أدب السجون مروة التجاني - الضحك في السجن..

الطريق إلى السجن قصير إذا ما قيس بالمسافات والزمن العادي لرجل الشارع ، لو لم يكن مؤدي إلى السجن فبالكاد أن يشعر به أحد ، لكن حين يقود إليه يكون طويلاً حيث تستحث جميع حواسك في محاولة لسرقة مشاهد أخيرة من الحرية ، الطريق إلى السجن في حال لم تكن معصوب العينين يعني النظر في الشوارع ، المارة ، الوجوه العابرة ، الروائح .. كأن الداخل للسجن يحاول أن يسرق من كل شئ القليل والصور الأخيرة . لكن هو ليس مسافراً ليحزم أمتعته ويوضب الذكريات ، الطريق إلى السجن يعني تسمر الوجه في حالة واحدة وهي الخلو من التعابير .. هنا لايتم سرقة هواء الحرية أثناء الطريق وإنما التضحية بكل شئ . تسقط المشاعر في الطريق وكأن السجين يلقي بقطع لحمه ودمه ليروي ضمأ أرض لا تعرف الشبع أو الأمتنان ، هي تضحية فردية وقربان يقدم دون مناسبة أو احتفاء .

اللحظات الأولى دائماً هي الأقسى .. عند بوابات السجون يتلاشى الإحساس حين تمتد أيادي الحراس للتفتيش ، لا يمكن أن ترتسم ابتسامة ولو باهتة والأيادي الغريبة تمتد لتلامس كل اجزاء الجسد في وحشية ، أما مشاعر الداخل فتكون في قمة سموها فلو سئل سجين هل راودته رغبة في أن يرى يد حارس مقطوعة فستكون اجابته بالنفي ، هكذا هم الضحايا يتضامون مع بعضهم وأن كان السؤال متخيلاً . لا يملك السجين عادة كنوز ليحزن حين تنتزع منه وأن كان يعرف إنها ستعود إليه حين خروجه لكن فكرة الفقد مؤلمة . . معنى أن تفقد سيجارة ، قلم ، بضع نقود ، حزام هو أن تتجرد من كل ما يكمل المظهر الإنساني ، هو لحظة فقدان الصلة مع العالم الخارجي ، هو بدايات المواجهة مع العدو المتربص في الداخل " الوقت " مجرداً من كل فعل أو تعبير ، سيتكفل الوقت برسم ملامح الوجه العاري من كل انفعال .

في أوقات الحرب والأزمات الكبرى تكون السجون منطقة غائبة عن العالم ، ممحية من الوجود ، الطريق إليها في هذه الأثناء يعنى الموت المسبق .. السجين نقطة مكتوبة في ورقة ستمحو الكلمات الطويلة كل أثر لها . حدث أن عذب أحدهم في ظروف مماثلة ولم يمت بل قطعت يده عند منطقة الكف ، كان يفكر لحظتها " ماذا سأفعل بالأخرى ؟ " ويعزي نفسه " إنها اليد اليسرى " . في السجن يمكن أن تفقد كل شئ وجميع اجزاء الجسد ، فلا عزاء سوى البقاء على قيد الحياة .. يخيم الموت على السجن أولاً ثم ينتقل إلى بقية البلاد ، كلما اظلمت السجون ماتت البلد وشاخت ، هي مقابر الأحياء وشواهد الإنسانية المحتضرة .

حدث أن ضحك ذات مرة السجين مقطوع اليد ، حدث أن ضحك السجين الذي اخضع لتفتيش دقيق ، وضحك آخر في زمن الحرب .. الضحك في السجن يعني أن الدماء لا تزال تسري في العروق وأن الطبيعة الإنسانية لاتزال قادرة على الانتصار والبقاء ، سيبدو الطريق إلى السجن كمشهد سينمائي جميل بعد أن تأخذ السجون الانفعالات وتسرقها ، تتكسر الضحكات وتجئ ذابلة .. الجيد في الأمر أنها لن تختفي لكن سيكون فيها مذاق الموت والكراهية .. سم يلذع . الطريق للسجن يعني العدوى بالسموم ، امتلاء الوجه بالوقت والضحك المكتوم .


تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
701
آخر تحديث
أعلى