علي حسين - أمبرتو إيكو في مديح الكتب والأسرار

كان في الخمسين من عمره عندما وجد نفسه احد مشاهير ايطاليا ، فقد هبطت عليه الشهرة فجأة، لتضعه في الصفوف الاولى من كتّاب العالم. يتذكر ان ناشراً طلب منه ذات يوم ان يجرب حظه في كتابىة رواية بوليسية ، فالكتب التي يكتبها على الرغم من اهميتها العلمية إلا أنها لاتجلب سوى القليل من المال . وجد الامر ممتعاً، فقد كان يحلم منذ ان كان صبياً ان يقلد الكسندر دوماس وفرسانه الثلاثة. ويتذكر انه بدأ يجرب كتابة الرواية منذ أيّام الطفولة، لكنه كان يتردد في كل مرة يحاول فيها ان يضع السطور الاولى من الفصل الاول. وقد ظلّ على هذه الحال حتى بلغ الثامنة والاربعين من عمره من عمره ، حيث تفرغ أمبرتو إيكو (المولود عام 1932 والذي رحل عن عالمنا عام 2016 ) ، ليعيد كتابة رواية كان يتصارع معها منذ اكثر من عشر سنوات ، بطلها صورة مستسخه من شاعره المفضل خورخي بورخيس، الراهب الاعمى الذي يحتفظ بمخطوطة ارسطو في مكان سري بعيدا عن أعين الفضوليين:" عندما بدأت بالكتابة ، كان الامر مجرد لعبة اعتقدت انه من المستحسن كتابة رواية بوليسية ، لكن فيما بعد فهمت انني اشارك كل الفلسفة والتاريخ والحياة الاجتماعية للعصور الوسطى ، بدأت بقصة من مئتي صفحة وانتهيت بخمسمئة صفحة ، كان لدي شعور بان الرواية عند بلزاك وستندال او ديكنز يجب ان تكون محبوكة ، لكني فشلت في ان اصنع رواية بمستوى الاحمر والاسود لستندال " .
تصدر الرواية وما هي الا اسابيع حتى تصل مبيعاتها الى عشرة ملايين نسخة، لتنقل صاحبها من عالم الألسنيات الهادئ المنعزل الى عالم ضاج وصاخب تلاحقه فيه كاميرات النجوم ، وعندما يسأله محرر التلغراف كيف كتب اسم الوردة ؟ يجيب ضاحكاً: من اليسار الى اليمين، وقبل ان تظهر علامات الاستغراب على وجه الصحفي يكمل ايكو: " لقد تعلمت أشياء كثيرة وأنا أكتب روايتي الاولى، منها ان الإلهام كلمة سيئة وعادة ما يستعملها بعض الكتاب اعتباطا لكي يلبسوا لبوس الفنانين المحترمين، وكما يقول المثل ان العبقرية لاتغطي سوى عشرة بالمئة من الإلهام، اما التسعون في المئة الباقية فمصدرها الجهد الفردي للكاتب. يقال ان الكسندر دوماس وصف الظروف التي كتب فيها إحدى أجمل رواياته دفعة واحدة فيما يشبه الإشراق، إلا أنه عندما مات عثروا في أوراقه على عدد هائل من صيغ الروايات التي تدل على انه كتبها وأعاد كتابتها على مدى سنوات طوال " .
هل كان يتوقع نجاحاً بهذه الضخامة؟ يخبر الكاتبة اللبنانية جمانة حداد في حوارها معه والذي نشر في كتاب"لصوص النار : " لا شكّ عندي في أن اصغر كويتب وأتفه شويعر في هذا العالم يحلمان، أثناء الكتابة، بأنهما سيرثان عرش هوميروس، وبأن ملايين القرّاء سوف يتلون نصوصهما عن ظهر قلب، وإذا لم يكونا يفكّران بهذه الطريقة، أي إذا لم يكن الكاتب يظن انه سيتجاوز جميع الذين سبقوه و يقتلهم ، يُستحسن به ألا يحاول الكتابة أصلا. التواضع ليس صديقاً جيداً للخلق " .
لم يكن يتوقع أن تصبح"اسم الوردة"طريقه الى عالم الشهرة، عندما انتهى من المخطوطة، كان ينوي نشرها ضمن سلسلة خاصة بالكتب النخبوية وذات الطابع الخاص غير الجماهيري، وعندما عبّر له الناشر عن حماسته الشديدة للكتاب بعد اطلاعه عليه، وقال له إنه سيطبع منه ثلاثين ألف نسخة، فكّرثم قال وهو يضحك:"لا بد أنك فقدت صوابك!". لكن الناشر كان مصرا وليثبت حسن النية منحه دفعة مسبقة على الثلاثين ألف نسخة، ليخرج من من مكتبه ليشتري فورا حقيبة جلدية غالية الثمن.
في كتابه"اعترافات روائي شاب"يخبرنا بأنه كثيرا ما كره هذه الرواية،يقصد"اسم الوردة"، لأن ما كتبه بعدها برأيه كان افضل بكثير. لكنه مثل صديقه غابرييل غارسيا ماركيز كتب ثلاثين كتاباً، والقراء لا يشيدون إلا بـ "مئة عام من العزلة"، وذات يوم وهو يقف على واجهة احدى المكتبات يسمع احد المارة يقول لصاحبة وهما ينظران للكتب المعروضة في الواجهة : آه، كتاب جديد للكاتب إيكو، لكنني لم أقرأ له بعد كتابه الافضل"اسم الوردة."
يسخر من النقاد الذين قالوا عن روايته انها كتبت تحت تاثير حالة من ألالهام ، فهو يؤكد انه كتبها لمجرد التسلية :" لقد رأيت أنه سيكون مسلياً أن أكتب رواية عن تسميم راهب وهو يقرأ كتاباً غريباً، فتناولت مادتها عن الرفّ حيث الملفات مكدّسة من سنين عدة. لقد كانت المادة هناك في متناولي و لم يكن عليّ في مدى سنتين لكتابتها سوى انتقاء ما كنت في حاجة إليه " .
تستهويه لعبة الرواية ، فيقرر ان يقدم روايته الثانية"بندول فوكو"التي يدخل بها ايضا الى عالم ملايين النسخ، وفيها يبحث عن المؤامرات التي حدثت في التاريخ وكيف انتهت بأصحابها الى الجنون او الموت، يقول تعليقاً على ما كتبه النقاد عن تمسكه بالألغاز في رواياته، ولماذا تستهويه لعبة المؤامرات: " في السنوات العشر الأولى من حياتي تعلمت على يد الفاشيين في المدرسة، وكانوا باستمرار يتحدثون عن المؤامرة الدولية: الانكليز والرأسماليون يتآمرون ضد الشعب الإيطالي الفقير. هتلر بدوره كان يفعل الشيء ذاته. وبرلوسكوني قضى كل حملاته الانتخابية وهو يتحدث عن المؤامرة التي كان الشيوعيون يحيكونها ضده. مع أننا لم نعد نر شيوعيين من حولنا، حتى لو حملت المصباح وبحثت عنهم هنا وهناك، إلا أن برلوسكوني لا يزال يراهم أمامه محاولين الاستيلاء على السلطة".
حين يذهب لمشاهدة الفيلم المقتبس من"اسم الوردة" يعلق على سؤال لأحد الصحفيين: في الرواية حاولت ان أقدم ساندويشاً للقارئ بداخله، لحم ديك رومي، وسجق وطماطم وجبن وخسّ. إلا أن صناع الفيلم للأسف لم يقدموا للمشاهد سوى الخسّ فقط.
في الفصل الاخير من من كتابه الممتع "اعترافات روائي ناشيء "، - ترجمه الى العربية سعيد بنكراد - والذي عنوانه "كتب..كتب..كتب" يحدثنا عن القراءة: هناك في العالم كتب أكثر من الساعات التي يمكن تخصيصها للقراءة. نحن بالتالي نشعر بتأثير عميق للكتب التي لم نقرأها، التي لم يتوفر لنا الوقت لقراءتها.. يتعيّن عليّ أن أعترف بأني لم أقرأ (الحرب والسلم) إلا حين بلغت الأربعين من عمري. لكنني كنت أعرف سلفاً مجريات الرواية الأساسية. هكذا نستطيع أن نرى بأن العالم مليء بالكتب التي لم نقرأها، لكننا نعرف جيداً محتوياتها. وعندما نلتقط الكتاب أخيراً، نكتشف أنه مألوف. كيف يحدث ذلك؟.
يكتب عشرات الكتب في السيميائية والنقد الحديث وعلم الجمال ، لكن الرواية تظل تطارده ، ينشر سبع روايات خلال حياته ( اسم الوردة ، بندول فوكو ، بادولينو ، جزيرة اليوم السابق ، مقبرة براغ ، شعلة الملكة لوانا الغامضة ، العدد صفر)
يعتقد ان معظم رواياته هي سيرة ذاتية له :" عندما تتخيل شخصية فإنك تعطيها بعضًا من ذكرياتك الشخصية. تعطي جزءًا من نفسك لهذه الشخصية وجزءًا آخرً لتلك الشخصية. وبهذا المعنى فأنا لا أكتب سيرة ذاتية ولكن الروايات سيرتي الذاتية
يؤمن مثل سارتر ان الأدب اكثر خلوداً من الفلسفة ، وان الرواية تعبر عن الافكار بشكل افضل من الكتب الفكرية :" فأي فكرة ستخطر ببالك قد لا تكون جديدة لأن أرسطو سيكون قد سبقك إليها. ولكن عندما تكتب رواية مبنية على فكرة فإن هذه الفكرة ستكون أصيلة. الرجال يحبون النساء. هذه ليست فكرة جديدة ولكن إن حاولت كتابة رواية رائعة عنها عندئذ وببراعة أدبية تصبح الفكرة جديدة بالمطلق. أعتقد ببساطة أنّه في نهاية الأمر القصة أغنى، إنها فكرة أعيد ترتيبها بشكل حدث ترويها شخصية وتطلقها لغة متقنة. لذلك وبشكل طبيعي عندما تتحول الفكرة إلى كائن حيّ تتحول إلى شيء مختلف تمامًا وأكثر تعبيرًا " .
في روايته الأخيرة العدد صفر نجد انفسنا امام كاتب خمسيني فشل في الحصول على الشهرة والمال ، يصف نفسه بانه كاتب يعيش في الظل دوما ، فهو مشغول بالترجمة وبكتابة الروايات البوليسية ، لكنه يجد نفسه في مواجهة تجربة جديدة ، هناك صحيفة تريد ان تنطلق وتحضر للاعداد صفر ، الا ان الجريدة لن تنطلق ابدا ولن تصدر اي عدد باستثناء العدد صفر الذي يطلع عليه اعضاء هيئة التحرير ومنهم بطل الرواية كولونا ، لان الغرض من الاعلان عن اصدار الصحيفة هو ممارسة الضغط على اصحاب رؤوس الاموال والسياسيين وافهامهم ان الصحيفة تملك ملفات خطيرة وانها ستنشر هذه الاسرار الى الجمهور .
تبدأ احداث الرواية بخبر اغتيال موسوليني وتنتهي بعرض لما تفعله مافيا الصحافة في ايطاليا ومن خلالها نتعرف على ابرز الاحداث التي سهدتها ايطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، ضمن بناء يعتمد الرموز، ومتاهة روائية لاتختلف كثيرا عن متاهة اسم الوردة .
يشغل الكتاب اهتمام امبرتو ايكو ونجده في كتابه " كيفية السفر مع السلمون" – ترجمه الى العربية سعيد بنكراد - يتحدث عن اعجابه بالمكتبات وعن مخاوف البعض من احتضار الكتاب الورقي :" لو كان لزاماً على الكتب أن تختفي، مثلما حدث لألواح الطين والمسلات التي تنتمي لحضارات عصور سحيقة، لكان هذا سبباً وجيهاً لإلغاء المكتبات. ولكن العكس صحيح، فالكتب يجب أن تحيا كمتاحف تحفظ إنتاج الماضي، الإعجاب الذي أكنه للمكتبات سيحمل قدراً كبيراً من التفاؤل، لأنني أنتمي إلي تلك الحفنة من الناس، التي ما زالت تعتقد أن للكتاب المطبوع مستقبلاً، وأن جميع المخاوف المتعلقة باختفائه ما هي إلا مثال آخر لبعض المخاوف المرعبة المتعلقة بانتهاء شيء ما، بما في ذلك انتهاء العالم".
امضى طفولته في شمال ايطاليا، ولم يكن والداه من محبي القراءة، ولكن جده كان يعشق الكتب ، وكان يمضي ساعات يوميا في غرفة جده ، وهو يقرأ كتب جول فيرن ، ومغامرات الكسندر دوماس ، وصف الكتب بـانها "ممرات العقل"، ظل في سنواته الاخيرة يرفض الاستجابة للتكنولوجيا الحديثة، فهو يجد متعته في قراءة الكتب الورقية ، في رحلاته، يحمل حقيبة ملأى بالكتب، ظل يؤمن بان عصر الكتاب لم ينته".، يراه النقاد بانه كاتب مشاكس ، واكاديمي ضليع ، اطلق عليه لقب كبير كهنة السيمياء ، قال انه قرر في لحظة ما ان يلعب العابا ماهرة مع الشكل الروائي .
أحتفظ بمكتبة شخصية تحوي اكثر من ثمانين الف كتاب ، يحفظ الكثير من اسرارها ونراه في روايته " شعلة الملكة لوانا الغامضة " يصنع لنا شخصية تشبهه ، فبطل الرواية بائع كتب قديمة، يفقد ذاكرته في حادث. لكنه لايفقد ذاكرة الكتب ، فهو يتذكر جميع الكتب التي قراها ، ومعلوماتها بدقة متناهية ، لكنه ينسى تاريخ حياته والوجوه المحيطة. ذاكرته الجديدة تشكِّلها قراءاتُه فقط .
يعترف بان بعض رواياته صعبة : "يسألني الناس دائمًا ،" كيف حققت رواياتك ، التي هي صعبة للغاية ، نجاحًا معينًا؟ ". "لقد شعرت بالإهانة من السؤال. يبدو الأمر كما لو أنهم سألوا امرأة ، كيف يمكن أن يهتم الرجال بك؟ ، ونجده يضيف بفكاهته المعروفة "أنا أحب الكتب السهلة التي تجعلني أنام على الفور".



أعلى