عندما أخرجُ لمراقبة الحياة، أحمل في جيبي مفكرة بحجم راحة الكف، أُدونُ فيها ملاحظات سريعة عن الشخصيات والأفكار التي أراها في طريقي.
عندما أرجع إلى البيت أنتزع تلك الوريقات وأحتفظ بها في مظروف وأدَّخرها للمستقبل، فقد تنفعني في كتابة عمل أدبي يوماً ما.
بمرور الأعوام تراكم لديّ مخزون كبير من القصاصات، وخطرتْ ببالي فكرة فرزها، وهكذا توصلتُ إلى وضع خارطة لأعمالي القادمة معتمداً على المواد المتوفرة لديّ.
مثلاً، فرزتُ القصاصات التي تحتوي على ملاحظات تتعلق بـ»شارع المطاعم» الشهير الذي يقع في وسط صنعاء، ووضعتها في مظروف خاص بها. وبالتدريج كتبتُ القصة تلو الأخرى، تاركاً لنفسي الحرية في أن أشتغل على هذا المشروع دون التزام ببرنامج محدد. ولما وصل عدد القصص التي كتبتها إلى اثنتي عشرة قصة، رأيتُ أنها تكاد تكون كافية لتقديم فكرة وافية عن طبيعة الحياة في ذلك الشارع العريق؛ فصدرتْ في عام 2017 مجموعة في كتاب حمل عنوان «ناس شارع المطاعم».
قمتُ باستبعاد ثلاثين جذاذة، وصرتُ لا أعرف ماذا أفعل بها، وترددتُ في التخلص منها. صديق مُقرَّب اقترح عليّ كتابة رواية أجيال تتغلغل جذور بيوتاتها في تربة شارع المطاعم.. لا أُنكرُ أن الاقتراح قد لامس استحساناً في نفسي.. وهكذا عادت النملة إلى العمل في ذلك الشارع!
رواية «أرض المؤامرات السعيدة» بدأت من قصاصة مجعدة تحوي إشارة مقتضبة إلى شيخ قبيلة نافذ يغتصب طفلة وينجو بفعلته. احتجتُ إلى خمس سنوات ما بين الكتابة والتوقف للإصغاء، لكي تنضج شخصية بطل الرواية وتتضح ملامحها السلوكية والنفسية.
هذا هو المبدأ الأول: الكاتب مثل النملة التي تجمع الغذاء من على السطح وتُخبئه في باطن الأرض.
ما هو الفرق بين الكاتب الهاوي والكاتب المحترف؟ يأتي الفرق من قدرة الأخير على توظيف المجاز في العمل الأدبي.
يتعرَّف العربي على المجاز الشعري بسهولة، لأن الشعر فن راسخ زاوله العرب منذ القدم؛ ولكن بالنسبة للمجاز السردي فقد يخفى عليه، نظراً إلى أن القصة القصيرة والرواية والمسرحية كلها فنون معاصرة، أتت بصيغتها المتعارف عليها من الغرب.
لم أكن في البدايات أمتلك تقنية توظيف «الاستعارة» في أعمالي الأدبية، ولشدة جهلي ظننتُ أن «الاستعارة» أداة فنية زائدة يمكن الاستغناء عنها!
لكن في أحد الأيام نشرت صحيفة يمنية قصة قصيرة لغابرييل غارسيا ماركيز، ترجمها إلى العربية مترجم عراقي كان يُدرس مادة اللغة الإنجليزية في مدرسة ثانوية تقع في محافظة حجة النائية.. قرأ القصة أحد زملائي من كتاب القصة ووصفها بأنها تافهة، وقال لو أنه أرسل لتلك الصحيفة قصة بالمستوى المتهافت نفسه لرفضوا نشرها!
رنَّتْ كلماته في سمعي، وقمتُ بقراءة القصة بحيادية بعيداً عن هالة ماركيز، فاتضح لي أن نقده الفظ لا يخلو من وجاهة. ولكني لم أتوقف عند هذا الحد، وقلت في نفسي إما أن يكون العالم برمته مخطئاً في تقدير موهبة ماركيز وأنا وصديقي على صواب، أو العكس.
أعدتُ قراءة القصة مرات ومرات، وجاءت لحظة السحر، وتجلَّت لي «الاستعارة» التي قصدها ماركيز.. لقد طفتُ بأرجاء الغرفة مصفقاً له بحماس، وانضممتُ إلى الحشد العالمي المؤمن بعبقرية ماركيز، وتركتُ صاحبي الممتعض من سمعة ماركيز الأدبية وحيداً.
لا يمكن لكاتب أن يزاول مهنة الأدب وهو لا يفهم تطبيقات «الاستعارة» في النص الأدبي.
صديق آخر يكتب في جميع مجالات الأدب تقريباً – شعر، قصة قصيرة، رواية، مسرحية، سيناريو- صادفته عند كشك للصحف، وأشار إلى مجلة نشرتُ فيها قصة قصيرة، وذكر لي أنه قرأ القصة، ثم سألني بمكر: «هل سبق لك أن رأيت فقمة واحدة على الأقل ولو في حديقة الحيوان؟»، قلت له كلا، طرح سؤالاً آخر: «هل سبق لك أن سافرت إلى القطب الشمالي أو القطب الجنوبي أو إلى أيّ مكان يُحتمل أن تعيش فيه الفقمة؟»، فأجبته بالنفي مرة أخرى؛ تابع وفمه يفرز ابتسامة ساخرة سامة: «كيف يمكنك أن تكتب قصة عن عالم لم تُعايشه؟؟ عن حيوانات لم تصادفها ولا مرة واحدة في حياتك؟؟ أنت تكتب عن أشياء لا تعرفها ولا شأن لك بها!!».
أعرف القانون غير المكتوب الذي يحظر على المؤلف كشف المعاني المضمرة في نصوصه وألتزم به، ولكن إزاء هذا الهجوم اللاذع غير المتوقع من زميل، اضطررتُ إلى إخباره أن عالم الفقمة مجرد قناع، وأنني أسرد بصورة مجازية قصة نبي الله إبراهيم عليه السلام مع زوجته سارة وأمَتِه هاجر. صمت صديقي المتعدد المواهب وانتهى النقاش عند هذا الحد.
بعد قرابة شهر تقريباً – وكنت قد نسيتُ الموضوع- التقينا في أحد المقاهي، وقال لي فجأة دون مقدمات «لقد أعدتُ قراءة قصتك مرة أخرى وبحثتُ فيها عن الأشخاص الذين ذكرتهم فلم أجدهم!».
لدينا هنا احتمالان، الأول أنه لم يفهم فعلاً الطريقة التي تعمل بها «الاستعارة»، والثاني أنه مستاء ويرفض أيّ تأويل للنص، ويصر مثل متدين ضيق الأفق على تناول النص الأدبي بظاهره، ونفي القراءات التأويلية الأخرى.
هذا الزميل – مع اعتزازي بصداقته- يشكل خطراً على الأدب؛ وهو دون أن يقصد يُعدُ العدو الأكثر بأساً على الخيال الأدبي. ولعل الأصلح له ولأمثاله أن يتجهوا إلى مهنة الصحافة، أو تأليف الكتب التي تقوم على البحث والدراسة ولا تتطلب موهبة الخيال.
هذا هو المبدأ الثاني: الكاتب مثل النبي يوسف عليه السلام، كلاهما بارع في التأويل، النبي في تأويل الأحلام، والكاتب في تأويل الواقع.
أعظم موهبة يمكن أن يحصل عليها الكاتب هي أن يمتلك أسلوباً. وهذه النعمة ليست منحة تنزل على الكاتب من السماء، ولكنها أجرة مستحقة يحصل عليها بعد سنوات طوال من المران.
هناك من يُعفون أنفسهم من التدريبات الكتابية الشاقة ويستسهلون الكتابة، ويظنون أن تدوين ما يجول في خواطرهم يمكن إلقاؤه فيما بعد بسهولة في سلة الأدب! الحقيقة المرة هي أن ما كتبوه سيلقى مصيره المحتوم في سلة المهملات. لأن الأدب هو الأسلوب، والأسلوب يتطور ببطء شديد، ويحتاج إلى الممارسة المستمرة قدراً معلوماً من الوقت في كل يوم.
لعل اهتداء الكاتب إلى أسلوبه الخاص في الكتابة هو من أكثر الأمور صعوبة في الأدب. إن «الأسلوب» شيء لا يمكن تعلُّمُه، ولا يصح أن تقتدي فيه بأحد، وعلى الكاتب أن يُعلِّم نفسه مصطبراً ويقوم بتجارب لا حصر لها، حتى يتوصل إلى اختراع أسلوبه الخاص.. إن هذا الكاتب المثابر المجتهد سوف يمنحه الزمن براءة اختراع ويرفعه إلى مصاف الخالدين.
هذا هو المبدأ الثالث: كل مهنة تحتاج إلى تدريب طويل حتى تتقنها، وكذلك مهنة الأدب.
عنصر «المكان» يبدو ثانوياً في التأليف الأدبي، والكاتب المبتدئ غالباً ما يتعامل مع عنصر «المكان» كديكور خارجي لأحداث قصته.
لعل لفظ «المكان» هو السبب في تضليل الكُتاب المبتدئين، وأستحسنُ استخدام مصطلح أكثر شمولاً هو «جغرافيا المكان».
بمعنى أن على الكاتب أن يدرس «جغرافية» الرواية التي يخطط أو قد شرع بالفعل في كتابتها.
عليه أن يضع مثلاً تأثير الطقس – القصير المدى- على الأحداث، ومدى أثر المناخ – الطويل المدى- على خلق تلك الأحداث من الأصل. أن يضع في اعتباره تأثير التضاريس على تكوين الشخصيات. أن يربط بعمق بين الموقع الجغرافي والسلوك البشري؛ لأن الجغرافيا هي الوجه الآخر للقدر. لأننا حيث نولد يرسم لنا القدر مسارنا في الحياة. بالطبع يمكن للإنسان أن يتمرد على هذه «القدرية الجغرافية»، فيتحول من دين إلى دين، أو يتعلم لغة أخرى ويهمل لغته الأم، وقد يتخلى عن العادات والتقاليد التي ورثها عن آبائه وأجداده ويستبدلها بعادات وتقاليد تنتمي إلى حضارة مختلفة تمام الاختلاف.. هذه التحولات بمختلف درجاتها من الكبرى وحتى المتناهية الصغر، ومن الظاهرة إلى الخفية التي تحتاج إلى دقة الملاحظة، هي النواة الحقيقية للأدب.
لفظ «المكان» لا يفي بهذه الأبعاد كلها، لأنه يُعطي انطباعاً أن المقصود هو القرية أو المدينة التي تدور فيها أحداث الرواية، أو الغرفة سيئة التهوية التي وقعت فيها الجريمة في القصة.
هذه معضلة على النقاد أن يوجدوا لها حلاً، ويتفقوا على صك مصطلح أكثر دقة واستيعاباً، وأما الكاتب الذي أفنى ساعات كثيرة من عمره في الكتابة فهو قد تحول لاشعورياً إلى مُستكشف جغرافي، يتجول في أرض الكتابة المجهولة واصفاً كل شيء يصادفه في طريقه: الحشرات والحيوانات، الأشجار والنباتات، الأساطير والطقوس، البشر، الهواء، الماء، الطعام، الجنس، العبادة والمعابد، العادات والتقاليد، الأخلاق، الطبيعة، التربة، الرطوبة، تقلبات الطقس، حيوية الشعب، قوة الدولة، مستوى التطور الحضاري، درجة النضج الاجتماعي والقانوني، الثروات الطبيعية والمادية، الملابس، الجلد، وما تحت الجلد.
هذا هو المبدأ الرابع: توظيف علم الجغرافيا في إشباع عنصر «المكان» يساوي كتابة التاريخ الجيولوجي للشخصيات.
عنصر «الحبكة» تلقى من الكُتاب المعاصرين القدر الأكبر من الازدراء.. بل إنني صادقتُ كُتاباً حداثيين كانوا يَصِمون أيّ قاص أو روائي يستخدم الحبكة في أعماله بالتخلف! كنت أجلس معهم وأشعر بالخجل من نفسي، لأنني الكاتب الوحيد المتخلف الذي ما يزال يحتال على القراء بشيء رخيص ومبتذل مثل «الحبكة»!
كنت أُنصتُ إلى نميمتهم بلا مبالاة، وأهز رأسي لطمأنتهم عندما يستشهدون بنقاد عظماء تغوطوا على «الحبكة» وسدوا أنوفهم وطالبوا الجميع بالابتعاد عنها!
تُعَوُّلُ هذه الزمرة من الكُتاب المُعادية لـ»الحبكة» على تطوير عناصر السرد الأخرى، كاللغة الشعرية، والحديث الداخلي، والاستبطان النفسي.. كل هذه تقنيات يكتسبها الكاتب أثناء مسيره في درب الكتابة، وأما «الحبكة» فهي خارطة الطريق، والكاتب الذي يقرر الاستغناء عن «الحبكة» فكأنما يحكم على عمله الإبداعي بالتيه فلا يبلغ هدفاً ولا يحقق غاية.
إن القارئ الذي هو المستهدف الأول والأخير من تأليف الكتاب، من حقه عندما يقوم برحلة القراءة من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة أن يمشي على دروب معبدة، بذل الكاتب جهوداً جبارة في تعبيدها، وأن يمضي باتجاه الوجهة الصحيحة، بعد أن نصب المؤلف العلامات الإرشادية لكيلا يتوه، وأن يصل إلى نهاية الطريق ويحصل على تلك النشوة الروحية الصافية التي أطلق عليها الناقد الروسي فيساريون بلنسكي مصطلح «باثوس» وهو الأثر الذي يتركه العمل الفني في النفس.
ما هي الحبكة؟ لعل أفضل من شرحها هو الفيلسوف اليوناني أرسطو في كتابه فن الشعر: «الصراع دون حل يؤدي إلى التوتر».
ربما هناك المئات من التعريفات للحبكة، كلها دقيقة ومحكمة، ولكن أرسطو يقدم الوصفة الصحيحة لاستخدام الحبكة في الأدب.
إن الحياة التي نعيشها هي في الواقع سلسلة لانهائية من الحبكات التي ينسجها القدر بدهاء يتفوق على أذكى العبقريات الأدبية، فكيف يتجرأ كاتب يختال بقراءة نظريات نقدية جوفاء على الهذيان بأن الحبكة لا لزوم لها في النص الأدبي؟؟ إن هذا الإدعاء ما هو إلا شكل من أشكال البروباغندا الأدبية التي تزعم أن حياة البشر تخلو من التوتر، وأن كل شيء على ما يرام! لاشك أن هكذا مقولات هي أكاذيب كبيرة.. وتتخفى خلفها حبكة شريرة!
هذا هو المبدأ الخامس: الحبكة سر النجاح، وإذا قال لك أحد كلاماً غير هذا فلا تُصدق.
*روائي يمني
عندما أرجع إلى البيت أنتزع تلك الوريقات وأحتفظ بها في مظروف وأدَّخرها للمستقبل، فقد تنفعني في كتابة عمل أدبي يوماً ما.
بمرور الأعوام تراكم لديّ مخزون كبير من القصاصات، وخطرتْ ببالي فكرة فرزها، وهكذا توصلتُ إلى وضع خارطة لأعمالي القادمة معتمداً على المواد المتوفرة لديّ.
مثلاً، فرزتُ القصاصات التي تحتوي على ملاحظات تتعلق بـ»شارع المطاعم» الشهير الذي يقع في وسط صنعاء، ووضعتها في مظروف خاص بها. وبالتدريج كتبتُ القصة تلو الأخرى، تاركاً لنفسي الحرية في أن أشتغل على هذا المشروع دون التزام ببرنامج محدد. ولما وصل عدد القصص التي كتبتها إلى اثنتي عشرة قصة، رأيتُ أنها تكاد تكون كافية لتقديم فكرة وافية عن طبيعة الحياة في ذلك الشارع العريق؛ فصدرتْ في عام 2017 مجموعة في كتاب حمل عنوان «ناس شارع المطاعم».
قمتُ باستبعاد ثلاثين جذاذة، وصرتُ لا أعرف ماذا أفعل بها، وترددتُ في التخلص منها. صديق مُقرَّب اقترح عليّ كتابة رواية أجيال تتغلغل جذور بيوتاتها في تربة شارع المطاعم.. لا أُنكرُ أن الاقتراح قد لامس استحساناً في نفسي.. وهكذا عادت النملة إلى العمل في ذلك الشارع!
رواية «أرض المؤامرات السعيدة» بدأت من قصاصة مجعدة تحوي إشارة مقتضبة إلى شيخ قبيلة نافذ يغتصب طفلة وينجو بفعلته. احتجتُ إلى خمس سنوات ما بين الكتابة والتوقف للإصغاء، لكي تنضج شخصية بطل الرواية وتتضح ملامحها السلوكية والنفسية.
هذا هو المبدأ الأول: الكاتب مثل النملة التي تجمع الغذاء من على السطح وتُخبئه في باطن الأرض.
ما هو الفرق بين الكاتب الهاوي والكاتب المحترف؟ يأتي الفرق من قدرة الأخير على توظيف المجاز في العمل الأدبي.
يتعرَّف العربي على المجاز الشعري بسهولة، لأن الشعر فن راسخ زاوله العرب منذ القدم؛ ولكن بالنسبة للمجاز السردي فقد يخفى عليه، نظراً إلى أن القصة القصيرة والرواية والمسرحية كلها فنون معاصرة، أتت بصيغتها المتعارف عليها من الغرب.
لم أكن في البدايات أمتلك تقنية توظيف «الاستعارة» في أعمالي الأدبية، ولشدة جهلي ظننتُ أن «الاستعارة» أداة فنية زائدة يمكن الاستغناء عنها!
لكن في أحد الأيام نشرت صحيفة يمنية قصة قصيرة لغابرييل غارسيا ماركيز، ترجمها إلى العربية مترجم عراقي كان يُدرس مادة اللغة الإنجليزية في مدرسة ثانوية تقع في محافظة حجة النائية.. قرأ القصة أحد زملائي من كتاب القصة ووصفها بأنها تافهة، وقال لو أنه أرسل لتلك الصحيفة قصة بالمستوى المتهافت نفسه لرفضوا نشرها!
رنَّتْ كلماته في سمعي، وقمتُ بقراءة القصة بحيادية بعيداً عن هالة ماركيز، فاتضح لي أن نقده الفظ لا يخلو من وجاهة. ولكني لم أتوقف عند هذا الحد، وقلت في نفسي إما أن يكون العالم برمته مخطئاً في تقدير موهبة ماركيز وأنا وصديقي على صواب، أو العكس.
أعدتُ قراءة القصة مرات ومرات، وجاءت لحظة السحر، وتجلَّت لي «الاستعارة» التي قصدها ماركيز.. لقد طفتُ بأرجاء الغرفة مصفقاً له بحماس، وانضممتُ إلى الحشد العالمي المؤمن بعبقرية ماركيز، وتركتُ صاحبي الممتعض من سمعة ماركيز الأدبية وحيداً.
لا يمكن لكاتب أن يزاول مهنة الأدب وهو لا يفهم تطبيقات «الاستعارة» في النص الأدبي.
صديق آخر يكتب في جميع مجالات الأدب تقريباً – شعر، قصة قصيرة، رواية، مسرحية، سيناريو- صادفته عند كشك للصحف، وأشار إلى مجلة نشرتُ فيها قصة قصيرة، وذكر لي أنه قرأ القصة، ثم سألني بمكر: «هل سبق لك أن رأيت فقمة واحدة على الأقل ولو في حديقة الحيوان؟»، قلت له كلا، طرح سؤالاً آخر: «هل سبق لك أن سافرت إلى القطب الشمالي أو القطب الجنوبي أو إلى أيّ مكان يُحتمل أن تعيش فيه الفقمة؟»، فأجبته بالنفي مرة أخرى؛ تابع وفمه يفرز ابتسامة ساخرة سامة: «كيف يمكنك أن تكتب قصة عن عالم لم تُعايشه؟؟ عن حيوانات لم تصادفها ولا مرة واحدة في حياتك؟؟ أنت تكتب عن أشياء لا تعرفها ولا شأن لك بها!!».
أعرف القانون غير المكتوب الذي يحظر على المؤلف كشف المعاني المضمرة في نصوصه وألتزم به، ولكن إزاء هذا الهجوم اللاذع غير المتوقع من زميل، اضطررتُ إلى إخباره أن عالم الفقمة مجرد قناع، وأنني أسرد بصورة مجازية قصة نبي الله إبراهيم عليه السلام مع زوجته سارة وأمَتِه هاجر. صمت صديقي المتعدد المواهب وانتهى النقاش عند هذا الحد.
بعد قرابة شهر تقريباً – وكنت قد نسيتُ الموضوع- التقينا في أحد المقاهي، وقال لي فجأة دون مقدمات «لقد أعدتُ قراءة قصتك مرة أخرى وبحثتُ فيها عن الأشخاص الذين ذكرتهم فلم أجدهم!».
لدينا هنا احتمالان، الأول أنه لم يفهم فعلاً الطريقة التي تعمل بها «الاستعارة»، والثاني أنه مستاء ويرفض أيّ تأويل للنص، ويصر مثل متدين ضيق الأفق على تناول النص الأدبي بظاهره، ونفي القراءات التأويلية الأخرى.
هذا الزميل – مع اعتزازي بصداقته- يشكل خطراً على الأدب؛ وهو دون أن يقصد يُعدُ العدو الأكثر بأساً على الخيال الأدبي. ولعل الأصلح له ولأمثاله أن يتجهوا إلى مهنة الصحافة، أو تأليف الكتب التي تقوم على البحث والدراسة ولا تتطلب موهبة الخيال.
هذا هو المبدأ الثاني: الكاتب مثل النبي يوسف عليه السلام، كلاهما بارع في التأويل، النبي في تأويل الأحلام، والكاتب في تأويل الواقع.
أعظم موهبة يمكن أن يحصل عليها الكاتب هي أن يمتلك أسلوباً. وهذه النعمة ليست منحة تنزل على الكاتب من السماء، ولكنها أجرة مستحقة يحصل عليها بعد سنوات طوال من المران.
هناك من يُعفون أنفسهم من التدريبات الكتابية الشاقة ويستسهلون الكتابة، ويظنون أن تدوين ما يجول في خواطرهم يمكن إلقاؤه فيما بعد بسهولة في سلة الأدب! الحقيقة المرة هي أن ما كتبوه سيلقى مصيره المحتوم في سلة المهملات. لأن الأدب هو الأسلوب، والأسلوب يتطور ببطء شديد، ويحتاج إلى الممارسة المستمرة قدراً معلوماً من الوقت في كل يوم.
لعل اهتداء الكاتب إلى أسلوبه الخاص في الكتابة هو من أكثر الأمور صعوبة في الأدب. إن «الأسلوب» شيء لا يمكن تعلُّمُه، ولا يصح أن تقتدي فيه بأحد، وعلى الكاتب أن يُعلِّم نفسه مصطبراً ويقوم بتجارب لا حصر لها، حتى يتوصل إلى اختراع أسلوبه الخاص.. إن هذا الكاتب المثابر المجتهد سوف يمنحه الزمن براءة اختراع ويرفعه إلى مصاف الخالدين.
هذا هو المبدأ الثالث: كل مهنة تحتاج إلى تدريب طويل حتى تتقنها، وكذلك مهنة الأدب.
عنصر «المكان» يبدو ثانوياً في التأليف الأدبي، والكاتب المبتدئ غالباً ما يتعامل مع عنصر «المكان» كديكور خارجي لأحداث قصته.
لعل لفظ «المكان» هو السبب في تضليل الكُتاب المبتدئين، وأستحسنُ استخدام مصطلح أكثر شمولاً هو «جغرافيا المكان».
بمعنى أن على الكاتب أن يدرس «جغرافية» الرواية التي يخطط أو قد شرع بالفعل في كتابتها.
عليه أن يضع مثلاً تأثير الطقس – القصير المدى- على الأحداث، ومدى أثر المناخ – الطويل المدى- على خلق تلك الأحداث من الأصل. أن يضع في اعتباره تأثير التضاريس على تكوين الشخصيات. أن يربط بعمق بين الموقع الجغرافي والسلوك البشري؛ لأن الجغرافيا هي الوجه الآخر للقدر. لأننا حيث نولد يرسم لنا القدر مسارنا في الحياة. بالطبع يمكن للإنسان أن يتمرد على هذه «القدرية الجغرافية»، فيتحول من دين إلى دين، أو يتعلم لغة أخرى ويهمل لغته الأم، وقد يتخلى عن العادات والتقاليد التي ورثها عن آبائه وأجداده ويستبدلها بعادات وتقاليد تنتمي إلى حضارة مختلفة تمام الاختلاف.. هذه التحولات بمختلف درجاتها من الكبرى وحتى المتناهية الصغر، ومن الظاهرة إلى الخفية التي تحتاج إلى دقة الملاحظة، هي النواة الحقيقية للأدب.
لفظ «المكان» لا يفي بهذه الأبعاد كلها، لأنه يُعطي انطباعاً أن المقصود هو القرية أو المدينة التي تدور فيها أحداث الرواية، أو الغرفة سيئة التهوية التي وقعت فيها الجريمة في القصة.
هذه معضلة على النقاد أن يوجدوا لها حلاً، ويتفقوا على صك مصطلح أكثر دقة واستيعاباً، وأما الكاتب الذي أفنى ساعات كثيرة من عمره في الكتابة فهو قد تحول لاشعورياً إلى مُستكشف جغرافي، يتجول في أرض الكتابة المجهولة واصفاً كل شيء يصادفه في طريقه: الحشرات والحيوانات، الأشجار والنباتات، الأساطير والطقوس، البشر، الهواء، الماء، الطعام، الجنس، العبادة والمعابد، العادات والتقاليد، الأخلاق، الطبيعة، التربة، الرطوبة، تقلبات الطقس، حيوية الشعب، قوة الدولة، مستوى التطور الحضاري، درجة النضج الاجتماعي والقانوني، الثروات الطبيعية والمادية، الملابس، الجلد، وما تحت الجلد.
هذا هو المبدأ الرابع: توظيف علم الجغرافيا في إشباع عنصر «المكان» يساوي كتابة التاريخ الجيولوجي للشخصيات.
عنصر «الحبكة» تلقى من الكُتاب المعاصرين القدر الأكبر من الازدراء.. بل إنني صادقتُ كُتاباً حداثيين كانوا يَصِمون أيّ قاص أو روائي يستخدم الحبكة في أعماله بالتخلف! كنت أجلس معهم وأشعر بالخجل من نفسي، لأنني الكاتب الوحيد المتخلف الذي ما يزال يحتال على القراء بشيء رخيص ومبتذل مثل «الحبكة»!
كنت أُنصتُ إلى نميمتهم بلا مبالاة، وأهز رأسي لطمأنتهم عندما يستشهدون بنقاد عظماء تغوطوا على «الحبكة» وسدوا أنوفهم وطالبوا الجميع بالابتعاد عنها!
تُعَوُّلُ هذه الزمرة من الكُتاب المُعادية لـ»الحبكة» على تطوير عناصر السرد الأخرى، كاللغة الشعرية، والحديث الداخلي، والاستبطان النفسي.. كل هذه تقنيات يكتسبها الكاتب أثناء مسيره في درب الكتابة، وأما «الحبكة» فهي خارطة الطريق، والكاتب الذي يقرر الاستغناء عن «الحبكة» فكأنما يحكم على عمله الإبداعي بالتيه فلا يبلغ هدفاً ولا يحقق غاية.
إن القارئ الذي هو المستهدف الأول والأخير من تأليف الكتاب، من حقه عندما يقوم برحلة القراءة من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة أن يمشي على دروب معبدة، بذل الكاتب جهوداً جبارة في تعبيدها، وأن يمضي باتجاه الوجهة الصحيحة، بعد أن نصب المؤلف العلامات الإرشادية لكيلا يتوه، وأن يصل إلى نهاية الطريق ويحصل على تلك النشوة الروحية الصافية التي أطلق عليها الناقد الروسي فيساريون بلنسكي مصطلح «باثوس» وهو الأثر الذي يتركه العمل الفني في النفس.
ما هي الحبكة؟ لعل أفضل من شرحها هو الفيلسوف اليوناني أرسطو في كتابه فن الشعر: «الصراع دون حل يؤدي إلى التوتر».
ربما هناك المئات من التعريفات للحبكة، كلها دقيقة ومحكمة، ولكن أرسطو يقدم الوصفة الصحيحة لاستخدام الحبكة في الأدب.
إن الحياة التي نعيشها هي في الواقع سلسلة لانهائية من الحبكات التي ينسجها القدر بدهاء يتفوق على أذكى العبقريات الأدبية، فكيف يتجرأ كاتب يختال بقراءة نظريات نقدية جوفاء على الهذيان بأن الحبكة لا لزوم لها في النص الأدبي؟؟ إن هذا الإدعاء ما هو إلا شكل من أشكال البروباغندا الأدبية التي تزعم أن حياة البشر تخلو من التوتر، وأن كل شيء على ما يرام! لاشك أن هكذا مقولات هي أكاذيب كبيرة.. وتتخفى خلفها حبكة شريرة!
هذا هو المبدأ الخامس: الحبكة سر النجاح، وإذا قال لك أحد كلاماً غير هذا فلا تُصدق.
*روائي يمني