أوّ لا لا، وعليَ أ أنتظر ناظم عندما أقيم حفل توقيعها وأدعو المدعوين من لًًّ أهل الذّكر والأصدقاء. سأكتوي وحدي بنار غيابه كما أكتوي بها يوميًّا، وكما اكتويتُ بها سنينًا.
لكن إن حضر يوم توقيع الرّواية سيعلم الجميع أنّ الموتى لا يموتون، ولا يغيّبون. وأنّ ال رت رتاب الذي يغطّيهم، مجرّد لحاف شفّاف ينظرون من ورائه باستخفاف وسخرية إلينا. كما يشعرون بالشّفقة علينا من أوهامنا التي تلبسنا ونلبسها في كلّ الأوقات. وحدي أعرف قصّة الموتى وعالمهم، وكيف أتواصل معهم، وأبني ج رًا واص لا لا بين عالمهم وعالمنا. سًً نظرتُ خارج الغرفة، تحت النّافذة مباشرة، إلى شارع فسيح وطويل، شارع المتنبّي الشّهير . شارع نفائس الكتب، والمخطوطات، والتظاهرات الثقافية المتعدّدة. الشّارع الذي بوضعه الجديد أصبح من المضحكات المبكيات في وطننا الجريح. أصبح يضجّ بذوات الكعب العالي. وبرائحة التّبغ وقوارير الجعة على الضفّتين، وبالعلكة الملتصقة ببقايا أسفلت متبقّ في بعض حفر الطّريق. ولا ننسى قطع قصدير السيّارات التي فُخّخت وانفجرت وقتلت الكثير في هذا الشّارع. أحرقت آلاف الكتب القيّمة والمخطوطات النّادرة.
أسفل شقّتي رأيت شيخًا في السّبعين من عمره أو يزيد، يرفع الغطاء عن كسكاس كبير به ما يفوق ثلاثين رأس غنم، ليتصاعد البخار وتنتشر الرّائحة في المكان. يتأفّف البعض ويروق للبعض الآخر، في حين يمسح أحدهم لعابه مخُاطبًا زميله:
- لا شيء أشهى من الرّأس المفوّر والله نعمة من عند ر يب يب. يبدو من هيئة هذا الشّيخ ولهجته أنّه من التّونسيين الذين عاشوا بالعراق زمن رغده، وعزّ عليهم فراقه بعد نكبته، أو هو ممّن تزوّج بعراقية وأنجب أولادًا عراقيين يرفضون العيش خارجه، أو هو ممّن فقد أوراقه الثبوتية وجواز سفره في أثناء الغزو.
أَكْلة الرّأس المفوّر التي يمدحها الشّيخ، خصيصة مغاربية، انتشرت خاصّة بالجزائر وتونس، ثمّ دخلت مطبخ ساكني بعض الدّول العربية منها العراق.
شعرتُ بالغثيان من الرّائحة القويّة. أغلقتُ النّافذة ومباشرة توّجهتُ إلى الثلاّجة، تناولتُ بطيخة صغيرة وسكّينا وشرعت في تقطيعها على شكل أهلّة، قضمتُ قطعة صغيرة واحدة لأُذهب عني ما شعرتُ به من غثيان، لكن البطيخة كانت شهيّة ومائلة إلى الحمرة، ذهبيّة كلون القمر المتلألئ الذي يزيّن سجّادة السّماء الزّرقاء، تناولتُ هلا لا لا كام لا لا فثانٍ وثالث، إلى أن أتيت على كلّ أهلّة البطيخة المقسّمة إلى اثني عشر هلا لا لا. لم أتعمّد تقسيمها على هذا النّحو، ولكن المصادفة أو ربّما التّشكيل الطّبيعي الذي على البطيخة هو الذي حدّد هذا العدد.
تعجّبتُ ممّا يحصل لي ولو من باب المصادفة، وتوصّلتُ سريعًا إلى حلٍّ للمعادلة بصوت مسموع:
- الحياة بطيخة، إذا كانت كريمة معنا يكون طعمها لذيذًا ومُغريًا بقضمها قطعة قطعة. والقطع أهلّة كأهلّة أشهر العام تتتالى إلى أن تنتهي السّنة ونُطفئ شمعة جديدة من أعمارنا. ونقول للطّفل كبرت، ونصنع له قالب الحلوى ونمطره بالهدايا، ونخفي أعمارنا عندما نصبح بالثّلاثين، ونصبغ الشّعر الأبيض إذا كنّا بالأربعين. ونخصم عشرة أعوام إذا كنّا بالخمسين، وعشرين إذا كنّا بالستّين.
المرأة شابّة أبدًا والشّيخ لا يتعدّى مرحلة الكهولة. الكلّ يكذب عند الحديث عن العمر. والكلّ يقول أتجمّل عندما يكتشف سنّه الحقيقية بمكتب الحالة المدنية، أو عند ضياع وثيقة هويّته، والعثور عليها من قبل جار أو قريب أو زميل في العمل.
لكن إذا كانت الحياة بطيخة، فالأرض التي عليها نعيش أيضا بطيخة، أظنُّ لها نفس الشّكل تقريبًا، من آدم إلى الآن الأرض مقاسم، وها هي قارّات، ودّول، وأقاليم، ومحافظات، ومدن، وقرى، وأحياء، وحقول، ومنازل، وغرف، وقبور.
الحياة على الأرض تبدأ بقارّة فسيحة وتنتهي بقبر ضيّق مظلم لا يتعدّى وسعه الشّبر، من ضيق إلى ضيق ننتهي. تقذفنا أرحام أمّهاتنا التي نقبع فيها تسعة أشهر في وضع جنينيّ مقيّد الحركة نظرًا لضيقها، لنتوه على أرض
واسعة فسيحة. نتناحر ونتقاتل على البقاء، لينتهي بنا المطاف في ضيقٍ أشدّ وهو القبر.
الآن فهمت ما قاله ابن مريم عيسى عليه السلام:
- " وَال لا سَّ لا لَّامَّ عَ يل يََليََل يَوْم وُلِدْت وَيَوْم أَمُوت وَيَوْم أُبْعَث حَيًّا".. .َََّّّ
أظنُّ أنّ الحياة ما لها هاية وهي حلقة دائريّة، موت فحياة فموت فحياة. ن من مات خ يلف، ومن خ يلف ما مات، ومن مات يُبعث حيًّا. لا يمكنني أن أعترض على ذلك، فهي مشيئة الله. فقط أشعر بالشّفقة على نفسي، وأنا حيّة
أُرزق أنتظر ميّتًا، أنتظرُه لأحيا من جديد، قبل أن يضمّني قبرٌ وأنتظر بعثًا جديدًا.
أليس هذا الميّت الحيّ هو الذي أحيا ي أنا الحيّة الميّتة؟ لكنَ إحياءه لي لم نّ يكن إ بعد أن ضمّه قبرٌ وواراه أهلُه وصحبُه وعشيرته ال رت رتاب. ألم يمنحني لّّ بعد مماته بعشر سنوات ما انتظرتُه منه عُمرًا؟ أنا أحييته بقلبي وهو أحيا ي ن بوفائه ونطفته التي منحتني الرّغبة في الحياة. وكان ذلك الطّفل الذي يرقد بالمهد، وينتظر عدّة أهلّة وعدّة أشهر وعدّة أعوام ليكبر؛ لينجز أعما لا لا، ويفلح الأرض، ويدرس، ويكتب، ويدوّن شهادة وفاتي بعدما أشيخ وأرحل، هذه هي الحياة. إ هّا كهذه البطيخة التي آكلُ ولا أشبع من أكلها. تمامًا كما نفعل ن عندما ننتظر رواتبنا آخر الشّهر ونتطلّع للشّهر القادم. ولا نفطنُ إ عندما ل هرم ونشيخ وتزيد مديونيّتنا ويزيد فقر جيوبنا وفقر نفوسنا . هذا هو ال ي شَء نّ الذي لا نستطيع أن نتجنبّه، ولا أن نبتعد عنه، ولا أن نمنع أنفسنا من التفكير
فيه.
على أيّة حال الكلّ في فلك يسير، والكلّ في خانة المجهول. قد يحضر ناظم وقد لا يحضر، المهمّ أن يحضر ابننا، ابنه، فهذا الشّبل من ذاك الأسد. في سرير برونزي صغير منقوش بالنّحاس، وتحت ناموسية من قماش الموسلين ينام صغيري أويس بهدوء. يرتاح لنومه على جانبه الأي ر كما كان يفعل أبوه. س رغم محاولاتي المتكرّرة لينسى عادة النّوم على جانبه الأي ر فقط، حتّى لا س يضرّ عينيه ولا يصاب بالحول.
ما أجمل شعره وهو يغطّي جبينه ووجهه الأسمر. ههه..كلّما مسحت على رأسه يضحك ببراءة مذهلة.
آه بني.. يا ابن الموت والحياة. أيمكن أن تقبلك عائلتي؟ وعائلة أبيك؟
هل ستتقبّل أنت حقيقة أنّك ابن شرعيّ وابن زوج مات من عشر سنين وعمرك الآن شهران؟ أنا تزوّجت أباك قبل وفاته بسويعات، وحملت بعد تسع سنوات من زواجي به ورحيله.
الحقيقة قد تصدمك وتصدمهم ولن يقبلها عقل ولا منطق. لكنّها حصلت بُنَيَ، أنت ابني وابن ناظم الذي مات من عشر سنين.ّ
آه... حياتي رحلة الآلام. بُنيَ عليَ أن ألفُّك ببطّانية صوفية، البرد قارس والزّوابع كثيرة هذه الأيّام. قد ترعد وقد تمطر وقد تفيض الحقول والوديان.
وقد هجم تسونامي ويتضرّر البعض ونفقد البعض ويعا ي الآخرون ونسجّل ن ي ضحايا، ولكن لن يدوم ذلك طوي لا لا. سينقضي الشّتاء وسيقبل الرّبيع، سيزهر شجر اللّوز والمشمش ليعانقا زهر الياسمين. عندها ستبدأ بالجلوس بُنيَ، ثم ستحبو وتتعلّم حروفًا كثيرة، وكلمات قليلة، وستفهم أشياء كثيرة، وسأعرف أنّك كبرت عندما تبتسم في وجهي، وتقرأ ملامحه وأعرف أنّك أدركت أنّ الميّت يمكن أن ينجب الأحياء. أنت اِبن الميّت جئت تبعث في القوم الحياة بعد أن اِفتقد الكلّ معناها وافتقدناها. نحن ميّتون ولكن نأكل ونشرب ونتبرّز ككلّ الهوام، ومختلف فصائل الحيوان، نحن نموت كلّ يوم، وموتنا يراقب المشهد.
- بيب..بييب...بيب ..بيب.
-مه لا لا أنا قادمة.ًً
-بيب..أها..جئتِ أخيرًا.
أوووه! مَن أرى؟ جوري وجمال! مرحبًا .. مرحبًا.
تأخّرت علينا صبريانا، الشّارع مكتظّ ولا نستطيع أن نركن السيّارة، لذلك أزعجناك وأزعجنا جيرانك بصوت منبّه السيّارة.
أعتذر لكما لم أسمع. كنت مشغولة بالدّاخل. كيف حالك جوري؟ كيف حالك جمال؟
نحن بخير. ( قال جمال وابتسمت جوري في رضا).
انزلا، سأفتح الباب الخلفي الكبير، اركنا السيّارة بحديقة منزل العائلة.
جمال في حزم:
- نعم، نعم، أسرعي. جئت وجوري خطيبتي لنبيت ليلتنا عندك. تعلمين نحن نسكن بالسّليمانية، وغدًا سنتبضّع قلي لا لا ما يلزم لجهاز جوري.ًً
- مبارك لك يابن الخال، مبارك لك يابنة العمّة.
إغيييييييييييييط..إغيييييييط..اززززززززززززززززززززز....اززز.
- الباب يصدر أزيزًا مزعجًا من مدّة كبيرة لم يفتح. أبي وإخوتي سافروا إلى الدّنمرك كما تعلمان.
جوري وهي تسحب حقيبتها من السيّارة وتغلق الباب خلفها:
- نعتذر صبريانا لم نخبرك مسبقًا.
- لا لا، أنتما لحمي ودمي، حللتما أه لا لا ونزلتما سه لا لا. سحبت جوري شعرها الفاحم الطّويل إلى الوراء لينسدل على كتفيها
ويعطي لقوامها جما لا لا وفتنة. تقدّمت خطيبها جمال لتدلُفَ إلى الباب الخارجي، ثم صعدت السلّم أمامي تتهادى في مشيتها وتتمايل.
- تشك.. تشك.. القدّاحة.. لا تعمل.. أووف.
( قال جمال).
- من معي وتبحث عن قدّاحة ههههههه.
(وهي تتخطّى آخر درجة بالسلّم وتضع رجلها اليمنى بعتبة باب
الشقّة).
- هههههه على مهلك عليه.. جوري.. هههه.
( وقد فوجئت بجرأتها).
- عزيزتي صبريانا، المرأة النّارية تكسب، الرّجال يحبّون امرأة كهذه هههه.
لذلك تأخّرتِ بالزّواج. اعذري جرأتي، أنت بالخامسة والثّلاثين. الحقي القطار، ههه، أنت جدّية أكثر من اللّزوم.
مباشرة توّجهت إلى غرفة الجلوس وبخفّة ورشاقة جلست على الأريكة المقابلة للرّواق. هي في الثّانية والعشرين من العمر. حنطية البشرة، وسيعة العينين، دقيقة الجيد. أعطافها ككثيب، تتكلّم بدلال وغنج. حركة يدها ي كنوتة موسيقية، طلاء أظفارها مذهل الجمال. تضع أحمر قانيًا رسمته بعناية فائقة، فبدا فمها كحبّة فراولة.
عيناها مكتحلتان، ممشطتان بالماسكرا، على الجفنين وضعت خطّين أسودين عريضين. أمّا الحاجبان فهما كسيفين جميلي المنظر رسمتهما بعناية فائقة. جميلة هذه الفتاة، لا أعلم متى كبرت؟ متى تعلّمت كلّ هذه الأنوثة الفاتنة؟ أنا التي دارت العالم تقريبًا بحكم وظيفتي السّابقة مضيّفة طيران، أجد نفسي تلميذة بالابتدائية أمامها.
- أين القدّاحة؟
( جاء ي صوت جمال من المطبخ). ن جوري مشاكسة مرّة أخرى:
- قلت لك لا تبحث عنها بعيدًا هي عندي..هههههه.
دخل جمال قاعة الجلوس ودخان سيجارته يسبقه. الحمد لله أنّ أوّيس ينام بالغرفة المجاورة؛ لذلك لم أحرج جمال وقد دخل للتّو، جلس صامتًا قلي لا لا، وهو يجيل نظره في الغرفة.ًً
قلت:
- خذا راحتكما سأجهّز لكما قهوة، البيت بيتكما، آه نسيت كيف تحبّا ها؟ ن
- إيطالية مركّزة مع سكّر مضبوط
( جمال).
- أنا أريدها مرّة.
( جوري).
فوجئت فهي صغيرة على السكّري، أشفقت عليها.
ابتسمتُ في وجهها:
- سلامتك جوري.
- ههههه ما عندي سكّري، لكن أنا حلوة أكثر من اللّزوم أخاف أن أتكتّل..ههههههه.
- هي هكذا دائ ما ما، لا تعرف للجدّ طريقًا، صبريانا لا تهتمّي لها.ًً
- كيف لا أهتمّ جمال وقد طلبت قهوتها مرّة؟ عمومًا شباب هذه الأيّام له لغته الخاصّة، لا أفهمه مع إ ي ن ما زلتُ شابّة أيضًا.ّ
تناولتُ القدّاحة من جمال وتوجّهت إلى المطبخ في الغ لا لاية وضعت ثلاثة فناجين من الماء. بعد غليان الماء، أضفتُ بضع ملاعق صغيرة من القهوة السّوداء الأصلية على الطّريقة الإيطالية.
صببتُ المرّة لجوري في فنجان سميك أبيض، ثمّ أضفتُ السكّر في الباقي، وصببتُ فنجانًا آخر لجمال. وضعتُ الاثنين في صحنين صغيرين ووضعت الكلّ في صينية من خشب الخيزران.
وأنا في طريقي إليهما سمعت عدّة ضحكات مكبوتة آتية من قاعة الجلوس. وبدُنوّي من باب الغرفة، كان صوت جوري جليّا، رنّانًا، رقراقًا كعسل مصفّى:
-ك يل يل تحت أمرك وحضني دفاك.ّّ
تنحنحت حتّى تصمت جوري الوقحة لكنّها تمادت، نظرتْ إليَ بابتسامة خبيثة واقتربت منه أكثر واضعة يديه حول خصرها فطوّقه. نَسِيَا ي أو ن تناسيا ي لا أعلم. أنا على إدراك تامّ أنّ جوري تتعمّد ذلك، مواصلة همسها: ن
-يالله أحسّ اللّيل طوي لا لا، وموحشًا، وباردًا من دونك يا حبيبي.ًً
لم أسمع ردّ جمال لكنّه كان في غاية الانسجام معها. دنت منه أكثر، ألصقت صدرها بصدره. وقفت على رؤوس أصابعها ثمّ أغرقته في قبلة، غرقت أنا بعدها في ماء وجهي حياءً.
تظاهرت أنّني لم ألحظ شيئًا رغم نظرات جوري الماكرة، قلتُ بصوت عالٍ:
جمال، جوري، القهوة ستبرد.
- أعتذر صبريانا، هذه المشاكسة لا تهدأ.
- هه لا تصدّقيه صبريانا، هو الذّئب المخاتل.
- لا بأس، لم أشاهِدْ شيئًا.
( لأُجنّبهما الحرج).
قالت جوري:
- "إنّ العيون على القلوب شواهد فبغيضها على القلوب بين وحبيبها وإذا تلاحظت العيون تفاوضت
وتحدّثت ع ما تجنّ قلوبهاّّ ينطقن والأفواه صامتة فماخفى عليك بريئها ومُريبها". ي
الباب الثاني
لكن إن حضر يوم توقيع الرّواية سيعلم الجميع أنّ الموتى لا يموتون، ولا يغيّبون. وأنّ ال رت رتاب الذي يغطّيهم، مجرّد لحاف شفّاف ينظرون من ورائه باستخفاف وسخرية إلينا. كما يشعرون بالشّفقة علينا من أوهامنا التي تلبسنا ونلبسها في كلّ الأوقات. وحدي أعرف قصّة الموتى وعالمهم، وكيف أتواصل معهم، وأبني ج رًا واص لا لا بين عالمهم وعالمنا. سًً نظرتُ خارج الغرفة، تحت النّافذة مباشرة، إلى شارع فسيح وطويل، شارع المتنبّي الشّهير . شارع نفائس الكتب، والمخطوطات، والتظاهرات الثقافية المتعدّدة. الشّارع الذي بوضعه الجديد أصبح من المضحكات المبكيات في وطننا الجريح. أصبح يضجّ بذوات الكعب العالي. وبرائحة التّبغ وقوارير الجعة على الضفّتين، وبالعلكة الملتصقة ببقايا أسفلت متبقّ في بعض حفر الطّريق. ولا ننسى قطع قصدير السيّارات التي فُخّخت وانفجرت وقتلت الكثير في هذا الشّارع. أحرقت آلاف الكتب القيّمة والمخطوطات النّادرة.
أسفل شقّتي رأيت شيخًا في السّبعين من عمره أو يزيد، يرفع الغطاء عن كسكاس كبير به ما يفوق ثلاثين رأس غنم، ليتصاعد البخار وتنتشر الرّائحة في المكان. يتأفّف البعض ويروق للبعض الآخر، في حين يمسح أحدهم لعابه مخُاطبًا زميله:
- لا شيء أشهى من الرّأس المفوّر والله نعمة من عند ر يب يب. يبدو من هيئة هذا الشّيخ ولهجته أنّه من التّونسيين الذين عاشوا بالعراق زمن رغده، وعزّ عليهم فراقه بعد نكبته، أو هو ممّن تزوّج بعراقية وأنجب أولادًا عراقيين يرفضون العيش خارجه، أو هو ممّن فقد أوراقه الثبوتية وجواز سفره في أثناء الغزو.
أَكْلة الرّأس المفوّر التي يمدحها الشّيخ، خصيصة مغاربية، انتشرت خاصّة بالجزائر وتونس، ثمّ دخلت مطبخ ساكني بعض الدّول العربية منها العراق.
شعرتُ بالغثيان من الرّائحة القويّة. أغلقتُ النّافذة ومباشرة توّجهتُ إلى الثلاّجة، تناولتُ بطيخة صغيرة وسكّينا وشرعت في تقطيعها على شكل أهلّة، قضمتُ قطعة صغيرة واحدة لأُذهب عني ما شعرتُ به من غثيان، لكن البطيخة كانت شهيّة ومائلة إلى الحمرة، ذهبيّة كلون القمر المتلألئ الذي يزيّن سجّادة السّماء الزّرقاء، تناولتُ هلا لا لا كام لا لا فثانٍ وثالث، إلى أن أتيت على كلّ أهلّة البطيخة المقسّمة إلى اثني عشر هلا لا لا. لم أتعمّد تقسيمها على هذا النّحو، ولكن المصادفة أو ربّما التّشكيل الطّبيعي الذي على البطيخة هو الذي حدّد هذا العدد.
تعجّبتُ ممّا يحصل لي ولو من باب المصادفة، وتوصّلتُ سريعًا إلى حلٍّ للمعادلة بصوت مسموع:
- الحياة بطيخة، إذا كانت كريمة معنا يكون طعمها لذيذًا ومُغريًا بقضمها قطعة قطعة. والقطع أهلّة كأهلّة أشهر العام تتتالى إلى أن تنتهي السّنة ونُطفئ شمعة جديدة من أعمارنا. ونقول للطّفل كبرت، ونصنع له قالب الحلوى ونمطره بالهدايا، ونخفي أعمارنا عندما نصبح بالثّلاثين، ونصبغ الشّعر الأبيض إذا كنّا بالأربعين. ونخصم عشرة أعوام إذا كنّا بالخمسين، وعشرين إذا كنّا بالستّين.
المرأة شابّة أبدًا والشّيخ لا يتعدّى مرحلة الكهولة. الكلّ يكذب عند الحديث عن العمر. والكلّ يقول أتجمّل عندما يكتشف سنّه الحقيقية بمكتب الحالة المدنية، أو عند ضياع وثيقة هويّته، والعثور عليها من قبل جار أو قريب أو زميل في العمل.
لكن إذا كانت الحياة بطيخة، فالأرض التي عليها نعيش أيضا بطيخة، أظنُّ لها نفس الشّكل تقريبًا، من آدم إلى الآن الأرض مقاسم، وها هي قارّات، ودّول، وأقاليم، ومحافظات، ومدن، وقرى، وأحياء، وحقول، ومنازل، وغرف، وقبور.
الحياة على الأرض تبدأ بقارّة فسيحة وتنتهي بقبر ضيّق مظلم لا يتعدّى وسعه الشّبر، من ضيق إلى ضيق ننتهي. تقذفنا أرحام أمّهاتنا التي نقبع فيها تسعة أشهر في وضع جنينيّ مقيّد الحركة نظرًا لضيقها، لنتوه على أرض
واسعة فسيحة. نتناحر ونتقاتل على البقاء، لينتهي بنا المطاف في ضيقٍ أشدّ وهو القبر.
الآن فهمت ما قاله ابن مريم عيسى عليه السلام:
- " وَال لا سَّ لا لَّامَّ عَ يل يََليََل يَوْم وُلِدْت وَيَوْم أَمُوت وَيَوْم أُبْعَث حَيًّا".. .َََّّّ
أظنُّ أنّ الحياة ما لها هاية وهي حلقة دائريّة، موت فحياة فموت فحياة. ن من مات خ يلف، ومن خ يلف ما مات، ومن مات يُبعث حيًّا. لا يمكنني أن أعترض على ذلك، فهي مشيئة الله. فقط أشعر بالشّفقة على نفسي، وأنا حيّة
أُرزق أنتظر ميّتًا، أنتظرُه لأحيا من جديد، قبل أن يضمّني قبرٌ وأنتظر بعثًا جديدًا.
أليس هذا الميّت الحيّ هو الذي أحيا ي أنا الحيّة الميّتة؟ لكنَ إحياءه لي لم نّ يكن إ بعد أن ضمّه قبرٌ وواراه أهلُه وصحبُه وعشيرته ال رت رتاب. ألم يمنحني لّّ بعد مماته بعشر سنوات ما انتظرتُه منه عُمرًا؟ أنا أحييته بقلبي وهو أحيا ي ن بوفائه ونطفته التي منحتني الرّغبة في الحياة. وكان ذلك الطّفل الذي يرقد بالمهد، وينتظر عدّة أهلّة وعدّة أشهر وعدّة أعوام ليكبر؛ لينجز أعما لا لا، ويفلح الأرض، ويدرس، ويكتب، ويدوّن شهادة وفاتي بعدما أشيخ وأرحل، هذه هي الحياة. إ هّا كهذه البطيخة التي آكلُ ولا أشبع من أكلها. تمامًا كما نفعل ن عندما ننتظر رواتبنا آخر الشّهر ونتطلّع للشّهر القادم. ولا نفطنُ إ عندما ل هرم ونشيخ وتزيد مديونيّتنا ويزيد فقر جيوبنا وفقر نفوسنا . هذا هو ال ي شَء نّ الذي لا نستطيع أن نتجنبّه، ولا أن نبتعد عنه، ولا أن نمنع أنفسنا من التفكير
فيه.
على أيّة حال الكلّ في فلك يسير، والكلّ في خانة المجهول. قد يحضر ناظم وقد لا يحضر، المهمّ أن يحضر ابننا، ابنه، فهذا الشّبل من ذاك الأسد. في سرير برونزي صغير منقوش بالنّحاس، وتحت ناموسية من قماش الموسلين ينام صغيري أويس بهدوء. يرتاح لنومه على جانبه الأي ر كما كان يفعل أبوه. س رغم محاولاتي المتكرّرة لينسى عادة النّوم على جانبه الأي ر فقط، حتّى لا س يضرّ عينيه ولا يصاب بالحول.
ما أجمل شعره وهو يغطّي جبينه ووجهه الأسمر. ههه..كلّما مسحت على رأسه يضحك ببراءة مذهلة.
آه بني.. يا ابن الموت والحياة. أيمكن أن تقبلك عائلتي؟ وعائلة أبيك؟
هل ستتقبّل أنت حقيقة أنّك ابن شرعيّ وابن زوج مات من عشر سنين وعمرك الآن شهران؟ أنا تزوّجت أباك قبل وفاته بسويعات، وحملت بعد تسع سنوات من زواجي به ورحيله.
الحقيقة قد تصدمك وتصدمهم ولن يقبلها عقل ولا منطق. لكنّها حصلت بُنَيَ، أنت ابني وابن ناظم الذي مات من عشر سنين.ّ
آه... حياتي رحلة الآلام. بُنيَ عليَ أن ألفُّك ببطّانية صوفية، البرد قارس والزّوابع كثيرة هذه الأيّام. قد ترعد وقد تمطر وقد تفيض الحقول والوديان.
وقد هجم تسونامي ويتضرّر البعض ونفقد البعض ويعا ي الآخرون ونسجّل ن ي ضحايا، ولكن لن يدوم ذلك طوي لا لا. سينقضي الشّتاء وسيقبل الرّبيع، سيزهر شجر اللّوز والمشمش ليعانقا زهر الياسمين. عندها ستبدأ بالجلوس بُنيَ، ثم ستحبو وتتعلّم حروفًا كثيرة، وكلمات قليلة، وستفهم أشياء كثيرة، وسأعرف أنّك كبرت عندما تبتسم في وجهي، وتقرأ ملامحه وأعرف أنّك أدركت أنّ الميّت يمكن أن ينجب الأحياء. أنت اِبن الميّت جئت تبعث في القوم الحياة بعد أن اِفتقد الكلّ معناها وافتقدناها. نحن ميّتون ولكن نأكل ونشرب ونتبرّز ككلّ الهوام، ومختلف فصائل الحيوان، نحن نموت كلّ يوم، وموتنا يراقب المشهد.
- بيب..بييب...بيب ..بيب.
-مه لا لا أنا قادمة.ًً
-بيب..أها..جئتِ أخيرًا.
أوووه! مَن أرى؟ جوري وجمال! مرحبًا .. مرحبًا.
تأخّرت علينا صبريانا، الشّارع مكتظّ ولا نستطيع أن نركن السيّارة، لذلك أزعجناك وأزعجنا جيرانك بصوت منبّه السيّارة.
أعتذر لكما لم أسمع. كنت مشغولة بالدّاخل. كيف حالك جوري؟ كيف حالك جمال؟
نحن بخير. ( قال جمال وابتسمت جوري في رضا).
انزلا، سأفتح الباب الخلفي الكبير، اركنا السيّارة بحديقة منزل العائلة.
جمال في حزم:
- نعم، نعم، أسرعي. جئت وجوري خطيبتي لنبيت ليلتنا عندك. تعلمين نحن نسكن بالسّليمانية، وغدًا سنتبضّع قلي لا لا ما يلزم لجهاز جوري.ًً
- مبارك لك يابن الخال، مبارك لك يابنة العمّة.
إغيييييييييييييط..إغيييييييط..اززززززززززززززززززززز....اززز.
- الباب يصدر أزيزًا مزعجًا من مدّة كبيرة لم يفتح. أبي وإخوتي سافروا إلى الدّنمرك كما تعلمان.
جوري وهي تسحب حقيبتها من السيّارة وتغلق الباب خلفها:
- نعتذر صبريانا لم نخبرك مسبقًا.
- لا لا، أنتما لحمي ودمي، حللتما أه لا لا ونزلتما سه لا لا. سحبت جوري شعرها الفاحم الطّويل إلى الوراء لينسدل على كتفيها
ويعطي لقوامها جما لا لا وفتنة. تقدّمت خطيبها جمال لتدلُفَ إلى الباب الخارجي، ثم صعدت السلّم أمامي تتهادى في مشيتها وتتمايل.
- تشك.. تشك.. القدّاحة.. لا تعمل.. أووف.
( قال جمال).
- من معي وتبحث عن قدّاحة ههههههه.
(وهي تتخطّى آخر درجة بالسلّم وتضع رجلها اليمنى بعتبة باب
الشقّة).
- هههههه على مهلك عليه.. جوري.. هههه.
( وقد فوجئت بجرأتها).
- عزيزتي صبريانا، المرأة النّارية تكسب، الرّجال يحبّون امرأة كهذه هههه.
لذلك تأخّرتِ بالزّواج. اعذري جرأتي، أنت بالخامسة والثّلاثين. الحقي القطار، ههه، أنت جدّية أكثر من اللّزوم.
مباشرة توّجهت إلى غرفة الجلوس وبخفّة ورشاقة جلست على الأريكة المقابلة للرّواق. هي في الثّانية والعشرين من العمر. حنطية البشرة، وسيعة العينين، دقيقة الجيد. أعطافها ككثيب، تتكلّم بدلال وغنج. حركة يدها ي كنوتة موسيقية، طلاء أظفارها مذهل الجمال. تضع أحمر قانيًا رسمته بعناية فائقة، فبدا فمها كحبّة فراولة.
عيناها مكتحلتان، ممشطتان بالماسكرا، على الجفنين وضعت خطّين أسودين عريضين. أمّا الحاجبان فهما كسيفين جميلي المنظر رسمتهما بعناية فائقة. جميلة هذه الفتاة، لا أعلم متى كبرت؟ متى تعلّمت كلّ هذه الأنوثة الفاتنة؟ أنا التي دارت العالم تقريبًا بحكم وظيفتي السّابقة مضيّفة طيران، أجد نفسي تلميذة بالابتدائية أمامها.
- أين القدّاحة؟
( جاء ي صوت جمال من المطبخ). ن جوري مشاكسة مرّة أخرى:
- قلت لك لا تبحث عنها بعيدًا هي عندي..هههههه.
دخل جمال قاعة الجلوس ودخان سيجارته يسبقه. الحمد لله أنّ أوّيس ينام بالغرفة المجاورة؛ لذلك لم أحرج جمال وقد دخل للتّو، جلس صامتًا قلي لا لا، وهو يجيل نظره في الغرفة.ًً
قلت:
- خذا راحتكما سأجهّز لكما قهوة، البيت بيتكما، آه نسيت كيف تحبّا ها؟ ن
- إيطالية مركّزة مع سكّر مضبوط
( جمال).
- أنا أريدها مرّة.
( جوري).
فوجئت فهي صغيرة على السكّري، أشفقت عليها.
ابتسمتُ في وجهها:
- سلامتك جوري.
- ههههه ما عندي سكّري، لكن أنا حلوة أكثر من اللّزوم أخاف أن أتكتّل..ههههههه.
- هي هكذا دائ ما ما، لا تعرف للجدّ طريقًا، صبريانا لا تهتمّي لها.ًً
- كيف لا أهتمّ جمال وقد طلبت قهوتها مرّة؟ عمومًا شباب هذه الأيّام له لغته الخاصّة، لا أفهمه مع إ ي ن ما زلتُ شابّة أيضًا.ّ
تناولتُ القدّاحة من جمال وتوجّهت إلى المطبخ في الغ لا لاية وضعت ثلاثة فناجين من الماء. بعد غليان الماء، أضفتُ بضع ملاعق صغيرة من القهوة السّوداء الأصلية على الطّريقة الإيطالية.
صببتُ المرّة لجوري في فنجان سميك أبيض، ثمّ أضفتُ السكّر في الباقي، وصببتُ فنجانًا آخر لجمال. وضعتُ الاثنين في صحنين صغيرين ووضعت الكلّ في صينية من خشب الخيزران.
وأنا في طريقي إليهما سمعت عدّة ضحكات مكبوتة آتية من قاعة الجلوس. وبدُنوّي من باب الغرفة، كان صوت جوري جليّا، رنّانًا، رقراقًا كعسل مصفّى:
-ك يل يل تحت أمرك وحضني دفاك.ّّ
تنحنحت حتّى تصمت جوري الوقحة لكنّها تمادت، نظرتْ إليَ بابتسامة خبيثة واقتربت منه أكثر واضعة يديه حول خصرها فطوّقه. نَسِيَا ي أو ن تناسيا ي لا أعلم. أنا على إدراك تامّ أنّ جوري تتعمّد ذلك، مواصلة همسها: ن
-يالله أحسّ اللّيل طوي لا لا، وموحشًا، وباردًا من دونك يا حبيبي.ًً
لم أسمع ردّ جمال لكنّه كان في غاية الانسجام معها. دنت منه أكثر، ألصقت صدرها بصدره. وقفت على رؤوس أصابعها ثمّ أغرقته في قبلة، غرقت أنا بعدها في ماء وجهي حياءً.
تظاهرت أنّني لم ألحظ شيئًا رغم نظرات جوري الماكرة، قلتُ بصوت عالٍ:
جمال، جوري، القهوة ستبرد.
- أعتذر صبريانا، هذه المشاكسة لا تهدأ.
- هه لا تصدّقيه صبريانا، هو الذّئب المخاتل.
- لا بأس، لم أشاهِدْ شيئًا.
( لأُجنّبهما الحرج).
قالت جوري:
- "إنّ العيون على القلوب شواهد فبغيضها على القلوب بين وحبيبها وإذا تلاحظت العيون تفاوضت
وتحدّثت ع ما تجنّ قلوبهاّّ ينطقن والأفواه صامتة فماخفى عليك بريئها ومُريبها". ي
الباب الثاني