1 ـ ملاحظات تمهيدية
أفادنا اشتغالنا بأدب الرحلة عموماً، وبالرحلة في العالم العربي الإسلامي خصوصاً، أن الرحلة تنبئ عن صاحب الرحلة أكثر مما تخبر عن موضوع المشاهدة. ذلك أن الرحالة، إذ يجتهد في تصوير البلاد والمناظر التي يرتحل إليها ويطلب تحقق الإمتاع والمؤانسة بما ينقله إلى قارئه من غرائب وعجائب، فإنه في ذلك كله لا ينفك من الحديث عن الذات تصريحاً وتضميناً ولا يملك أن يخرج عن الإهاب الحضاري الذي يصدر عنه ولا أن يبتعد عن الثقافة التي ينتمي إليها. وبعبارة أخرى، فإن الرحالة يحمل معه، في سفره ومشاهداته، عالمه الذي ينتمي إليه. فهو حاضر وحضوره يقوى ويخفت بقدر ما يشعر بالغربة وبملاقاة الغريب عن أذواقه ولغته ودينه، وبالتالي فإن الحديث عن »الغريب والعجيب« يستدعي حضور »المألوف«، أي المعتاد عند الذات، شخصاً عينياً وثقافة وحضارة. وعلى سبيل المثال، أبانت لنا قراءتنا لأهم الرحلات وأغناها في ثقافتنا العربية الإسلامية، وهي رحلة ابن بطوطة، عن صدق هذه الفرضية. فلا يجد المتابع للرحالة المغربي أبلغ ولا أوفى من التدليل على صحة قولنا من المقاطع والفصول التي يضرب فيها صاحب الرحلة بعيداً، في أقصى بلاد الشرق الأقصى، أو يوغل، في الشطر الثاني من رحلته، في ارتياد القرى والغابات البعيدة في مناطق إفريقيا السوداء. بيد أنا لسنا إلى الحديث النسقي عن الرحلة ونظامها ونسقيتها نقصد، وإنما هي ملاحظة أولى تمهيدية وعامة نصدر بها قولنا لغرض عساه يستبين بعد قليل.
نود التمهيد بملاحظة ثانية، تمهيدية وعامة أيضاً، وهي أن قراءة متن الرحلة العربية الإسلامية تكشف لنا عن وجود أصناف وأنواع من الرحلات في حقيقة الأمر. ونحن نذكر أن أحد الباحثين النابهين، ممن كان لهم اشتغال بالرحلة في الثقافة العربة الإسلامية وإسهام في نفض الغبار عن بعض النصوص الهامة التي تكاد تنسى، يحصي خمسة عشر صنفاً من أصناف الرحلة([1]). فقد تكون الرحلة في الإسلام بهدف استكمال المعرفة أو تنقيحها فهي رحلة علمية، فالرحالة ينشد مجالسة عالم أو الفوز بالإجازة العلمية منه. وقد تكون الرحلة متصلة بالحياة الروحية. وقد تكون الرحلة خلواً من الأمر معاً فهي تستهدف المتعة والسياحة، فهما الوجهة والمقصد. كما أنها تكون بهدف الحج وطلب الركن الخامس من أركان الإسلام في رحلة حجية، أو هي تكون بهدف القيام بسفارة أو المشاركة فيها كاتباً مدوناً أو مترجماً عن السفير فهي رحلة سفارية. ولعلها تكون نتفاً من هذا كله فهي رحلة عامة تجمع بين السياحة والمتعة والحج وطلب العلم وملاقاة أهل الزهد والورع.
ملاحظة تمهيدية، ثالثة وأخيرة، نود الإشارة إليها في إيجاز يقتضيه المقام وقد كان لنا بسط القول فيها في دراسة مفردة([2]). والملاحظة أو التنبيه هي أن أدب الرحلة في العالم العربي الإسلامي يستدعي القسمة أو التصنيف بحسب الحقب التاريخية الكبرى والفاعلة في تشكيل الثقافة العربية الإسلامية، وهذا أمر طبيعي بل إنه بَدَهِيّ. غير أن ما يتعين إبرازه على وجه أخص هو أن هنالك سمات قوية واضحة تتميز بها الرحلة في العالم العربي الإسلامي المعاصر، بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر وانتهاء بالخمسينيّات من القرن الماضي. عن هذه السمات نقول، باختصار وفي إيماء سريع، إنها صدى الرجّة التي أحدثها في الوجدان الثقافي الإسلامي العربي المعاصر الاتصال بالغرب الأوروبي واكتشاف المدنية المعاصرة. هذا ما يكشف عنه بوضوح الصنف من الرحلات الذي نقول عنه إنه صنف »الرحلة الأوروبية«، ونقصد به ما دونه رحالونا عن أوروبا في رحلاتهم إليها أمثال الطهطاوي والشدياق وبيرم وابن أبي الضياف والصفار والعمراوي والحجوي وآخرون غيرهم. وداخل هذه »الرحلة الأوروبية« يمكن التمييز، في ضوء النصوص المتوافرة لدينا، عن فروق نوعية ضئيلة حيناً وأكثر بروزاً وأهمية حيناً آخر، بين ما نجده عند الرحالين العرب المسلمين في بلدان المشرق العربي وبين ما نلمسه في كتابات إخوانهم من بلاد المغرب العربي.
2 ـ الرحلة الحجية في المغرب العربي
الرحلة »الحجية« (= نسبة إلى أداء فريضة الحج) أو الرحلة »الحجازية« (= نسبة إلى بلاد الحجاز، موطن الحرمين الشريفين) جنس من الرحلة، في التراث العربي الإسلامي، له في منطقة المغرب العربي مذاق خاص يرجع، أولاً، إلى بعد المسافة الفاصلة بين نقطة الانطلاق أو نقط الانطلاق: من مدينة طنجة، أو جنوب المغرب في الصحراء اجتيازاً للصحراء الجزائرية أو بعضها قبل الالتقاء مع الخط المتجه من شمالها، بمحاذاة البحر الأبيض المتوسط، صوب تونس فليبيا فجنوب مصر إلى منطقة عيذاب (قبل حفر قناة السويس)، ثم المرور بأرض فلسطين والاتجاه إلى مكة انطلاقاً من بيت المقدس عبر الطرق المعتادة. هذه المسافة الطويلة (فهي من أطول المسافات التي يقطعها المسافر متوجهاً إلى البيت العتيق) تحمل المسافر على ركوب البحر بعضاً أو كلاًّ. ويرجع، ثانياً، إلى امتزاج الرحلة الحجية، ضرورة، بغيرها من الأصناف الأخرى. ذلك أن السفر، بقدر ما تطول المدة وتتنوع المشاهد والمشاهدات وتتعدد وسائل السفر، يستدعي الحديث عن »الغريب والعجيب«، فليس الطريق كله أمان، وهو لا يخلو من مغامرات وشهر للسيف دفاعاً عن النفس من قطاع الطرق واللصوص بأصنافهم. وعادات القوم وأصناف الطعام وطرقه تتنوع وتختلف بقدر ما يكون التقدم في البلاد المجتازة وكذا طريق الاحتفال بالفرح والحزن معاً. لذلك كان الفقيه، أو مدون الرحلة، ينساق أحياناً وراء متعة الحكي وإخبار القارئ عن العجيب المدهش والغريب المثير للفزع أحياناً عديدة. وإذن فإن الرحلة، في مقاطع منها، تتحول إلى رحلة »سياحية«، مع اجتهاد صاحبها في استحضار مشاهد الحج والزيارة نقلاً عن المسافرين المتقدمين وحديثاً عما قرأه في الكتب والمدونات وإكثاراً من الخوض في موضوعات الفقه التي تتصل بالفريضة ومن مناظراته، أحياناً، مع الفقهاء في المساجد والمنتديات العلمية التي يجتازها في رحلته الطويلة (والمتوسط في الرحلة الحجية في العصور الوسطى سنة كاملة). ولعلي أذكر سبباً ثالثاً، قوياً، يكسب الرحلة المذاق الخاص الذي أتحدث عنه وهو أن الرحلة الحجية تحوي في طياتها رحلة علمية. ذلك أن صاحب الرحلة، وهو في الأغلب الأعم فقيه أو عالم من علماء الدين في مجال من مجالات الرواية والدراية، ينشد ملاقاة العالم الفلاني الذي سمع عنه في الزيتونة أو الأزهر أو القدس أو المسجد النبوي أو في مكة المكرمة وهو يلتمس منه »إجازة علمية« يرتفع بها قدره بين العلماء من أرض الوطن حين العودة إليه. وإنما كان علينا انتظار الأزمنة المعاصرة لنجد صاحب رحلة حجية من المغرب العربي يقول عن رحلته إنه قد جعل كتابه »مختصراً، مقتصراً فيه على بيان الواقع دون توسع في بحر المناسك وأحوال المواقع. فذاك ما قد أطال فيه السابقون وأكثر من تكرار ذكره الرحالة والمؤلفون«([3]). لقد كانت القاعدة العامة، في أدب الرحالة الحجية في المغرب العربي، هي ذكر المناسك والمواقع، وبالتالي التوسع في مجالي كل من الفقه والجغرافيا، مثلما كان التقليد المتبع هو »الترويح« على القارئ بذكر أخبار »الغريب والعجيب«، بل لم يكن الأمر يخلو، أحياناً كثيرة، من التأملات الروحانية بل والشطحات الصوفية ينوب عن صاحب الرحلة مروياته ومحفوظاته من الأشعار والحكايات التي يمتزج فيها التاريخ العيني بالخرافة وتتداخل فيها التواريخ والحقب، وبالتالي فهي تستحيل، فعلاً، إلى إخبار عن الأحوال النفسية للرحالة أكثر مما هي تخبر عن الحج والحجيج، مثلما هي تغدو متناً تتجاوز فيه أصناف الرحلات لتقترب من النعت العام الذي يقصده محمد الفاسي بقوله: »الرحلة العامة«.
3 ـ الحج في أدب الرحلة المغربية المعاصرة
لا يتسع لنا المقام للقول في أدب الرحلة المغربية المعاصرة، فنحن نستسمح القارئ الكريم بالرجوع إلى دراستنا التي أشرنا إليه أعلاه حيث عرضنا بالشرح والدليل([4]) لجملة الفوارق التي نرى أنها موجودة في أدب الرحلة في التراث العربي الإسلامي. وحيث يلزمنا، توطئة للحديث عن الرحلة المغربية المعاصرة إلى حيث تكون مناسك الحج والعمرة وزيارة الروضة الشريفة في ثاني الحرمين، ذكر الملامح الكبرى الجلية التي تميز في أدب الرحلة العربية الإسلامية بين العصور وبين الأمكنة نوجز فنقول، في جمل قليلة قصيرة، إن الرحلة في التراث العربي الإسلامي تشترك مع أدب الرحلة عموماً (من حيث إنه جنس أدبي له خصائص ذاتية، ومن حيث إنه خطاب له منطقه الذاتي وقوانينه التي تتصل بذلك المنطق). وهذا ما يبرر ـ على سبيل المثال ـ الدراسات المقارنة العديدة في الغرب الأوروبي بين رحلة ابن بطوطة ورحلات غيره من الرحالين الأوروبيين إلى الحجاز، والمشرق العربي، ومصر، ودول المغرب العربي، وإلى دول الشرق الأقصى وغيرها. فالمقارنة ممكنة، من جهة بنية الخطاب الرحَلي (= نسبة إلى الرحلة)، بين هذه النصوص جمعياً، وهنالك ثوابت تظل موجودة مع تعدد لغات الحديث واختلاف الأزمنة والأمكنة. والرحلة، في التراث العربي الإسلامي، لها مظاهر تنفرد بها فلا نكاد نجد لها نظائر في غيرها من رحلات الأمم والشعوب خارج دار الإسلام بالنظر إلى الوظائف المتعددة التي تقوم بها (السياحة، طلب العلم، الحج باعتباره فريضة ومناسك لا مجرد زيارة لأماكن مقدسة وآثار تاريخية). هذا من جهة. ثم نحن نجد تشريعاً للسفر وآدابه ولأحكام ممارسة الشعائر الدينية فيه (استدعاء القصر في الصلوات، تحلة الإفطار للصائم بل استحسانه، إلخ) لا نحسب أن له مثيلاً في أحكام الديانات الأخرى وتشريعاتها. والرحلة في التراث العربي الإسلامي، فضلاً عن تنوعها أنواعاً كثيرة (على نحو ما ألمحنا إليه في الهامش رقم 1)، تتباين بالنظر إلى تعدد العصور واختلاف الأزمنة. نعم، إن الانتساب إلى العصور القديمة، أو الانتماء إلى العصور الوسطى، أو الصدور عن الأزمنة الحديثة والمعاصرة له فعله في بني البشر جميعهم، فلاشك في ذلك، وللأمر انعكاساته، المباشرة أو غير المباشرة، على أدب الرحلة من حيث إنه جنس أدبي مثلما أن له صداه، القوي أو الضعيف، في بنية الخطاب الرحلي عموماً. غير أن هنالك، مع ذلك، سمات تكسب أدب الرحلة في التراث العربي الإسلامي المعاصر نفحة أو تلوينات خصوصية، بل نوعية، لا نجدها في أدب الرحلات عند المعاصرين في دول الغرب الأوروبي أو في البلاد الأخرى (مما أمكننا الوقوف عليه، على كل حال، في بعض نصوص الرحالين من دول أوروبا الوسطى وبعض مناطق من الشرق الأقصى). هذه السمات هي ما نستسمح قارئنا الكريم بالتعريج عليه في فقرة قصيرة مفردة.
لا غرو أن في أحاديث الرحالين العرب المعاصرين (المسلمين وغير المسلمين على السواء) أسى وشجى لا يتحرج أصحاب الرحلات من إظهاره ولا يرون أنه مما يجب إخفاؤه وتغييبه، لا بل إنهم يجتهدون في تسليط الأضواء عليه ودعوة القارئ، بإلحاح شديد، إلى مشاركتهم فيه. أسى وشجن يتجاوز الذات ويعدوها إلى الحضارة التي يكون انتساب صاحب الرحلة إليها وإلى الأمة لا ينفك الرحالة من الانتماء إليها. وأسى وشجى مصدرهما معاينة الفارق البين بين ما عليه أوروبا من التقدم الهائل في ميادين العلم والمعرفة والمعمار والنظم الاجتماعية والسياسية، وفي تنظيمات الجيش والإدارة، والقضاء… وبين واقع التخلف عن تلك الأمور كلها عند بني جلدته من العرب في دار الإسلام. أسى وشجـى يذكيهما اكتشاف تأخر آخر مؤلم، هو التخلف عما كان عليه حال الإسلام وأصله في العصور الزاهية للحضارة العربية الإسلامية. وإلى هذا كله ينضاف سبب قوي، يكفي وحده لإثارة الحزن والألم في النفوس، وهو أن هذا »الغرب الأوروبي« الذي يأتي اكتشافه بعد عقود بل وربما قرون من الركود والانحطاط هو غرب غازٍ متسلط والأرض العربية الإسلامية أفق لاستعماره ومجال لمكائده ودسائسه. أسى وشجن يلحظهما قارئ رفاعة الطهطاوي وكل اللاحقين عليه في شرق العالم العربي وغربه (والإشارة تقدمت إلى بعضهم أيضاً)، لا بل إن خلف الأسى والشجن ولربما رفيقاً محايثاً لهما عقل ينظر محللاً ومقارناً، وذهن متوقد يتساءل عن أسباب تأخر بني قومه وأسباب تقدم غيرهم في الغرب الأوروبي القوي والمستعمر. نعم، عند قراءتنا لنصوص رحالينا العرب المعاصرين، منذ منتصف القرن التاسع عشر، نجد مع ما ندعوه »التعاقد الضمني« بين صاحب الرحلة وبين قارئه، تعاقداً أو عقداً غير صريح، يلتزم الكاتب بموجبه الحديث عن »العجيب والغريب« وتمكين القارئ من أقصى قدر ممكن من »الإمتاع والمؤانسة« فيما هو يتابع صاحب الرحلة في بسط أطوار رحلته: مشقة وتعباً، متعة وفرحاً، حنيناً إلى الأصل والبلد والولد وتنعماً باكتشاف الجديد المثير اللذيذ. ولكن خلف »التعاقد« هذا، وبمعيته، بنود جديدة تنضاف إلى البنود المتقدمة »المعتادة«: إنها بـنــود تتصـل بالحفـر والاجتـهاد في تبين أسباب القوة والغلبة عند »الغـير« (= أوروبا) في مقابل مظاهر الضعف والتأخر في »الذات« (= العالم العربي الإسلامي). لهذه الأسباب كلها كان الرحالون العرب المعاصرون (مسلمون وغير مسلمين) رواداً في فكر »النهضة« أو »اليقظة« أو غيرهما من النعوت والأوصاف التي يتحدث بها مؤرخو الفكر العربي الإسلامي عن واقع »الانحطاط« و»التأخر« و»الضعف« في أرض الإسلام في مقابل »التقدم« و»التأخر« و»القوة« في أرض غيره. والحال أن في الإسلام ما يحمل على كل النعوت الإيجابية الأخيرة ويبعد عن الأوصاف الأولى المتقدمة.
كل هذه الأمور جعلت مؤلف الرحلة العربية الإسلامية رجلاً صاحب قضية يعلو حديثه عن حديث »الإمتاع والمؤانسة« وجعلت المفكر العربي الإسلامي (وقد كان في الأغلب الأعم فقيهاً في الدين عالماً بالشريعة وما اتصل بها) في »رحلته« داعية، يفحص وينقب ويقارن، وموجهاً يريد أن يؤثر (أو أن يسهم على الأقل) في ماجريات الأمور في البلد الذي ينتسب إليه.
في مساهمتنا المتواضعة هذه نريد أن نسهم في التأريخ لأدب الحج في المغرب العربي (على نحو ما طلبت منا اللجنة التنظيمية لهذه الندوة الطيبة، في هذا البلد المبارك، في هذه الأيام التي تضيء فيها نفوسنا بهذه النفحات الربانية)، ولا نريد لإسهامنا أن يتوخى سبيل الإحصاء والاستقصاء لمتن الرحلة الحجية في هذه المنطقة من العالم العربي الإسلامي، ففي إمكان القارئ الكريم أن يقف على ذلك عند غيرنا في دراسات متقدمة على عملنا، ولها ـ فضلاً عن فضيلة السبق ـ مزية الاستقراء الشامل ما يكاد يكون كذلك ([5])، بل نطلب التماس تقريب صورة هذه الرحلة من خلال نموذج تجتمع فيه صفات كثيرة قوية، وواضحة دالة.
4 ـ محمد الحجوي في رحلته الحجازية
ينتسب محمد ابن الحسن الحجوي الثعالبي (1874 ـ 1956 م) إلى تلك الطائفة من المفكرين النابهين في الفكر المغربي المعاصر. ونحسب أنه قد نال من الفقهاء المجتهدين المعاصرين شهرة واسعة بفضل كتابه “الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي”. فهذا الكتاب قد عرف انتشاراً وتداولاً كبيرين في أوساط العلماء في المغرب العربي ومصر والحجاز وطبع أكثر من مرة في المدينة المنورة. والكتاب، ولا جدال في ذلك، متميز بطريقة صاحبه في التأريخ لتاريخ التشريع الإسلامي وتطور الفقه الإسلامي وبنظراته في الاجتهاد وطرائقه وفي شرح التقاعس فيه في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. غير أن للرجل مؤلفات أخرى، عديدة، غير الكتاب المذكور لا يزال الكثير منها مخطوطاً غير منشور. ومؤلفات الحجوي تتنوع بين الفتاوى الغَزيرة المتصلة بالحياة المعاصرة وقبول التقنيات المعاصرة وكذا التجارة وأسبابها، وبين التقاييد التاريخية التي هي أشبه بالمذكرات والشهادات الحاسمة بالنظر إلى المناصب الرسمية التي كان الحجوي يشغلها وللمراحل التاريخية الحرجة في تاريخ المغرب المعاصر والتي كان شاهداً عليها حيناً وطرفاً فاعلاً أحياناً أخرى.
شغل الحجوي وظائف هامة في سلك الدولة المغربية كانت وزارة المعارف من بينها، وإن لم تكن أخطرها، وكان عضواً في مفاوضات دقيقة وفي لجان تتصل بقضايا التعليم والعدلية. كان هذا كله، بطبيعة الأمر، في سلك الحكومة المخزنية، تلك التي كانت بدورها ترزح تحت وطأة »الحماية الفرنسية«. وهذا الوضع جعل الرجل في أحوال من الصلة والتنقل بين »المخزن« وبين إدارة الحماية الفرنسية. ولعل أقل ما يوصف به وضع الفقيه الموظف المخزني السامي أنه كان على بينة من أحوال الدولة والإدارة في المغرب. وإذ كان الأمر كذلك، بالضرورة، فإن نظراته في الإصلاح والتغيير كانت محكمة بثقل الظروف والاطلاع على حقيقة ما تستطيعه الدولة وما كانت في الواقع عاجزة عنه. وإذن فقد كان للموقع في مراكز المسؤولية والإدارة العليا أثرهما القوي في نظرات الرجل الإصلاحية وفي مواقفه المختلفة.
بعد آخر ثالث، هام وحاسم، كان له فعله في تكييف آراء مؤلف “الفكر السامي” من الاقتصاد والتعليم، والمرأة، بل وفي توجيه الاجتهاد في الدين والتصدي لعمل الفتيا: انتساب محمد الحجوي إلى فئة التجار الكبار مساعداً لأبيه في التجارة بين مرسيليا ومانشستر وطنجة وفاس، وفي ممارسته لها ممارسة فعلية أكسبت خطبه في »مستقبل التجارة في المغرب«، »بالاقتصاد حياة البلاد«، »تعلم اللغات الأجنبية« وغيرها… أكسبتها مضامين لا تتوافر لمطلق الفقهاء ولمن اندرج في سلك الوظائف العليا في الدولة.
نحن إذن أمام شخصية ثلاثية الأبعاد: الفقيه المجتهد ـ الموظف المخزني السامي ـ التاجر المتمرس بالتجارة استيراداً وتصديراً وانتقالاً إلى البلاد المغايرة للوطن الأصلي في العادات والتقاليد، بلاد تنتمي إلى عوالم القوة والتقدم والنظم الحديثة في الإدارة والمال والتعليم، وفي نظام المجتمع وروابط العلاقة بين الفئات والطبقات الاجتماعية المكونة لذلك المجتمع والمحددة لروابط العلاقة فيه.
أمر آخر، وأخير، تجدر الإشارة إليه بالرحلة وأدبها وهو أن الحجوي كانت له تجارب بالكتابة في هذا الموضوع، تجارب ترقى إلى نهاية الحرب العالمية الأولى. فهو قد زار كلاًّ من فرنسا وبريطانيا غداة انتهاء الحرب ودوَّن الرحلة في نص جميل، غني ممتع، قمنا بنشره ملحقاً لكتابنا السالفة الإشارة إليه (“أوروبا في مرآة الرحلة”)، مثلما أنه ارتحل إلى إسبانيا في الثلاثينيّات وسجل رحلته في نص قصير غير منشور هو رحلته »الأندلسية«، فضلاً عن رحلات قصيرة، متعددة، إلى دول أوروبا الغربية أغلبها أوراق مبعثرة وملاحظات أولية أو تذكير بما سبق له القول فيه في “الرحلة الأوروبية”. وإذن فلم تكن مخطوطة “الرحلة الحجازية المصرية” التي نقترح الوقوف عندها رحلته الأولى ولا الوحيدة، وهذا من جهة أولى، مثلما أنها كانت، وهذا من جهة ثانية، حاملة لصدى آرائه في المجتمع، والإصلاح، وفي التقدم، وفي حالة العالم العربي الإسلامي مقارنة مع البلاد الغربية كما يراه، أو يرى البعض عنه في زمان الرحلة وهو موسم الحج للعام 1365 الذي يوافق أكتوبر 1946.
الآن وقد نبهنا إلى شخصية الرحالة ومكانة صاحبها من الدولة والمجتمع والفكر في المغرب المعاصر، يكون لنا أن نتصفح الرحلة ذاتها من خلال تقديم ملخص لها أولاً، ثم من جهة التنبيه على الجوانب التي يخالف بها الرجل معاصريه من أصحاب الرحلات الحجية المعاصرة في المغرب، وثالثاً من حيث وقفته عند ما يشكل ذروة الرحلة وهي الالتقاء بالدولة السعودية الفتية من جانب، وتأدية مناسك الحج من جانب آخر. كل هذا قبل الانتهاء إلى جملة الخلاصات التي نجد أن القارئ ينتهي إليها ضرورة.
قطع محمد الحجوي في رحلته الطريق نفسها التي اعتاد الحجاج المغاربة سلوكها. إلا أنه قطعها جوّاً، وكان تعداد السفر بالساعات. كان أول التوقف، بعد الانطلاق من الرباط، مدينة وهران، ثم الجزائر العاصمة. بعد ليلة كان التوجه إلى تونس: »وأقمنا بتونس لزيارة معاهدها العلمية، جامع الزيتونة وفروعه الأربعة التي بالعاصمة ولقينا جميع مشايخها وتلاميذها«. و للحجوي في تونس أصحاب ورفاق، وله بالمدينة وأهلها صلات هي نتيجة أسفاره العديدة إليها واتصاله بالجمعيات الكبرى فيها محاضراً ومستمعاً. ثم من تونس كان الارتحال إلى ليبيا في محطتين، طرابلس أولاً فابن غازي ثانياً، ومن هذه المدينة الأخيرة إلى القاهرة ليكون مجموع الساعات من الرباط إلى القاهرة، كما يسجل ذلك، 15 ساعة ونصف. ومشاهدات الحجوي في القاهرة وانطباعاته تستحق وقفة قصيرة نفسح الكلام فيها لصاحب الرحلة مكتفين باختيار العبارات الدالة والنقط التي استقطبت وعيه أكثر من غيرها.
باريز العروبة، فإنك ترى فيها جل ما هو موجود في عواصم أوروبا كباريز ولندن وبرلين ورومة وبروكسيل وغيرها من الأناقة والإتحاف في ظاهر الدور والإدارات والمعابد والمخازن، من كل ما يسمى الآن بالرقي والتقدم الظاهري وتصفيف الأبنية وتنجيدها وزخرفتها وإتحافها منها مما يبهج الناظر ويشرح الخاطر (…) مع اتساع الشوارع وتنظيمها وكل ما يقرب المسافات الشاسعة من أطومبيلات وحافلات وما إلى ذلك (…) فلهي أبهج العواصم وأحفل المدن الراقية وأجملها، وشعبها أهدأ الشعوب وأبعدها عن القساوة وفكرة الحرب (…) ولكن لم تبلغ مبلغ ما يوجد في العواصم الكبرى من الميطرو الذي اخترقوه تحت الأرض يختبئون فيه من صواعق الطائرات وقد توسعوا بالشغل فيها أسفل الأرض. لذلك يجد شوارعها مكتظة أكثر من باريز، ولا أراهم إلا مضطرين لجعل هذه الخنادق تحت الأرض عن قريب أو بعيد بحكم الضرورة واتقاء الزحام([6]).
لعل النص ينطق معبراً عن الفكر الثاقب عند الفقيه المغربي، ولعله من العجيب فعلاً أن نجد العالم الديني، التاجر، الموظف السامي في الحكومة المخزنية في المغرب، يتنبأ بإحداث ميطرو الأنفاق في القاهرة خمسين سنة قبل وقوعه معللاً لذلك »بحكم الضرورة«. ثم من مستدعيات الملاحظة إعجابه بالقاهرة »باريز العروبة« والقدرة (دون حرج أو شعور بالنقص تجاه أوروبا القوة والتقدم والتي يعرفها معرفة لا تخلو من جودة) على جعلها في معرض الحديث والمقارنة مع العواصم الغربية الكبرى (باريز، برلين، لندن، بروكسيل)! وأخيراً مما يكشف لمؤرخ الفكر العربي الإسلامي المعاصر، عن ثراء الفكر التحديثي عند الفقيه المغربي أن نرى عبارات الإعجاب الشديد وألفاظ المديح العالي التي يتحدث بها خريج القرويين عن الجامعة المصرية:
معهد المعاهد ومعجزة المفاخر جامعة فؤاد التي أسست منذ نحو عشرين سنة فقط (…) وزد على ذلك ما احتفّ بهذه الجامعة من كليات للعلم والأدب وما هو منبت في شوارع العاصمة من كليات كثيرة منها ما هو منتسب للأزهر ككلية الشريعة (…) ومنها ما هو مضاف للجامعة وبلصقها ككلية الآداب وكلية الحقوق (…) وهم وإن بنوا على ما أسسه من قبلهم في الأزهر ومضافاتها وغيرها من المعاهد، لكن ما شيدوه وزادوه أنسى ما عمله من قبلهم بكثرته وإتقانه وهو لا يقل عما أسسته أوروبا في عواصمها، بل يفوق الكثير منه في هذه المدة القصيرة ([7]).
وخلاصة الإعجاب عنده وخاتمة القول أرض الكنانة: »فرضى الله عن مصر وعن رجالها الأفذاذ الذين تلطفوا حتى أخرجوها من جحر الإنجليز وانتزعوا من يده الفولاذية ميزانية بلادهم وبرهنوا على أنهم سياسيون أكفاء نزهاء وطنيون حقيقة لا مجازاً«.
قد يجب القول، اختصاراً وإجمالاً للقول، إن الحجوي، في باقي رحلته (الشطر الحجازي والأهم فيها، أي ما هو موضوعها والغاية منها: أداء فريضة الحج) يختلف عن معاصريه من أصحاب الرحلات مخالفة تامة. فإشاراته إلى كيفية الاعتمار ثم الحج إشارات عملية مختصرة تفترض المخاطب عالماً مطلعاً على أحكام الحج. إنه، على سبيل المثال، يخالف محمد المختار الولاتي صاحب الرحلة الحجازية الشهير عند المغاربة مخالفة تامة في الحديث عن تفاصيل العمرة والحج والخوض في دقائقها خوضاً جعله يفرد لها قسماً (هو القسم الرابع) من خمسين فصلاً، فهو نوع من دليل الحج والعمرة كما يقول محمد حجي، محقق الرحلة: »وما أحرى هذا القسم من الرحلة أن يطبع على حدة كدليل للحج السني«([8]). وهو عود إلى المعتاد عند أصحاب الرحلات الحجية من حيث التعريج على مناظرات كلامية مع محاورين فعليين أو متوهمين وهو اجتهاد وردود فقهية على فقهاء وعامة شافههم أو كاتبوه في مسألة تتصل بأحكام الحج أو العمرة أو آداب الزيارة. مثلما أنه يغاير ما سلكه ماء العينين بن العتيق في رحلته الحجية (في الثلاثينيات) من الجنوح إلى الإغراق في الوجد الروحاني في الحديث عن المسالك التي قطعها ركبه من جده إلى مكة فالمدينة المنورة ([9]). وعندي أن ما تتميز به الرحلة الحجازية لمحمد بن الحسن الحجوي هو على وجه التحديد ما يعكس شخصيته على النوع الذي حاولنا تقريبها به من القارئ: رجل الدولة المسؤول، الفقيه ـ التاجر، المهموم بقضايا التحديث والتغيير. هذه الصفات هي ما يكسب ملاحظاته عن الحجاز، في كنف الدولة السعودية الفتية، تمايزاً وفرادة. وإنه من المفيد لمؤرخ هذه الدولة أن يتبين الكيفية التي ترتسم بها صورتها في الوعي العربي الإسلامي المعاصر، والصورة التي يحفظها الزائر ـ الحاج، رجل الدولة القادم من المغرب العربي، لمؤسس تلك الدولة ورمزها: الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود.
أول ملامح الصورة هي كرم الوفادة »وفي صبحة الثلاثاء (= غداة الوصول إلى جدة) قدم لنا السلطان ابن سعود سيارة خاصة جديدة من أفخر وأفخم الأنواع. فامتطيناها جميعاً إلى مكة المشرفة، ولم تمض ساعة إلا ونحن بحرم الله المعظم وما نزلنا إلا بباب السلام«.
ثاني ملامح الصورة، أو بالأحرى سماتها العامة، تنكشف في اللقاء الرسمي:
ولما قابلنا، وقف على قدميه وتقدم بخطوات إلى مصافحتنا فصافحناه كما يجب، فأجلسني على كرسي يمينه مثل الكرسي الذي هو جالس عليه وأجلس النجلين عن يساره (…) وسألني عن ولَدَيَّ فعرفته بكل منهما اسماً وعلماً وعملاً وأبلغته سلام سيدنا السلطان المؤيد بالله ودعاءه الصالح له ولأنجاله وقدمت له هدية منه فقبلها أحسن قبول وأظهر فرحه بها وتقديره إياها وسألني عن أحوال جلالته ومملكته الكريمة وبالغ في السؤال والدعاء لجلالته. وسألني كيف كان سفري وراحتي (…) وسأل النجلين عن عملهما وحالتهما، وكل حالته وحركاته وكلامه دال على فضل الرجل ومنزلته واعتنائه بالعلم والعلماء ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووه. واستدعانا للعشاء عنده ليلاً والحضور معه في غسل الكعبة من غده([10]).
ثالث ملامح الصورة تتضح في الخطبة التي خطبها داخل الكعبة يوم غسلها منها حضه ملوك العرب ورؤساءهم على نصرة عرب فلسطين، ووصيته لجميع المسلمين أن »لا يعلموا أولادهم الثقافة الأوروبية الإفرنجية«؛ كما أثار انتباه الحجوي كبر سنه: »بعد هذا الخطاب ودعنا وهبط من الكعبة وركب عجلة صغيرة طاف عليها لكبر سنه وعجزه عن الطواف على القدم، لأنه بلغ من الكبر عتيّاً«.
رابع ملامح الصورة يستمده الحجوي استقراء من حديث من حدثه عنه من »من هم مطلعون على أحواله (…)«
سألت عن معلومات الأمير ابن السعود المذكور فقال: إن معلوماته عربية فقط. فقد درس رسالة لهم في فقه عبادة الحنابلة وأخرى في التوحيد على مذهب الوهابية. ولكن له ذكاء متوقد، وحافظة جيدة، وطوية إسلامية، وشهامة عربية، وله مع ذلك حظ قوي في تسيير مملكته والظفر بأعدائه. ولكن إذا ظفِر، حَلِم وعفا حتى صار أعداؤه أحباباً له.
خامس ملامح الصورة هو ما لمسه الحاج ـ صاحب الرحلة، الموظف المغربي السامي ـ من إنجازات فعلية أولها وأشدها خطورة هو استتباب الأمن. وفي الذاكرة الإسلامية صور مرعبة لقطاع الطرق والحرابة داخل أرض الحجاز، في الطريق بين مكة والمدينة.
وبالجملة، أهم ما تراه في الحجاز انتشار الأمن بسبب ضبط الأحكام وصرامتها المهولة. فإن الحجاز كان في أيام الترك والحسينيين وكْر السراق والنهاب وقطاع الطريق. وبوجود ابن سعود، أطال الله عمره، أباد هذا النوع من البشر الذي كان ضد الحجاج وضد البشرية؛ فأقام الحدود الشرعية بقطع يد كل سارق كيفما كان. وما قطع منها إلا نحو العشرة، فلم يبق منهم واحد. وقتل قطاع الطرق واللصوص حتى لم يبق منهم واحد، فأمنت البلاد وأقبلوا على التجارة والاكتساب.
وثاني ما لمسه الفقيه ـ الموظف المغربي المسؤول ـ هو الاعتناء الشديد بالنظافة. فمع أن الحجيج قد فاق المائتين وخمسين ألفاً، »ومع ذلك، ما كنا نرى في المسجد الحرام الذي يحمل باكتظاظ قسماً مهماً من هذا العدد صباحاً ومساءً وليلاً شيئاً ما من فضلات هذا العدد ولا بالطرق المتصلة به ولا بأبعد منه لا في ليل ولا في نهار كأن الجان ينقل فضلاتهم… «([11]).
أما الدولة السعودية ذاتها، أجهزة ومالية وإدارة، فلم تكن عين الحجوي كليلة عن رؤية ما كان يعده نقصاً يشينها. ويمكن القول إن الأبعاد الثلاثة في شخصية صاحب الرحلة (الفقيه، الموظف السامي، التاجر) تجد، جميعها، مرتعاً خصباً لانتقادها وتسجيلها لجوانب الضعف والتقصير. فالفقيه يلاحظ أن:
الحالة العلمية في الحجاز والحرمين الشريفين مما يدخل الكدر على كل غيور على مواطن الوحي والدين، وهما النقطتان اللتان ابتدأ منهما انتشار العلوم الإسلامية والآداب الدينية (…) فكل من الحرمين الشريفين خال من دروس العلم الديني والدنيوي؛ فما رأيت في مسجد مكة والمدينة دروساً علمية أو تهذيبية ([12]).
والموظف المسؤول يرى أنه وإن كانت »مالية الحجاز الآن مالية عريضة من المداخيل الوطنية كعشور المراسي والحدود (…) ومن دخل البطرول والليسانص وهي ثروة عظيمة (…) كذلك حظه من الذهب…«، إلا أنه »لا يوجد في الحجاز طرق منظمة إلا ما كان من طريق صناعية نحو 710 كيلومطراً ما بين جدة ومكة المشرفة«. وتبرير ذلك عند الحجوي انعدام »مالية منظمة كما ينبغي وكما يجب لتضبط الداخل والخارج لعدم الرجال الأكفاء المثقفين الماليين الذين يحوطونه من التلاعب والعبث«. ولعل من نتائج ذلك الاضطراب في ضبط مالية الدولة ما سمع الحجوي عنه من اضطراب في صرف رواتب الموظفين في أوقاتها المعلومة، وخاصة المدرسين منهم.
والتاجر المتمرس بشؤون التجارة العليا المطلع على أمور وإدارة الدولة يلاحظ وجود تفاوت بين حقيقة الغنى، لغنى مصادر المال وتنوعها في الدولة السعودية، وبين واقع الأمر من جهة العملة الرائجة فهي تعادل نصف ما تحتمله. »ولذلك انتشر غلاء مفرط في المملكة كلها؛ فهي من أغلى البلاد، وهي من أغنى البلاد أيضاً ومن أفقرها أيضاً«([13]).
على أن الحاج محمد بن الحسن الحجوي الفقيه، التاجر، الموظف لا يعدم تقديم اقتراحات و بالأحرى أماني، لعلها الأماني عينها التي كانت تراود الوافدين على بيت الله الحرام حجاجاً ومعتمرين. أخصها توسعة المسجد الحرام على نحو »يصير المسعى داخل المسجد الحرام الذي هو أحق بالتوسعة«. والحجوي يرى أن تساهم الأوقاف، في كل البلاد الإسلامية، بنصيب في ذلك « بقدر مداخيلها بعشرين في المائة من المدخول سنة واحدة، وإذا بقي شيء عجزت عنه الأحباس فيجمع بالاكتتاب«([14]). وهو يتمنى للأمة الإسلامية، فضلاً عن التوفيق في »توسيع مسجدها الحرام ومسعى طوافها«، أن يوفقها الله إلى »توسيع أفكارها بالعلوم والمعارف على اختلاف أنواعها، فلا اعتبار بأمة لا توسع أفكار شبابها بالعلم والتهذيب الأخلاقي«. وأما في الحديث عن توسعة الحرم المديني، فإن لهجته تعلو ونبرته تحتد: فالأمر عنده »إهمال للمدينة المنورة وتركها للخراب يركض فيها ويضعضع بناءها«.
ما نريد أن نخلص إليه، اختتاماً لحديثنا عن رحلة الحجوي الحجازية، أننا أمام حديث رجل تلتقي عنده هموم المسؤولية، مسؤولية الاشتراك في تسيير دواليب الدولة، فهي لا تفارقه في سفره معتمراً وحاجاً لبيت الله الحرام. مثلما أن هم التحديث، بالتعليم وتنقية العقول، يظل حاضراً بقوة في وجدانه وفي حديثه عن تجربة الدولة السعودية الفتية وملكها الباني عبد العزيز الذي يرى أن الفضل الأكبر يرجع إليه لاجتماع جملة من الخصائص السيكولوجية الإيجابية في شخصه والصفات التي تحقق القوة والنجاح لرجل الدولة العظيم وفي مقدمتها العدل مطلقاً. »فأما الأمن، ففي جميع مملكته بصرامته التي لا تقبل شفاعة ولا تعرف محسوبية«([15]). وقارئ “الرحلة الأوروبية” لمحمد الحجوي، والمطلع على أفكاره في الرقي والتحديث، والمستمع إلى محاضرته عن »النظام في الإسلام« يقدر القيمة العظمى التي يحتلها في فكر صاحب “الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي” مبدأ العدل والتسوية في تطبيق الأحكام واجتناب الضعف والتردد أمام »التشفع والمحسوبية«. ذلك ما صنع قوة أوروبا، وجعل دولها في طليعة دول المعمور، وذلك ما كان به الإسلام في قوته وهو ما يتوسم به الخير كله عند ابن السعود ويقدر لدولته مستقبلاً مزهراً.
خاتمة القول عندنا إن “الرحلة الحجية” (مع ما تطفح به من مضامين روحانية، فلا ينفك الرحالة منها: فهو في الحج في حال متصل من الصفاء الروحي ومن الجذب القوي) تنبؤنا عن صاحبها أكثر مما تخبرنا عن الأمكنة موضع المشاهدة. إنها تلقي أضواء كاشفة على شخصية الرحالة وفكره، وتبرز القضية المحورية التي يهب حياته للدفاع عنها وكذا القضايا التي تتفرع عنها. ورحلة محمد الحجوي تحديـداً تحمل ذلك كله، فهي إضاءة في معرفتنا بفكره حقاً ـ عالماً مجتهداً وموظفـاً مخزنيـاً مهموماً بقضايـا التحديث في المالية والإدارة والتعليم ـ ولكن لها مزية أخرى نذكرها مرة ثانية، على سبيل التكرار المفيد في المعرفة والفهم، وهي أنها تقدم للقارئ العربي المسلم لوحة وجدانية، صادقة بما تحمله من جوانب الإعجاب بشخصية الملك عبد العزيز آل سعود وبما لا تخفيه أيضاً من حديث النقد والملامة. وإذ تفعل ذلك، فهي تقدم لشعب المملكة العربية السعودية الصورة التي كانت ترتسم لهذه الدولة في الوجدان العربي الإسلامي عقوداً دون الثلاثة من تكونها والصورة الأخرى التي كان يتمنى أن تصبح لها. والحق أخيراً أن المملكة العربية السعودية اليوم، بالتوسعة الهائلة للحرمين الشريفين، وبالحرص الدائب على راحة ضيوف الرحمن ـ وهذه مسؤوليتها الدينية والروحية ـ، وأنها باتساع العمران والبناء فيها، وبالنقلة الكيفية التي تعيشها في ميادين التعليم والرعاية الاجتماعية وتثوير الاقتصاد الوطني… الحق أنها بلورة وترجمة للآمال التي كانت تعتمل في صدور رحالينا إلى الديار المقدسة.
مراجع
([1]) انظر مقدمة محمد الفاسي لنشرته المحققة لرحلة محمد بن عثمان المكناسي: الإكسير في فكاك الأسير، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، 1965، الرباط.
([2]) سعيد بنسعيد العلوي، أوروبا في مرآة الرحلة: صورة الآخر في أدب الرحلة المغربية المعاصرة، منشوارت كلية الآداب، جامعة محمد الخامس أكَدال، 1995.
([3]) أحمد بن محمد الصبيحي، الرحلة المغربية المكية، مخطوط في الخزانة العامة بالرباط، الورقة الأولى.
([4]) سعيد بنسعيد العلوي، أوروبا في مرآة الرحلة، مرجع مذكور، صص. 11 ـ 28.
([5]) انظر، على سبيل المثال، مقدمة محمد حجي في تحقيقه لـ”الرحلة الحجازية” لمحمد بن محمد المختار الولاتي (المتوفى سنة 1330 ـ 1912)، دار الغرب الإسلامي، 1990، بيروت.
([6]) محمد الحجوي، الرحلة الحجازية المصرية، مخطوط في الخزانة العامة بالرباطـ، الورقة الرابعة.
([7]) المرجع السابق، الورقة الرابعة.
([8]) محمد المختار الولاتي، الرحلة الحجازية (سبقت الإشارة إليه)، ص. 11.
([9]) ماء العينين بن العتيق، الرحلة المعينية، تحقيق محمد الظريف، مطبعة المعارف الجديدة بالرباط، الطبعة الأولى، 1998.
([10]) محمد الحجوي، الرحلة الحجازية، الورقة الثامنة.
([11]) المرجع نفسه، الأوراق، 9، 10، 11.
([12]) المرجع نفسه، الورقة 12.
([13]) المرجع نفسه، الورقة العاشرة.
([14]) المرجع نفسه، الورقة 15.
([15]) المرجع نفسه، الورقة 11.
مجلة “التاريخ العربي”
أفادنا اشتغالنا بأدب الرحلة عموماً، وبالرحلة في العالم العربي الإسلامي خصوصاً، أن الرحلة تنبئ عن صاحب الرحلة أكثر مما تخبر عن موضوع المشاهدة. ذلك أن الرحالة، إذ يجتهد في تصوير البلاد والمناظر التي يرتحل إليها ويطلب تحقق الإمتاع والمؤانسة بما ينقله إلى قارئه من غرائب وعجائب، فإنه في ذلك كله لا ينفك من الحديث عن الذات تصريحاً وتضميناً ولا يملك أن يخرج عن الإهاب الحضاري الذي يصدر عنه ولا أن يبتعد عن الثقافة التي ينتمي إليها. وبعبارة أخرى، فإن الرحالة يحمل معه، في سفره ومشاهداته، عالمه الذي ينتمي إليه. فهو حاضر وحضوره يقوى ويخفت بقدر ما يشعر بالغربة وبملاقاة الغريب عن أذواقه ولغته ودينه، وبالتالي فإن الحديث عن »الغريب والعجيب« يستدعي حضور »المألوف«، أي المعتاد عند الذات، شخصاً عينياً وثقافة وحضارة. وعلى سبيل المثال، أبانت لنا قراءتنا لأهم الرحلات وأغناها في ثقافتنا العربية الإسلامية، وهي رحلة ابن بطوطة، عن صدق هذه الفرضية. فلا يجد المتابع للرحالة المغربي أبلغ ولا أوفى من التدليل على صحة قولنا من المقاطع والفصول التي يضرب فيها صاحب الرحلة بعيداً، في أقصى بلاد الشرق الأقصى، أو يوغل، في الشطر الثاني من رحلته، في ارتياد القرى والغابات البعيدة في مناطق إفريقيا السوداء. بيد أنا لسنا إلى الحديث النسقي عن الرحلة ونظامها ونسقيتها نقصد، وإنما هي ملاحظة أولى تمهيدية وعامة نصدر بها قولنا لغرض عساه يستبين بعد قليل.
نود التمهيد بملاحظة ثانية، تمهيدية وعامة أيضاً، وهي أن قراءة متن الرحلة العربية الإسلامية تكشف لنا عن وجود أصناف وأنواع من الرحلات في حقيقة الأمر. ونحن نذكر أن أحد الباحثين النابهين، ممن كان لهم اشتغال بالرحلة في الثقافة العربة الإسلامية وإسهام في نفض الغبار عن بعض النصوص الهامة التي تكاد تنسى، يحصي خمسة عشر صنفاً من أصناف الرحلة([1]). فقد تكون الرحلة في الإسلام بهدف استكمال المعرفة أو تنقيحها فهي رحلة علمية، فالرحالة ينشد مجالسة عالم أو الفوز بالإجازة العلمية منه. وقد تكون الرحلة متصلة بالحياة الروحية. وقد تكون الرحلة خلواً من الأمر معاً فهي تستهدف المتعة والسياحة، فهما الوجهة والمقصد. كما أنها تكون بهدف الحج وطلب الركن الخامس من أركان الإسلام في رحلة حجية، أو هي تكون بهدف القيام بسفارة أو المشاركة فيها كاتباً مدوناً أو مترجماً عن السفير فهي رحلة سفارية. ولعلها تكون نتفاً من هذا كله فهي رحلة عامة تجمع بين السياحة والمتعة والحج وطلب العلم وملاقاة أهل الزهد والورع.
ملاحظة تمهيدية، ثالثة وأخيرة، نود الإشارة إليها في إيجاز يقتضيه المقام وقد كان لنا بسط القول فيها في دراسة مفردة([2]). والملاحظة أو التنبيه هي أن أدب الرحلة في العالم العربي الإسلامي يستدعي القسمة أو التصنيف بحسب الحقب التاريخية الكبرى والفاعلة في تشكيل الثقافة العربية الإسلامية، وهذا أمر طبيعي بل إنه بَدَهِيّ. غير أن ما يتعين إبرازه على وجه أخص هو أن هنالك سمات قوية واضحة تتميز بها الرحلة في العالم العربي الإسلامي المعاصر، بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر وانتهاء بالخمسينيّات من القرن الماضي. عن هذه السمات نقول، باختصار وفي إيماء سريع، إنها صدى الرجّة التي أحدثها في الوجدان الثقافي الإسلامي العربي المعاصر الاتصال بالغرب الأوروبي واكتشاف المدنية المعاصرة. هذا ما يكشف عنه بوضوح الصنف من الرحلات الذي نقول عنه إنه صنف »الرحلة الأوروبية«، ونقصد به ما دونه رحالونا عن أوروبا في رحلاتهم إليها أمثال الطهطاوي والشدياق وبيرم وابن أبي الضياف والصفار والعمراوي والحجوي وآخرون غيرهم. وداخل هذه »الرحلة الأوروبية« يمكن التمييز، في ضوء النصوص المتوافرة لدينا، عن فروق نوعية ضئيلة حيناً وأكثر بروزاً وأهمية حيناً آخر، بين ما نجده عند الرحالين العرب المسلمين في بلدان المشرق العربي وبين ما نلمسه في كتابات إخوانهم من بلاد المغرب العربي.
2 ـ الرحلة الحجية في المغرب العربي
الرحلة »الحجية« (= نسبة إلى أداء فريضة الحج) أو الرحلة »الحجازية« (= نسبة إلى بلاد الحجاز، موطن الحرمين الشريفين) جنس من الرحلة، في التراث العربي الإسلامي، له في منطقة المغرب العربي مذاق خاص يرجع، أولاً، إلى بعد المسافة الفاصلة بين نقطة الانطلاق أو نقط الانطلاق: من مدينة طنجة، أو جنوب المغرب في الصحراء اجتيازاً للصحراء الجزائرية أو بعضها قبل الالتقاء مع الخط المتجه من شمالها، بمحاذاة البحر الأبيض المتوسط، صوب تونس فليبيا فجنوب مصر إلى منطقة عيذاب (قبل حفر قناة السويس)، ثم المرور بأرض فلسطين والاتجاه إلى مكة انطلاقاً من بيت المقدس عبر الطرق المعتادة. هذه المسافة الطويلة (فهي من أطول المسافات التي يقطعها المسافر متوجهاً إلى البيت العتيق) تحمل المسافر على ركوب البحر بعضاً أو كلاًّ. ويرجع، ثانياً، إلى امتزاج الرحلة الحجية، ضرورة، بغيرها من الأصناف الأخرى. ذلك أن السفر، بقدر ما تطول المدة وتتنوع المشاهد والمشاهدات وتتعدد وسائل السفر، يستدعي الحديث عن »الغريب والعجيب«، فليس الطريق كله أمان، وهو لا يخلو من مغامرات وشهر للسيف دفاعاً عن النفس من قطاع الطرق واللصوص بأصنافهم. وعادات القوم وأصناف الطعام وطرقه تتنوع وتختلف بقدر ما يكون التقدم في البلاد المجتازة وكذا طريق الاحتفال بالفرح والحزن معاً. لذلك كان الفقيه، أو مدون الرحلة، ينساق أحياناً وراء متعة الحكي وإخبار القارئ عن العجيب المدهش والغريب المثير للفزع أحياناً عديدة. وإذن فإن الرحلة، في مقاطع منها، تتحول إلى رحلة »سياحية«، مع اجتهاد صاحبها في استحضار مشاهد الحج والزيارة نقلاً عن المسافرين المتقدمين وحديثاً عما قرأه في الكتب والمدونات وإكثاراً من الخوض في موضوعات الفقه التي تتصل بالفريضة ومن مناظراته، أحياناً، مع الفقهاء في المساجد والمنتديات العلمية التي يجتازها في رحلته الطويلة (والمتوسط في الرحلة الحجية في العصور الوسطى سنة كاملة). ولعلي أذكر سبباً ثالثاً، قوياً، يكسب الرحلة المذاق الخاص الذي أتحدث عنه وهو أن الرحلة الحجية تحوي في طياتها رحلة علمية. ذلك أن صاحب الرحلة، وهو في الأغلب الأعم فقيه أو عالم من علماء الدين في مجال من مجالات الرواية والدراية، ينشد ملاقاة العالم الفلاني الذي سمع عنه في الزيتونة أو الأزهر أو القدس أو المسجد النبوي أو في مكة المكرمة وهو يلتمس منه »إجازة علمية« يرتفع بها قدره بين العلماء من أرض الوطن حين العودة إليه. وإنما كان علينا انتظار الأزمنة المعاصرة لنجد صاحب رحلة حجية من المغرب العربي يقول عن رحلته إنه قد جعل كتابه »مختصراً، مقتصراً فيه على بيان الواقع دون توسع في بحر المناسك وأحوال المواقع. فذاك ما قد أطال فيه السابقون وأكثر من تكرار ذكره الرحالة والمؤلفون«([3]). لقد كانت القاعدة العامة، في أدب الرحالة الحجية في المغرب العربي، هي ذكر المناسك والمواقع، وبالتالي التوسع في مجالي كل من الفقه والجغرافيا، مثلما كان التقليد المتبع هو »الترويح« على القارئ بذكر أخبار »الغريب والعجيب«، بل لم يكن الأمر يخلو، أحياناً كثيرة، من التأملات الروحانية بل والشطحات الصوفية ينوب عن صاحب الرحلة مروياته ومحفوظاته من الأشعار والحكايات التي يمتزج فيها التاريخ العيني بالخرافة وتتداخل فيها التواريخ والحقب، وبالتالي فهي تستحيل، فعلاً، إلى إخبار عن الأحوال النفسية للرحالة أكثر مما هي تخبر عن الحج والحجيج، مثلما هي تغدو متناً تتجاوز فيه أصناف الرحلات لتقترب من النعت العام الذي يقصده محمد الفاسي بقوله: »الرحلة العامة«.
3 ـ الحج في أدب الرحلة المغربية المعاصرة
لا يتسع لنا المقام للقول في أدب الرحلة المغربية المعاصرة، فنحن نستسمح القارئ الكريم بالرجوع إلى دراستنا التي أشرنا إليه أعلاه حيث عرضنا بالشرح والدليل([4]) لجملة الفوارق التي نرى أنها موجودة في أدب الرحلة في التراث العربي الإسلامي. وحيث يلزمنا، توطئة للحديث عن الرحلة المغربية المعاصرة إلى حيث تكون مناسك الحج والعمرة وزيارة الروضة الشريفة في ثاني الحرمين، ذكر الملامح الكبرى الجلية التي تميز في أدب الرحلة العربية الإسلامية بين العصور وبين الأمكنة نوجز فنقول، في جمل قليلة قصيرة، إن الرحلة في التراث العربي الإسلامي تشترك مع أدب الرحلة عموماً (من حيث إنه جنس أدبي له خصائص ذاتية، ومن حيث إنه خطاب له منطقه الذاتي وقوانينه التي تتصل بذلك المنطق). وهذا ما يبرر ـ على سبيل المثال ـ الدراسات المقارنة العديدة في الغرب الأوروبي بين رحلة ابن بطوطة ورحلات غيره من الرحالين الأوروبيين إلى الحجاز، والمشرق العربي، ومصر، ودول المغرب العربي، وإلى دول الشرق الأقصى وغيرها. فالمقارنة ممكنة، من جهة بنية الخطاب الرحَلي (= نسبة إلى الرحلة)، بين هذه النصوص جمعياً، وهنالك ثوابت تظل موجودة مع تعدد لغات الحديث واختلاف الأزمنة والأمكنة. والرحلة، في التراث العربي الإسلامي، لها مظاهر تنفرد بها فلا نكاد نجد لها نظائر في غيرها من رحلات الأمم والشعوب خارج دار الإسلام بالنظر إلى الوظائف المتعددة التي تقوم بها (السياحة، طلب العلم، الحج باعتباره فريضة ومناسك لا مجرد زيارة لأماكن مقدسة وآثار تاريخية). هذا من جهة. ثم نحن نجد تشريعاً للسفر وآدابه ولأحكام ممارسة الشعائر الدينية فيه (استدعاء القصر في الصلوات، تحلة الإفطار للصائم بل استحسانه، إلخ) لا نحسب أن له مثيلاً في أحكام الديانات الأخرى وتشريعاتها. والرحلة في التراث العربي الإسلامي، فضلاً عن تنوعها أنواعاً كثيرة (على نحو ما ألمحنا إليه في الهامش رقم 1)، تتباين بالنظر إلى تعدد العصور واختلاف الأزمنة. نعم، إن الانتساب إلى العصور القديمة، أو الانتماء إلى العصور الوسطى، أو الصدور عن الأزمنة الحديثة والمعاصرة له فعله في بني البشر جميعهم، فلاشك في ذلك، وللأمر انعكاساته، المباشرة أو غير المباشرة، على أدب الرحلة من حيث إنه جنس أدبي مثلما أن له صداه، القوي أو الضعيف، في بنية الخطاب الرحلي عموماً. غير أن هنالك، مع ذلك، سمات تكسب أدب الرحلة في التراث العربي الإسلامي المعاصر نفحة أو تلوينات خصوصية، بل نوعية، لا نجدها في أدب الرحلات عند المعاصرين في دول الغرب الأوروبي أو في البلاد الأخرى (مما أمكننا الوقوف عليه، على كل حال، في بعض نصوص الرحالين من دول أوروبا الوسطى وبعض مناطق من الشرق الأقصى). هذه السمات هي ما نستسمح قارئنا الكريم بالتعريج عليه في فقرة قصيرة مفردة.
لا غرو أن في أحاديث الرحالين العرب المعاصرين (المسلمين وغير المسلمين على السواء) أسى وشجى لا يتحرج أصحاب الرحلات من إظهاره ولا يرون أنه مما يجب إخفاؤه وتغييبه، لا بل إنهم يجتهدون في تسليط الأضواء عليه ودعوة القارئ، بإلحاح شديد، إلى مشاركتهم فيه. أسى وشجن يتجاوز الذات ويعدوها إلى الحضارة التي يكون انتساب صاحب الرحلة إليها وإلى الأمة لا ينفك الرحالة من الانتماء إليها. وأسى وشجى مصدرهما معاينة الفارق البين بين ما عليه أوروبا من التقدم الهائل في ميادين العلم والمعرفة والمعمار والنظم الاجتماعية والسياسية، وفي تنظيمات الجيش والإدارة، والقضاء… وبين واقع التخلف عن تلك الأمور كلها عند بني جلدته من العرب في دار الإسلام. أسى وشجـى يذكيهما اكتشاف تأخر آخر مؤلم، هو التخلف عما كان عليه حال الإسلام وأصله في العصور الزاهية للحضارة العربية الإسلامية. وإلى هذا كله ينضاف سبب قوي، يكفي وحده لإثارة الحزن والألم في النفوس، وهو أن هذا »الغرب الأوروبي« الذي يأتي اكتشافه بعد عقود بل وربما قرون من الركود والانحطاط هو غرب غازٍ متسلط والأرض العربية الإسلامية أفق لاستعماره ومجال لمكائده ودسائسه. أسى وشجن يلحظهما قارئ رفاعة الطهطاوي وكل اللاحقين عليه في شرق العالم العربي وغربه (والإشارة تقدمت إلى بعضهم أيضاً)، لا بل إن خلف الأسى والشجن ولربما رفيقاً محايثاً لهما عقل ينظر محللاً ومقارناً، وذهن متوقد يتساءل عن أسباب تأخر بني قومه وأسباب تقدم غيرهم في الغرب الأوروبي القوي والمستعمر. نعم، عند قراءتنا لنصوص رحالينا العرب المعاصرين، منذ منتصف القرن التاسع عشر، نجد مع ما ندعوه »التعاقد الضمني« بين صاحب الرحلة وبين قارئه، تعاقداً أو عقداً غير صريح، يلتزم الكاتب بموجبه الحديث عن »العجيب والغريب« وتمكين القارئ من أقصى قدر ممكن من »الإمتاع والمؤانسة« فيما هو يتابع صاحب الرحلة في بسط أطوار رحلته: مشقة وتعباً، متعة وفرحاً، حنيناً إلى الأصل والبلد والولد وتنعماً باكتشاف الجديد المثير اللذيذ. ولكن خلف »التعاقد« هذا، وبمعيته، بنود جديدة تنضاف إلى البنود المتقدمة »المعتادة«: إنها بـنــود تتصـل بالحفـر والاجتـهاد في تبين أسباب القوة والغلبة عند »الغـير« (= أوروبا) في مقابل مظاهر الضعف والتأخر في »الذات« (= العالم العربي الإسلامي). لهذه الأسباب كلها كان الرحالون العرب المعاصرون (مسلمون وغير مسلمين) رواداً في فكر »النهضة« أو »اليقظة« أو غيرهما من النعوت والأوصاف التي يتحدث بها مؤرخو الفكر العربي الإسلامي عن واقع »الانحطاط« و»التأخر« و»الضعف« في أرض الإسلام في مقابل »التقدم« و»التأخر« و»القوة« في أرض غيره. والحال أن في الإسلام ما يحمل على كل النعوت الإيجابية الأخيرة ويبعد عن الأوصاف الأولى المتقدمة.
كل هذه الأمور جعلت مؤلف الرحلة العربية الإسلامية رجلاً صاحب قضية يعلو حديثه عن حديث »الإمتاع والمؤانسة« وجعلت المفكر العربي الإسلامي (وقد كان في الأغلب الأعم فقيهاً في الدين عالماً بالشريعة وما اتصل بها) في »رحلته« داعية، يفحص وينقب ويقارن، وموجهاً يريد أن يؤثر (أو أن يسهم على الأقل) في ماجريات الأمور في البلد الذي ينتسب إليه.
في مساهمتنا المتواضعة هذه نريد أن نسهم في التأريخ لأدب الحج في المغرب العربي (على نحو ما طلبت منا اللجنة التنظيمية لهذه الندوة الطيبة، في هذا البلد المبارك، في هذه الأيام التي تضيء فيها نفوسنا بهذه النفحات الربانية)، ولا نريد لإسهامنا أن يتوخى سبيل الإحصاء والاستقصاء لمتن الرحلة الحجية في هذه المنطقة من العالم العربي الإسلامي، ففي إمكان القارئ الكريم أن يقف على ذلك عند غيرنا في دراسات متقدمة على عملنا، ولها ـ فضلاً عن فضيلة السبق ـ مزية الاستقراء الشامل ما يكاد يكون كذلك ([5])، بل نطلب التماس تقريب صورة هذه الرحلة من خلال نموذج تجتمع فيه صفات كثيرة قوية، وواضحة دالة.
4 ـ محمد الحجوي في رحلته الحجازية
ينتسب محمد ابن الحسن الحجوي الثعالبي (1874 ـ 1956 م) إلى تلك الطائفة من المفكرين النابهين في الفكر المغربي المعاصر. ونحسب أنه قد نال من الفقهاء المجتهدين المعاصرين شهرة واسعة بفضل كتابه “الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي”. فهذا الكتاب قد عرف انتشاراً وتداولاً كبيرين في أوساط العلماء في المغرب العربي ومصر والحجاز وطبع أكثر من مرة في المدينة المنورة. والكتاب، ولا جدال في ذلك، متميز بطريقة صاحبه في التأريخ لتاريخ التشريع الإسلامي وتطور الفقه الإسلامي وبنظراته في الاجتهاد وطرائقه وفي شرح التقاعس فيه في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. غير أن للرجل مؤلفات أخرى، عديدة، غير الكتاب المذكور لا يزال الكثير منها مخطوطاً غير منشور. ومؤلفات الحجوي تتنوع بين الفتاوى الغَزيرة المتصلة بالحياة المعاصرة وقبول التقنيات المعاصرة وكذا التجارة وأسبابها، وبين التقاييد التاريخية التي هي أشبه بالمذكرات والشهادات الحاسمة بالنظر إلى المناصب الرسمية التي كان الحجوي يشغلها وللمراحل التاريخية الحرجة في تاريخ المغرب المعاصر والتي كان شاهداً عليها حيناً وطرفاً فاعلاً أحياناً أخرى.
شغل الحجوي وظائف هامة في سلك الدولة المغربية كانت وزارة المعارف من بينها، وإن لم تكن أخطرها، وكان عضواً في مفاوضات دقيقة وفي لجان تتصل بقضايا التعليم والعدلية. كان هذا كله، بطبيعة الأمر، في سلك الحكومة المخزنية، تلك التي كانت بدورها ترزح تحت وطأة »الحماية الفرنسية«. وهذا الوضع جعل الرجل في أحوال من الصلة والتنقل بين »المخزن« وبين إدارة الحماية الفرنسية. ولعل أقل ما يوصف به وضع الفقيه الموظف المخزني السامي أنه كان على بينة من أحوال الدولة والإدارة في المغرب. وإذ كان الأمر كذلك، بالضرورة، فإن نظراته في الإصلاح والتغيير كانت محكمة بثقل الظروف والاطلاع على حقيقة ما تستطيعه الدولة وما كانت في الواقع عاجزة عنه. وإذن فقد كان للموقع في مراكز المسؤولية والإدارة العليا أثرهما القوي في نظرات الرجل الإصلاحية وفي مواقفه المختلفة.
بعد آخر ثالث، هام وحاسم، كان له فعله في تكييف آراء مؤلف “الفكر السامي” من الاقتصاد والتعليم، والمرأة، بل وفي توجيه الاجتهاد في الدين والتصدي لعمل الفتيا: انتساب محمد الحجوي إلى فئة التجار الكبار مساعداً لأبيه في التجارة بين مرسيليا ومانشستر وطنجة وفاس، وفي ممارسته لها ممارسة فعلية أكسبت خطبه في »مستقبل التجارة في المغرب«، »بالاقتصاد حياة البلاد«، »تعلم اللغات الأجنبية« وغيرها… أكسبتها مضامين لا تتوافر لمطلق الفقهاء ولمن اندرج في سلك الوظائف العليا في الدولة.
نحن إذن أمام شخصية ثلاثية الأبعاد: الفقيه المجتهد ـ الموظف المخزني السامي ـ التاجر المتمرس بالتجارة استيراداً وتصديراً وانتقالاً إلى البلاد المغايرة للوطن الأصلي في العادات والتقاليد، بلاد تنتمي إلى عوالم القوة والتقدم والنظم الحديثة في الإدارة والمال والتعليم، وفي نظام المجتمع وروابط العلاقة بين الفئات والطبقات الاجتماعية المكونة لذلك المجتمع والمحددة لروابط العلاقة فيه.
أمر آخر، وأخير، تجدر الإشارة إليه بالرحلة وأدبها وهو أن الحجوي كانت له تجارب بالكتابة في هذا الموضوع، تجارب ترقى إلى نهاية الحرب العالمية الأولى. فهو قد زار كلاًّ من فرنسا وبريطانيا غداة انتهاء الحرب ودوَّن الرحلة في نص جميل، غني ممتع، قمنا بنشره ملحقاً لكتابنا السالفة الإشارة إليه (“أوروبا في مرآة الرحلة”)، مثلما أنه ارتحل إلى إسبانيا في الثلاثينيّات وسجل رحلته في نص قصير غير منشور هو رحلته »الأندلسية«، فضلاً عن رحلات قصيرة، متعددة، إلى دول أوروبا الغربية أغلبها أوراق مبعثرة وملاحظات أولية أو تذكير بما سبق له القول فيه في “الرحلة الأوروبية”. وإذن فلم تكن مخطوطة “الرحلة الحجازية المصرية” التي نقترح الوقوف عندها رحلته الأولى ولا الوحيدة، وهذا من جهة أولى، مثلما أنها كانت، وهذا من جهة ثانية، حاملة لصدى آرائه في المجتمع، والإصلاح، وفي التقدم، وفي حالة العالم العربي الإسلامي مقارنة مع البلاد الغربية كما يراه، أو يرى البعض عنه في زمان الرحلة وهو موسم الحج للعام 1365 الذي يوافق أكتوبر 1946.
الآن وقد نبهنا إلى شخصية الرحالة ومكانة صاحبها من الدولة والمجتمع والفكر في المغرب المعاصر، يكون لنا أن نتصفح الرحلة ذاتها من خلال تقديم ملخص لها أولاً، ثم من جهة التنبيه على الجوانب التي يخالف بها الرجل معاصريه من أصحاب الرحلات الحجية المعاصرة في المغرب، وثالثاً من حيث وقفته عند ما يشكل ذروة الرحلة وهي الالتقاء بالدولة السعودية الفتية من جانب، وتأدية مناسك الحج من جانب آخر. كل هذا قبل الانتهاء إلى جملة الخلاصات التي نجد أن القارئ ينتهي إليها ضرورة.
قطع محمد الحجوي في رحلته الطريق نفسها التي اعتاد الحجاج المغاربة سلوكها. إلا أنه قطعها جوّاً، وكان تعداد السفر بالساعات. كان أول التوقف، بعد الانطلاق من الرباط، مدينة وهران، ثم الجزائر العاصمة. بعد ليلة كان التوجه إلى تونس: »وأقمنا بتونس لزيارة معاهدها العلمية، جامع الزيتونة وفروعه الأربعة التي بالعاصمة ولقينا جميع مشايخها وتلاميذها«. و للحجوي في تونس أصحاب ورفاق، وله بالمدينة وأهلها صلات هي نتيجة أسفاره العديدة إليها واتصاله بالجمعيات الكبرى فيها محاضراً ومستمعاً. ثم من تونس كان الارتحال إلى ليبيا في محطتين، طرابلس أولاً فابن غازي ثانياً، ومن هذه المدينة الأخيرة إلى القاهرة ليكون مجموع الساعات من الرباط إلى القاهرة، كما يسجل ذلك، 15 ساعة ونصف. ومشاهدات الحجوي في القاهرة وانطباعاته تستحق وقفة قصيرة نفسح الكلام فيها لصاحب الرحلة مكتفين باختيار العبارات الدالة والنقط التي استقطبت وعيه أكثر من غيرها.
باريز العروبة، فإنك ترى فيها جل ما هو موجود في عواصم أوروبا كباريز ولندن وبرلين ورومة وبروكسيل وغيرها من الأناقة والإتحاف في ظاهر الدور والإدارات والمعابد والمخازن، من كل ما يسمى الآن بالرقي والتقدم الظاهري وتصفيف الأبنية وتنجيدها وزخرفتها وإتحافها منها مما يبهج الناظر ويشرح الخاطر (…) مع اتساع الشوارع وتنظيمها وكل ما يقرب المسافات الشاسعة من أطومبيلات وحافلات وما إلى ذلك (…) فلهي أبهج العواصم وأحفل المدن الراقية وأجملها، وشعبها أهدأ الشعوب وأبعدها عن القساوة وفكرة الحرب (…) ولكن لم تبلغ مبلغ ما يوجد في العواصم الكبرى من الميطرو الذي اخترقوه تحت الأرض يختبئون فيه من صواعق الطائرات وقد توسعوا بالشغل فيها أسفل الأرض. لذلك يجد شوارعها مكتظة أكثر من باريز، ولا أراهم إلا مضطرين لجعل هذه الخنادق تحت الأرض عن قريب أو بعيد بحكم الضرورة واتقاء الزحام([6]).
لعل النص ينطق معبراً عن الفكر الثاقب عند الفقيه المغربي، ولعله من العجيب فعلاً أن نجد العالم الديني، التاجر، الموظف السامي في الحكومة المخزنية في المغرب، يتنبأ بإحداث ميطرو الأنفاق في القاهرة خمسين سنة قبل وقوعه معللاً لذلك »بحكم الضرورة«. ثم من مستدعيات الملاحظة إعجابه بالقاهرة »باريز العروبة« والقدرة (دون حرج أو شعور بالنقص تجاه أوروبا القوة والتقدم والتي يعرفها معرفة لا تخلو من جودة) على جعلها في معرض الحديث والمقارنة مع العواصم الغربية الكبرى (باريز، برلين، لندن، بروكسيل)! وأخيراً مما يكشف لمؤرخ الفكر العربي الإسلامي المعاصر، عن ثراء الفكر التحديثي عند الفقيه المغربي أن نرى عبارات الإعجاب الشديد وألفاظ المديح العالي التي يتحدث بها خريج القرويين عن الجامعة المصرية:
معهد المعاهد ومعجزة المفاخر جامعة فؤاد التي أسست منذ نحو عشرين سنة فقط (…) وزد على ذلك ما احتفّ بهذه الجامعة من كليات للعلم والأدب وما هو منبت في شوارع العاصمة من كليات كثيرة منها ما هو منتسب للأزهر ككلية الشريعة (…) ومنها ما هو مضاف للجامعة وبلصقها ككلية الآداب وكلية الحقوق (…) وهم وإن بنوا على ما أسسه من قبلهم في الأزهر ومضافاتها وغيرها من المعاهد، لكن ما شيدوه وزادوه أنسى ما عمله من قبلهم بكثرته وإتقانه وهو لا يقل عما أسسته أوروبا في عواصمها، بل يفوق الكثير منه في هذه المدة القصيرة ([7]).
وخلاصة الإعجاب عنده وخاتمة القول أرض الكنانة: »فرضى الله عن مصر وعن رجالها الأفذاذ الذين تلطفوا حتى أخرجوها من جحر الإنجليز وانتزعوا من يده الفولاذية ميزانية بلادهم وبرهنوا على أنهم سياسيون أكفاء نزهاء وطنيون حقيقة لا مجازاً«.
قد يجب القول، اختصاراً وإجمالاً للقول، إن الحجوي، في باقي رحلته (الشطر الحجازي والأهم فيها، أي ما هو موضوعها والغاية منها: أداء فريضة الحج) يختلف عن معاصريه من أصحاب الرحلات مخالفة تامة. فإشاراته إلى كيفية الاعتمار ثم الحج إشارات عملية مختصرة تفترض المخاطب عالماً مطلعاً على أحكام الحج. إنه، على سبيل المثال، يخالف محمد المختار الولاتي صاحب الرحلة الحجازية الشهير عند المغاربة مخالفة تامة في الحديث عن تفاصيل العمرة والحج والخوض في دقائقها خوضاً جعله يفرد لها قسماً (هو القسم الرابع) من خمسين فصلاً، فهو نوع من دليل الحج والعمرة كما يقول محمد حجي، محقق الرحلة: »وما أحرى هذا القسم من الرحلة أن يطبع على حدة كدليل للحج السني«([8]). وهو عود إلى المعتاد عند أصحاب الرحلات الحجية من حيث التعريج على مناظرات كلامية مع محاورين فعليين أو متوهمين وهو اجتهاد وردود فقهية على فقهاء وعامة شافههم أو كاتبوه في مسألة تتصل بأحكام الحج أو العمرة أو آداب الزيارة. مثلما أنه يغاير ما سلكه ماء العينين بن العتيق في رحلته الحجية (في الثلاثينيات) من الجنوح إلى الإغراق في الوجد الروحاني في الحديث عن المسالك التي قطعها ركبه من جده إلى مكة فالمدينة المنورة ([9]). وعندي أن ما تتميز به الرحلة الحجازية لمحمد بن الحسن الحجوي هو على وجه التحديد ما يعكس شخصيته على النوع الذي حاولنا تقريبها به من القارئ: رجل الدولة المسؤول، الفقيه ـ التاجر، المهموم بقضايا التحديث والتغيير. هذه الصفات هي ما يكسب ملاحظاته عن الحجاز، في كنف الدولة السعودية الفتية، تمايزاً وفرادة. وإنه من المفيد لمؤرخ هذه الدولة أن يتبين الكيفية التي ترتسم بها صورتها في الوعي العربي الإسلامي المعاصر، والصورة التي يحفظها الزائر ـ الحاج، رجل الدولة القادم من المغرب العربي، لمؤسس تلك الدولة ورمزها: الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود.
أول ملامح الصورة هي كرم الوفادة »وفي صبحة الثلاثاء (= غداة الوصول إلى جدة) قدم لنا السلطان ابن سعود سيارة خاصة جديدة من أفخر وأفخم الأنواع. فامتطيناها جميعاً إلى مكة المشرفة، ولم تمض ساعة إلا ونحن بحرم الله المعظم وما نزلنا إلا بباب السلام«.
ثاني ملامح الصورة، أو بالأحرى سماتها العامة، تنكشف في اللقاء الرسمي:
ولما قابلنا، وقف على قدميه وتقدم بخطوات إلى مصافحتنا فصافحناه كما يجب، فأجلسني على كرسي يمينه مثل الكرسي الذي هو جالس عليه وأجلس النجلين عن يساره (…) وسألني عن ولَدَيَّ فعرفته بكل منهما اسماً وعلماً وعملاً وأبلغته سلام سيدنا السلطان المؤيد بالله ودعاءه الصالح له ولأنجاله وقدمت له هدية منه فقبلها أحسن قبول وأظهر فرحه بها وتقديره إياها وسألني عن أحوال جلالته ومملكته الكريمة وبالغ في السؤال والدعاء لجلالته. وسألني كيف كان سفري وراحتي (…) وسأل النجلين عن عملهما وحالتهما، وكل حالته وحركاته وكلامه دال على فضل الرجل ومنزلته واعتنائه بالعلم والعلماء ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووه. واستدعانا للعشاء عنده ليلاً والحضور معه في غسل الكعبة من غده([10]).
ثالث ملامح الصورة تتضح في الخطبة التي خطبها داخل الكعبة يوم غسلها منها حضه ملوك العرب ورؤساءهم على نصرة عرب فلسطين، ووصيته لجميع المسلمين أن »لا يعلموا أولادهم الثقافة الأوروبية الإفرنجية«؛ كما أثار انتباه الحجوي كبر سنه: »بعد هذا الخطاب ودعنا وهبط من الكعبة وركب عجلة صغيرة طاف عليها لكبر سنه وعجزه عن الطواف على القدم، لأنه بلغ من الكبر عتيّاً«.
رابع ملامح الصورة يستمده الحجوي استقراء من حديث من حدثه عنه من »من هم مطلعون على أحواله (…)«
سألت عن معلومات الأمير ابن السعود المذكور فقال: إن معلوماته عربية فقط. فقد درس رسالة لهم في فقه عبادة الحنابلة وأخرى في التوحيد على مذهب الوهابية. ولكن له ذكاء متوقد، وحافظة جيدة، وطوية إسلامية، وشهامة عربية، وله مع ذلك حظ قوي في تسيير مملكته والظفر بأعدائه. ولكن إذا ظفِر، حَلِم وعفا حتى صار أعداؤه أحباباً له.
خامس ملامح الصورة هو ما لمسه الحاج ـ صاحب الرحلة، الموظف المغربي السامي ـ من إنجازات فعلية أولها وأشدها خطورة هو استتباب الأمن. وفي الذاكرة الإسلامية صور مرعبة لقطاع الطرق والحرابة داخل أرض الحجاز، في الطريق بين مكة والمدينة.
وبالجملة، أهم ما تراه في الحجاز انتشار الأمن بسبب ضبط الأحكام وصرامتها المهولة. فإن الحجاز كان في أيام الترك والحسينيين وكْر السراق والنهاب وقطاع الطريق. وبوجود ابن سعود، أطال الله عمره، أباد هذا النوع من البشر الذي كان ضد الحجاج وضد البشرية؛ فأقام الحدود الشرعية بقطع يد كل سارق كيفما كان. وما قطع منها إلا نحو العشرة، فلم يبق منهم واحد. وقتل قطاع الطرق واللصوص حتى لم يبق منهم واحد، فأمنت البلاد وأقبلوا على التجارة والاكتساب.
وثاني ما لمسه الفقيه ـ الموظف المغربي المسؤول ـ هو الاعتناء الشديد بالنظافة. فمع أن الحجيج قد فاق المائتين وخمسين ألفاً، »ومع ذلك، ما كنا نرى في المسجد الحرام الذي يحمل باكتظاظ قسماً مهماً من هذا العدد صباحاً ومساءً وليلاً شيئاً ما من فضلات هذا العدد ولا بالطرق المتصلة به ولا بأبعد منه لا في ليل ولا في نهار كأن الجان ينقل فضلاتهم… «([11]).
أما الدولة السعودية ذاتها، أجهزة ومالية وإدارة، فلم تكن عين الحجوي كليلة عن رؤية ما كان يعده نقصاً يشينها. ويمكن القول إن الأبعاد الثلاثة في شخصية صاحب الرحلة (الفقيه، الموظف السامي، التاجر) تجد، جميعها، مرتعاً خصباً لانتقادها وتسجيلها لجوانب الضعف والتقصير. فالفقيه يلاحظ أن:
الحالة العلمية في الحجاز والحرمين الشريفين مما يدخل الكدر على كل غيور على مواطن الوحي والدين، وهما النقطتان اللتان ابتدأ منهما انتشار العلوم الإسلامية والآداب الدينية (…) فكل من الحرمين الشريفين خال من دروس العلم الديني والدنيوي؛ فما رأيت في مسجد مكة والمدينة دروساً علمية أو تهذيبية ([12]).
والموظف المسؤول يرى أنه وإن كانت »مالية الحجاز الآن مالية عريضة من المداخيل الوطنية كعشور المراسي والحدود (…) ومن دخل البطرول والليسانص وهي ثروة عظيمة (…) كذلك حظه من الذهب…«، إلا أنه »لا يوجد في الحجاز طرق منظمة إلا ما كان من طريق صناعية نحو 710 كيلومطراً ما بين جدة ومكة المشرفة«. وتبرير ذلك عند الحجوي انعدام »مالية منظمة كما ينبغي وكما يجب لتضبط الداخل والخارج لعدم الرجال الأكفاء المثقفين الماليين الذين يحوطونه من التلاعب والعبث«. ولعل من نتائج ذلك الاضطراب في ضبط مالية الدولة ما سمع الحجوي عنه من اضطراب في صرف رواتب الموظفين في أوقاتها المعلومة، وخاصة المدرسين منهم.
والتاجر المتمرس بشؤون التجارة العليا المطلع على أمور وإدارة الدولة يلاحظ وجود تفاوت بين حقيقة الغنى، لغنى مصادر المال وتنوعها في الدولة السعودية، وبين واقع الأمر من جهة العملة الرائجة فهي تعادل نصف ما تحتمله. »ولذلك انتشر غلاء مفرط في المملكة كلها؛ فهي من أغلى البلاد، وهي من أغنى البلاد أيضاً ومن أفقرها أيضاً«([13]).
على أن الحاج محمد بن الحسن الحجوي الفقيه، التاجر، الموظف لا يعدم تقديم اقتراحات و بالأحرى أماني، لعلها الأماني عينها التي كانت تراود الوافدين على بيت الله الحرام حجاجاً ومعتمرين. أخصها توسعة المسجد الحرام على نحو »يصير المسعى داخل المسجد الحرام الذي هو أحق بالتوسعة«. والحجوي يرى أن تساهم الأوقاف، في كل البلاد الإسلامية، بنصيب في ذلك « بقدر مداخيلها بعشرين في المائة من المدخول سنة واحدة، وإذا بقي شيء عجزت عنه الأحباس فيجمع بالاكتتاب«([14]). وهو يتمنى للأمة الإسلامية، فضلاً عن التوفيق في »توسيع مسجدها الحرام ومسعى طوافها«، أن يوفقها الله إلى »توسيع أفكارها بالعلوم والمعارف على اختلاف أنواعها، فلا اعتبار بأمة لا توسع أفكار شبابها بالعلم والتهذيب الأخلاقي«. وأما في الحديث عن توسعة الحرم المديني، فإن لهجته تعلو ونبرته تحتد: فالأمر عنده »إهمال للمدينة المنورة وتركها للخراب يركض فيها ويضعضع بناءها«.
ما نريد أن نخلص إليه، اختتاماً لحديثنا عن رحلة الحجوي الحجازية، أننا أمام حديث رجل تلتقي عنده هموم المسؤولية، مسؤولية الاشتراك في تسيير دواليب الدولة، فهي لا تفارقه في سفره معتمراً وحاجاً لبيت الله الحرام. مثلما أن هم التحديث، بالتعليم وتنقية العقول، يظل حاضراً بقوة في وجدانه وفي حديثه عن تجربة الدولة السعودية الفتية وملكها الباني عبد العزيز الذي يرى أن الفضل الأكبر يرجع إليه لاجتماع جملة من الخصائص السيكولوجية الإيجابية في شخصه والصفات التي تحقق القوة والنجاح لرجل الدولة العظيم وفي مقدمتها العدل مطلقاً. »فأما الأمن، ففي جميع مملكته بصرامته التي لا تقبل شفاعة ولا تعرف محسوبية«([15]). وقارئ “الرحلة الأوروبية” لمحمد الحجوي، والمطلع على أفكاره في الرقي والتحديث، والمستمع إلى محاضرته عن »النظام في الإسلام« يقدر القيمة العظمى التي يحتلها في فكر صاحب “الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي” مبدأ العدل والتسوية في تطبيق الأحكام واجتناب الضعف والتردد أمام »التشفع والمحسوبية«. ذلك ما صنع قوة أوروبا، وجعل دولها في طليعة دول المعمور، وذلك ما كان به الإسلام في قوته وهو ما يتوسم به الخير كله عند ابن السعود ويقدر لدولته مستقبلاً مزهراً.
خاتمة القول عندنا إن “الرحلة الحجية” (مع ما تطفح به من مضامين روحانية، فلا ينفك الرحالة منها: فهو في الحج في حال متصل من الصفاء الروحي ومن الجذب القوي) تنبؤنا عن صاحبها أكثر مما تخبرنا عن الأمكنة موضع المشاهدة. إنها تلقي أضواء كاشفة على شخصية الرحالة وفكره، وتبرز القضية المحورية التي يهب حياته للدفاع عنها وكذا القضايا التي تتفرع عنها. ورحلة محمد الحجوي تحديـداً تحمل ذلك كله، فهي إضاءة في معرفتنا بفكره حقاً ـ عالماً مجتهداً وموظفـاً مخزنيـاً مهموماً بقضايـا التحديث في المالية والإدارة والتعليم ـ ولكن لها مزية أخرى نذكرها مرة ثانية، على سبيل التكرار المفيد في المعرفة والفهم، وهي أنها تقدم للقارئ العربي المسلم لوحة وجدانية، صادقة بما تحمله من جوانب الإعجاب بشخصية الملك عبد العزيز آل سعود وبما لا تخفيه أيضاً من حديث النقد والملامة. وإذ تفعل ذلك، فهي تقدم لشعب المملكة العربية السعودية الصورة التي كانت ترتسم لهذه الدولة في الوجدان العربي الإسلامي عقوداً دون الثلاثة من تكونها والصورة الأخرى التي كان يتمنى أن تصبح لها. والحق أخيراً أن المملكة العربية السعودية اليوم، بالتوسعة الهائلة للحرمين الشريفين، وبالحرص الدائب على راحة ضيوف الرحمن ـ وهذه مسؤوليتها الدينية والروحية ـ، وأنها باتساع العمران والبناء فيها، وبالنقلة الكيفية التي تعيشها في ميادين التعليم والرعاية الاجتماعية وتثوير الاقتصاد الوطني… الحق أنها بلورة وترجمة للآمال التي كانت تعتمل في صدور رحالينا إلى الديار المقدسة.
مراجع
([1]) انظر مقدمة محمد الفاسي لنشرته المحققة لرحلة محمد بن عثمان المكناسي: الإكسير في فكاك الأسير، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، 1965، الرباط.
([2]) سعيد بنسعيد العلوي، أوروبا في مرآة الرحلة: صورة الآخر في أدب الرحلة المغربية المعاصرة، منشوارت كلية الآداب، جامعة محمد الخامس أكَدال، 1995.
([3]) أحمد بن محمد الصبيحي، الرحلة المغربية المكية، مخطوط في الخزانة العامة بالرباط، الورقة الأولى.
([4]) سعيد بنسعيد العلوي، أوروبا في مرآة الرحلة، مرجع مذكور، صص. 11 ـ 28.
([5]) انظر، على سبيل المثال، مقدمة محمد حجي في تحقيقه لـ”الرحلة الحجازية” لمحمد بن محمد المختار الولاتي (المتوفى سنة 1330 ـ 1912)، دار الغرب الإسلامي، 1990، بيروت.
([6]) محمد الحجوي، الرحلة الحجازية المصرية، مخطوط في الخزانة العامة بالرباطـ، الورقة الرابعة.
([7]) المرجع السابق، الورقة الرابعة.
([8]) محمد المختار الولاتي، الرحلة الحجازية (سبقت الإشارة إليه)، ص. 11.
([9]) ماء العينين بن العتيق، الرحلة المعينية، تحقيق محمد الظريف، مطبعة المعارف الجديدة بالرباط، الطبعة الأولى، 1998.
([10]) محمد الحجوي، الرحلة الحجازية، الورقة الثامنة.
([11]) المرجع نفسه، الأوراق، 9، 10، 11.
([12]) المرجع نفسه، الورقة 12.
([13]) المرجع نفسه، الورقة العاشرة.
([14]) المرجع نفسه، الورقة 15.
([15]) المرجع نفسه، الورقة 11.
مجلة “التاريخ العربي”