هذا شطر بيت من قصيدة متوسطة الطول ( 47 بيتا ) من شعر زهير بن أبي سُلمى ، شاعر الحكمة والسلام في العصر الجاهلي . وهذه القصيدة غير المعلقة الأكثر طولا وحِكما وإشادة بالسلام ، ولكن هذا الشطر الذي اتخذناه عنوانا ، سبقتنا الشبكة العنكبوتية في اتخاذه عنوانا للقصيدة . والمعروف أن الشاعر العربي القديم لم يكن يضع عنوانا لقصيدته ، والمعتاد أن القصيدة تنسب لأول شطر فيها . فمعلقة امرئ القيس عنوانها : " قفا نبك " ، ومعلقة طرفة : " لخولة أطلال " ومعلقة عنترة : " هل غادر الشعراء ؟ " وهكذا ..
ونعرف أن البارودي (توفي 1904) أول من وضع عنوانا لبعض قصائده ، ومن بعده حرص شوقي على عنونة قصائده جميعا ، وعلى الرغم من أن القدامى لم يضعوا عناوين لقصائدهم ، فإن عبارة " بيت القصيد " كانت متداولة في الدراسات وكأن أية قصيدة – على طولها – يمكن أن يستجمع معناها في بيت واحد ، ومن ثم فإن اختيار شطر البيت : ( كأنك تعطيه الذي أنت سائله ) بمثابة خلاصة للقصيدة ، وليس هذا صحيحا ، وربما كان بناء المعنى في هذه العبارة على التضاد بين العطية والسؤال هو الذي عمل على انتشار هذا الشطر ، فضلا عن أنه جعل الممدوح سعيدا يتهلل وجهه بما يعطي لقاصدي مجلسه ، وكأنهم هم الذين يعطونه !! وهذا تعبير طريف ، ومخاتل من حيث يصدم المألوف ، وهو أن " من يأخذ " يكون الأكثر سعادة ، بعكس " من يعطي " وكأنه غارم ، فالشاعر قلب المعنى ، فكانت طرافته وندرته .
أذكر أن شيئا من ذلك جرى عبر حوار بين شيوخ الأزهر ، وأمراء المماليك ، فقد ثار التجار في القاهرة لكثرة ما فرض عليهم المماليك من ضرائب ، فخرج علماء الأزهر فيما يشبه المظاهرة للدفاع عن تجار العاصمة ، فأحاط بهم أمراء المماليك ، وسألوهم عن سبب قدومهم ، وأنه لا حق لهم في الاعتراض على فرض الضرائب ، وكان مما قال المماليك : نحن أمراء البلاد ، ومن حقنا أن نفعل ما نشاء !! فكان جواب العلماء لهم مفحما يقلب المعنى ، كما في عبارة زهير ؛ قالوا : أنتم الأمراء حقا ، والأمير أميرٌ بما يعطي وليس بما يأخذ !!
وأعود إلى بيت زهير الذي اعتُبر غاية في المديح ، ولكن بعض النقاد القدامى لم يره كذلك ، ولعله رأى فيه انتقاصا من قيمة الممدوح ، وكرامته ، من منطلق أن الرجل من أصحاب المقامات العالية ليس مما يفرحه أن ينال جائزة ، أو أن يأخذ بدل أن يعطي ، بما يعني أن لذة المنح والجود والإعطاء التي يستشعرها " السيد " تبلغ في وجدانه مكانا عميقا ، وتثير في نفسه درجات من الاعتبار ، والشعور بالتسامي يختلف تماما عن أي شعور آخر ، ويختلف أكثر عن شعور هذا الشخص نفسه فيما لو أنه " أخذ " بدل أن " أعطى " . وربما نجد في أنفسنا نحن الذين نعطي بحذر أو بحساب أو في حدود الممكن بما يجعلنا نسعد بأن ندخل شيئا من السرور أو الرضا على نفس من نمنحه من مال الله الذي أعطانا ، وليس لمثل هذا الشعور المشبع بالاعتبار ، والثقة ، والكرامة ، ما يشبهه أو يدانيه أو يذكر به حين يحصل أحدنا على مالٍ ، حتى وإن لم يكن يتوقع الحصول عليه!!
هنا إضافة نقدية نود أن نلتفت إليها ، ونضعها في سياقها ، وبخاصة أننا نظلم أدبنا ونقدنا القديم ، دون أن نبذل جهداً حقيقيا في استخراج أسراره ، وجمالياته اللغوية ، والنفسية .
ونعرف أن البارودي (توفي 1904) أول من وضع عنوانا لبعض قصائده ، ومن بعده حرص شوقي على عنونة قصائده جميعا ، وعلى الرغم من أن القدامى لم يضعوا عناوين لقصائدهم ، فإن عبارة " بيت القصيد " كانت متداولة في الدراسات وكأن أية قصيدة – على طولها – يمكن أن يستجمع معناها في بيت واحد ، ومن ثم فإن اختيار شطر البيت : ( كأنك تعطيه الذي أنت سائله ) بمثابة خلاصة للقصيدة ، وليس هذا صحيحا ، وربما كان بناء المعنى في هذه العبارة على التضاد بين العطية والسؤال هو الذي عمل على انتشار هذا الشطر ، فضلا عن أنه جعل الممدوح سعيدا يتهلل وجهه بما يعطي لقاصدي مجلسه ، وكأنهم هم الذين يعطونه !! وهذا تعبير طريف ، ومخاتل من حيث يصدم المألوف ، وهو أن " من يأخذ " يكون الأكثر سعادة ، بعكس " من يعطي " وكأنه غارم ، فالشاعر قلب المعنى ، فكانت طرافته وندرته .
أذكر أن شيئا من ذلك جرى عبر حوار بين شيوخ الأزهر ، وأمراء المماليك ، فقد ثار التجار في القاهرة لكثرة ما فرض عليهم المماليك من ضرائب ، فخرج علماء الأزهر فيما يشبه المظاهرة للدفاع عن تجار العاصمة ، فأحاط بهم أمراء المماليك ، وسألوهم عن سبب قدومهم ، وأنه لا حق لهم في الاعتراض على فرض الضرائب ، وكان مما قال المماليك : نحن أمراء البلاد ، ومن حقنا أن نفعل ما نشاء !! فكان جواب العلماء لهم مفحما يقلب المعنى ، كما في عبارة زهير ؛ قالوا : أنتم الأمراء حقا ، والأمير أميرٌ بما يعطي وليس بما يأخذ !!
وأعود إلى بيت زهير الذي اعتُبر غاية في المديح ، ولكن بعض النقاد القدامى لم يره كذلك ، ولعله رأى فيه انتقاصا من قيمة الممدوح ، وكرامته ، من منطلق أن الرجل من أصحاب المقامات العالية ليس مما يفرحه أن ينال جائزة ، أو أن يأخذ بدل أن يعطي ، بما يعني أن لذة المنح والجود والإعطاء التي يستشعرها " السيد " تبلغ في وجدانه مكانا عميقا ، وتثير في نفسه درجات من الاعتبار ، والشعور بالتسامي يختلف تماما عن أي شعور آخر ، ويختلف أكثر عن شعور هذا الشخص نفسه فيما لو أنه " أخذ " بدل أن " أعطى " . وربما نجد في أنفسنا نحن الذين نعطي بحذر أو بحساب أو في حدود الممكن بما يجعلنا نسعد بأن ندخل شيئا من السرور أو الرضا على نفس من نمنحه من مال الله الذي أعطانا ، وليس لمثل هذا الشعور المشبع بالاعتبار ، والثقة ، والكرامة ، ما يشبهه أو يدانيه أو يذكر به حين يحصل أحدنا على مالٍ ، حتى وإن لم يكن يتوقع الحصول عليه!!
هنا إضافة نقدية نود أن نلتفت إليها ، ونضعها في سياقها ، وبخاصة أننا نظلم أدبنا ونقدنا القديم ، دون أن نبذل جهداً حقيقيا في استخراج أسراره ، وجمالياته اللغوية ، والنفسية .