أماني فؤاد - الأدب حين يعري الحد الأدنى من الحياة

عبّر ماركيز عن شجونه بعد ملاحظته تناقص عدد قراء الأدب الذي لمسه في حفلات توقيع كتبه، كما اتسع أسفه عندما لاحظ زيادة نسب قراءة نساء الطبقة الوسطى للأدب عن الرجال، وكذلك انتظامهم في الدراسات الإنسانية، وتضاؤل إقبال الرجال على تلك التخصصات، وهو ما لاحظته بالفعل في مؤتمرات اللغة العربية وفنونها بميلانو، تلك التي يُعد لها وينظمها د. وائل فاروق أستاذ الأدب والنقد الحديث بالجامعة الكاثوليكية بنجاح فائق كل عام لمد جسور التلاقي المضيئة بين الثقافة العربية والأوربية، حيث يندر وجود الطلبة الرجال رغم ارتفاع عدد الطالبات اللاتي جذبتهن أنشطة وجهود أستاذهن المصري. ويصف ماركيز المجتمعات التي لا تقرأ الأدب وتتعامل معه بحسبانه ترفا بأنها مجتمعات همجية، لا تدرك إنسانيتها، وهم أقرب إلى الصم والبكم.
وأعاود من جديد الحديث عن أهمية الأدب وحيويته للحضارة البشرية؟
ــ يميل الأدب رفيع المستوى إلى التطرف عادة، حيث أنه يعمل على جرح ثوابت معتقدات البشر والثقافات حين يوجه أسئلة حادة للوجود لأنه يتضمن نزعة تحريضية على خلخلة معطيات الواقع، ويبحث عن العلاقات المستترة غير المرئية بين الموجودات، وهو ما يسهم في استفزاز العقل ومعاودة النظر في العالم من حوله، العقل النقدي الذي يرفض ما تفرضه ثقافة القطعان، ولذا يُعد الأدب زاد الروح الثائرة التي تُكسّر جاهزية التصورات وتأبيد المسلمات.
ــ يشبه الأدب مادة حيوية ونابضة حين يرى مبدعه أنه خلق لعالم موازي للواقع لا محاكاة له فحسب، مادة تذيب تكلس أشكال الحياة من حولنا، فنرى الاختلاف ومن ثم إمكانية تحقيقه في الواقع، فالأدب يتصدى لكشف الظلمات الاجتماعية والسلطوية وغربلة الموروثات.
ــ تتسع رقعة شخصية قارئ الأدب ومساحات إنسانيته ومعارفه، فلا يعود الشخص نفسه الذي كان قبل تمرسه للقراءة، وزيادة على قدرته إدراك عمق تغيرات الإنسان ورصدها، وتكوين رؤى للحياة من حوله يلمس البينيات، حتى الشفيف منها، فيزداد استيعابه لتعقد الحياة البشرية ومن ثم يزداد درجة تقبله لها.
ــ يضيف الأدب للتجربة البشرية في صورتها الكلية التجارب الفردية الخاصة، وبصنيعه هذا يثري التجربة الإنسانية بالفردانيات الحيوية، ببكارة وتمايزات تجربة كل مبدع، فيفتح أبو العلاء المعري أبوابا متسعة للنقد الاجتماعي والعقائدي، ويبحث محفوظ عن موقع الإنسان من الخلق والحياة، وتصبح هناك رؤية كفكاوية للحياة وهكذا.
ــ كما يُضفي الأدب على الشخصيات الحقيقية الواقعية تغيرات فنية وخيالية ليكونوا أكثر معنى كما يذكر "مويان" أديب الصين الكبير ضمن محاور كلمته في احتفال الأكاديمية السويدية، فيعودوا صورا شعرية، أي أن الأدب يمزج الشخصيات بالفن، يكملهم، ويستبطن ذواتهم العميقة، ويصف مشاعرهم البينية حيث المناطق الرمادية التي تحدث بالحياة والعلاقات.
ــ ويعرَّف الأدب البشر على أنفسهم بغض النظر عن تخصصاتهم ومهنهم، ويوسع من دوائر الفردية ليصبح الوعي الإنساني أكثر استيعابا للتنوع والتعامل في نطاق المشتركات.
يتجاوز الأدب حدود الزمن والتاريخ ويتيح لقارئه الأزمنة جميعها، كما يبصره بالمشترك الإنساني في الزمن بالرغم من تنوع الأمكنة، كما يرصد لعظمة التراكمات الثقافية والفكرية والشعورية التي انجزها البشر على مر تاريخهم على كوكب الأرض.
ــ يستشرف الأدب المستقبل حين ينشط مكونه التخيلي، وهو أحد أدواره التي مهدت الحضارة البشرية للعلوم والاستكشافات التي كانت بعضها مجرد تصورات في بعض النصوص الأدبية، ففي البدء كان الخيال، وأحد تعريفات الإنسان الشائعة: أن الإنسان حيوان قادر على التخيل.
ــ يصبغ الأدب غريزة البقاء والرغبة الجنسية بلون الحب والإبداع الفني. فلم تكن المشاعر لترتقي وتصل لأوج نضجها بدون الأدب. وكانت الآلية وحدود الغرائزية ستصبح أكثر سطوة وحضورا على العلاقة بين المرأة والرجل، ووقتها كان الحب والمتعة سينقصهما الرقة والروعة. ويفشلان في تحقيق الحالة القصوى من غنى المشاعر التي يمنحها الأدب، كما كنا سنفشل أن ندرك مشاعرنا والأساليب الرفيعة والممتعة التي نعبر بها عما نشعره ونحسه، في الأدب نفهم ما هو الحب، وكيف نستطيع أن نعبر عنه عندما نشعر به.



د. أماني فؤاد



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى