النّوافذ نهمة في أكلها لحم المارّة. نورٌ خفيف ينبعث من جهاز شاشة
صغيرة معلّقة على حائط غرفة نوم أحد ساكني البناية المقابلة. الأبواب
موصدة. بيتها بارد وحزين. المنضدة الرّخامية على يسارها بقاعة الجلوس
تئنُّ من تكدّس الكتب وفناجين القهوة التي عليها.
واقفة أمام النّافذة ترصد حركة الشّارع في الأسفل، جنّحت بها أحاسيسها
في أحلام اليقظة قرابة عشر دقائق. عشر دقائق كانت كافية لأن تعيش ما هو
مختلف عن واقعها المأزوم. هي راوية الخزرجي الشّابة العراقية ذات السّبعة
عشر ربيعًا. من جيلٍ قُدّر له أ يعرف الجمال إ في الأحلام. ل ل
عند بوّابة الحلم التقيتُ رَاوِيَة. تعارفنا وسألتني عن اسمي، قلتُ على
عجلٍ:
-صبريانا.
كنتُ مشغولةً بمُداعبة لوحة مفاتيح محمولي، أنصتُّ إلى نقرات حروفه
وهي تصمّم ملابس للمتطوّعين من أبطالي، وأنْصِبُ منصّة شرفيّة لمن
سيحضر حفل توقيع روايتي القادمة. طوق الياسمين تحسّسته على رقبتي،
رائحة تبغ المدعوين لفحت أنفاسي. بريق كبير لأعين كثيرة انقضّ كوحش
20
على بصري فغشاه. همسات بعضهم أو بعضهن، فرحة المقرّبين وحسد
الكائدين. مشروبات غازية متنوّعة الألوان، وعصائر فواكه كاذبة. أطباق
حلويات تفنّنتُ في تنسيقها. قالب بخمسة طوابق وبطعم الفستق الحلبيّ
وجميع المك ر سات التي أشتهيها. الكريمة البيضاء كفساتين الملائكة متراقصة على الكعكة الكبيرة المعتلية طاولة مغطّاة بقماش زهريّ جميل. قاعة فسيحة
تطلّ على مرج أخضر وزهور هنا وهناك. كان الحفل بهيًّا، ومهيبًا.
حَ ضر ضَر مَن دعوتُه ومن لم أدْعُه، تلقّيت عديدًا من التّها ي وسمعتُ نََ
عبارات التّنويه. عتب البعض على تركيزي على هذا ونسيان ذاك. ههه..
كدتُ أغوص وسط باقات الزّهور .
الكلّ يحسبني سعيدة وفرحة. لكن أين أنا من السّعادة المزيّفة التي أُضفيها
على ملامح وجهي؟ أنا قلقة جدًّا، حزينة جدًّا حدّ الإجهاش بالبكاء. أواصل
شدّ رباطة جأشي بصعوبة بالغة. أوزّع ابتسامات صفراوية، وهمهمات صارت
ميكانيكية لكثرة ما ردّدتها بوعي وبدون وعي.
انتظرتُه، انتظرت بريق عينيه، انتظرت ابتسامته التي تلفّني عطفًا وحنانًا.
انتظرتُ وجهه البشوش الأسمر، الذي تشعّ منه الشّمس لتدفِّئ مفاصلي
ساعة البرد والزّمهرير. انتظرتُ هدوءه الذي يمنحني الثّقة بالنّفس ويمنحني
الاتّزان. وأنتظرُ هديّته البسيطة المتواضعة الُتي تعادل كلّ ما تكدّس أمامي
من الهدايا.
21
هل يأتي؟ هل يفعلها؟ أم سأنتظر أكثر؟ ربّما قد لا يأتي؟ ربّما أنتظر وَهمًا؟
أمن المعقول أن يكون قد حصل لي ذلك؟ لعلّه حصل؟ وإذا حصل أيمكن
أن أكون سليمة المدارك العقلية؟ أم كلّ ما يحصل لي يدلّ على أنّني وصلت
إلى شفير الهاوية وحافّة الجنون؟
فطنتُ إلى أنَني الأخرى قد جنّح بي الحلم وأنا التي جاءت من أقاصي حلم راوية الخزرجي. وتمتّعت راوية ببداية مشوّقة لقصّة. لعلّها عَجِبَتْ مثلي
ممّا يحصل. كيف يمكن لبطلة حلم أن تحلم بدورها؟ وكيف يمكن لسيّدتي
راوية الخزرجي التي منحتني الحياة بحلمها أن تعرف بحيثيات هروبي.
وبحيثيات انعتاقي منها ومن حلمها ليكون لي حلمي الخاصّ؟ ههه..كيف
لي أن أعرف حلم الحلم؟
أنا مجرّد فتاة حلمٍ تحلمُ بدورها، أسمتني راوية الخزرجي صبريانا، هربت
من حُلمها إلى حُلمي الذّاتي، إلى حُلم لي وحدي. تركتها على الرّكح تشاهد
ما يحدث.
وأنا أتخيّل القصّة، تدلّت خصلة من شعري الفاحم الطّويل أمام عيني،
فأرجعتُها إلى الخلف في محاولة لطيّ صفحة من الضّياع والارتباك والرّيبة.
كم هو واسع خيالي وكم ملكة الإبداع لديَ شاسعة. ما زلتُ بالأسطر الأولى من رواية «اِمرأة تعشق جثّة ». وهأنا أتخيّل اِكتمالها وطبعها وحفل
22
توقيعها وصدى تلقّيها عند النّاس وهي لم تكتب بعد. كم أنا لجوجة؟ ألا
يعرف الصّبر طريقه إليَ؟ّ
قمت من على الكرسيّ الذي أمام جهاز الحاسوب. أشعلت فانوس
الغرفة ووقفت في مواجهة وجهي أمام المرآة أطلب مشورته. فإذا به يسعفني
بأبيات للشّيخ ناصيف اليازجي:
" يا بائع الصّبر لا تشفق على الشّاري
فدرهم الصّبر يسوى ألف دينار
لا شيء كالصّبر يشفي جُرح صاحبه
ولا حوى مثله حانوت عطّار
هذا الذي تخمد الأحزان جرعته
كبارد الماء يطفئ حدّة النّار
ويحفظ القلب باقٍ سلامته
حتى يبدّل إعسار بإسار
سيفتح الله بابًا ليس تعرفه
ومنهجًا غير ملحوظ بأبصار
إذا قطعنا رجاء النّفس من فرج
فإننا قد قطعنا رحمة الباري
صغيرة معلّقة على حائط غرفة نوم أحد ساكني البناية المقابلة. الأبواب
موصدة. بيتها بارد وحزين. المنضدة الرّخامية على يسارها بقاعة الجلوس
تئنُّ من تكدّس الكتب وفناجين القهوة التي عليها.
واقفة أمام النّافذة ترصد حركة الشّارع في الأسفل، جنّحت بها أحاسيسها
في أحلام اليقظة قرابة عشر دقائق. عشر دقائق كانت كافية لأن تعيش ما هو
مختلف عن واقعها المأزوم. هي راوية الخزرجي الشّابة العراقية ذات السّبعة
عشر ربيعًا. من جيلٍ قُدّر له أ يعرف الجمال إ في الأحلام. ل ل
عند بوّابة الحلم التقيتُ رَاوِيَة. تعارفنا وسألتني عن اسمي، قلتُ على
عجلٍ:
-صبريانا.
كنتُ مشغولةً بمُداعبة لوحة مفاتيح محمولي، أنصتُّ إلى نقرات حروفه
وهي تصمّم ملابس للمتطوّعين من أبطالي، وأنْصِبُ منصّة شرفيّة لمن
سيحضر حفل توقيع روايتي القادمة. طوق الياسمين تحسّسته على رقبتي،
رائحة تبغ المدعوين لفحت أنفاسي. بريق كبير لأعين كثيرة انقضّ كوحش
20
على بصري فغشاه. همسات بعضهم أو بعضهن، فرحة المقرّبين وحسد
الكائدين. مشروبات غازية متنوّعة الألوان، وعصائر فواكه كاذبة. أطباق
حلويات تفنّنتُ في تنسيقها. قالب بخمسة طوابق وبطعم الفستق الحلبيّ
وجميع المك ر سات التي أشتهيها. الكريمة البيضاء كفساتين الملائكة متراقصة على الكعكة الكبيرة المعتلية طاولة مغطّاة بقماش زهريّ جميل. قاعة فسيحة
تطلّ على مرج أخضر وزهور هنا وهناك. كان الحفل بهيًّا، ومهيبًا.
حَ ضر ضَر مَن دعوتُه ومن لم أدْعُه، تلقّيت عديدًا من التّها ي وسمعتُ نََ
عبارات التّنويه. عتب البعض على تركيزي على هذا ونسيان ذاك. ههه..
كدتُ أغوص وسط باقات الزّهور .
الكلّ يحسبني سعيدة وفرحة. لكن أين أنا من السّعادة المزيّفة التي أُضفيها
على ملامح وجهي؟ أنا قلقة جدًّا، حزينة جدًّا حدّ الإجهاش بالبكاء. أواصل
شدّ رباطة جأشي بصعوبة بالغة. أوزّع ابتسامات صفراوية، وهمهمات صارت
ميكانيكية لكثرة ما ردّدتها بوعي وبدون وعي.
انتظرتُه، انتظرت بريق عينيه، انتظرت ابتسامته التي تلفّني عطفًا وحنانًا.
انتظرتُ وجهه البشوش الأسمر، الذي تشعّ منه الشّمس لتدفِّئ مفاصلي
ساعة البرد والزّمهرير. انتظرتُ هدوءه الذي يمنحني الثّقة بالنّفس ويمنحني
الاتّزان. وأنتظرُ هديّته البسيطة المتواضعة الُتي تعادل كلّ ما تكدّس أمامي
من الهدايا.
21
هل يأتي؟ هل يفعلها؟ أم سأنتظر أكثر؟ ربّما قد لا يأتي؟ ربّما أنتظر وَهمًا؟
أمن المعقول أن يكون قد حصل لي ذلك؟ لعلّه حصل؟ وإذا حصل أيمكن
أن أكون سليمة المدارك العقلية؟ أم كلّ ما يحصل لي يدلّ على أنّني وصلت
إلى شفير الهاوية وحافّة الجنون؟
فطنتُ إلى أنَني الأخرى قد جنّح بي الحلم وأنا التي جاءت من أقاصي حلم راوية الخزرجي. وتمتّعت راوية ببداية مشوّقة لقصّة. لعلّها عَجِبَتْ مثلي
ممّا يحصل. كيف يمكن لبطلة حلم أن تحلم بدورها؟ وكيف يمكن لسيّدتي
راوية الخزرجي التي منحتني الحياة بحلمها أن تعرف بحيثيات هروبي.
وبحيثيات انعتاقي منها ومن حلمها ليكون لي حلمي الخاصّ؟ ههه..كيف
لي أن أعرف حلم الحلم؟
أنا مجرّد فتاة حلمٍ تحلمُ بدورها، أسمتني راوية الخزرجي صبريانا، هربت
من حُلمها إلى حُلمي الذّاتي، إلى حُلم لي وحدي. تركتها على الرّكح تشاهد
ما يحدث.
وأنا أتخيّل القصّة، تدلّت خصلة من شعري الفاحم الطّويل أمام عيني،
فأرجعتُها إلى الخلف في محاولة لطيّ صفحة من الضّياع والارتباك والرّيبة.
كم هو واسع خيالي وكم ملكة الإبداع لديَ شاسعة. ما زلتُ بالأسطر الأولى من رواية «اِمرأة تعشق جثّة ». وهأنا أتخيّل اِكتمالها وطبعها وحفل
22
توقيعها وصدى تلقّيها عند النّاس وهي لم تكتب بعد. كم أنا لجوجة؟ ألا
يعرف الصّبر طريقه إليَ؟ّ
قمت من على الكرسيّ الذي أمام جهاز الحاسوب. أشعلت فانوس
الغرفة ووقفت في مواجهة وجهي أمام المرآة أطلب مشورته. فإذا به يسعفني
بأبيات للشّيخ ناصيف اليازجي:
" يا بائع الصّبر لا تشفق على الشّاري
فدرهم الصّبر يسوى ألف دينار
لا شيء كالصّبر يشفي جُرح صاحبه
ولا حوى مثله حانوت عطّار
هذا الذي تخمد الأحزان جرعته
كبارد الماء يطفئ حدّة النّار
ويحفظ القلب باقٍ سلامته
حتى يبدّل إعسار بإسار
سيفتح الله بابًا ليس تعرفه
ومنهجًا غير ملحوظ بأبصار
إذا قطعنا رجاء النّفس من فرج
فإننا قد قطعنا رحمة الباري