دعوة الحق - [كتاب] المحاضرات (للحسن اليوسي )

لله الأمر من قبل ومن بعد!
بهذه العبارة البليغة الحكيمة كان يختم العلامة الحسن بن مسعود اليوسي درسا من دروسه أو محاضرة من محاضراته، والحسن اليوسي هذا هو صاحب كتاب «المحاضرات» الذي صدر مؤخرا عن دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر ضمن سلسلة الأدب، أعد «المحاضرات» للطبع السيد محمد حجي الأستاذ بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط، وصاحب كتاب الزاوية الدلائية الذي أرخ فيه لهذه الزاوية ولأعلامها وتلامذتها وتحدث فيه عن تأثيرها في الثقافة المغربية منذ تأسيسها على يد الولي الشهير أبي بكر ابن محمد. ويعد كتاب الزاوية الدلائية مرجعا هاما من مراجع ومصادر الثقافة المغربية باعتبار الدور الذي لعبته هذه الزوايا في نشر وازدهار العلوم والآداب والفقه والتفسير والحديث وعلم القراآت وعلم الكلام وعلوم اللغة والنحو والتصوف والتاريخ الفلسفة والرياضيات والعلوم الطبيعية والجغرافية وعلوم الطب.
ولابد من الإشارة والتذكير بالظروف والحيثيات التي تم فيها وأثناءها إعادة طبع كتاب «المحاضرات» للعلامة الحسن اليوسي، فقد كان الكتاب ـ كما يقول الأستاذ محمد حجي في تقديمه له ـ من بين الكتب العشرة التي عقد العزم على الشروع في نشرها، وكان «المحاضرات» في طليعة الكتب التي انصب الاهتمام عليها وتوجه الاشتغال بها بتحقيقه تحقيقا علميا، وتتبعه بالشرح والتعريف والتعليق على كل ما يحتوي عليه من مغلقات لغوية، وأعلام أدبية وقصائد ومقطعات شعرية، وإشارات جغرافية أو تاريخية أو صوفية، ويا ما أكثرها ـ وشرعنا ـ يضيف الأستاذ محمد حجي في تقديمه لكتاب المحاضرات ـ فعلا في هذا العمل الطويل النفس خلال عطلة الصيف، ثم صرفتنا عن متابعة السير بالسرعة المطلوبة ظروف العمل».
كان علينا ـ يقول التقديم ـ إذن أن ننتظر مدة غير قصيرة ولا محدودة، لولا أن صاحب مكتبة الطالب السيد / عبد القادر المكناسي الذي كان وما يزال حريصا على نشر «المحاضرات» ألح على إخراج نسخة مجردة عن كل تعليق على غرار النسخة المطبوعة على الحجر بقاس، والتي فقدت من السوق منذ عشرات السنين وكثر البحث عنها دون جدوى.
وهكذا ـ يضيف التقديم ـ اعتمدنا على النسخة المطبوعة الفاسية، ورجعنا عند الأشكال مخطوطة المكتبة العامة بالرباط عدد 2329 ك، وهي مخطوطة سنة 1136، أي بعد وفاة المؤلف بمدة قصيرة».
هكذا خرج إذن هذا «المخطوط» النفيس من تراثنا الأدبي إلى الناس باحثين ومؤرخين وأدباء وقراء ليستفيدوا منه بعد أن فقدت طبعته الحجرية الفاسية التي لا نعلم عنها شيئا، متى طبعت ومن قام بطبعها؟ وتقديم الأستاذ محمد حجي «للمحاضرات» لم يشر إلى ذلك. وعلى كل، فصدور هذه الطبعة الجديدة من كتاب «المحاضرات» للحسن اليوسي يعتبر حدثا ثقافيا هاما في مجال إحياء تراثنا الأدبي والفكري الأصيل، سوف يغنى ويثري مكتبتنا المغربية خاصة وأن الطبعة الأولى بفاس مفقودة تماما إلا عند قلة قليلة من علمائنا ومؤرخينا، وتعتبر بحكم ذلك في الفقدان كما قلنا، سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الطبعة الفاسية لا تستجيب حاليا لمتطلبات العصر من حيث وضوح الحروف واختلاف أحجامها ونوعية الورق الذي طبعت به، وتراكم المواد المصنفة في «المحاضرات» تراكما يضيع على القارئ وقتا غير قليل ويتطلب منه جهدا مضنيا للتعرف على محتوياته، إلى غير ذلك من النقائص المطبعية التي تسم كثيرا من مطبوعات تراثنا الفكري والأدبي والعلمي طبعا حجريا، فجاءت أخيرا هذه الطبعة الجديدة من المحاضرات وقد وضع لها الأستاذ محمد حجى فهرسا للموضوعات وكشافا عاما لأسماء أعلام الأشخاص والقبائل والأماكن والكتب التي ورد ذكرها في «المحاضرات» ووضع لها تقديما سبقت لنا الإشارة إلى محتواه، وأستبعد أن تكون الطبعة الحجرية الفاسية قد توافرت فيها هذه الفهارس التي تسهل على القارئ والباحث والمحقق الرجوع إلى المادة المطلوبة من الكتاب في يسر وسهولة.
ولا يسعنا إلا أن نهنئ الأستاذ عبد القادر المكناسي صاحب مكتبة الطالب بالرباط على حرصه الشديد على إخراج المحاضرات وإلحاحها على إصدارها، كما نهنئ الأستاذ محمد حجي على جهده المشكور الذي بذله في إعداده لإصدار الكتاب، ونتمنى أن يتوفر له الوقت لكي يعبد طبع المحاضرات على الصورة التي ابتغاها، خاصة وأن «المحاضرات» من الذخائر الفكرية والأدبية التي تنفذ وقت صدورها، ولاشك عندي في أن أوساطنا الأدبية والفكرية والتاريخية قد أقبلت على الكتاب في طبعته الجديدة بعد نفاذ طبعته الحجرية الفاسية منذ عشرات السنين، ولاشك عندي في أن المكتبة المغربية سوف تفخر بهذه الطبعة الجديدة من «المحاضرات» وتعتز بها حتى يستفيد منها الخاص والعام.

من هو الحسن اليوسي؟
ترجم للحسن اليوسي عدد من المؤرخين والأدباء والكتاب والمحققين والمستعربين، ويذكر الأستاذ محمد حجي في التقديم أن المستعرب الفرنسي المعاصر جاك بيرك له كتاب عن الحسن اليوسي، كما يذكر صاحب التقديم أنه كتب عنه في مؤلفه القيم «الزاوية الدلائية» وترجم لحياته بتوسع فيه، وقد ارتبط اسم الحسن اليوسي ارتباطا وثيقا بالزاوية الدلائية وهي ذلك المركز العلمي الكبير الذي كان قائمة بناحية تادلة، إلى أن استصفاه ـ لأسباب سياسة ـ ورحل القائمين عليه المولى الرشيد، أخو المولى اسماعيل وسلفه المباشر على العرش. ولم يكن الحسن ليوسي من أبناء الزاوية الدلائية ولكنه كان من أشهر وأذكى وأنبغ تلامذتها وعلمائها، وأكثرهم وفاء لها(1).
ومن بين الذين ترجموا له الافراني في الصفوة، والسلاوي في الاستقصا ـ الجزء الرابع ـ والشيخ عبد الله كنون في النبوغ ـ الجزء الأول.
ولد الحسن اليوسي عام 1631م. ويرجع نسبه إلى آيت يوسي وهي قبيلة تقع في جنوب مدينة فاس، قرأ القرآن ورحل إلى سجلماسة ودرعة وسوس ومراكش، واستقر بالزاوية الدلائية ودرس فيها، حتى استيلاء السلطان رشيد بن الشريف على الزاوية فنقله منها إلى فاس حيث درس بجامع القرويين، ثم تركها واستوطن البادية متصوفا متنسكا، ثم عاد ونزل بمراكش وتصدر فيها لإقراء علم التفسير بجامع الاشراف(2) ورحل إلى المشرق في أواخر حياته، فزار مصر وحج بيت الله الحرام، ثم قفل راجعا إلى المغرب حيث توفى به سنة 1102هـ(3) فيكون الحسن اليوسي إذن قد عاش اثنين وستين سنة، عاشها طولا وعرضا كما يقولون، إذ كانت حياته حافلة كرس جهده خلالها لطلب العلم والأدب والقراءة والكتابة والتدريس والإقراء، وانقطع فترة منها إلى التصوف والتنسك، وكان ذلك أمرا طبيعيا فاليوسي إذن يمثل الحركة الأدبية في معظم النصف الثاني من القرن الحادي عشر إلى نهايته، وهو بهذا يمثل مرحلة انتقال الدولة من السعديين إلى العلويين(4) وقد خلف لنا الحسن اليوسي تراثا ضخما من المؤلفات، معظمها لايزال مخطوطا، منها ما طبع بالمطبعة الحجرية بفاس ومنها كتابه:
المحاضرات، ولعله لم يطبع من مؤلفاته الغزيرة طباعة عصرية إلا قصيدته الدالية في مدح الشيخ محمد بن ناصر، وشرحه هو نفسه عليها، وقد سماه: نيل الأماني في شرح التهاني.
وقد أحصى الأستاذ محمد حجي في كتابه عن الزاوية الدلائية مؤلفات الحسن اليوسي، فبلغت في هذا الإحصاء سبعة وأربعين مؤلفا دل عليها كلها، فذكر أرقام المخطوطات منها في الخزانة الملكية أو الخزانة العامة. وذكر تواريخ وأمكنة طبع ما طبع منها حتى الآن، ووضع علامات استفهام أمام ما لا يزال منها مجهولا. يعرف بالاسم فقط، ولا يعرف بالعين(5).
ثم نأتي هنا على ما قاله عنه بعض معاصريه والذين ترجموا له، حيث قال عنه الإفراني في الصفوة: يبدي كل يوم من التحقيق أسلوبا، ويلقى من التحريرات صنوفا، فعجب الناس من حسن إلقائه، وغزارة مادته». وقال فيه الشيخ أبو سالم العياشي:
من فاته الحسن البصري يصحبه = فليصحب الحسن اليوسي يكفيه
وقال فيه الناصري صاحب الاستقصا:
كان رضي الله عنه غزالي وقته علما وتحقيقا وزهدا وورعا».
ثم أضاف:
وبالجملة، فهو آخر العلماء الراسخين، بل خاتمة الفحول من الرجال المحققين، حتى كان بعض الشيوخ يقول: هو المجدد على رأس هذه المائة لما اجتمع فيه من العلم والعمل، بحيث صار أمام وقته، وعابد زمانه، رحمه الله ورضي عنه».
وقال فيه أستاذنا الجليل عبد الله كنون في كتابه النبوغ ـ الجزء الأول: نابغة علماء هذا العصر (يقصد عهد الدولة العلوية التي عاصر فيها اليوسي ملكين من ملوكها) ومن أفضل المتحققين بالعلوم العقلية والنقلية على سبيل العموم». ويضيف فيه: كان أديبا عبقريا، راوية الشعر، يستحضر ديوان المتنبي وأبي تمام والمعري، وقصائد كثيرة لغيرهم، كل ذلك على طرف لسانه وهو نفسه شاعر مجيد مكثر».
وكان الحسن اليوسي يقول عن نفسه: لو شئت ألا أتكلم إلا شعرا لفعلت، وكان مثل ذلك يقوله أبو العتاهية.

المحاضرات:
هي أشهر مؤلفات هذا العالم الأديب الشاعر الصوفي. قال عنها الأستاذ محمد حجي في تقديمه لها: «وإذا كانت المحاضرات ليست أكبر مؤلفات اليوسي حجما، ولا أكثرها دلالة على غزارة علمه وتمكنه في ميداني المعقول والمنقول، فإنها تمثل نوعا طريفا من المؤلفات المغربية التقليدية ذات المواضيع المتعددة التي ينتقل فيها المؤلف من موضوع إلى آخر لمجرد أدنى ارتباط أو تقارب، بالإضافة إلى الاستطرادات التي كثيرا ما تطغى على الموضوع الرئيسي فتكاد تنسيه»!
ويرجح الأستاذ محمد حجي في التقديم أن الحسن اليوسي ربما كتب المحاضرات لينفس عن نفسه من ضيف الحرمان من التدريس وهو مبعد إلى مراكش على إثر ثورة أحمد بن عبد الله الدلائي، بل إنك ترى المؤلف في بعض فصول هذا الكتاب وكأنه يقرر من أعلى منبر تدريسه موضوعا معينا، فيشرح ويقارن ويستشهد، مستغرقا في ذلك نفس الحجم المعتاد للمحاضرة الشفوية، ثم يختمه كالمعتاد بقوله: لله الأمر من قبل ومن بعد!».
فالمحاضرات التي بين أيدينا في 323 صفحة مع الفهرس والكشاف، من الجم الكبير، تشتمل على تقديم للأستاذ محمد حجي في صفحتين، يليها النص الكامل للمحاضرات الذي يبدأه المؤلف الحسن محمد ينبوع الأحكام والحكم، ومجموع شيم الفضائل وفضائل الشيم ويخلص بعد ذلك إلى قوله:
«أما بعد، فإن الدهر أبو العجائب، وينبوع الغرائب، ويأتي يمل حول ذلك وأشعار متفرقة ثم يقول قصيدة من نظمه مطلعها:
أراني حيثما أخطو أجد ما لم أجد قط

ومنها قوله:
وذو الفهم له علم = جـديـد حيثمـا يخطـو
فكر واعتبر تعلم = علوما دونها الضبط
تدرك غير ما في = الصحف يوما خلد الخط
وسلم وارض بالمقدور = ولا تبرم إذا المولى
فما ترجو من الرضوان = لا يذهب بك السخط
يشد الحبل أو يعطو = ان ترضى له شرط
وهي قصيدة كما نرى ليست من أحسن قصائده، ولكنها تبرز قدرة الحسن اليوسي على تطويع اللغة للغرض الذي يكتب فيه، وتنم عن بساطة أسلوبه في النظم وبعده عن الاغراب والحشو، وميله إلى انتقاء للفظ الرقيق الشفاف، مع الجزالة والأصالة والتعمق في استكناه المعنى والسبر في أغوار المعاني دون إسراف أو إفراط، وباختصار قدرته على التعبير عن المعنى المراد بأرق الألفاظ وأبسطها وأقربها إلى الفهم والإدراك.
وعلى العموم: نلمس في قصائده ماء الشعر الحر يتدفق في أسلوبها وتتجلى صورها البعيدة في معانيها(6):
ثم يقول بعد ذلك:
«وإني قد اتفقت لي سفرة بأن بها عنى الأهل شغلا وتأنيسا، وزايلني العلم تصنيفا وتدريسا، فأخذت أرسم في هذا الموضوع بعض ما حضرني في الوطاب، مما أحال فيه أو حان له ارطاب. وسميته «المحاضرات» ليوافق اسمه مسماه، ويتضح عند ذكره معناه. وفي المثل: خير العلم ما حوضر به، وإنما أذكر فيه فوائد وطرفا، وقصائد ونتفا، وذلك مما اتفق لي في أيام الدهر من ملح أو لغيري مما ينتقى ويستملح، ولا أذكر ناردة فيها معنى شريف إلا شرحته، ولا لطيفا إلا وشحته، وذلك هو لباب الكتاب، وفائدة الخطاب، والله الملهم للصواب. وقد أذمر بعض ما صورته هزل يستهجن، وفيه سر يستحسن، وكما أن المقصود من الأشجار ثمارها، فالمطلوب من الأخبار أسرارها. وإنما حملني على الأخذ فيه أمور منها: التفادي من البطالة التي هي مدرجة الجهالة والضلالة، ومنها إفادة جاهل، أو تنبيه غافل. ومنها تخليد المحفوظ ليلا ينسى، وتفصيله نوعا وجنسا. ومنها استمطار علم جديد، عند الاشتغال بالتقييد، فإن العلم كالماء نباع، وبعضه للبعض تباع... ومنها تعليل النفس، ببعض الإنس، فإن النفس، ببعض الإنس، فإن النفس ترتاح للاحماض، وتستشفي بروحه من الانضاض، ولاسيما مثلى ممن ترامت به الأقطار، وتباعدت عنه الأوطان والأقطار». ثم يأتي بقصيدة من نظمه في خمسة وأربعين بيتا مطلعها:

سلا هل سلا عن أهله قلب = بريب الهوى والبين عن جيرة الحى

ويختمها بقوله:
وكل امرئ يوما سيجزى بما أتى = من الخير بل يجزى على كل منوى

ثم يختم المحاضرة الأولى من كتابه كالمعتاد:
لله الأمر من قبل ومن بعد!

فالمؤلف هنا في هذه المحاضرة الأولى من الكتاب يشرح بنفسه منهجه في تأليفه «المحاضرات» والبواعث والدوافع على إقدامه على التأليف، وطريقته وأسلوبه في الكتابة، ويتضح لنا من ذلك كله ـ على قصره ـ أن المؤلف أحس في مراكش بالغربة والاغتراب، فأراد أن ينفس عما في روحه ووجدانه من جيشان العواطف وهيجان المشاعر والأحاسيس وهو في حالة من البعد والابتعاد عن التدريس والإقراء، فشرع في تأليف «المحاضرات» حتى يطمس عن نفسه ويبعد عن روحه إحساسه الحاد بغربته، فجاءت محاضراته سفرا نفيسا ليس فيه شيء من دخيل التكلف والتصنع، يجمع بين دقة المؤلف في الاختيار والانتقاء، وغزارة محفوظه في الاستظهار وبساطة أسلوب ورقته، وحرصه الأصيل على الشفافية والسهولة واليسر درجة تصل به أحيانا إلى السهل الممتنع في الكتابة والتأليف والتصنيف، وكل هذه الخصائص التي تطبع أسلوبه في التأليف تنم عن طبعه الأصيل ومنهجه الذي كان يتبعه في التدريس والإقراء، ولولا استطراداته الكثيرة وانتقاله من موضوع إلى آخر لأقل ارتباط واتصال، لجاءت «المحاضرات» موسوعة مرتبة في العلوم العقلية والنقلية وأشار العرب في شتى الأغراض التي كانوا يتناولونها، غير أنه في المحاضرات لا يضبط المواضيع والأغراض التي يكتب عنها، وإنما يأخذ موضوعا من المواضيع أو غرضا من الأغراض ـ في الأمثال والروايات والأشعار والتراجم... الخ، ثم يستطرد فيه ويولد منه معاني كثيرة متعدد، ويذكر في المعنى الواحد أبياتا من الشعر قيلت فيه وأثالا وحكما وروايات وملحا لها ارتباط ـ من قريب أو من بعيد ـ بالمعنى الذي يكتب فيه، ثم يخطر له خاطر آخر في معنى من المعاني لا يرتبط بما سبقه فيسوقه بالطريقة التي يذهب بها في كتابة وتاليف مصنفه المذكور، ومن ذلك أنه يكتب عن سجلماسة وشالة وبلاد ملوية ورباط شاكر ثم ينتقل من غير سبب يربط السابق بمثليه اللاحق إلى الكتابة عن المحتالين الذين يظهرون الصلاح ويخدعون الناس، ثم ينتقل إلى ذكر اشعار العرب في الكرم وخدمة الضيف، ثم يذكر أصناف الناس وأصناف بقاع الأرض، ومثل ذلك أيضا تناوله الحديث عن الحكم التكليفي والحكم التشريعي والنفس والشيطان والخاطر النفساني والخاطر الشيطاني والحقيقة والشريعة إلى تناوله الحديث عن أبيات الحكمة والتمثيل، وهذا نموذج فقط عن منهجه وأسلوبه الذي اتبعه في كتابة المحاضرات.
ولا ينسى الحسن اليوسي في المحاضرات أن يكتب عن الزاوية الدلائية وأعلامها ومشايخها، إلا أن رواياتها عنها تأتي متفرقة شتى يفصلها عن بعضها البعض كتابته عن أغراض أخرى لا تمت بصلة إلى موضوع الزاوية الدلائية، ففي صفحة 72 يكتب روايته عن محمد الحاج الدلائي وينتقل إلى أغراض أخرى حتى الصفحة 78 لنجده يكتب عن شيخ الدلاء عند عبد الله ابن حسون في سلا، ويتكرر مثل ذلك في بقية المحاضرات عن موضوع الزاوية الدلائية وأعلامها وشيوخها وتلامذتها مثلا في الصفحات: 102 و140 و166 و170 و300.
وفي فصل من فصول المحاضرات يكتب عن أبيات الشعر المفضلة عند العرب، مثل ذلك: أشهر بيت قالته العرب وأحسن بيت وأصدقه وأكذبه وأفخره وأمدحه وأهجاه وأشجعه وأكرمه، ولا يكتفي في رواياته ببيت واحد أو بيتين بل يذكر أبياتا لشعراء متعددين في الأغراض المذكورة.
ويفتح بوابا في كتابه للحديث عن كلام الأذكياء والألغاز العربية والمضحكات والملح وأخبار الثقلاء والمواعظ والوصايا، ثم يسوق بعض حكم الخليفة على ابن أبي طالب رضي الله عنه مرتبة مصنفة على الحروف الأولى التي تبدأ بها الحكمة، ثم يختم الكتاب بذكر جماعة من شيوخ العلم والتصوف الذي لقيهم المؤلف، يبدأ الخاتمة بقوله:
«أسرد فيها من حضر الآن في فكري ممن لقيت وتبركت به، ممن اتسم بالخير واشتهر بالصلاح تبركا بهم، فإنه قد قيل: تنزل الرحمة عند ذكر الصالحين،... ولم أتعرض لأحوالهم لأن ذلك يطول، والكتاب غير موضوع له، فاكتفيت بذكر أسمائهم» ويبلغ عددهم خمسة وخمسين اسما. وذكر قبل هذا الباب نصوص ثلاث قصائد مطولة الأولى منها مطلعها:
زيادة المرء في دنياه نقصان = وربحة دون محض الدين خسران

ثم القصيدة الزينبية ـ نسبة إلى زينب ـ ومطلعها:
صرمت حبالك بعد وصلك زينب = والدهر فيه تغير وتقلب

والقصيدة الأخيرة هي تائية أحمد المقري في المواعظ ومطلعها:
إلى كم تمادى في غرور وغفلة = وكم هكذا نوم متى يوم يقظة

وفيها نفحة من تائية ابن القارض الشهيرة:
وبعد، هذا عرض مبسط لكتاب قيم يحتل من تراثنا الفكري والأدبي مكانة مرموقة، شهد بها أعلام تاريخنا الفكري والثقافي والحضاري بصفة عامة، وتقديم قصدت منه التعريف ـ جهد الإمكان والمستطاع ـ بهذا العالم الصوفي والشاعر الأديب الموسوعي الحسن اليوسي ومؤلفه الكبير «المحاضرات»، راجيا أن يكون صدور طبعته الجديدة حافزا لهمم الأدباء والمؤرخين والمهتمين بإحياء تراثنا الفكري المغربي الأصيل أن يكتبوا عنه وعن علماء وشيوخ عصره، وأن يكون هذا الكتاب القديم ـ الجديد ـ باعثا يشجع أهل الاختصاص على دراسة تراثنا دراسة علمية متأنية، وبادرة تشجع على طبع ونشر مؤلفات أبي الحسن اليوسي، خاصة وأن الأستاذ محمد حجي الذي قام بإعداد كتاب المحاضرات للطبع قال في التقديم: إن هذا المؤلف ليس أكبر مؤلفات اليوسي حجما ولا أكثرها دلالة على غزارة علمه وتمكنه في ميداني المعقول والمنقول.
نشرت مجلة «العربي» الكويتية في عدد مارس الماضي مقالا للمرحوم الأستاذ علال الفاسي بعنوان: «الاستعمار الثقافي» جاء فيه بالخصوص:
«إن الاستعمار الثقافي يرمي إلى محو الثقافة المحلية أولا بالقضاء على الدين أو تأويله بالأساليب التي تتفق مع رغبة الاستعمار، وبالقضاء على الفكر القومي المستقل عن كل اعتبار خارج عن مصلحة الوطن ومصلحة الجماعات التي تعيش فيه. وإحلال الثقافة الأجنبية محل ذلك كله لجعل الشعب المفتوح ذا صبغة تستمد كل روائها واثرها من عناصر الحياة التي يختارها المستعمر ويريدها. فأشكال الحكم ومواد التشريع وإجراءات القانون والتشريعات ومظاهر الرسميات والألبسة وكل شيء يجب أن يكون صورة طبق الأصل لما هو قائم في الوطن الوالد كما يقولون. وكل ذلك يقوم على أساس أن مقاييس السمو يجب أن تصبح في نظر الشعب المستعمر هي ما قام به المستعمرون في بلادهم وما اختاروه لأنفسهم. وأن المأساة عميقة، إنها غرس الاعتقاد بقوة المستعمر وتركيز مبدأ امتيازه علينا. إنها محو لإنسانيتنا وتحقيق لإنسانية الدولة المستعمرة.

هوامش:
1 ـ أنظر: على هامش رسائل الحسن اليوسي إلى مولاي اسماعيل ـ للأستاذ المرحوم عبد القادر الصحراوي ـ دعوة الحق ـ العدد الرابع ـ صفحة 66.
2 ـ الأدب المغربي ـ لمحمد بن تاويت ومحمد الصادق عفيفى ـ الطبعة الثانية ـ صفحة 313 ـ دار الكتاب اللبناني.
3 ـ المصدر السابق ـ نفس الصفحة.
4 ـ المصدر السابق ـ نفس الصفحة.
5 ـ المصدر السابق ـ صفحة 316.
6 ـ رسائل الحسن اليوسي إلى مولاي اسماعيل ـ ص 68 – 69.



دعوة الحق
176 العدد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى