في الثلث الأخير من القرن الفائت، وفي خضمّ أطروحات الحداثة ونظرية النص المتذرّعة بأعمال كُتّاب كبار، تعالت الأصوات المنادية بموت الأنواع الأدبية، وهيمنة النص بمنأى عن كل تصنيف أو تحديد، لكن سرعان ما انبثقت بلاغة جديدة منقّحة أعادت أرسطو وتقسيمه الثلاثي (الملحمي، الدرامي، الغنائي)، بقدر ما أعادت المسألة الأنواعية إلى الواجهة في الخطاب النظري والنقدي للأدب، من منظورات مغايرة تستفيد من منجزات اللسانيات والشعرية والسيميائيات والبلاغة، بل من الفلسفة كذلك. وهكذا ترجع نظرية الأنواع، بفضل أعمال كيت هامبورغر وجان ماري شيفر وجيرار جونيت وغيرهم ممن أقاموها على قواعد جديدة من التأويل والتأمل الجمالي، إلى المتخيَّل الذي يبنيها داخل التعاريف والأوصاف، عبر نماذج وفرضيات تحتملها يوتوبيا العمل الأدبي. وقد أتى عمل دومينيك كومب (الأنواع الأدبية) شاهدًا على العودة القوية للأنواع ليس في فرنسا وحدها، بل في بلدان أخرى غيرها. وإذا كان عمل كومب لا يضيف جديدًا إلى تعاريف مقولة النوع الأدبي، بيد أنّه يتيح لقارئه أن يهتدي، داخل بنيان النظريات ومتاه مقارباتها، إلى «مُتخيَّل» الأنواع؛ إذ يمدُّه بالنصوص النقدية والمراجع البيوغرافية الضرورية للتأمل الجمالي، ولتأويل الأعمال بكل بساطة.
آثرنا أن نترجم النص الذي قدّم به الناقد الفرنسي كتابه (الأنواع الأدبية)، ليس فقط لأنّه يرسم منحنيات ذلك المتخيَّل الأنواعي المثير للجدل، بل يحملنا على بعث النقاش حول المسألة الأنواعية في أدبنا الحديث والمعاصر، ولاسيما في ضوء التحولات العميقة التي تشهدها بنياته النصّية، على نحو يحدُّ من فوضى أدوات النقد التي يتلاغى بها أصحابها، بوعي أو دونه، في قراءات الأدب.
النص:
خلال سنوات الستينيات، وفي خضمّ الرواية الجديدة، ورولان بارث، ونزعة النص التي دافع عنها فيليب سولرس وجماعة تيل كيل، اتّخذ الأدب والنقد من مقولة النوع الأدبي غريمهما الرئيس. وبإسم النص المحسوب على العمل الحديث (الموسوم بـ»المفتوح» من طرف أمبرتو إيكو) ـ «أناشيد مالدورور» للوتريامون، و»البحث عن الزمن الضائع» لبروست و»عوليس» لجويس- غدا التمييز القديم للأنواع، والذي حكم الأدب حتى أواخر القرن التاسع عشر للميلاد، في حكم المتقادم المعلن.
ومن وجهة نظر نظرية ونقدية، لا يبدو ثمة أصالة جذرية خاصة بهذه «النصوص» الحديثة المتمردة على مقولات «الشعر»، «الرواية» أو «المقالة». فليس المنكر، طبعًا، ألّا تُباشَر «أناشيد مالدورور» بالأدوات النقدية نفسها التي همّت «التأملات الشعرية» للامارتين، أو القول بأن «البحث عن الزمن الضائع» كذلك تتجاوز بكثير مقولات الرواية البلزاكية.
ومن وجهة نظر المؤلف ـ المعاد تسميته «منتجًا» أو «كاتبًا- فإنّ التصنيف من خلال الأنواع لا يمكن أن يكون إلا عائقًا لـ»عمل الدالّ» الذي يخرق كل الحدود خرقًا واضحًا. وإذ نعنون نصًّا ما بـ»رواية» أو «قصيدة»، فإنّ الأمر لا يعني كونه مبتذلًا وحسب، بل «ارتداديًّا» مثلما يشير إلى ذلك بعض النزعات الأكاديمية أو «المثالية». وعلى الشاكلة نفسها، يحترم الرسامون واجب عنونة أعمالهم بـ»رسم» أو «تشكيل» لأجل تفادي الإحالة على الأنواع القائمة. وإلا كيف يمكن العمل بذلك طالما أن هذه الأنواع ـ البورتريه، الربوة، الملاحة، الطبيعة الميتة، إلخ ـ كانت مُحدّدة بدقة تبعًا للـ»موضوع» الذي اختفى لصالح التجريد؟
هكذا، تمّ التأكيد على رفض الأنواع الأدبية من طرف النقاد والكتاب، الذي علاوةً على أنه يوحي بإلغاء هذا التمييز، المحتكم إليه والمثالي كذلك، بين «النص» والتعليق عليه ـ بين «المنتج» ومؤوّله- فهو يندرج في إطار تقليد طويل سماه جان بولهان في بحثه الشهير (Les Fleurs de tardes, 1941) بـ»الرعب داخل الآداب». يصدر الأخير باعتبار تلك الاعتراضات عن السيريالية التي كانت ترجع إلى لوتريامون: نعرف أنّ بريتون المعادي لفكرة «الأدب» نفسها، كان يؤثر ألّا يُنعت نتاج الكتابة الآلية بـ»قصيدة»، ولا حتى بـ»عمل»، بل يُنعت بـ»نصّ سيريالي»، لغرض التأكيد على الطبيعة التجريبية فيه، الخارجة عن الاهتمام الإستطيقي الذي تأسَّنَ معه الأدب على نحو لا يجوز تحاشيه.
بالنسبة لـ (Nadja) 1928 أو (L’amour fou)1937 ، لا يمكن أن يظهرا إلا داخل «المحكيّ السيريالي» غير القابل للاختزال إلى الرواية ـ النوع الذي كان يمقته بريتون- كما إلى المقالة، أي إلى الأنواع المعروفة بالذات. غير أنّ «الرعب» السيريالي، كما يبرزه بولهان، لم يعد هو نفسه ثانية. فالرومانسيون، وعلى رأسهم هوغو، قد جعلوا من البلاغة التي تشترك والأنواع، حصانَهم في معركة (هرناني). تُعرّف مقدمة «كرومويل Cromwell» (1827) «الدراما» ضد التمييز الكلاسيكي بين المأساة والملهاة، وتظهر أن «الكلّ في الكلّ» وأن المسرح يجنح إلى الشمولي. وبما هي سلسلة من المقدمات المكتوبة بخصوص أول مجموعة شعرية معروفة بٱسم (Les Odes et Les Ballades)، يصطنع هوغو الدهشة، مما يمكن أن يُؤاخَذ عليه بأنّ «أناشيده الغنائيةOdes ليست مجرد أناشيد غنائية»، وأنّ «مُقطّعاته الغنائية Ballades ليست مجرد مقطّعات غنائية»، ويرفع الاتهام في وجه «الحديقة الفرنسية» للأدب الكلاسيكي الذي بحكم ارتباطه بـ»الانتظام»، يجهل في الأخير معنى «النظام الطبيعي» حيث تجعلنا غابات العالم الجديد نستشفُّ غزارته. لكن هذا الرفض للبلاغة هو بحدّ ذاته بلاغة: راح الرومانسيون يستبدلون الأنواع القديمة لـ»الكلاسيكيين» بتمييزات جديدة، من قبيل تمييز «الدراما» التي كفّت عن الإحالة على الأنواع القروسطية بقدر ما خرجت عن علم الجمال الكلاسيكي- المقطّعة الغنائيةLa ballade تمثيلًا. كما سينساق الجميع، بمن فيهم بريتون، إلى تمييز «النص السيريالي» عن «محكيّ الحلم».
إنّ الأنواع الأدبية اليوم في أحسن حال. وبطبيعة الحال، كم وفيرةٌ هي الأعمال «المفتوحة» التي تضع التصنيفات موضع سؤال بسبب الحيرة المتعاظمة لدى الناشرين والكتبيّين وأمناء المكتبات والنقاد. إلى ذلك، وإزاء صعوبة ترتيب أعمال ميشو وبونج وجابس داخل أيّ صنف أنواعي كان، فقد غدا مثل هذا الموجز أو ذاك التاريخ الأدبي يؤثر إعادة تجميع المؤلفين تحت مقولة «المبتكرين» ـ أي بإجمال، «غير القابلين للتصنيف». بيد أنّ مسعىً مثل هذا، إلى جانب كونه مبرّرًا، لن يكون له من معنى، إلا إذا كانت مقولة النوع نفسها تُلحُّ عليه. وعدا بعض هذه الحالات الخاصة، ألسنا نرى أن إصدار «روايات»، ومجاميع «قصائد»، وقطع من «المسرح»، يتواصل باستمرار وعلى نحو كثيف؟ إن هذه الإصدارات أخذت تطبع الأنواع التي ترجع إليها، مثلما الشأن بالنسبة إلى فيليب سولرس الذي يتعرف إلى قوانين رواية الجاسوسية بعد أن كتب (Le Parc)، طبعًا بطريقة سحرية. أو ألان روب غرييه الذي يعكف على اللذة الآثمة للسيرة الذاتية في (Le miroir qui revient). ويثبت افتتان الرواية الجديدة بالأنواع «الشعبية» التي كانت إلى عهد قريب مُدْرجة داخل الأدب الموازي، من قبيل الرواية البوليسية ورواية الجاسوسية أو رواية التكهن المعلومة تمامًا، حنينها إلى الأنواع بشكل يعود بها إلى الماضي. وبدون الحديث عن الجوائز الأدبية التي تقوي القوانين الروائية، وعن المؤلفين الذين لا يكفّون عن التحجُّج بهذا القانون أو ذاك، فإنّه بوسع أعمال كتّابٍ أكثر أهمية في وقتنا، وفاعلين في الحداثة، أن تكون متماهية بسهولة: إيف بونيفوا الذي كتب «محكيّات» و»مقالات أدبية» على السواء، هو أوّلًا شاعر. وكلود سيمون الذي يعتبر عمله، وإن كان خارجًا عن الواقعية العادية للرواية الأكاديمية، سيرةً ذاتيّةً بالأحرى، هو روائيٌّ بطبيعة الحال. ثم لا نشكُّ قطعًا في أنّ يوجين يونسكو مؤلف مسرحي بالتأكيد، وفي أنّ ميشيل ليريس كاتب سيرة ذاتــــية؛ وهذا ما يعني أن «النص»، أو «الكتاب» عندما كان نقاد الستينيات يرون الأدب «في الآتي»، لم يحلّ البتة محلَّ الأنواع القديمة، حتى إن كانـــت هذه الأخيرة قد تحوّلتْ بعمق.
إنّ الخطاب النقدي والنظري يثبت هذا الإلحاح على إشكالية الأنواع، والحقّ أن النقد الجامعي لم ينقطع عن العودة إليها، وهو يقترح أبحاثًا وأطاريح حول الموضوع. وبخصوص «النقد الجديد»، فإنّ قطاعًا منه قد قطع تمامًا مع إرث فردينان برونتيير وغوستاف لانسون في فرنسا، وهو الذي وضع مقولة النوع، أثناء الجمهورية الثالثة، في صلب تعليم التاريخ الأدبي- أي الآداب. وقد بقي التعليم في السلك الثانوي كما العالي، قائمًا إلى اليوم على برامج منشغلة بالتقســـيم الأنواعي.
وما فتئت المسألة تؤكد راهنيّتــــها في ألمانيا أو في الولايات المتحدة، وما إصدار مجلة تحمل عنوان (genres) إلا وجه حجّة على ذلك، بل إنّ العودة القوية للأنواع في فرنسا وبشكل يثير أكثر من استغراب – والمؤلَّف الحالي يأتي شاهدًا على ذلك- إنما هي صادرة عن أفق «النقد الجديد» نفسه، وذلك بهدف ردّ الاعتبار للبلاغة المنقّحة من طرف تزفيتان تودوروف وجيرار جينيه، حيث عادت مقولة النوع للظهور من جديد.
ببساطة، ومثلما يتضح للجميع، فإن النوع ـ مستفيدًا من الآراء النقدية التي وُجِّهت إليه ـ قد أصبح موضوع تأمل. وقد حان الوقت لنظريّةٍ ليس حول الأنواع المؤسسة ـ على الرغم من هذه الدراسة أو تلك عن «المحكي الشعري»، «رواية المغامرة» أو «الرواية الأطروحة»- بقدر ما تكون حول مقولة النوع نفسها. وتشهد شعرية الأنواع المستمدّة من شعرية أرسطو، والتي كانت إلى عهد قريب منفيّةً في الأنفاق، عدّةَ مؤلفاتٍ تستدعي اللسانيات والسيميائيات والبلاغة والفلسفة في محاولةٍ منها لتعريف المقولة الأقل انفلاتًا من مقولة الأسلوب المنقّحة بدورها.
وعلاوة على هذا المشروع التعريفي والتصنيفي الذي يعدّ جيرار جينيه أحد روّاده، ثمة دراساتٌ جهوية يتضاعف عددها، كلُّها تعود إلى إشكالية النوع ـ منذ أعمال فيليب هامون حول الوصفي، أو بول ريكور حول السردي إلى أعمال أخرى لجان كوهن حول الشعري. وعلى نحو مفارق، يظهر أن المقولة التي انتقص منها الكتاب والنقاد معًا، قد انبعثت كموضوع للدراسة العلمية من أجل «بلاغة جديدة».
آثرنا أن نترجم النص الذي قدّم به الناقد الفرنسي كتابه (الأنواع الأدبية)، ليس فقط لأنّه يرسم منحنيات ذلك المتخيَّل الأنواعي المثير للجدل، بل يحملنا على بعث النقاش حول المسألة الأنواعية في أدبنا الحديث والمعاصر، ولاسيما في ضوء التحولات العميقة التي تشهدها بنياته النصّية، على نحو يحدُّ من فوضى أدوات النقد التي يتلاغى بها أصحابها، بوعي أو دونه، في قراءات الأدب.
النص:
خلال سنوات الستينيات، وفي خضمّ الرواية الجديدة، ورولان بارث، ونزعة النص التي دافع عنها فيليب سولرس وجماعة تيل كيل، اتّخذ الأدب والنقد من مقولة النوع الأدبي غريمهما الرئيس. وبإسم النص المحسوب على العمل الحديث (الموسوم بـ»المفتوح» من طرف أمبرتو إيكو) ـ «أناشيد مالدورور» للوتريامون، و»البحث عن الزمن الضائع» لبروست و»عوليس» لجويس- غدا التمييز القديم للأنواع، والذي حكم الأدب حتى أواخر القرن التاسع عشر للميلاد، في حكم المتقادم المعلن.
ومن وجهة نظر نظرية ونقدية، لا يبدو ثمة أصالة جذرية خاصة بهذه «النصوص» الحديثة المتمردة على مقولات «الشعر»، «الرواية» أو «المقالة». فليس المنكر، طبعًا، ألّا تُباشَر «أناشيد مالدورور» بالأدوات النقدية نفسها التي همّت «التأملات الشعرية» للامارتين، أو القول بأن «البحث عن الزمن الضائع» كذلك تتجاوز بكثير مقولات الرواية البلزاكية.
ومن وجهة نظر المؤلف ـ المعاد تسميته «منتجًا» أو «كاتبًا- فإنّ التصنيف من خلال الأنواع لا يمكن أن يكون إلا عائقًا لـ»عمل الدالّ» الذي يخرق كل الحدود خرقًا واضحًا. وإذ نعنون نصًّا ما بـ»رواية» أو «قصيدة»، فإنّ الأمر لا يعني كونه مبتذلًا وحسب، بل «ارتداديًّا» مثلما يشير إلى ذلك بعض النزعات الأكاديمية أو «المثالية». وعلى الشاكلة نفسها، يحترم الرسامون واجب عنونة أعمالهم بـ»رسم» أو «تشكيل» لأجل تفادي الإحالة على الأنواع القائمة. وإلا كيف يمكن العمل بذلك طالما أن هذه الأنواع ـ البورتريه، الربوة، الملاحة، الطبيعة الميتة، إلخ ـ كانت مُحدّدة بدقة تبعًا للـ»موضوع» الذي اختفى لصالح التجريد؟
هكذا، تمّ التأكيد على رفض الأنواع الأدبية من طرف النقاد والكتاب، الذي علاوةً على أنه يوحي بإلغاء هذا التمييز، المحتكم إليه والمثالي كذلك، بين «النص» والتعليق عليه ـ بين «المنتج» ومؤوّله- فهو يندرج في إطار تقليد طويل سماه جان بولهان في بحثه الشهير (Les Fleurs de tardes, 1941) بـ»الرعب داخل الآداب». يصدر الأخير باعتبار تلك الاعتراضات عن السيريالية التي كانت ترجع إلى لوتريامون: نعرف أنّ بريتون المعادي لفكرة «الأدب» نفسها، كان يؤثر ألّا يُنعت نتاج الكتابة الآلية بـ»قصيدة»، ولا حتى بـ»عمل»، بل يُنعت بـ»نصّ سيريالي»، لغرض التأكيد على الطبيعة التجريبية فيه، الخارجة عن الاهتمام الإستطيقي الذي تأسَّنَ معه الأدب على نحو لا يجوز تحاشيه.
بالنسبة لـ (Nadja) 1928 أو (L’amour fou)1937 ، لا يمكن أن يظهرا إلا داخل «المحكيّ السيريالي» غير القابل للاختزال إلى الرواية ـ النوع الذي كان يمقته بريتون- كما إلى المقالة، أي إلى الأنواع المعروفة بالذات. غير أنّ «الرعب» السيريالي، كما يبرزه بولهان، لم يعد هو نفسه ثانية. فالرومانسيون، وعلى رأسهم هوغو، قد جعلوا من البلاغة التي تشترك والأنواع، حصانَهم في معركة (هرناني). تُعرّف مقدمة «كرومويل Cromwell» (1827) «الدراما» ضد التمييز الكلاسيكي بين المأساة والملهاة، وتظهر أن «الكلّ في الكلّ» وأن المسرح يجنح إلى الشمولي. وبما هي سلسلة من المقدمات المكتوبة بخصوص أول مجموعة شعرية معروفة بٱسم (Les Odes et Les Ballades)، يصطنع هوغو الدهشة، مما يمكن أن يُؤاخَذ عليه بأنّ «أناشيده الغنائيةOdes ليست مجرد أناشيد غنائية»، وأنّ «مُقطّعاته الغنائية Ballades ليست مجرد مقطّعات غنائية»، ويرفع الاتهام في وجه «الحديقة الفرنسية» للأدب الكلاسيكي الذي بحكم ارتباطه بـ»الانتظام»، يجهل في الأخير معنى «النظام الطبيعي» حيث تجعلنا غابات العالم الجديد نستشفُّ غزارته. لكن هذا الرفض للبلاغة هو بحدّ ذاته بلاغة: راح الرومانسيون يستبدلون الأنواع القديمة لـ»الكلاسيكيين» بتمييزات جديدة، من قبيل تمييز «الدراما» التي كفّت عن الإحالة على الأنواع القروسطية بقدر ما خرجت عن علم الجمال الكلاسيكي- المقطّعة الغنائيةLa ballade تمثيلًا. كما سينساق الجميع، بمن فيهم بريتون، إلى تمييز «النص السيريالي» عن «محكيّ الحلم».
إنّ الأنواع الأدبية اليوم في أحسن حال. وبطبيعة الحال، كم وفيرةٌ هي الأعمال «المفتوحة» التي تضع التصنيفات موضع سؤال بسبب الحيرة المتعاظمة لدى الناشرين والكتبيّين وأمناء المكتبات والنقاد. إلى ذلك، وإزاء صعوبة ترتيب أعمال ميشو وبونج وجابس داخل أيّ صنف أنواعي كان، فقد غدا مثل هذا الموجز أو ذاك التاريخ الأدبي يؤثر إعادة تجميع المؤلفين تحت مقولة «المبتكرين» ـ أي بإجمال، «غير القابلين للتصنيف». بيد أنّ مسعىً مثل هذا، إلى جانب كونه مبرّرًا، لن يكون له من معنى، إلا إذا كانت مقولة النوع نفسها تُلحُّ عليه. وعدا بعض هذه الحالات الخاصة، ألسنا نرى أن إصدار «روايات»، ومجاميع «قصائد»، وقطع من «المسرح»، يتواصل باستمرار وعلى نحو كثيف؟ إن هذه الإصدارات أخذت تطبع الأنواع التي ترجع إليها، مثلما الشأن بالنسبة إلى فيليب سولرس الذي يتعرف إلى قوانين رواية الجاسوسية بعد أن كتب (Le Parc)، طبعًا بطريقة سحرية. أو ألان روب غرييه الذي يعكف على اللذة الآثمة للسيرة الذاتية في (Le miroir qui revient). ويثبت افتتان الرواية الجديدة بالأنواع «الشعبية» التي كانت إلى عهد قريب مُدْرجة داخل الأدب الموازي، من قبيل الرواية البوليسية ورواية الجاسوسية أو رواية التكهن المعلومة تمامًا، حنينها إلى الأنواع بشكل يعود بها إلى الماضي. وبدون الحديث عن الجوائز الأدبية التي تقوي القوانين الروائية، وعن المؤلفين الذين لا يكفّون عن التحجُّج بهذا القانون أو ذاك، فإنّه بوسع أعمال كتّابٍ أكثر أهمية في وقتنا، وفاعلين في الحداثة، أن تكون متماهية بسهولة: إيف بونيفوا الذي كتب «محكيّات» و»مقالات أدبية» على السواء، هو أوّلًا شاعر. وكلود سيمون الذي يعتبر عمله، وإن كان خارجًا عن الواقعية العادية للرواية الأكاديمية، سيرةً ذاتيّةً بالأحرى، هو روائيٌّ بطبيعة الحال. ثم لا نشكُّ قطعًا في أنّ يوجين يونسكو مؤلف مسرحي بالتأكيد، وفي أنّ ميشيل ليريس كاتب سيرة ذاتــــية؛ وهذا ما يعني أن «النص»، أو «الكتاب» عندما كان نقاد الستينيات يرون الأدب «في الآتي»، لم يحلّ البتة محلَّ الأنواع القديمة، حتى إن كانـــت هذه الأخيرة قد تحوّلتْ بعمق.
إنّ الخطاب النقدي والنظري يثبت هذا الإلحاح على إشكالية الأنواع، والحقّ أن النقد الجامعي لم ينقطع عن العودة إليها، وهو يقترح أبحاثًا وأطاريح حول الموضوع. وبخصوص «النقد الجديد»، فإنّ قطاعًا منه قد قطع تمامًا مع إرث فردينان برونتيير وغوستاف لانسون في فرنسا، وهو الذي وضع مقولة النوع، أثناء الجمهورية الثالثة، في صلب تعليم التاريخ الأدبي- أي الآداب. وقد بقي التعليم في السلك الثانوي كما العالي، قائمًا إلى اليوم على برامج منشغلة بالتقســـيم الأنواعي.
وما فتئت المسألة تؤكد راهنيّتــــها في ألمانيا أو في الولايات المتحدة، وما إصدار مجلة تحمل عنوان (genres) إلا وجه حجّة على ذلك، بل إنّ العودة القوية للأنواع في فرنسا وبشكل يثير أكثر من استغراب – والمؤلَّف الحالي يأتي شاهدًا على ذلك- إنما هي صادرة عن أفق «النقد الجديد» نفسه، وذلك بهدف ردّ الاعتبار للبلاغة المنقّحة من طرف تزفيتان تودوروف وجيرار جينيه، حيث عادت مقولة النوع للظهور من جديد.
ببساطة، ومثلما يتضح للجميع، فإن النوع ـ مستفيدًا من الآراء النقدية التي وُجِّهت إليه ـ قد أصبح موضوع تأمل. وقد حان الوقت لنظريّةٍ ليس حول الأنواع المؤسسة ـ على الرغم من هذه الدراسة أو تلك عن «المحكي الشعري»، «رواية المغامرة» أو «الرواية الأطروحة»- بقدر ما تكون حول مقولة النوع نفسها. وتشهد شعرية الأنواع المستمدّة من شعرية أرسطو، والتي كانت إلى عهد قريب منفيّةً في الأنفاق، عدّةَ مؤلفاتٍ تستدعي اللسانيات والسيميائيات والبلاغة والفلسفة في محاولةٍ منها لتعريف المقولة الأقل انفلاتًا من مقولة الأسلوب المنقّحة بدورها.
وعلاوة على هذا المشروع التعريفي والتصنيفي الذي يعدّ جيرار جينيه أحد روّاده، ثمة دراساتٌ جهوية يتضاعف عددها، كلُّها تعود إلى إشكالية النوع ـ منذ أعمال فيليب هامون حول الوصفي، أو بول ريكور حول السردي إلى أعمال أخرى لجان كوهن حول الشعري. وعلى نحو مفارق، يظهر أن المقولة التي انتقص منها الكتاب والنقاد معًا، قد انبعثت كموضوع للدراسة العلمية من أجل «بلاغة جديدة».
بنيانها النظري أخذ يتململ منذ الرومانسية: هل انتهت الأنواع الأدبيّة؟ | دومينيك كومب ـ ترجمة: عبد اللطيف الوراري*
في الثلث الأخير من القرن الفائت، وفي خضمّ أطروحات الحداثة ونظرية النص المتذرّعة بأعمال كُتّاب كبار، تعالت الأصوات المنادية بموت الأنواع الأدبية، وهيمنة النص بمنأى عن كل تصنيف أو تحديد، لكن سرعان ما ان
www.alquds.co.uk