التمثيلات الأسطورية.
أعمال فرمان الأخرى ضمّت :»خمسة أصوات»، «المخاض»، «القربان»، «ظلال على النافذة»، «آلام السيد معروف»، و»المرتجى والمؤجل». كذلك أغنى المكتبة العربية بترجمات رفيعة من الأدب الروسي، بينها أعمال تورجنيف وبوشكين، وقصص غوركي ودستويفسكي، فضلاً عن رواية تولستوي «القوزاق»، ورواية جنكيز إيتماتوف «المعلم الأول».
غائب طعمة فرمان
* عن
أدب واقع لا يسهل إدراكه