رشا عامر - معارك الأربعينيات الثقافية دليل حيوية مصر

ما إن تذكر كلمة المعارك الأدبية والثقافية حتي نتذكر علي الفور المعارك الأدبية القديمة المشهورة التي خاضها المثقفون العرب والتي اكتسبت شهرتها من نشرها في كل الصحف والمجلات عندما كانت هناك ثقافة حقيقية وكانت المعارك ثقافية بحتة ، فالتجاذبات والتوترات القائمة بين الشعراء وغيرهم كانت تعد حافزا علي الكتابة.
المعارك التي جرت رحاها في الأوساط الثقافية كثيرة ولنبدأها بمعارك طه حسين الشهيرة ففي عام 1922كان الدكتور طه حسين يعمل كاتبا في السياسة الأسبوعية بجانب كونه مدرسا للتاريخ القديم بالجامعة المصرية، وكان الشاعر مصطفي صادق الرافعي لا يكتب شيئا سوي الشعر فلما نشر مقالا ينتقد فيه أساليب تدريس الأدب في الجامعة، في نفس اللحظة التي كان طه حسين يرشح فيها نفسه ليكون أستاذ الأدب بالجامعة الأمر الذي جعله يقلل من قيمة كتاب الرافعي وينتقده بشكل واضح قائلا: إنه قرأه ولم يفهمه! وتندلع منذ ذلك الحين التراشقات اللفظية واتهامات الكفر والإلحاد بين الطرفين خصوصا بعد أن أصدر طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي" إذ شن عليه الرافعي معركة قوية وصلت إلي استعداء الحكومة والبرلمان وشيوخ الأزهر عليه الأمر الذي دعا طه حسين إلي إرسال خطاب إلي رئيس الجامعة يشهده أنه مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وظلت الخصومة قائمة بين الرافعي وطه حسين إلي آخر أيامه واستمرت المعارك بينهما تنتقل من ميدان إلي آخر ولكن في الخفاء.
وكانت بداية الخلافات الشرسة بين الرافعي والعقاد بسبب كتاب الرافعي "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية" الذي صدرت طبعته الأولي سنة 1912، ثم أمر الملك فؤاد بطبعه علي نفقته تقديرا للكتاب ولصاحبه، وقد صدرت هذه الطبعة الملكية سنة 1928، ولاقي "إعجاز القرآن" قبولا كبيرا من الأدباء والنقاد، ونال به الرافعي مكانة سامية بينهم لدرجة أن سعد زغلول وصفه بأنه قبس من نور الذكر الحكيم . بعد ذلك التقي الرافعي بالعقاد ، فسأل الرافعي العقاد عن رأيه في الكتاب فنقده بشدة وسفهه بل واتهم الرافعي بأنه زور كلمات سعد زغلول. وبالطبع غضب الرافعي من افتراءات العقاد أشد الغضب. لم تكن تلك هي المرة الأولي التي يتعارك فيها الطرفان ثقافيا ففي عام 1920نشر الرافعي نقدا لنشيد أمير الشعراء أحمد شوقي.
فتصدّي له العقاد سنة 1921، وقد اتّسمت مقالة العقاد بالشدة والقسوة، والسخرية اللاذعة، والهجوم العنيف علي شخص الرافعي. الذي رد علي العقاد في كتاب " علي السفود" قائلا:"أما اللغة فهو من أجهل الناس بها وبعلومها، وقلّما تخلو مقالة له من لحن، وأسلوبه الكتابي أحمق مثله، فهو مضطرب مختل، لا بلاغة فيه، وليست له قيمة، والعقاد يقر بذلك، ولكنه يعلله بأنه لا يريد غيره، فنفهم نحن أنه لا يمكنه غيره فهو مترجم ناقل، وأحسن ما يكتبه هو أحسن ما يسرقه، كأن اللغة الإنجليزية عنده ليست لغة، ولكنها مفاتيح كتب، وآلات سرقة."
أما المعركة الثانية والشهيرة فهي معركة جماعة الديوان وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلي الكتاب النقدي الذي أصدره العقّاد وإبراهيم عبد القادر المازني عام 1921وشاركهما في تأسيس هذه الجماعة عبد الرحمن شكري . بدأت الحكاية عندما دخل الشاعر المصري عبدالرحمن شكري مدرسة المعلمين العليا بعد أن طرد من مدرسة الحقوق، وتعرف إلي إبراهيم عبدالقادر المازني وارتبطا بصداقة قوية وصف المازني تلك العلاقة فيما بعد بقوله: لقد صار شكري أستاذي وهو زميلي ، ودخل المازني بعد تخرجه عالم الكتابة الصحفية وهناك تعرف إلي العقاد، فنسجت بين الثلاثة خيوط صداقة قوامها حب المعرفة والاطلاع علي الأدب الإنجليزي. نعود إلي كتاب الديوان الذي كان من المفترض أن يصدر في عشرة أجزاء ولكن لم ير النور منه سوي جزءين فقط فقد تم توجيه الكتاب لنقد كل ما هو قديم، لذا حاول العقاد تحطيم زعامة شوقي الشعرية، فهاجم أساليب شوقي، وعاب شعره وشعر حافظ إبراهيم في السياسة والاجتماع، بوصفه لعواطفهما بأنها سطحية تقف عند القشور دون المضمون، ولكون الشعر الصحيح هو الذي يتعمق وراء القشور . أما الجزء الثاني من الكتاب فقد وصف فيه المازني أدب المنفلوطي بأنه ضعيف! وأيده في ذلك العقاد وميخائيل نعيمة. في ذلك الوقت كان عبد الرحمن شكري يكتب الشعر ويبرع فيه لدرجة أن المازني أصدر سنة 1915كتابا عن شعر حافظ إبراهيم فيه مقارنة بين شعره وشعر شكري، وبيّن فيه أن شعر شكري صادق في التعبير وأسلوبه سلس ولغته رقيقة شفافة، أما حافظ فهو مقلد للقدماء ميت الشعور، شعره يتناول قضايا اجتماعية وسياسية لا علاقة لها بالشعور وأسلوبه خشن ولغته قديمة. وفي نهاية كتابه قال:" فإن حافظا إذا قيس إلي شكري لكان كالبركة الآجنة إلي جانب البحر العميق، شكري أسمح خاطرا، وأخصب ذهنا، وأوسع خيالا" ولكن في العام التالي تحدث المفاجأة التي لم يتوقعها أحد عندما أصدر شكري ديوانه "الخطرات" وكتب في مقدمته يقول:" ولقد لفتني أديب إلي قصيدة المازني التي عنوانها "الشاعر المحتضر" واتضح أنها مأخوذة من قصيدة للشاعر الإنجليزي شيللي، كما لفتني صديق آخر لقصيدة المازني التي عنوانها ـ قبر الشعر ـ وهي منقولة عن هيني الشاعر الألماني ويستمر شكري في سرد السرقات الشعرية للمازني مؤكدا في الوقت نفسه أنه يحبه ولكن ذلك لا يمنع أن يظهر للجميع الحقيقة وأن يعاتبه. وفجرت هذه المقدمة الخلاف بينه وبين المازني الذي أخذ يكيل لشكري أبشع التهم ويصفه بالجنون. وأيد العقاد شكري في ذلك وكان صدور كتاب الديوان في النقد الأدبي أبرز تعبير عن هذا الخلاف، فقد اشترك في كتابته العقاد والمازني من دون شكري، بل إن من عجائب القدر أنه تضمن نقدا عنيفا لشعر شكري كتبه المازني بعنوان "صنم الألاعيب" وهكذا وجد شكري نفسه طريدا من جماعة كان له أكبر الأثر في ظهورها وفي صناعة آرائها وتطبيقها علي واقع الشعر والأدب.
ولعل أطرف ما حدث من جراء الخلاف الذي وقع بين أحمد شوقي والعقاد هو أن الموسيقار محمد عبد الوهاب وقع في فخ هذا الخلاف وكان التقي بشوقي في عام 1930وأعجب بصوته، وتحمس له وأخذ يمهد له طريق الشهرة، فقدمه إلي الإذاعة المصرية وكان حريصا علي أن تظهر صوره وأخباره باستمرار في المجلات الفنية والأدبية، وخلال ذلك كانت المعركة قد نشبت بين العقاد وشوقي بعدما نشر العقاد والمازني كتابهما الديوان، وانتقدا فيه شخص شوقي وحياته وتاريخه، فانقسمت الأوساط الأدبية والصحفية إلي فريقين، فريق يدافع عن أمير الشعراء ويهاجم العقاد والمازني، والآخر يهاجم شوقي ويشيد بالعقاد والمازني. ولأن شوقي كان معجبا بعبد الوهاب وكثير الإشادة به، فإن عبدالوهاب أصبح عدوا في نظر خصوم شوقي، ولأنه كان يسمي "البلبل الصغير" كان خصوم شوقي يقولون إنه الغراب الصغير، بل إن المازني كان يهاجم عبد الوهاب في جلساته الخاصة قائلا: "هذا الولد صدره ضيق ولا يصلح أن يكون مغنيا ولكن يصلح أن يكون مريضا". كان المازني يقول ذلك وهو لم يسمع عبدالوهاب أصلا! إلي أن استمع إليه هو والعقاد فأعجبا بصوته أيما إعجاب ووصفا صوته بأنه قوي وعذب وجميل بل وصل الأمر إلي أن نظم العقاد قصيدة يشيد فيها به

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى