صبحي شحروري - لماذا النص

إن استكشاف النص ومعرفته يرجع إلى ترتيب علاقتنا بوجودنا (2) , علاقتنا بالحقيقة والذات والعقل والمعنى وعلاقتنا مع المؤلف.
نقرأ أي شخصية قديمة عظيمة لكي نتعرف إلى الواقع الراهن, ولكي نستشرف المستقبل . وقد فشل "مسلسل عمر بن الخطاب" لأنه خالف ذلك , وكان على من صنعوا المسلسل أن يدفعوا الصحابي العظيم رضي الله عنه إلى خضم الحياة عندنا اليوم, كي يقارن الناس طروحاتهم الدينية بطروحاته وأخلاقهم بأخلاقه وبوجوده وتاريخه العظيم.
ومن خلال المقارنة سنرفض الكثير مما هو قائم, وقد نقرّ القليل. بوجوده ربما يظهر موقفنا من الحقيقة والعقل وطبيعة المعنى.

أي أن هذا الحضور اللافت ربما يساهم في حل مشكلاتنا.
أما عمر التاريخي, في موقعه الأول, فنحن نعرفه إلى حد ما وربما نكتشف أشياء جديدة تعدّل حتى من نظرتنا إليه , أي تزيده تعظيما وتزيدنا فهماً بواقعنا وبالشريعة عموما.
إن هذا الوجود ربما تنبثق عنه رؤى ومعانٍ تنفع في المستقبل.
والنص القوي يحجب المعنى (3) ولا يقوم بكشف كل ما لديه من دلالات. وعلى القارئ الجيد أو الناقد أن يقوم بكشف ذلك عن طريق التأويل, والتأويل ليس كتابا مفتوحا بل نعتمد على البصيرة والحدس لفك الرموز, وهي مهمة الناقد الذي يفترض أنه قارئ جيد.


تحليل قصيدة محمود درويش:" يأتي ويذهب"

وكمثال على ذلك قمت بتحليل قصيدة "يأتي ويذهب" من ديوان درويش الأخير " لا أريد لهذا القصيدة أن تنتهي" ص87. حتى يتبين القارئ ما كانت القصيدة لا تحجب, وما تم تأويله وشرحه.

ومهمة النقد الآن أن لا يكتفي بقراءة المعلوم لفحصه والحكم عليه وإنما, استقصاء المجهول والمغيب ، أي أن يقوم بعملية وذلك بحفر طبقات النص, ويرى الروائي الكبير كونديرا أن الرواية لا تفضح الواقع وإنما تفحص الوجود. وهكذا فالمهم الممارسة وليس مجرد التنظير, وليس مشكلة الفكر بل مشكلة الناس.
]يأتي ويذهب[
]يأتي ويذهب / يأتي حين أنفصل
عن الظلال فأنسى موعدي معه[
ولذي يأتي ويذهب بالنسبة للشاعر هو الشعر وبالشعر يتم الانفصال عن واقع الحياة العادي والمألوف. لكنه هنا لينفصل عن الظلال والمفروض هنا أن الظلال حالة سكونية هنا مع أن الشاعر نفسه استخدم الظلال أو الظل بمعنى آخر في ديوانه "الجدارية" الذي درسته كاملا , فلتنظر إلى ذلك . حيث جاءت لفظة ظل بمعنى الغناء.
" لم أولد لأعرف أنني سأموت , بل لأحب محتويات ظل الله "
فالظل ظل الله يصله الصوفي بالغناء فيه فلفظ "ظل" استخدم مرتين بمعنيين مختلفين حسب اختلاف السياق.
والانغماس في الواقع ينسي الشاعر موعده مع الشعر.
فالظلال من الواقع هنا في سكونيتها.
]لا نلتقي أبدا ً / في وقتنا خللُ
ولا يلوّح عن بعد لأتبعه[
وبالطبع, فنحن لا نلتقي بالشعر ونحن في كامل وعينا, فالشعر غياب . والمعنى واضح.
]كأنه الشعر
أو ما يترك الحجلُ
من الخيال ويغويني لأُرجعه[

هذا الذي يلوح كأنه الشعر, لماذا كأنّ؟ لأنه ليس من السهل الحكم على كلام ما أنه الشعر أو غير الشعر إلا بعد التدقيق.
" أو ما يترك الحجل" . فما الذي يتركه الحجل ؟
تحتاج أن تكون ريفيا كي تعرف ما يترك الحجل. الحجل وهو يكرج مسرعا جدا كأنه خيال, الحجل وهو يطير باندفاع مذهل من أعلى إلى أسفل (لا يستطيع فعل العكس) . الأم وصيصانها وهم يختفون في لحظة. والصغار المدربون ماهرون جدا بالاختفاء, كل ذلك وغيره أشبه بالغياب منه بالحضور مما يغوي الشاعر بالعودة للشعر.
]ما الشيء هذا الذي
يأتي ولا يصل
إلا غياباً فأخشى أن أضيّعَهُ [
ويعاود السؤال , والمعنى أن الشعر لا يأتي إلا بالذهول والغياب عن الواقع, وهي حالات نادرة وصعبة, ولذا يخشى الشاعر أن يضيع الشعر. والشاعر يتبسط مع القارئ, فهو الشاعر المتمكن لا يضيّع الشعر.
]لا شيء أحلم أحيانا
وأرتجلُ
حلما يعانق حلماً كي يوسعه[
كل ما تقدم الغياب والغواية وما يترك الحجل مجتمعةً, تخلف تيارا واحدا قويا يوسع التيار المتدفق ويغري الشاعر بالتوجه إلى الشعر.
]فلا أكون سوى حلمي
ولي جبلُ
ملقى على الغيم يدعوني لأرفعه[
المهم أنه شاعر, والشاعر أبو الأحلام , وهو بالشعر قوي سامٍ يرفع جبلا عاليا يطاول الغيم مجازا ً بالطبع, وهو إحساس الشاعر وأوهامه وأما تخييل مأخوذ بقدر كبير هذه المرّة.
]أعلى من الغيم إشراقا
وبي أملُ
يأتي ويذهب لكن لن أودعه[
مع الشعر يحس أنه أعلى من الغيم بقوة إشراق روحه.
وبه أمل بأن يظل شاعراًً يأتي الشعر ويذهب دون أن يتركه. أما كلمة إشراق, فالإشراق حالة صوفية من بين حالات أخرى, كالحلول ووحدة الوجود. وأصله فارسي ومن السهروردي القتيل صاحب بيت الشعر اللافت للنظر.
وتشبهوا إن لم تكوني مثلهم إن التشبيه بالكرام فلاح
وقد حاولت الوقوف على طبيعة الإشراق بدقّه فوجدته صعبا يحتاج إلى مقاربات دائمة.
طرف من أشياء جميلة وما لا يدرك كله نسعى لإدراك بعضه , والعاقبة لله.
ومرة أخرى هذا تأويل هام ولكنه ليس دراسة كاملة للقصيدة.




طولكرم
23/4/2013


(1) صدار نور الدين : بين النص والامتداد مجلة كتابات معاصرة, لبنان, عدد 72 ص58 حيث تعثر على الكلام عن النص بوجه عام.
(2) على حرب : نقد النص, المركز الثقافي العربي بيروت 1995 ص8
(3) المصدر السابق نفسه ص12 ,18

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى