في العصور القديمة من التاريخ الإنساني – عصور ما قبل الكتابة، كانت الشعوب تستخدم إرسال أشياء مادية كلغة لتوصيل رسائل معينة،قبل أن يتم الانتقال لاحقاً لطريقة الكتابة التصويرية (Ideography)حيث يتم تمثيل الفكرة/الشيء عن طريق الرموز التصويرية.
ويرى بعض الباحثين أن نشوء الكتابة التصويرية كان في الفترة ما بين 7000 و 6000 قبل الميلاد، وأنها بدأت في عدد من الأماكن على الأرض في وقت واحد.
إذاً فتاريخياً كان لموضوع التشكيل أهمية كبيرة – بالإضافة للبعد الوظيفي طبعاً- تتمثل في الجزء الجمالي عند الإنسان. فنظرة سريعة إلى الفن النوبي، النقش والألوان على الأبواب والحوائط إلى الآن في شمال السودان، أو سكان اليمن وهم يزينون مقابض الخناجر وأغماضها – بعيداً عن وظيفتهما – توضح ذلك التعاطي الجمالي لدى الإنسان.
هذه النزعة للتشكيل وخلق عوالم صورية تظهر في السنوات المبكرة عند الأطفال بصورة أوضح؛ ويمكن ملاحظتها في كيفية استجابتهم للعالم من حولهم، ومؤخراً ظهرت طريقة العلاج بالرسم للأطفال الذين تعرضوا لأزمات نفسية لا يستطيعون التعبير عنها.
فأي طفل هو فنان بالضرورة، بمعنى أنه لديه ملكات يمكن تطويرها وذلك عبر توفير وسط يحتوي هذه التجارب. فالمحيط/البيئة تؤثر على تجربة الفنان، حيث تلعب دوراً مقدراً في تشكيل المبدع، لكن الجزء المهم يكمن في تطوير هذا المبدع لأدواته وصقلها بالوعي، الإدراك والإضافة، والتنظير النقدي لعمله، والذي هو أهم فعل في الممارسة الإبداعية، لأن هذا التنظير يساعده في تجاوز نفسه وصعوده المستمر؛ المتمثل في تعميق التجربة الإبداعية. هذا التعمق يظهر في قدرة الفنان على الخروج من إطار تعبيري ضيق إلى حيز أشمل من الوجود الإنساني.
“فكل الأطفال الاعتياديين لديهم الحافز الداخلي للخلق والتصوير، فالرسوم على الجدران، أو الأبواب، أو الأرصفة، براهين ملموسة على نزعة الخلق المتأصّلة في نفس الطفل. وبما أن الاهتمام لا يزال موجهاً، في الأساس، نحو تحصيل المعرفة المقررة ضمن المنهاج التعليمي السائد، فإن الحافز التلقائي الخاص بالإدراك البصري المتميز للطفل لا يلقي عملياً اهتماماً يذكر، وكلما كبر الطفل اضمحل لديه هذا الحافز الخلاق، من هنا يتضح لنا السبب في أن معظمنا يملك إدراكاً بصرياً للتميز الصوري لم يتعد (ولم يتطور) مرحلة الطفولة، لكن الاستعداد نفسه لم يتغيّر كلياً، أنه كامن وبالإمكان إيقاظه”. – وهو مدخل هذه الفقرة إلى جمالية التلقي.
إذاً فالتشكيل ليس معالجة لمشكلة، بل هو حوجة ملحة لإعادة تشكيل موقف معين، بصورة أدق تكوين رؤية مغايرة للنظر لموقف ما، وهنا أذكر تعريف ريلكه للمبدع بأنه الذي يمتلك القدرة على تحويل ما هو مرئي – يقصد العادي – لدى الآخرين إلى لا مرئي – باختزانه في الذات المبدعة – ومن ثم إحالته إلى مرئي مجدداً، أي من زاوية نظر مغايرة/ متجددة.
لذلك نجد هذا الانفجار المذهل في مجال التشكيل، واستحداث تقنيات جديدة في الرسم، والاشتغال على التجريب بكل أنواعه.
التلقي:
المدخل إلى التلقي يتمظهر في السؤال عن قيمة الفن نفسه، فإلى اليوم نسبة مقدرة من الناس – هنا في السودان – تنظر إلى الفن التشكيلي كنوع من الحاجة الجمالية الذائدة –”الترف” إذا جاز التعبير – بمعني أنهم يستمتعون بالنظر وربما الوقوف أمام لوحة ما لعدد من الدقائق لكن لا يفكرون في اقتناءها. وذلك قد يكون لأسباب عدة لكن أهمها يكمن في ارتفاع ثمن اللوحة المعينة، والذي يقودنا إلى السبب الثاني مباشرة وهو محدودية التذوق، فكل تلقي للفن هو تلقي جمالي/معرفي.
وهنا يتولد سؤال، عن ما الذي نبحث عنه في اللوحة؟ أو من أين تأتي قيمة اللوحة؟
إحدى أقدم الإجابات على هذا السؤال هو في قدرة الفنان على خلق لوحة تطابق أو تحاكي الواقع، وهي النظرة التي ترى أن قيمة الفن تكمن في قدرته على المحاكاة. وفي نظري هي استجابة قاصرة، فإذا أخذنا رسم البورتريه أو المنظور كمثال، فصحيح أنه يعكس مهارة الفنان وقدرته الفنية، لكن وبالاعتماد على الفكرة الأثيرة (الشكل والمضمون) لا استطيع وضعهما في منزلة اللوحات التجريدية وأنواع التشكيل الأخرى.
________
الهوامش:
*التشكيلي هنا كما يعرفه الفنان عبد الله بولا بأنه كل من يعمل في مجال صناعة أشكال المرئيات، وبذلك يشمل التعريف جميع الفنون(الرسم، النحت، الخزف…إلخ.). وهو تعريف شامل في نظري.
“فن الكتابة الصحيحة”– تأليف د. محمد سليمان ياقوت، إصدار دار المعرفة الجامعية 2003.
“تنامي الفاعلية الفنية” -هنري شيفر – سيمون.
عن مجاهد الدومة
ويرى بعض الباحثين أن نشوء الكتابة التصويرية كان في الفترة ما بين 7000 و 6000 قبل الميلاد، وأنها بدأت في عدد من الأماكن على الأرض في وقت واحد.
إذاً فتاريخياً كان لموضوع التشكيل أهمية كبيرة – بالإضافة للبعد الوظيفي طبعاً- تتمثل في الجزء الجمالي عند الإنسان. فنظرة سريعة إلى الفن النوبي، النقش والألوان على الأبواب والحوائط إلى الآن في شمال السودان، أو سكان اليمن وهم يزينون مقابض الخناجر وأغماضها – بعيداً عن وظيفتهما – توضح ذلك التعاطي الجمالي لدى الإنسان.
هذه النزعة للتشكيل وخلق عوالم صورية تظهر في السنوات المبكرة عند الأطفال بصورة أوضح؛ ويمكن ملاحظتها في كيفية استجابتهم للعالم من حولهم، ومؤخراً ظهرت طريقة العلاج بالرسم للأطفال الذين تعرضوا لأزمات نفسية لا يستطيعون التعبير عنها.
فأي طفل هو فنان بالضرورة، بمعنى أنه لديه ملكات يمكن تطويرها وذلك عبر توفير وسط يحتوي هذه التجارب. فالمحيط/البيئة تؤثر على تجربة الفنان، حيث تلعب دوراً مقدراً في تشكيل المبدع، لكن الجزء المهم يكمن في تطوير هذا المبدع لأدواته وصقلها بالوعي، الإدراك والإضافة، والتنظير النقدي لعمله، والذي هو أهم فعل في الممارسة الإبداعية، لأن هذا التنظير يساعده في تجاوز نفسه وصعوده المستمر؛ المتمثل في تعميق التجربة الإبداعية. هذا التعمق يظهر في قدرة الفنان على الخروج من إطار تعبيري ضيق إلى حيز أشمل من الوجود الإنساني.
“فكل الأطفال الاعتياديين لديهم الحافز الداخلي للخلق والتصوير، فالرسوم على الجدران، أو الأبواب، أو الأرصفة، براهين ملموسة على نزعة الخلق المتأصّلة في نفس الطفل. وبما أن الاهتمام لا يزال موجهاً، في الأساس، نحو تحصيل المعرفة المقررة ضمن المنهاج التعليمي السائد، فإن الحافز التلقائي الخاص بالإدراك البصري المتميز للطفل لا يلقي عملياً اهتماماً يذكر، وكلما كبر الطفل اضمحل لديه هذا الحافز الخلاق، من هنا يتضح لنا السبب في أن معظمنا يملك إدراكاً بصرياً للتميز الصوري لم يتعد (ولم يتطور) مرحلة الطفولة، لكن الاستعداد نفسه لم يتغيّر كلياً، أنه كامن وبالإمكان إيقاظه”. – وهو مدخل هذه الفقرة إلى جمالية التلقي.
إذاً فالتشكيل ليس معالجة لمشكلة، بل هو حوجة ملحة لإعادة تشكيل موقف معين، بصورة أدق تكوين رؤية مغايرة للنظر لموقف ما، وهنا أذكر تعريف ريلكه للمبدع بأنه الذي يمتلك القدرة على تحويل ما هو مرئي – يقصد العادي – لدى الآخرين إلى لا مرئي – باختزانه في الذات المبدعة – ومن ثم إحالته إلى مرئي مجدداً، أي من زاوية نظر مغايرة/ متجددة.
لذلك نجد هذا الانفجار المذهل في مجال التشكيل، واستحداث تقنيات جديدة في الرسم، والاشتغال على التجريب بكل أنواعه.
التلقي:
المدخل إلى التلقي يتمظهر في السؤال عن قيمة الفن نفسه، فإلى اليوم نسبة مقدرة من الناس – هنا في السودان – تنظر إلى الفن التشكيلي كنوع من الحاجة الجمالية الذائدة –”الترف” إذا جاز التعبير – بمعني أنهم يستمتعون بالنظر وربما الوقوف أمام لوحة ما لعدد من الدقائق لكن لا يفكرون في اقتناءها. وذلك قد يكون لأسباب عدة لكن أهمها يكمن في ارتفاع ثمن اللوحة المعينة، والذي يقودنا إلى السبب الثاني مباشرة وهو محدودية التذوق، فكل تلقي للفن هو تلقي جمالي/معرفي.
وهنا يتولد سؤال، عن ما الذي نبحث عنه في اللوحة؟ أو من أين تأتي قيمة اللوحة؟
إحدى أقدم الإجابات على هذا السؤال هو في قدرة الفنان على خلق لوحة تطابق أو تحاكي الواقع، وهي النظرة التي ترى أن قيمة الفن تكمن في قدرته على المحاكاة. وفي نظري هي استجابة قاصرة، فإذا أخذنا رسم البورتريه أو المنظور كمثال، فصحيح أنه يعكس مهارة الفنان وقدرته الفنية، لكن وبالاعتماد على الفكرة الأثيرة (الشكل والمضمون) لا استطيع وضعهما في منزلة اللوحات التجريدية وأنواع التشكيل الأخرى.
________
الهوامش:
*التشكيلي هنا كما يعرفه الفنان عبد الله بولا بأنه كل من يعمل في مجال صناعة أشكال المرئيات، وبذلك يشمل التعريف جميع الفنون(الرسم، النحت، الخزف…إلخ.). وهو تعريف شامل في نظري.
“فن الكتابة الصحيحة”– تأليف د. محمد سليمان ياقوت، إصدار دار المعرفة الجامعية 2003.
“تنامي الفاعلية الفنية” -هنري شيفر – سيمون.
عن مجاهد الدومة