قراءة في الكتاب:
(الحجاح في الخطاب السياسي
الرسائل السياسية الأندلسية خلال القرن الهجري الخامس أنموذجا )
الطبعة الاولى 2015 داركنوزالمعرفة
للدكتور عبد العالي قادا
لا أحد يمكنه أن ينكر اليوم الدور الذي يؤديه الحجاج في مقاربة الخطابات العلمية والإنسانية والثقافية والسياسية ، وقد تعاورته أبحاث كثيرة يصعب حصرها ، حيث غدا الحجاج موضوعا حاضرا في كل الخطابات، وهذا يدل أن العصر الذي نحياه هو عصر الحجاج والجدال والبرهان والإقناع بامتياز.(الحجاح في الخطاب السياسي
الرسائل السياسية الأندلسية خلال القرن الهجري الخامس أنموذجا )
الطبعة الاولى 2015 داركنوزالمعرفة
للدكتور عبد العالي قادا
والآن نجد أنفسنا في أمس الحاجة الى الحجاج في زمن بدأت إرهاصات العنف والخلاف تتسع ، فالحجاج هو سبيل العقل والمنطق والحوار والتسامح.
ولهذا السبب حاجتنا اليوم أن نعلي شأن الحجاج باعتباره آلية للتواصل والإقناع والتأثير، ولكي يستقيم ذلك في الوطن العربي علينا بالضرورة طرح هذا الموضوع للنقاش والمدارسة، والبحث في قضاياه من داخل تراثنا الثري.
تجدر الإشارة أن نسجل بأن الدرس الحجاجي ظاهرة قديمة وذات عمق وامتداد التاريخي اطلاقا من الثقافة الهلينية والرومانية الى الثقافة العربية الاسلامية .
في تراثنا العربي الإسلامي كان علماء الكلام خصوصا المعتزلة روادا في باب الحجاج، وعمّق الفلاسفة وعلماء الأصول والنحو والمنطق أصول الدراسة في هذا المجال، كما حضر الحجاج في العصر الحديث عند الدارسين العرب في خطبهم السياسية والإشهارية وفي بحوثهم النقدية والبلاغية.
انطلاق مما سبق نسجل أن الحجاج بني على نسق متكامل من المعارف بغية الإفهام والإقناع ، بالاستناد على آليات استدلالية وتفسيرية وبراهنية .
الكتاب موضوع القراءة ، في الأصل أطروحة جامعية نال من خلالها الباحث درجة الدكتوراه سنة 2011 بكلية اللغة العربية بمراكش ، وطبعت هذه الرسالة العلمية وأُخرجت في كتاب أنيق عن دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع عمان الأردن الطبعة الاولى 2015.
يقع الكتاب في أربع مائة وأربع وثمانين صفحة . وصدّر له الدكتور أحمد قادم ،وقدم الدكتور عبد العالي لكتابه ، ولعل تقديم صاحب الكتاب لمنجزه تمليه أكثر من ضرورة :
أولها ، الدكتور عبد العالي متمكن من عمله وضابط لمناحيه الفكرية والمنهجية .
ثانيها ، أن يقدم الكاتب لكتابه،يعطيه القدرة على إقناع القارئ وتقريب مثنه بطريقة ذكية.
كل عتبات الكتاب توحي أننا أمام عمل مطبوع بالجدية والرصانة والثراء المعرفي ، ولن أخوض في الدلالات السيمائية للكشف عما يكنه البحث ظاهريا .
ومنهجيا جاء الكتاب في تفريع محكم يراهن من خلاله الباحث على تقديم مادته المعرفية برجاحة الفكر وغنى المتن العلمي خلال زمن تاريخي بدأ من العصر اليونان الى العصر الحديث ، حيث قُدم الباحث للقارئ في تصدير، ومقدمة، ومدخل عام وأربعة فصول ، قسمت حسب الضرورة المهجية إلى مباحث ، ثم قفى الباحث منجزه العلمي بخلاصات تركيبية، ثم خاتمة عامة للكتاب ، وفهرس ، ولائحة للمصادر والمراجع .
والمطلع على حجم المصادر وتنوعها وغناها يدرك منذ الوهلة الأولى حجم التعب والمعاناة الدكتور عبد العالي ،
ولكي أكون أنا بدوري منهجيا في التناول والمقاربة لهذا العمل المتميز في الساحة النقدية والبلاغية ارتأيت أن أباشر القراءة من جانبين اثنين ،
الأول : طريقة عرض الأفكار، والمنهج المتبع
الثاني : زخم المثن وثرائه في هذا المنجز العلمي
- أولا : أعرف الدكتور عبد العالي قادا باحثا متميزا، هذه المعرفة يسرت لي بقدر عال سبر غور هذا العمل دون عناء ، وأنا أعرف كذلك تمكّن الباحث من أدوات الإشتغال والمطارحة الفكرية والقدرة على الإقناع ، فقد قدّم أفكاره بعيدا عن التسرع كما هو معهود عند تجار المعرفة أو من راموا الضحالة ميسما لأعمالهم .
لقد راهن الدكتور عبد العالي أن يكون عمله أنموذجا ناجحا وراقيا من خلال البعد المعرفي الصرف، وتقريب المفاهيم العلمية المطبوعة بالعقلانية والموضوعية و ظل حريصا أن يكون عالما فقيها في البلاغة ومناحيها.
لقد خاض في بحث حدد له زمنا صعبا وعسيرا من تاريخنا الاسلامي ،لقد اختار نهاية القرن الرابع الهجري، حيث استبد الحجاب بالسلطة الفعلية في الأندلس ،وتعاقب على العرش مجموعة من الخلفاء الأمويين العاجزين والمتصارعين على السلطة. وضعف الحكم المركزي بقرطبة حيث انتهى بسقوط الخلافة الأموية سنة 422 هجرية / 1031 ميلادية. نتيجة لذلك، انقسمت الأندلس إلى مجموعة من الإمارات الصغيرة المتطاحنة ، سميت بمماليك الطوائف. شجع هذا الوضع توحّد بعض المماليك المسيحية،وشرعت في التوسع على حساب المسلمين.وتمثل ذلك في احتلالها لطليطلة عام 478هـ/1085م.
وبدأ عصر ملوك الطوائف بالأندلس عام (422هـ) عندما أعلن الوزير أبو الحزم بن جهور سقوط الدولة الأموية بالأندلس، وكان هذا الإعلان بمثابة إشارة لكل أمير من أمراء الأندلس ليتجه كل واحد منهم إلى بناء دويلة صغيرة على أملاكه ومقاطعاته، ويؤسس أسرة حاكمة من أهله وذويه، وبلغت هذه الأسر الحاكمة أكثر من عشرين أسرة أهمها:
• - بنو عباد بإشبيلية (414هـ - 484هـ)
• - بنو جهور في قرطبة(422هـ - 449هـ).
• - بنو حمود بمالقة (407هـ - 449هـ)
• - بنو زيري بغرناطة (403هـ - 483هـ)
• - بنو هود ب سرقسطة (410هـ - 536هـ)
• - بنو رزين بالسهلة (402هـ - 497هـ)
• - بنو ذي النون بطليطلة (400 هـ - 478هـ)
• - بنو الأفطس في بطليوس (413هـ - 487هـ).
فدخل (ملوك الطوائف) في حروب طاحنة إلى ان ضعفوا.
على الرغم من الانقسام السياسي، بلغت النهضة الثقافية ذروتها بالأندلس مع ملوك الطوائف في القرن 5هـ/11م وشملت الميادين الأدبية و العلمية. وحفل العصر بالعديد من رجال الفكر و العلم والأدب . كان من عوامل هذه النهضة، رعاية الملوك لهذه الحركة الثقافية ومشاركة بعضهم فيها ، والمنافسة بينهم في اقتناء الكتب، وتأسيس المكتبات و المدارس، إضافة الى دخول صناعة الورق إلى لأندلس في هذا القرن . وهكذا ساهمت الأندلس في عصر الطوائف المفكك سياسيا في إثراء الثقافة والفكر العربي، وإغناء التراث الحضاري الإسلامي.
إن المراهنة على استقصاء التاريخ الفكري والسياسي والعلمي لهذه المرحلة يعد في نظري خدمة للتراث العربي الإسلامي الذي يجيب عن سؤال مركزي : هل يضمحل العلم والفكر والادب في زمن الركود السياسي ؟
إن سبر غور التاريخ الفكري والسياسي والعلمي عند العرب المسلمين، وغيرهم من الأمم السابقة يتطلب من باحث أن يكون ملما بأدوات تحليلية صارمة ، وقارئا متميزا ومؤولا للنصوص ومستقرئا لدقائق الأمور ، وهذا ما وجدته في شخصية الدكتور عبد العالي ، لقد راهن أن يقدم بحثا في قضايا مهمة في باب الأدب والفكر، تزاوج بين الحجاج باعتباره درسا للإقناع ، وبين تحليل الرسائل السياسية الأندلسية خلال القرن الخامس الهجري . إن امتلاك أدوات التحليل جعل البحث يبتعد وبكثير من الدقة عن الممارسة المدرسية البسيطة في التحليل، ليقدم عرضا علميا لأفكار سياسية مهمة ، بتحليل مقتدر ومنهج مضبوط .
ولعله عمل مضني أن يقف الدكتور عبد العالي عند نتائج مهمة من خلال قراءته لمتن الرسائل السياسية ،خلال فترة زمنية اتسمت بالصراع على الحكم مما جعله يقدم مادته الثرية التي شدت القارئ الى الافكار الجديدة بأسلوب أنيق ولغة ماتعة.
وأنت تقرأ هذا المتن تحس فيه بعمق الإبداع في تصريف الأفكار ، التي تؤدي دورها التداولي ، وتلمس انتقاء اللغة العالمة التي تخدم مضامين الفصول والمباحث ،إنه اسلوب منح للكتاب ميزة التفوق في تشكيل اللغة داخل الثقافة العربية.
لقد أدرك الباحث بقدر كبير من الحنكة أن تصريف المادة العلمية يتطلب منهجا دقيقا يسهل ويدلل صعوبات ومشاق القراءة والتصنيف ، لهذا ألفيناه قد نوع مناهجه التي استدعاها المتن والموضوع ، فكان المنهج المعتمد في هذا الكتاب تاريخيا وصفيا مكنه من تناول المادة المعرفية عبر مراحل تاريخية مهمة واصفا ومحلّلا ، بالإضافة إلى المنهج حضر الاستقراء في الفصول الثلاثة محاولا ربط المفهوم النظري للحجاج بالمراحل التاريخية التي أنتجته . ومما يسند هذا الراي ما قاله الدكتور احمد قادم في تصديره للكتاب، لقد بنى الباحث " موضوعه وفق نسق منهجي سليم يتآزر فيه التنظير والتحليل وتتجانس فيه المقدمات والنتائج". هذه الشهادة تعطي تصورا حقيقيا أن المنهج الذي سلكه الدكتور عبد العالي ساعده على القراءة والتتبع وتمحيص الرسائل السياسية الأندلسية في ضوء البعد المعرفي اللساني و التداولي .
ثاني : زخم المثن وثرائه في هذا المنجز العلمي :
إن متعة القراءة ولذّتها في منجز الدكتور عبد العالي يأسرك انطلاقا من عتبة العنوان. إن اختيار الحجاج في الخطاب السياسي للرسائل الأندلسية خلال القر ن 5 هـ كان مدخلا أساسيا وناجحا للمتن الذي قام بمقاربته ، وإذا كان العنوان مصدّرا بكلمة الحجاج ، فهي ميسم أساسي في الدراسة البحثية وفي عمقها الدلالي ، وهذا أدركناه اثناء قراءة هذا العمل الجاد ، فقد حضر الحجاج تنظيرا وبحثا في الأصول وفي مراحل التحليل باعتباره آلية علمية للوصول الى النتائج المتوخاة .
وتأسيسا على ذلك نقول:لا يمكن أن تكون هذه الدراسة ناجحة إلا اذا تضافرت جهود الباحث لاستحضار المادة المعرفية ، وهذا ما ألفيناه في مقاربة الرسائل السياسية بالأندلس خلال فترة تاريخية اتسمت بالثراء المعرفي الذي احتضنه الامراء والحكام الشيء الذي يسمح لنا بالقول : بأن هذا العصر الذي اختاره الدكتور عبد العالي زمنا للدراسة والبحث ،لم يكن سهلا ولا يتاح للمبتدئين الخوض فيه .
لقد قدّم الدكتور مادة مهمة ووصل الى نتائج علمية صرفة، ساعده في ذلك ذكاؤه و اختياره الناجح لمادّته،إن الرسائل السياسية طاوعت الباحث لانها تحمل المنحى الخطابي الحجاجي ، ونحن نذكر أن الخطاب السياسي عموما يتميز بالغنى الأسلوبي والإقناعي فهو أساسا موجه الى مخاطبين وهنا يحصل التداول عبر اللغة وموادها واساليبها ، بغية السيطرة على المتلقي وإقناعه .
إن المتن المعرفي الذي طبع الكتاب ابان على قدرة الباحث في التتبع واستقراء المادة الحجاجية بدقة ومراس بحيث انطلق من محددين رئيسين ، هما البلاغة والحجاج ، عرّف الحجاج تعريفا منهجيا دقيقا من حيث اللغة والاصطلاح ، وربط بينه وبين البلاغة ثم رسم الحدود الفاصلة بين الحجاج والجدل والبرهان ، ولم يقف عند حدود التعريف بل تجاوز ذلك الى ضبط المنحى الحجاجي في علاقته بكل العلوم والمعرف التي تستجيب للبعد الإقناعي ، وأدت هذه العملية ان سيطر الباحث على مفهوم الحجاج داخل المعاجم قديمها وحديثها، وكل الكتب التي تناولت هذا المفهوم مادة للبحث. وغطت هذه المادة البحثية عند الدكتور فترة زمنية انطلقت من اليونان الى العصر الحديث ، إنه جهد مضني وممتع نظرا لقرة الباحث العلمية لتجاوز كل الصعاب التي اعترضته بالقراءة والاستقراء والتحليل وربط المعارف بمناخها التاريخي والسياسي والأيديولوجي .
وتتبع المفهوم البلاغي من حيث النشأة في البيئة اليونانية ، حيث البلاغة تربت في كنف الاقناع ، لكن ما فتئت هذه البلاغة أن تعرف انحصارا قويا مع هوراس وأوفيد فغدت البلاغة ضربا من المحسنات والصور الشعرية ، وتابع الدكتور عبد العالي هذه القضية ليخلص إلي أن البعد الحجاجي للبلاغة تم التضييق عليه في مقابل البعد التصويري والأسلوبي الذي كان محتفى به ، لم يدم الحال كثيرا، بل نفضت البلاغة عنها غبار السنين كما قال الباحث قادا، وانبعثت من جديد حيث عرف العصر الحديث انقلابا فكريا برزت من خلاله خطابات مفعمة بالايدولوجيا والصراع بين التيارات ، وعاد للبلاغة ذلك الرونق التداولي مع نخبة من الباحثين : منهم بيرلمان وجيرار جنيت وتدوروف وجون كوهين وبول ريكور وميشال مايير وغيرهم ، مع هؤلاء الباحثين ستؤسس البلاغة الجديدة لنفسها بعدا نسقيا يستوعب المفهوم الأرسطي الإقناعي باعتماد الملكة الخطابية والمفهوم الأدبي للوصول إلى بلاغة تراهن على التأثير والتفعيل .
إن الكشف الجميل في دروب البحث العلمي يظهر من خلال هذه الرحلة العلمية لرد الاعتبار للبلاغة كما أسس لها أرسطو يقول الدكتور عبد العالي " وهكذا ادرك الغربيون ان ظواهر مثل السجال السياسي والخطاب الاعلامي والخطاب الاشهاري تتعلق بطرائق معروفة من طرف الخطباء والبلغاء "ص 52.
إذا كان حال البلاغة الغربية هكذا ، فالبلاغة العربية تختلف من حيث ظروف النشأة ، وإذا كانت كما أسلفنا البلاغة الغربية نشأت في أحضان الاقناع ، وإذا كان ارسطو قد أفرد للشعر بابا وللخطابة آخر فإن البلاغة العربية مزجت الخطابي بالشعري ، وركز على الشعر وأُغفلت الخطابة ، وحتى النص الديني (القرآن الكريم) لم ينظر إليه من خلال الأبحاث والدراسات الأولى إلا لكونه نصا بليغا معجزا متفردا في لغته ونظمه . ولم تولي هذه الدراسات بالغ الأهمية لباب الحجاج والأدلة والإقناع .
ولكن هذا الأمر سيستقيم مع بوابة البيان العربي، الجاحظ هذا الإمام المعتزلي المتسلح بمبادئ العقل والملمّ بكل الثقافات السابقة في باب الجدل زاوج في أبحاثه بين الخطابة والشعر وجعل للبلاغة وظيفتين متكاملتين هما الاقناع والامتاع.
ونسجل مع الدكتور عبد العالي انحصار البلاغة في الدور الامتاعي والشكلي ، لعوامل سياسية ودينية وثقافية .
بعدما وقف الدكتورعبد العالي، بحزم عند المفاهيم مفسرا وشارحا ومؤولا ، خلص الى أن كل مقاربة حجاجية تطبيقية لن تجد بديلا عن النص المؤسس لأرسطو ، واستدل على ذلك بما ساقه محمد الوالي في كتبه ( الاستعارة في محطات يونانية وعربية ص 10) حيث لا يمكن أن " يستقيم بحث ذو طبيعة تأريخية لا يبدأ من حيث تبدأ الامور ، خصوصا وان البداية الارسطية هي بداية مستوية " وبهذا يكون المعلم الأول في نظر محمد الوالي وعبد العالي قادا محطة أساسية في التنظير والفعل ، وقد تابع الوالي الى أن خلص أن الفلاسفة العرب كانوا فقط شراح ، وهنا يمكن أن نسجل اختلافا مع الاستاذ الوالي اذا استحضرنا العمل الذي قام به ابن رشد فهو حلقة مهمة في قراءة ارسطو فهو لم يكن فقط شارحا بل كان مؤولا وقارئا ومضيفا تبعا لمنهجه التجريبي في التحليل.
ومادامت الرسائل السياسية الأندلسية تشكل مركزا أساسيا في الكتاب فقد خصص لها الدكتور عبد العالي حيزا مهما خلال القرن الهجري الخامس، لقد ساق مفهومها ومسارها التاريخي وسجّل الاختلاف بينها وبين الرسائل الأخرى كالإخوانية والديوانية مثلا . وهكذا تتبع مراحل عرض مادته بمنهج متقد استحضر فيه العامل السياسي والتاريخي والايديولوجي والمعرفي مع التركيز على الدور الذي أنعش هذا النوع من الرسائل ولا بأس أن نذكر ها : الرسائل السلطانية والرسائل الإدارية والرسائل الشعبية من السلطان الى الرعية والرسائل الشعبية من الرعية للسلطان والرسائل الشعبية من الرعية للرعية ، وتختلف اغراض كل نوع من هذه الرسالة تبعا للمقامات التداولية.
الرسائل السلطانية تعمد الى تقوية التحالفات والتعازي والتهاني واصلاح ذات البين وفض النزاعات والعتاب وطلب الدعم والرسائل الادارية من السلطان الى مؤسسات الدولة للتولية والعزل والتوجيه والارشاد واللوم والتعنيف ، أما الرسائل الشعبية من السلطان الى الرعية فهي للإخبار والاستمالة والتهديد . وأما من الرعية للسلطان فهي للشفاعة والاعتذار وإعلان الخروج والعصيان ومن الرعية للرعية تكون لاستنهاض الهمم والدعوة الى الجهاد.
لم يكتف الباحث بعرض هذه الأنواع الرسائلية بل تابعها متابعة علمية مسائلا إيها لتبوح بالخلفيات التاوية وراء الخطاب شارحا ومؤولا ومستنتجا ليتمكن بالتالي من الوقوف على الخصائص الفنية والتخاطبية ، وداخل هذا السياق عالج قضايا الدرس البلاغي والخصائص الدينية والأدبية ، ولم يفت الباحث أن يخصص حيزا مهما للحديث عن مفهوم الخطاب السياسي والبحث عنه داخل سياقات الرسائل السياسية الأندلسية مع تحديد الأبعاد التداولية للخطاب في إطار تواصلي واستحضار الآليات الحجاجية الإقناعية التي هي البؤرة التي وسمت الكتاب مما أدى بالباحث الى التركيز على المعطى الاستدلالي باعتباره مكونا أسياسيا في البنية الحجاجية الإقناعية ، ولعل ما وصل اليه الباحث في هذا الشق الحجاجي يتسم بالجدة ورجاحة الفكر لدى الباحث حيث إن الاستدلال في الرسائل السياسية الاندلسية ادى الى النتائج التالية:
1 - ضعف الاحتجاج العقلي المؤسس على الحجج المنطقية
2- الاستناد الى سلطة النص
3- هيمنة الحجاج العاطفي المبني على أخلاق المتكلم وشيّمه والاثارة العاطفية للمتلقي
هذه الملاحظات سجلها الباحث انطلاقا من قراءة واعية لمتن الرسائل ، ليرصد حجاجية الكلمة باعتبارها الوحدة المعجمية الحاملة للدلالة القابلة للتأثير داخل سياق المتن، مما حدا به الى البحث عن خصائص هذه الكلمة وابعادها الإقناعية، وعطفا على الكلمة عالج في سياق الخصائص المنهجية الحجاجية الاساليب البلاغية داخل الرسائل السياسية مثل الاستفهام واغراضه البلاغية والنفي وما يدخل في بابه ثم الاطناب والتوكيد والسّجع والجمل الدُعائية وأسلوبي الحكم والامثال .والمهم عند الباحث وقوفه عند الأدوار الحجاجية للأساليب البلاغية بالتحليل والتأويل والاستنتاج ليصل الى حجاجية الصورة مقربا مفهومها وضابطا وظائفها، وهنا لابد ان يفهم المتلقي زيادة على جمالية الصورة وامتاعها أن لها دورا اقناعيا حجاجيا ، ويمكن تلخيص دور ووظيفة الصورة الحجاجي في ما يالي :
1ــ تقريب المعنى وايضاحه
2ــ تأكيد المعنى وتتبيثه
3ــ اثارة انفعالات المتلقي : اثارة الاحساس بالعظمة – اثارة الاحساس بالشفقة والرحمة – اثارة الحمية الدينية – اثارة الخوف والطمع
4ــ التحسين والتقبيح
5ــ الاستدلال
لم يفت الباحث أن خصص للرسالة في بنيتها التراتبية الداخلية حيزا ليرصد حجاجية مقدمة الرسالة وما تحتويه من وظائف تم يتطرّق لأبعاد العرض ثم الخاتمة . مستدلا بنموذج راق من الرسائل السياسية لابن عبد البر لأهل بربشتر(مدينة أندلسية) ليرصد من خلال هذه الرسالة المكونات الداخلية للحجاج في المقدمة والسرد والخاتمة مما سيتيح له الانتقال الى استراتيجية الحجاج في اقتباس المفاهيم لتأدية دور التخطيط العلمي للوصول الى الهدف في تحديد المرسل في علاقته بالمرسل إليهم ليقف على مسوغات الأساليب اللغوية التي يمكن تصريفها عبر الأمر والنهي والتهديد . وعلى سبيل الختم طرح الدكتور عبد العالي استراتيجيات متنوعة في علاقة المرسل بالمرسل اليه كالتضامنية ومسوغاتها في تأسيس العلاقات أو تقويتها وإظهار الاستعداد لخدمة المرسل اليه ، وحسن التعامل مع صاحب السلطة وفيها تحدث عن المسوغات اللغوية التي تنفد هذه الاستراتيجية التضامنية كالنداء وضمائر التخاطب وألفاظ المعجم الى غيرها مما يعطي نموذجا قابلا للتداول بين المرسل والمرسل اليه .
بعد ذلك ركز على الاستراتيجية الإقناعية وكان الهدف من خلالها سعي المرسل إلى اقناع المرسل إليه عن طريق الإذعان او الخوف وتكون الرسالة هنا غنية بالحجاج والأدلة فيكون الاحتجاج لب الخطبة ويسوق لذلك جملة من المسوغات التأثيرية ، لغوية كانت أم غير لغوية . وفي هذا السياق فقد تتبع الباحث الرسائل السياسية الاندلسية بكثير من الدقة. وسجلنا أن الخطة العلمية التي من خلالها خرج البحث مستجيبا لكل مقومات البحث الناضج .
وبالجملة أمكن القول إن عمل الباحث الدكتور عبد العالي يتميز بالجدّة على مستوى التناول ، وبهذا العمل ومن خلاله سيتعرف القارئ أن الرسائل الاندلسية ليس وثائق تاريخية تؤثث المكتبات، وأدت دورها الوظيفي تدبيرا وتسييرا ، إنها اصبحت مع الدكتور عبد العالي خطابا تداوليا يتضمن مجموعة من الاشارات العلمية القوية كشفت عنها آلية الباحث الحجاجية التي وظفها للتحليل .
إن الباحث في الرسائل السياسية الاندلسية وفي هذا التراث العربي الاسلامي يعطي انطباعا قويا ان ثراء كبيرا في تراثنا ما زال في حاجة ماسة الى وقفات علمية رصينة تعيده الى المدارسة والبحث .
بقلم الدكتور: السعيد أخي