16
ودّت هند، لو أن خطيبها، لم يطلب منها، التوقف عن العمل، في مكتب ابنه. فهي لا ترحب، ببداية علاقة زواج، تكبت حريتها، التي تمارسها، بصورة ما، كما شأن بنات غزة، بالهروب من جحيم المعتقلات البيتية للنساء. ولا تميل، لأن تسمح لزوجها، بإسقاط عبودية الذكورة العربية التاريخية، المستفحلة في ذواتهم، على العلاقة ما بينها وبينه. هي لن تعطيه حق ممارسة ديكتاتوريتة، وفرض واجب الطاعة عليها… في المقابل، لا تريد هند، أن تخسر الرصيد الذي كسبته، لدى أبي سامي، بما أظهرت له، من قابلية عملية، وكلامية، أنها تحترم تراثه الاجتماعي الذكري، الذي يرفع الرجل، إلى مقام الرب للأسرة، أو إلى مقام إلاه ذكر، له، على النساء، حق الولاء، وعلى حساب كرامتهن وحريتهن… قالت في نفسها: "الصبر نصف الإيمان"، وتذكرت المثل الشعبي: "بوس الكلب من تمه، لحَد ما تاخُد حاجتك مُّنه"؛ أضافت بتأفف: "وما هو إلا كلب، أبو كلب!".
كذلك، تعي هند، أن التوقف عن العمل في مكتب سامي، سيحميها من أخطار قد تهدد مشروع زواجها، قد تنجم عن احتكاك محتمل، مع سامي. فقد تغيظه، فيرد على ذلك، بكشف أسرار علاقتهما معاً، لأبيه، فتفشل خطتها، وينقلب عليها تدبيرها، بما قد يعرضها، لملاقاة مصير شقيقتها الكبرى، إذا انتشر خبر ما وقع لها، ومنها، في مكتب عملها.
وتتفادى، بتوقفها عن العمل، احتمال تعرضها لخطر، يأتي من عبد السميع، إذا ما أفلت من ضوابط، تلجم، رغبة شبقة، مجنونة، تغلى في صدره، نحوها. وتخشى، من نفسها، أن تفقد قدرتها على كبح جماح إرادة الانتقام لديها في لحظة مغرية، فيفسد ما تخطط له، وما أنجزته حتى الآن…
أمرت انفعالها بالهدوء. وسمعتها شقيقتها التي تشاركها الفراش، وهي تقول: "تحتاج المرأة إلى الدهاء، والحكمة، والمثابرة، والصبر، وإظهار الضعف، إذا أرادت أن تنتصر في معركتها القديمة، مع الذكورة الحمقاء، المتسلطة، الهمجية!".
سحبت نفساً عمّيقاً، وحضنت شقيقتها، ونامتا…
وفي صباح اليوم التالي، أضاف مأذون مخيم هند رقماً جديداً، في مسلسل التاريخ المتمادي في الغيّ، كما قال والد العروس، في سريرته، وذراعاه تمتدان، ليحضنا ابنته الأولى، التي نجحت في توريط رجل، في شراك الزواج، الذي يعتقد (أبوها) أنه "خطيئة الإنسان القديمة، وحماقة تتوارثها الأجيال، ندفع حريته ثمناً للإصرار على استمرار ارتكابه لها"….
أقبل أبو سامي على عروسه لتهنئتها، وهي تتحدث إلى نفسها، وعيونها تحملق في المأذون: "ها قد أصبحت مملوكي يا خبيث الرائحة!". قال: "مبروك لنا"؛ لثمت يده ورفعتها إلى جبهتها. والتفتت إلى أبيها، وتوقد شرر معجون بالفرح، في قلبها، قبل أن تنحني على يده، وتلثمها مرات عدة!.
تجاذبت أبا سامي، البهجة والعذابات. فها قد وجد أهلاً؛ ولكن.. ولكن زواجا، لم تلعلع فيه، زغاريد الأم، هو فرحة يتيمة، ناقصة. وتقافزت الصور في مخيلته: صورة سماح، المحرومة من أبوة معلنة في النور؛ المحرومة من حضن دافئ، تحتاجه كل الأنفس، وهو المحروم من بنوتها: "لماذا لا أملك الشجاعة فأعلن أبوتي لها؟ ستكون، على الأقل، بعض أهل لرجل مقطوع من شجرة! سامي؟! لا خير فيه، البنات أقرب إلى قلب رجل إنحدر إلى نهايته!". لملم أحزانه، واقترب من عروسه، وهمس في أذنها: "سنقضي شهر العسل، في رحلة إلى الخارج!".
كان ذهنه، يتجه إلى سوريا، لعله يلتقي فيها بذويه، الذين فارقهم في عام 1948. وأخذ يلوم نفسه: "لماذا لم أحاول السفر إليهم قبل ذلك؟!". لم يملك الشجاعة الكافية لمواجهتهم. وعندما راودته، ذات مرة، فكرة استصدار تصاريح لهم، لزيارته، في غزة، صدمته المعارضة الإسرائيلية، لمنح المواطنين الفلسطينيين المقيمين في سوريا، تصاريح بدخول مناطق السلطة الوطنية في قطاع غزة والضفة الغربية. وكان يثق، أن عمالته للاحتلال الإسرائيلي، لن تشفع له، ولن تجديه، إذا أقدم على طلب تصريح يسمح لأهله بزيارته. لقد تراجع، عن هذه الفكرة، في حينها، لسبب أعمق؛ إنه لم يكن يملك الجرأة، ليواجه ذاته العمّيقة، الممتدة في تاريخ أسرته المشرف!
اصطحب أبو سامي عروسه وأباها، إلى بيته، بعد أن اقترح أن تقوم هند بالإشراف على التغييرات، التي ترغب، في إدخالها، على البيت، الذي ستقيم فيه مع زوجها.
أذهلتها فخامة بيتها المرتقب، عندما دلفت إليه. قارنت بصمت، بينه وبين بيت عائلتها، قالت لنفسها: "أخيرا، سأرحل من قبر فوق الأرض!".
يعيش أبو سامي، في فيلا واسعة، وأنيقة، تقوم وسط حديقة من أشجار الفواكه والزينة، ومؤثثة بفرش ملوكي. أبت هند أن تدخل البيت، قبل أبيها، وزوجها، رغم إصرارهما، مرددين، في وقت واحد: "النساء أولاً". وبعد خطوة واحدة، من عتبة باب الفلاّ، المطل على الممر، الذي يشق أرضية مزروعة بالإنجيل الريَّان، والمحفوف، بأشجار زينة قصيرة، التفت أبو سامي إلى عروسه، وقال، بعينين مبتهجتين: "ظل هذا البيت معتماً حتى هذه اللحظة؛ ولكنه سيستنير، بوجودك، وإلى الأبد، إنشاء الله!". قال أبوها مباركاً: "الحب نور يهزم شياطيننا، سأصلي لكما، لتنعما بالبهجة الخالدة!".
بعد طواف سريع بأرجاء البيت، وبحماس شبابي، انحاز أبو سامي إلى جانب هند، التي رأت أنه يجب قلب كيان البيت، بكل تفاصيله؛ وهو مالم يستحسنه أبوها، الذي قال إنه (البيت) لا يحتاج إلى أية تعديلات أو إضافات. قال أبو سامي: "أريد تجديد حياتي بالكامل. وفي غضون أيام قليلة، سيتم تغيير الأثاث كله، ولون الجدران، والستائر، والتحف والسجاد، والنجف، وأدوات المطبخ.. وكل شئ؛ وغلى ذوق سيدة ما تبقى من عمري، وما مضى، عروستنا الجميلة!".
وبقلبين يرقصان، تشابكت كفّا العروسين، وانطلقا في رحلة حول الفلاّ، في الحديقة الواسعة، التي يحتل ركنها الشمالي الغربي، المسجد الواقع تحت مسئولية الشيخ عبد السميع، الذي يقيم، هو، وأسرته، في حجرة ملحقة به.
اختلى أبو هند، بنفسه، في حجرة المكتب بالفلاّ؛ فهجمت عليه سياط تأنيب الضمير، تلسعه من كل نحو، لمصاهرته رجلاً لا يليق به أن يربط مستقبل ابنته به. حاول أن يقنع نفسه بصواب موقفه الذي كاد يكون حيادياً، إزاء الرغبة التي تملكت هند، للزواج من أبي سامي، والتي دعمها بدور الأب الاجتماعي فقط، الذي يؤمن، بأنه، لا ينبغي أن يتعدى حدود التغطية الرسمية لما يقرره الأبناء؛ وهو، في قرارة ذاته، يتعذب بشراسة، كلما تذكر، جريمته التي ارتكبها ضد كبرى بناته: "وهل تمر لحظة بي أنسى فيها ما فعلت؟! هل هو شئ يمكن نسيانه؟! جريمة لا تغتفر! لماذا إذن أقف أمام رغبة هند؟ إذا كنت قد ذبحت شقيقتها الكبرى، مرة واحدة، فهل أذبح هند، ألف مرة؟! النساء للرجال، كما الرجال للنساء، هذا حق طبيعي؛ وللمرأة أن تختار رجلها، هذا حق طبيعي اجتماعي! الاعتداء على هذا الحق جريمة، من نوع جريمة الذبح التي ارتكبتها بجهالتي وبحقدي وبانصياعي لتاريخ ذكري دموي يدافع بوحشية الغاب عن ضلالات فكر ووجدان سقيم: الله خلق الرجال للنساء! هل يؤلمني أن الرجل الذي اختارته ابنتي له ماض نجس؟! لماذا خلق الله الماء والصابون؟! الحب يطهرنا من نجاستنا! والروح التي في كل واحد منا طاهرة. الحب يستنهض الروح! وأبو سامي ليس النجاسة الوحيدة في صفحة العالم العربي! وهو ضحية! هل أخنقه أنا أيضاً، إذا طرق باب بيتي ليفلت من تاريخ يضطهده، أو من قدر مشؤوم، حاق به منذ ضل عن أهله؟! استجار بي، فهل أحرمه الماء؛ فهل إن جاء ملهوف وعطشان، إلى ماء من مائي، أصدّه وادفعه إلى هلاكه؟! ذَبحتُ مرة، فلن أذبح بعدها، ولا خنزيرا!! ولن أقتل حيًّا ولا نسمة حياة!!".
لم يقف أحد، من عائلة هند، ضد زواجها من أبي سامي، والسبب، أن ذلك، يفتح طريق، ظلت مغلقة، أمام شقيقاتها، وأمامها، تحت حصار اجتماعي، ضربه الناس، حول العائلة، التي شاع زوراً، أن ابنتها الكبرى، تورطت في علاقة مع شاب، أثمرت حملاً؛ فاضطرت العائلة، إلى غسل عارها، بذبح هذه الابنة، البريئة، في حقيقة الأمر. لم يأت رجل، ليطلب الزواج من بنات أبي هند، الذي دفع ثمناً باهظاً للحفاظ على شرفه الوطني. وبنات، تقدم بهن العمر، واستفحل في نفوسهن، إحساس بالقهر، والظلم الاجتماعي؛ قد يفلتن من استبداد الذعر بهن، وينطلقن، متحديات لكل شئ. كان أبو هند، يحسب لهذا الأمر ألف حساب، خاصة فيما يتعلق بهند، الجريئة، الطموحة، المتهورة أيضاً؛ "أنها تقضي ساعات طويلة خارج الرقابة العائلية المباشرة، بحجة العمل؛ هذا يقلقني!"؛ قال أبوها، ذات مرة، يخاطب أمها، التي لم تكن أقل منه قلقاً!
عاود الكدر مشاغباته، في صدر أبي هند، وهو يهمُّ بالجلوس، في الصالون الكبير، جوار صهره، الذي دخل الفلاّ، بعد رحلته القصيرة، مع عروسه؛ تنهد أبو هند، وألقى بجسده، المنهوك بحسرة قديمة، وقال في داخله: "لست وحدي الذي يقدم التنازلات الصعبة في هذه الأيام!!".
تسمَّرت عينا هند، في حدقات خالتها تتأهب لقذفها بحمم تنطلق من صورة لسامي، معلّقة على الجدار، في الصالون الكبير للفلا. كظمت غيظا دفاعيا، وتساءلت: "ما السبيل إلى طرده من هذا البيت، ومن حياة أبيه كلها؟!". وتمثلت صورة الواقعة الأخيرة بينهما، ولامت نفسها: "لماذا لم أفلت بولي في منخاريه أو أتبرّز في فمه، وأنا أضغط وجهه بمؤخرتي؟!". فلت منها، قولها بصوت مكبوت، لكنه مسموع: "النذل، ابن النذل!!". تلفت الرجلان إليها، تستفسر ملامح وجهيهما عما ندّ عنها.. "آه؟!.. هل قلت شيئا؟!"؛ قالت ببلاهة متقنة، وقفزت من اللحظة، برشاقة وسرعة..
دلفت إلى حجرة النوم؛ فتحت نافذتها الواسعة، ابتسمت وهي تكتشف أن نافذة الحجرة، تقع، على اتجاه يعاكس اتجاه القبلة، ما يعني، أن اتجاه الصلاة في مسجد عبد السميع، يمرّ من نافذة حجرة نومها، قبل أن يواصل امتداده نحو الكعبة. "بعد قليل، ستكون صلاتك إلى فرجي يا عبد السميع"؛ قالت، وحمدت الله: "أنت أهل للثناء كله، يا من ترعى خطاي، يا نصير المرأة، ونصير كل مقهور في أرضك وليلك!". وعندما أغلقت النافذة، واستدارت، توقفت تصغي لشيطانها: "إذا أدرت لك ظهري يا مولاي الشيخ، فستمر، في طريقك إلى الكعبة، من مؤخرتي! هذا يليق بك، وبالمنافقين خلفك، المذعنين، مثل خراف عمّياء، لا يضئ الإيمان قلوبهم! ماذا؟ هأهأ، ستدخلون الجنة بصلواتكم الجوفاء! أقسم بالله العظيم، أنكم لن تشمّوا ريحها! ستدخلون النار، انتقاماً من الله منكم على الخطيئة التي تقترفونها، بإهدار الماء في وضوئكم، الذي لا يغسل شيئاً من أوساخ قلوبكم! زوجي المغفل، صلى الليلة الماضية؛ هل يعتقد أن الله تاجر مثله، يقايض الجنة، وحورياتها، بالسقوط وتمريغ الأنوف النتنة في تراب غزة القرفان من أحيائه وأمواته معاً؟!".
صدمتها صورة كاملة لزوجها، معلقة على جدار حجرة النوم. بصقت عليها، وقالت بتأفف: "عجوز منفِّر! تقيم مسجداً لعل الله يغفر لك؟! أيها المنافق، الضال، صبراً قليلاً، سأدِسُّ مئذنته في مؤخرتك أيها العفن!".
وقبل أن يغادروا الفلاّ، اتفق الثلاثة، على الالتقاء، فيها، مرة أخرى، فور الانتهاء من تجديدها، الذي قال أبو سامي، أنه سيكلف عبد السميع، بالقيام بمسئولية الإشراف على تنفيذه؛ بتوجيهات العروس، في بحر ثلاثة أيام. وسيجمع اللقاء المنتظر، نزولاً، عند رغبة مشتركة، اتفق عليها العروسان، أفراد عائلة هند، وسامي، وحليمة، وسماح، لتناول عشاء احتفالي بمناسبة عقد قران هند، على أبي سامي.
في الطريق من باب الفلاّ، إلى السيارة، نظر أبو سامي إلى هند، وقال بحب يتناثر من عينيه، وفمه: "أمتلك من البهجة، ما يكفي لإنقاذ تعساء الأرض أجمعين، من قيود الظلام! هل تشاطريني ذلك؟!". ابتسمت، واحمرت وجنتاها، ونكّست رأسها، بعد أن حركّت شفتيها بقبلة سريعة، قذفتها إليه، من خلف أبيها، الذي كان يسبقهما بخطوات قليلة.
فتح أبو سامي لعروسه، باب السيارة الخلفي الأيمن، بعد أن كان أبو هند، قد أخذ مكانه، على المقعد الأمامي، من جهة اليمين. دفعت العروس وجهها، بخفة، نحو وجه خطيبها، فاستقبله، بطبع قبلة سريعة على شفتيها، أحست بعذوبتها، واعتراها حياء بريء؛ ونهضت، فجأة، في عقلها، إرادة دراسة الفلسفة، التي اشتهتها طويلاً. وتساءلت، والسيارة قد بدأت الحركة: "ما هذا الشيء الجديد الذي تختلج به نفسي؟!". شردت أفكارها في كل اتجاه: "رباه، هل يسع قلب واحد، نار الحقد ونار الحب، في لحظة واحدة؟!". وتذكرت، مقولة لحكيم: "صنع الله الحقد والحب، من مادة واحدة، ولهدف واحد: الحرية.. أجل، الحرية، فالحرية مادة الله وطبيعته، ونوره وبهجته!" أغمضت عينيها، ذرفت دموعا غزيرة: ورددت بصمت وبِنفْس حسيرة: "يرحم الله شقيقتي الكبرى؛ يرحم الله أبي، يرحم الله أبا سامي؛ يرحمني!!"، وأجهشت بالبكاء. وللتو، انتقلت عدوى البكاء، إلى الجالسين في مقاعد السيارة الأمامية…
17
ابتهج عبد السميع، بالمهمة التي كلفه أبو سامي، بها، والتي سينفذ خلالها، رغبات هند، المتعلقة بتجديد البيت الذي ستقيم فيه، مع زوجها. وأَسرّ إمام المسجد في نفسه: "سأكون زوجها الثاني!".
ينظر عبد السميع، للمهمة التي سيتفرغ لأدائها، تحت إشراف هند، بأنها ستمنحه فرصة التخلص، المؤقت، من المواظبة على عمله، إماماً للمسجد، الذي لا يهواه، ولا يجيده، ولا يمتلك من المؤهلات المطلوبة له، سوى اللحية الكثة، والطاعة الأمينة، لأبي سامي، الذي يستعين به، لتأدية الخدمات الخاصة، ومنها، ممارساته الجنسية.
وسيستبدل، في الأيام التي سيقوم خلالها، بأداء مهمته الجديدة، صحبة هند، المنتشية بروح انتصار أنثوي، بقرف زوجة، يرى أنها، وبجدارة، سيدة المقرفات، ليس في قطاع غزة فقط، ولكن، في الأرض كلها.
أبو سامي، لم يجد في نفسه، ولا في أوقات جدب من النساء، كان يصيبه، أية رغبة، في إقامة علاقة جنسية، مع زوجة مخدومه. كان يجفو فظاظتها، وشراسة عينيها، وقذارتها.
وكانت، بدورها، تشكو من زوجها لأبي سامي: "يضاجعني كما لو كنت حمارة. يدفع قضيبه في فرجي دون مقدمات، ويخرجه بعد أن يكون قد بصق، في وجه كرامتي الأنثوية، مرتين: من تحت، ومن فوق! لم أذق، منذ تزوجته، لذة الجماع. أشتهيها بحرقة!".
كان أبو سامي يرثي لحالة الهوان التي تنحر أنوثة زوجة عبد السميع، لكنه لم يملك أريحية تكفي لدفعه، لإطفاء نارها. كان يقول لها: "لو كانت روحي التي في ذكورتي أطهر، مما هي عليه، لمنحتك ما تستحقه أنثى، من حق ومن كرامة!".
وما كان لينحاز إلى جانبها، في معاركها مع زوجها. كان لعبد السميع، حظوة كبيرة، لدى سيده، الذي هو بحاجة إلى"بئر أسرار"، كانه عبدُ السميع .
التحق عبد السميع، بالعمل مع أبي سامي، بمهنة شيال، في متجر لأبي سامي، بعد أن أقلع عن مزاولة مهنة سرقة كتب المساجد، التي أصابته بإحباط، لفشله في إقناع الناس، بأنه كان يؤدي، من خلالها، رسالة روحية؛ "لكن هذا الوطن، مقبرة للمخلصين، كلا! إنه عطن"؛ قال، وأضاف، وهو يوضح لأبي سامي، الأسباب التي تدفعه للبحث عن فرصة عمل، مهما كانت، توفر له، شيئاً مما يملأ أفواه أطفاله التي لا تعرف الشبع، ولا السكوت: "زوجتي مثل الأرانب، وليتها كانت جميلة مثلهن. والمساجد، اتخذت احتياطات للمحافظة على ما لديها من كتب قليلة؛ لماذا أسقط راوي الحديث النبوي، الكتب، من الأثر الشريف الذي حدد المشاعات بين الناس؟ هل توافق يا عمّي أن يضاف إليها أيضاً: والنساء؟!". قهقها معاً، وردَّ أبو سامي: "وجد كلانا، رفيقاً كان يبحث عنه!".
وبعد أن أثبت عبد السميع، أنه محل ثقة، اشترى أبو سامي له، عربة يجرها بغل. وانتشى عبد السميع ببغله، مثلما تنتشي أنثى، بمضاجعة معشوقها. وتماهى ببغله، وكان يردد في نفسه : "أخيرا، وجدت صديقي وأخي!". ولم يكن يحنق، عندما يشتمه سائقو السيارات، وهو، يعيق حركتها، بقولهم: "بغل يقود بغلاً!". وكان الوحيد، بين أصحاب البغال، في غزة، الذي لا يحمل سوطاً ليجلد به بغله. وشوهد كثيراً، وهو، يساعد البغل، على جرّ أحمال العربة، في الطرقات الصاعدة، أو الهابطة، وكان يقول، بصوت مجلجل: "لا صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة، ولا دين، لمن لا يرحم إخوانه الدواب!". وعندما اعترض عليه، معلم للدين، بقوله: "المؤمنون هم الأخوة!"، ردَّ عبد السميع: "هل لديك دليل على أن الحيوانات كافرة؟!". وقال في مرة أخرى، في نقاش مع مثقف، كان ينقل له أثاثه: "لم يرسل الله للدواب أنبياء لعدم حاجتها إليهم!". أجاب المثقف: "بل لأنها ليست مكلفة!"؛ فردَّ عبد السميع: "كلا! بل، لأنها ليست ناقصة، ولا جاهلة، ولا حاقدة، ولا مغرورة، ولا متسلطة، لأنها مخلصة لحرية البراءة البكر يا أستاذ!!".
توطّدت علاقة أبي سامي، مع عبد السميع، منذ انتقل الأول، للعيش، في فلَّته، التي تقع، بعيداً عن زحمة المساكن في غزة. كان يحتاج إلى أنيس، مؤتمن، على شؤونه النسائية. وأنشأ المسجد، على مقربة من الفلاّ، لدوافع مختلفة، منها، ضمان بقاء عبد السميع، قريباً منه؛ الذي كانت من مهماته، توفير مناخ نفسي يحتاج إليه، أبو سامي، يعود، إلى ما يختلج في نفسه، من أحاسيس بالدونية، تفضحها عيون الناس، وهى تتفحصه.
كان عبد السميع، قوَّاداً، لحساب وليّ نعمته. وكانت ممارسات أبي سامي الجنسية، محكومة بأغلال تنشب في داخله، فتمنعه من منح لذة المضاجعة لنساء نزواته، اللواتي كنّ يعاملنه بمنطق تجاري، الذي كان يلعب، دوره المثبط لأبي سامي في ممارساته معهن. كان يقول لعبد السميع: "أنا أحتقر المرأة التي تبيع فرجها بالمال". وكان عبد السميع يشاركه الرأي: "الممارسة الجنسية صلاة روحية، لا صفقة تجارية!".
لكن النساء، اللواتي كنّ يتاجرن بفروجهن، في سوق أبي سامي، ينقلبن، إلى إنسانيتهن، وصدورهن تتّقد بالنار المقدسة، تحت لحية عبد السميع الكثة. كان عبد السميع فحلاً، وكان صبوراً مع طالبات اللذة، الحرة من نكد الزوجات، والبعيدة عن الضجر، من جسد تجفوه الروح، هو جسد امرأته، كما وصفه. وكانت النسوة، اللواتي يحظين، بانطلاقة روحية، بعد أن يفرغن من اللقاءات العقيمة مع أبي سامي، يندمجن، مع عبد السميع، في طقوس ماجنة، تمتد من بداية الإنسان المتوحشة، إلى انجذاب المتصوفة.
وكانت تعتري عبد السميع، حالات من الشعور بالذنب، بسبب ممارساته الجنسية، خارج النطاق المحصور بالزواج، وعن دور القوَّاد، الذي يلعبه لصالح أبي سامي. ولكنه كان يفلت من مشاعر الذنب، بقوله إن حب النساء غريزة، وإن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال إن الله حبب إليه النساء والطيب. ووقف ذات مرة، وكان يرتدي جبّة الشيوخ وطربوشهم المعمّم، أمام نفر، من زملائه القدامى من أصحاب العربات، والشيالين، فقال وهو يدفع صدره، ويرفع عقيرته: "هل تعرفون لماذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بحلق الشارب وإعفاء اللحية؟! كان صلوات الله وسلامه عليه، يحرص على توفير مناخ للنساء، لِينضحْن باللذة الكبرى مع الرجال! هل من زوجاتكم، من تمنحكم اللذة؟! أما أنا فلا!".
سيُغْلِق زواج أبي سامي، الباب، الذي كانت تأتي منه النساء إلى عبد السميع. الذي كان يمارس نشاطه الجنسي، في الفلاّ، بعد مغادرة صاحبها لها، بعد أن يقرف من النساء، اللواتي جئن لقضاء أوقات معه. يخفف من هذه الخسارة، قناعته، بأن هند، ستكون حقله المفتوح، الذي لا يستطيع أبو سامي، أن يحرثه. إن شبق امرأة ثلاثينية، نار لا تطفئها بقايا ذكورة، تنذر، بنضوب قريب، كما يعتقد. ويدعم اطمئنانه إلى ذلك، أن هند، ألقت شباكها في طريقه؛ وهو صيد، لا يقاوم امرأة.
خلال تجديد بيت الزوجية، الذي ستقيم فيه هند، تجاهل عبد السميع، رغبات العروسين. وفعل ماتهواه نفسه هو. كان يتذرّع بأسباب مختلفة، للدفاع عن مخالفته لرغبتهما؛ وكان يتصرف، بوعي، وبدون وعي، وكأنه يعدّ عشّ زواج له. ورتّب حجرة النوم، المخصصة للعروس، في نظام، يضع ذيل السرير، في مواجه النافذة، التي تفتح، باستقامة، على محراب المسجد. قال في نفسه: "لِيراها خيالي، وأنا أؤم المغفلين ورائي، وهي مستلقية على ظهرها، فاتحة فخذيها، فيكون قيامي، وسجودي، بينهما!".
وهو على يقين، أن هند، ستتشبث به، بعد أول مغامرة له معها: "كل من جربتني مَرّة، لا تقدر على الاستغناء عني. فأنا الوحيد بين رجال العرب، الذي يتجرد من أنانيته، مع التجرد من ثيابه، في حضرة امرأة… أنا وحدي الذي يأخذ من المرأة، أقلّ مما يعطيها!".
ويدبر أبو سامي، أمراً: إنه يخشى من عبد السميع على هند؛ لذا، أضمر قراراً سينفذه قبل دخوله بعروسه: سينقل المسئولية عن المسجد، إلى وزارة الأوقاف. وسيمنح عبد السميع، مبلغاً من المال، ليشتغل به، بعيداً عنه. وسيوفر له بيتاً، بعيدا عن البيت الذي ستقيم فيه هند، بعد الزواج.
18
اندفعت نساء حارة هند، لحظة وصولها إلى بيت أبيها، في المخيم، عائدة مع عريسها، بعد إتمام عقد القران بينهما. وبحب عفوي أقْبلْن يعانقنها، مهنئات، ومبتهلات إلى الله، أن يبارك لها. ولكن هند، دون تخطيط، أحجمت عن مصافحة، وعناق امرأة كانت تحمل طفلها، الذي كان يضحك ببراءة، رسمت، في عيني أمه، بهجة، دفعتها، بإخلاص، للإقبال على هند، التي ردت، بجمود، كان يحترق، بنار غيرة، اشتعلت فجأة، بصورة رجل، حلمت هند به، منقذاً لها.. وزوجاً!!
جلال زوج المرأة، أمّ الطفل ذي الصفحة البيضاء، المشرقة ببراءة الحرية الأصلية، هو، شقيق الفتاة، التي انتهكت قانون الجور، الذي فرض على هند وشقيقاتها، حصاره المظلم، منذ اغتيال شيطان الجهل المنافق، صبية طاهرة، ذبحتها أقاويل غير مسئولة!
كان جلال، يحثّ شقيقته صباح، على مداومة زيارة بيت أبي هند، والجلوس، مطولاً، مع بناته، اللواتي، كانت فتيات المخيم، ونسوانه، يتحاشينهن، تفادياً لما قد يجره ذلك عليهن من عقوبة الأهل القاسية.
ارتبط جلال مع والد هند، بصداقة نشأت، منذ اجتمعا في المعتقل الإسرائيلي. وظل جلال، يعرف فضل أبي هند، ويحفظ له التقدير الذي يستحقه مواطن شريف، كما كان يقول، وهو ينتقد المواقف السلبية التي يقفها الناس من أبي هند وأهله.
وتصدّى جلال، للإشاعة التي لوّثت الفضاء الأبيض، لحياة أسرة هند. كان جلال حكيماً ونقياً. وكان أهل المخيم يأخذون عليه أنه لا يرتاد مساجدهم. لكن أحداً منهم، لم يذكر عنه عيباً يشين أخلاقه. وكان يقول لخلصائه: "أنا دائم الصلاة في مسجد يحمله رأسي". كان نورانياً ومبتهجاً بالحب. وكان يقول لصباح في أوقات سمر كان يضمهما كما لو كانا عشيقين: "الحب يطهرنا من الصغائر والكبائر معاً.. الحب يحررنا من أن نرى قبائح الصور".
عشقت روحُ هند، صورةَ جلال. ونقلت إليه، بواسطة صباح، رغبتها في الإنضمام إلى جماعة شرع جلال في تأسيسها، تهدف لتجسيد حيّ، لشعار ترفعه: "وطن الحب وطن أجمل!".
قالت صباح لهند: "الحب يجب أن ينتصر، إنه كرامتنا، كذا يؤمن جلال، وأنا أيضاً. إنه نبي هذا الزمن. وهو يدعو إلى أن نقتسم، بالعدل، رغيفاً روينا زرعه، معاً، بالدم والألم!".
يتبنى جلال، فلسفة تجاه إسرائيل، يصفها فيها، بأنها صنيعة الحقد الإنساني: "مشروع حقد، يهزمه مشروع الحب. نحن لا نملك قوة عسكرية لندحر وجود إسرائيل. ولكننا نملك مادة الروح. فلسطين وطن الروح. الروح هي الحب وهي الحرية والعدل والكرامة، هي بهجة الحب. إسرائيل عدوان شرس ضد الروح. الروح من أمْر الله. الروح لا تنهزم. الروح حق، إسرائيل باطل. والحق؛ وعندما يصير الإيمان به إرادة ناهضة، فاعلة بإخلاص، يُزهق الباطل!".
تزوجت صباح، ولم تعد قادرة على زيارة هند وشقيقاتها. وتزوج جلال، وظلت هند، تحلم به: "لماذا فعلت ذلك؟"؛ قالت في سريرتها، بعد أن هدأت الجلبة التي استقبلتها لدى عودتها مع عريسها، بعد عقد قرانهما. نكست رأسها، وهي تجلس بين أبيها وأبي سامي؛ راودها سؤال: "هل تخليت عن إيماني بجلال الذي كان يقول إن الحب أكبر من رغبة التملك؟!".
شرد ذهن هند في الماضي.. "جلال، كان الماء الذي يروي عطشي. لم نكن نلتقي. ولكن روحي كانت رهينة في فضاء الجمال الذي كان يخلقه بدعوته. الحرية! هذا ماء الحياة؛ الحرية مادة الله؛ كذا نقلت صباح عنه. ونحن مادة الحرية. هل تحيا الحرية في ظلام الأغلال؟ ماذا يريد مني أبو سامي؟! هل يستطيع أن يؤمن بدعوة جلال؟! هل يعيدني إلى إيماني القديم بالحب الذي تعلمته من جلال؟!. لماذا أترك الحقد يخرب صورة جلال المطبوعة في أعماق نفسي؟!".
نفضتها كهرباء ذاتية. أطلقت صيحة مذبوحة. وقفت فجأة. فزع أبوها وعريسها وقالا معاً، بلهفة: "عساك بخير!". جلست، لم تنبس بكلمة، ظلّا يراقبانها؛ عاودت الشرود، استباحها العذاب، قالت في سريرتها: "هل يجمع قلب امرأة، في يوم عرسها، جنة الحب، ونار الحقد، معاً؟! لماذا تنغص أيها الشيطان يوماً تنتظره كل فتاة؟! رباه؛ هل غدوت مخبولة؟! هأنذا أضيع من جديد؛ أينك يا روح جلال، شيطان الحقد يهجم على ذكراك! كلا! يجب أن أنتقم! ما الحب؟! أكذوبة نُزَوِّق بها قبحنا! جلال وسامي أكاذيب، ذات ألوان مختلفة! أما الحقيقة، فهي أن شقيقتي الكبرى ما تزال مذبوحة، وأنني بعد أيام قلائل، سأزفّ إلى رجل ليذبحني أيضاً… ونظرياتك يا جلال أوهام تحملها العواصف، قبل أن تدهمنا! وتعال يا حبي الخائب، وفسر لي، استقبال نساء حارتنا لعروس الثريّ أبي سامي: هل يحْملن مشاعر صادقة نحوي، أم يفرشن الطريق للحصول على مساعدات زوجي التي وعد بها أهالي المخيم؟! جلال، أيها الأبله! وأنت لا تزال تنام على حصيرة، تؤمن أننا نملك قوة نهزم بها الطاغوت… امْضِ في غيِّك أيها الرجل الذي يفتقد الحيلة! خذلتَ حبي! أنا أيضاً سأخذل دعوتك؛ تعال وانظر إلى البيت الذي سأقيم فيه. بيتي جنّة وأهمّ من ذلك، إنه قبلة المسجد الذي يؤم فيه عبد السميع نفراً من المعاقين أمثالك! ربّاه؛ دُوارٌ يلقيني في بطن الحوت الهائج فوق موج يناطح صخور البحر العنيدة… رحماك!".
قضت هند، بعد مغادرة عريسها لبيت أبيها، بقية النهار، في حالة من اللاتحدد. وعندما بدأت غلالة الظلام الليلي، ترتدي الأفق، الشتوي، البارد، نخزها مغص. كان يؤرقها الخوف من أن لا يأتيها، كعادته، كل شهر. ابتسمت بوجه ذابل، وتمتمت: "لا زال الله يحبني!". وشملتها بهجة ناعمة، وهي تستسلم لنوم مبكر، نهضت منه، على قهقهة، لعلع بها أبو سامي، وهو يدهم حجرتها، برشاقة طفل لا تكدر المنعصات لحظته!
لملمتْ هند فوضى الصحو الفجائي، بشيء من الارتباك، المخلوط بالتوجع المكتوم، الذي فضحته معالم وجهها، من المغص الذي تفاقم، والذي ارتابت في شأنه: هل هو المغص الذي يرافق الدورة الشهرية؟! أم هو احتجاج ما، على شئ ما؟!
19
أنارت البهجة، شيخوخةَ أبي سامي، التي تقهقرت من معالم وجهه المحفور بالأخاديد، وهو يمازح حماته، التي كان يجلس بينها وبين عروسه، حول مائدة الإفطار المفروشة على الأرض، في بيت والد هند، فيما كان إبريق الشاي ينفث بخاره، من فوق نار الحطب، المتقدة في كانون يقاوم برودة صباح طقس شتوي، لا تصدّها منازل المخيم الهزيلة…
مال أبو سامي نحو عروسه، وأسرّ في أذنها: "الحياة امرأة تمنحنا البهجة!". أجابت، بوجنتين متوردتين: "خير متاع الدنيا المرأة الصالحة، التي إذا نظر إليها زوجها أبهجته؛ وإذا غاب عنها…"؛ توقفت، من غير سبب محدد، قبل أن تستكمل الحديث النبوي: "حفظته في عرضه وماله". والذي استبدلت فيه، بوعي، كلمة" أبهجته" بكلمة"أسرّته"، وبوعي أيضا، تعمّدت أن تسقِط منه: "وإذا أمرها أطاعته"!
كانت نفس هند، وهي تجلس إلى جوار عريسها، تضْطرم بصراع خيالات جلال وسامي وعبد السميع، وشقيقتها المذبوحة. وفي جلبة أطفال يتصايحون، في بيت أبيها، وفي البيوت الملاصقة له، التي تفصلها حيطان وهمية، تشي بما يجري خلفها، من تأوهات وزفرات، ومناوشات من كل صنف، في هدأة الليل، ثورة الشبق، ونزاع الحرمان… اجتاح الرعب مركب هند، الهارب في لجة بحرها من وحوش الماء واليابسة، تتقاذف الدم الحار، وتدفن الأحياء في التراب، تذبح البراءة وتغتال حرية الجمال… شردت في غياهب الجحيم، وقفت لقمة في بلعومها، وأخرى في يد قطعت نصف المسافة إلى فمها؛ أخفضت رأسها، وانفجرت دموعها: "الحقد يقتل صاحبه، فأي شيطان يتلبّسني؟!"، قالت في خاطرها المشروخ… انتفضت وقامت، وكفّت أيادي الجميع عن الطعام! وغام وجه أبو سامي، وهو يراقب عروسه، بحزن يتصل بتاريخه الأسيان. وطلب إلى إحدى شقيقات هند، أن تجهز له الأرجيلة، التي لا يزال أبوها يحتفظ بها، ذكرى من أبيه، الذي نقلها معه، من بين أشياء قليلة، عند الهجرة من قريته في فلسطين عام 1948.
انكمش أبو سامي في زاوية المجلس، وسرح الخيال به، على نغم الكركرة، إلى أيام طفولته الأولى، في القرية التي ولد فيها. جاء هذا الصباح، لزيارة عروسه، بغير سيارته. تمنى لو أتى على ظهر حمار، ليسترجع ذكرى القرية التي كان المحظوظ فيها، هو القادر على امتلاك حمار، ينقله إلى حيث شاء. وراودته الرغبة الموجعة، أن يقضي سحابة يومه، جالساً القرفصاء، بين عجائز المخيم، المزروعات في طرقاته البائسة، لعله يستنشق العبق القديم، من نسوة، كان منهن، من لاعبته في طفولته، أو فيهن، من لا تزال تروي الحكايا عن المراتع البعيدة!
رأى نفسه، وهو يدفن طفولتَه المذعورة، من أخبار المذابح، التي ارتكبتها عصابات اليهود المسلحة، في حضن أمّه، للمرة الأخيرة، قبل أن يبدأ رحلة الهجرة والضياع… شرد في صحارى عمره، إلى أن انتبه إلى هند، وهي تجلس قبالته، خجولة، خافضة العينين: "هل تكوني أمي؟!"؛ سألها بلوعة ضياعه. امتقع وجهها بالألوان كلها، أسرّت في نفسها: "أنا أحقر مما تراني!". ضغط على كفها براحتيه؛ تمتمت بحياء: "أرجو أن تساعدني على ذلك!". أشرقت البهجة في عينيه. دعاها إلى رحلة حرّة. أجابت بنبرة مذنب يطلب الصفح: "هبني دقائق قليلة لإعداد نفسي!".
تجولّا في أنحاء المخيم. كانا صامتين. بلغا نهايته المفتوحة على فضاء رملي أصفر ناعم. أمسك أبو سامي يد عروسه، وانطلقا يجريان كما لو كانا هاربين من مطاردين يطلبون رأسيهما. وقفا على ربوة رملية، يترامى، بعيداً عنها، لون أخضر، يقابل زرقة بحرية. رمى راحتيه على كتفيها. نظر إليها، بعينين شائختين، لكنهما مبتهجتان. استنشق نفساً عميقاً. قال بنبرة حكيم عاشق: "حريتنا هي امرأة نحبها! وأعترِف الآن، أنني لم أملك حريتي طوال عمري، إلا بحبك! أجل؛ أنت أول امرأة، بعد أمّي، أحبها!".
راودها الشيطان أن تقول: "أنت كاذب، وساقط؛ ومن يحب لا يكذب ولا يخون!". أخفضت عينيها، واستسلمت له وهو يجذبها من كفّيها، لتجلس، بعد أن سبقها بالجلوس، في ضحى مشمس، رقيق النسمات، يلفّه صمت يعزف موسيقى حب كوني رائق، ترقص الروح على ألحانها، رقصةَ جمال حريتها، وبراءتها البكر.. تابع: "أعرف أن أخطائي، هوَّة سحيقة تحيط بي من كل صوب، وأن قلبك الطاهر، لن يجتازها، نحوي، في وقت قصير. ولكن؛ من يحب، يصبر على المرارة. نفورك الداخلي مني مرير لي، ولكني أحبك! أجل؛ أحبك! الله لم يصنعني من مادة الشاطين. والحب إيمان! هل تذكرين متى أسلم عمر بن الخطاب؟! حدث ذلك، وهو في طريقه ليقتل النبي! اغفري لي! الحب، كالإيمان، يَجُبُّ ما قبله. الحب طهارة تستحيي براءة طفولتنا المبكرة. بي ظمأ محموم إلى صدر امرأة، أدفن فيه شيبي، فأنزرع فيه طفلاً صافياً، من جديد! اسألي أباك يا هند، أنا ابن عائلة، يشهد لها الناس بالطهارة! اسألي أباك، الرجل الطاهر مثل أبي: لماذا وافق على زواجي منك، وأنا الملعون بالألسنة والعيون! سيقول لك: لأن أبي كان طاهراً؛ ولأنني أستطيع أن أعود طاهراً كما بدأت! دعيني أفتح كتابي بين يديك، واحكمي مثلما يفعل القاضي النزيه. وأعاهدك، بحب مخلص، إذا حكمت ضدي، وإذا ظللت تعتقدين أنني لست ضحية عدوان واجهته، منذ طفولتي، وأنني لن أعود طاهراً كما أول نشأتي، أعاهدك، برجولة نهضت في دمي، بحبي لك، أن احترم استخدامك لحقك في طلب الطلاق، الذي أضفته، سراً بيني وبين المأذون، وبشروطه المنصوص عليها في عقد القران، والتي لا تعرفيها أيضاً، ولا يعرفها أبوك، والتي تنازلت، وفقاً لها، ولصالحك، عن ملكية البيت الذي ستقيمين فيه، والمزرعة الملحقة به، ابتداء من اللحظة التي يقع فيها، انفصال بيننا، بإرادتي، أو بإرادتك، أو بإرادة الله…".
كتمت هند، عاصفة اجتاحتها، مما كشف عنه أبو سامي. ونازعتها الرغبة أن تصرخ في وجهه: "كفى! أنا لست أطهر منك، وفي صدري من الحقد، ما يحرق الأرض بمائها". تماسكت للحظات، ثم انفجرت تبكي، وألقت رأسها على صدره الذي انتفض فزعاً وشوقاً… وحنان أب لابنةٍ زوجه… وفيما كانت إشراقة جوّانية تزحف خلف تراجع نوبة الانفعال التطهّري، قالت هند، بنبرة ودودة، وهي تضغط راحة أبي سامي بقوة، بين كفيها: "أنا سعيدة بهذا اليوم الذي سأقرأ فيه كتابَ زوجي!".
قال وهو يلفّ ذراعه حول كتفها، ويلمس وجهها بوجهه: "أعتذر إليك. أنا أجور على حق عروس، في الابتهاج بالخطبة. أرجو أن أختتم بذلك كتاب خطايا عمري!". ردّت وشفتاها تكادان تلامس شفتيه: "لا تحرمني من بهجة أمّ باعترافات طفلها بشقاوته العبثية!".
طأطأ رأسه، وذاب في صمت الرمال التي خالها، تصيخ السمع له أيضاً، وهو يقول: "ما هي جريمة طفل، هرب أهله من موت كان يحدق بهم، وبه، وضلّ عنهم؛ فتلقّفه الضياعُ والعراء والجوع والرعب والليل الضاري والهوان…؟!".
طبعت قبلة على خده، وهي ترفع هامتها، وتحثه لينهض… تشابكت أياديهما، وقد خلعا أحذيتهما، وطوّحت بالخمار عن رأسها، وعقدته حول المنطقة السفلى من جذعها؛ ومضيا يمشيان بين الكثبان…
- "لا أزال أشعر بالقبلة الأخيرة التي طبعتها أمّي على خدي، وهي تحاول تهدئة روعي الذي اجتاحني، مع دفق الانفجارات، قريباً من بيتنا، التي كانت تمزق الليل والأمن، في حرب عام 1948!".
رغبت هند، في تحويل اتجاه الحديث، بينها وبين عريسها مع الحفاظ على مواصلة الحديث عن نفسه، لتبديد أسى لاحظته في وجهه.. فقالت: "لقد حالفك الحظ، فاستكملت دراستك الجامعية؟!".
- "كلا؛ ولكنني تعهّدت نفسي بتعليمها وبتثقيفها، وأنا شغوف بدراسة الحكمة، ومن كل منابعها! إنني أعشق الفلسفة؛ هل توافقينني لو أني اقترحت عليك، مواصلة تعليمك، بدراسة الفلسفة؟ إني أرجو أن تحققي لي رغبة لم يكن بمقدوري أن أحققها لنفسي!".
قهقهت بفرح: "هذه غواية تجمعنا؛ ولكن جامعات غزة لا تترك لمنتسبيها فرصة للضلال في نور العقل؟!".
لاذ بالصمت، وارتسمت ملامح ضِيق في عينيه، فتألمت هند لظنها أنه ترجم محاولتها الكلام بينهما، إلى وجهه أخرى، غير التي أرادها، بأنه عمل، قصدت منه إنهاء الحديث في موضوع لا يلقى استحسانها… ابتسمت وهي تداعب أنامله بشفتيها، وقالت: "دعنا نواصل قراءة كتابك.. تحبُّ الزوجات المهووسات بهوى الفلسفة، أن يبدأن حياتهن، بدراسة تجارب أزواجهن…".
قال: "بينما كان أقراني، ينتظمون في صفوف دراستهم الأولية، كنت أنا، أطوف على الأبواب، أقرعها بوجل، وبتردد، فأسأل أهلها، عن شيء أدفعه إلى جوفي المحروم من خيرات الله؛ وأعرض عليهم استعدادي لتقديم ما أستطيعه من خدماتي التي يحتاجها المترفون أو الكسالى أو العجزة… كنت أنقل القمامة من البيوت التي يستهلك أهلها، نصيبهم، ونصيب الفقراء البائسين مثلي، وكنت أحمل السلال فارغة ومثقلة، عن المتسوقين من أماكن بعيدة. وكنت أحظى بالقليل من المال أو القليل مما يزيح جوعا يرزح فوق كاهل طفل عار من أهله؛ ولكني كنت أتلقّى الكثير الكثير، من السباب ومن الركل ومن البصاق أيضاً.. فأحمل ما جمعت، في قرارتي، واستسلم للنوم، بين قاربين مهملين، كنت أخالهما أمّي وأبي، كانا راسيين على بعد من شاطئ غزة، كاف لحمايتي من النوم في مرعى الموج.. واستمر شأني على ذلك، حتى عثرتُ على محفظة كان بها من المال، ما يكفي لشراء صندوق لمسح الأحذية، ودون الكرسي الذي يجلس الماسح عليه؛ فتحولت إلى مهنتي الجديدة، التي كان زبائنها، يرون أنني أحقر من الوسخ الذي أزيله عن أحذيتهم؛ وكثيراً، ما كان وجهي هدفاً لأحذية يصوبها إليه الغاضبون مما يعتبروه، أداءً لا يستحق من الثمن، غير قذفي بالحذاء، وبالسباب، والبصاق!! كنت أحمل نفسي على الصبر على الذُل؛ ولكن رغبتي في الانتقام كانت تتفاقم، وفي غفلة من وعيي… وذات مرة، وبعد أن فرغتُ من تنظيف وتلميع حذاء زبون، دسّ الرجل يده في جيب معطفه الداخلي، فلم يجد محفظة نقوده، أو هكذا ادّعى؛ فانقضّت، فجأة، وبوحشية، يداه، تعصران عنقي الهزيل، المزروع فوقه وجه بدأ خط الشوارب يرتسم فيه، وصرخ بفجور، يتهمني بأنني سرقته، بخفة يد. وجرّني إلى مركز الشرطة، الذي كان رجاله كراماً معي، في الصفع والركل واللعن والبصاق… أمضيت أسبوعاً في الحجز، انتظارا من الشرطة أن يسأل أهلي عني، ويستلمونني؛ ولكني انتهيت إلى الإفراج عني، بعد أن تأكد قائد المركز أنني غريب، منقطع عن أي قريب… كنت قد بلغت سنّ الحلم قبل فترة وجيزة، من حجزي في مركز الشرطة، وفيه، دفعتني رغبة الانتقام، لأتخيل أنّي ألوط بكل رجال المركز. وفي مرحاضها العفن، قذفت أول ماء الذكورة… وبعد خروجي، بات ضرورياً لمواصلة مهنتي، أن أترك المنطقة التي انطبع في ظنّ أهلها، وروّادها، أنني أملك خفّة يد تسرق الكحل من العين، خاصة وأن الرجل الذي اتهمني بسرقته، هو من الأعيان التي تحظى باحترام الناس له، وبتصديق ما يقوله…. وأخذتْ حرارة المراهقة ترتفع في دمي؛ ولكن، خذلني ضعف فتى لا قبيلة له، تدافع عنه، ولا قانون ينصفه، ولا أخلاق ترعى ضياعه. قمعت رغبة حادة في الانتقام، ونقلت نشاطي إلى منطقة أخرى، وكنت قد فقدت قدرة الصبر على جلوس القرفصاء، الممل والمضني، انتظر مقدم الزبائن؛ فعدت أطوف بالبيوت، أبحث عن لقمتي المغموسة بهوان الضياع، كما كنت أفعل من قبل؛ لكني أحمل هذه المرة، على ظهر مقوس، بعظام ناتئة، صندوق مسح الأحذية… كانت أصوات الأنوثة، التي تصدر من خلف الأبواب التي أطرقها، لعرض خدماتي على بيوتها، تلهب نفسي الملتاعة بين طفولة فقدت أمها، وكل ذويها، وبين فتوة تصرخ ببكارة الشهوة تحت بساطير جيش سلطان القمع الجائر... وعندما كانت النسوة، يشقُقن أبواب بيوتهن، بحذر، وبقدْر يسمح فقط، بمرور الأحذية من أياديهن الناعمة المزيّنة بالحنّاء، إلى يدي المعروقة، المحروقة باشتهاء لمْسِ جلد أنثوي؛ كنت أهوي في جحيمي، وفي ذكريات هواني وضياعي المبكر…".
توقف عن السير والكلام معاً. وجفّ ريقه، وشردت عيناه، وتمنّى لو يفتح كثيب الرمل الذي ينتصبان فوقه، بطنَه، فيبلعهما، لتضمهما الأبدية معاً… تأملت هند معالم وجهه، فخال لها أنه امتقع بلون الموت. قال بنبرة تئنّ بوجع نفسي قديم: "أشعر أن النهاية تدنو. وأودّ لو أنّي أذوي في بحرك؛ فأغدو من الخالدين!".
جلست، وجذبته من يده، فأقعدته في حجرها. تمنّى لو يرضع ثديها، أو يلثم فمها: "ما الفرق بين الأم والزوجة؟" سألها، وشعاع طفولي يقفز من عينيه. ابتسمت له، وهي تحيط عنقه بكفيها، برفق، فقال بعينين شردتا من جديد: "ظللت أكبت غيظي، وامنع كبريائي الجريح، من التمرد على هواني إلى أن شتمني رجل بما مس شرف أمي. فأضمرت أن انتقم منه، وأن أدوس شرفه العائلي. اقتحمت بيته، بعد أن ترصّدت خروجَه إلى عمله؛ فعندما شقّت زوجتُه الشابة، باب بيتها، لتقذف أحذيتها وأحذيته في وجهي، كالعادة، اندفعت وأنا ملتهب بحقد الانتقام، والرغبة المتفجرة، في جسدها البض الذي ينثر شبقه في الريح، والذي طالما أشقاني في الخيال. كانت ترتدي قميص نوم أحمر قصير، يشفّ عن قطعتين سوداويتن، ضيقتين، مشدودتين، فوق صدر عليه قبّتين، وبين فخذين تتلاطم الأنوثة الناضجة الصارخة على أمواجهما… بدت كما لو أنها كانت تنتظر اقتحامي عليها البيت الذي لم يكن يشاركها فيه، بعد خروج زوجها، غير قطة تضج بالتقافز والمواء… هربتْ نحو حجرة النوم المكسوة بستائر في لون السماء الصافية، والمؤثثة بفراش، لو كان لي، ما أضعت ليلي في النوم، ولكن، بالابتهاج بالنظر إليه… أنشبتُ أصابعي الخشبية في ثدييها؛ لم أكن أعرف كيف يفعل الرجل بالمرأة وهي تحته. ولكني بللت ثيابي بماء اندفق مني، وانا أعض عنقها بشراسة جمل، استنفد طاقة الصبر على الهوان! لم تقاومني؛ وعندما هممتُ بالنهوض جذبتني بعنفوان، وألقتني تحتها، ولثمتني من فمي بقسوة استنفرتْ ذكورةّ معذبة، فقلبتها تحتي، فاسترخت، وبكت، دون صوت.. قذفتُ مرة أخرى ثمّ وقفْت. تركتني أمضي دون أن تنبس ببنت شفة… وعندما عدت إليها في اليوم التالي، أدركت أنها تخون زوجها بإرادة تقاوم إحباطَها، وتقاوم فجورَ الذكورة. استمرت علاقتنا، بعد أن اكتسبتُ خبرة الجماع؛ ولكنني ظللت هدفاً للإهانة التي لم تكفّ عن توجيهها لي، كلما أفرغتُ فيها، حمولَة الشهوة وحمولَة الانتقام… ثم صارت هذه المرأة، بعد سنوات، هي الدرب المظلم الذي سلكتُه نحو خيانة الوطن، والعبث بكل قيم الحياة الجميلة! لم أكن راضياً عمّا أفعل، ولكنني عميت، ولم يضئ أحد بصيرتي، وحاصرني الناس في ظلامي، فهل يحررني حبك يا أماه من شياطيني؟ هل تغفري لي؟!".
ضمّت رأسَه إلى صدرها، وضغطته وهو يحاول التملص من قبضتها، وقد راودته الرغبة في أن يقلبها، في الفضاء المفتوح على كل اتجاه.. وفي اللحظة التي كاد فيها أن يأسر شفتيها، دفعته عنها بدلال أنثوي، ونهضت برشاقة، وانطلقت تجري، وهو خلفها، إلى أن وقعت على وجهها، فأدارها على ظهرها، وتمدد فوقها، ولثم فمها بشهوة معتّقة، فاستسلمت له، ومادت الأرض بهما، فتسللت يده، بين وسطيها، فقالت من تحت أسرها الفميِّ: "الإشارة حمراء".
20
في بيت سماح، كانت حليمة تجاهد لتهدئة ثورة نحيب، انفجرت في هدأة الليل، في الفراش الذي كان يضمّها وصديقتها، سماح؛ التي كان الظلام ينشقّ لها، وهي تستلقي على ظهرها، وتحملق في فزع، تذرف دموعاً تنهمر من أول عمرها، ملتهبة بالذكريات البشعة… قالت بكلمات منزوعة من دفق الأحزان: "هل يعي الطفل ما يجرى حوله، وهو لم يزل في ساعاته الأولى بعد ولادته؟!".
أجابت حليمة، وهي تضغط رأس صديقتها، على صدرها: "أعتقد ذلك! بل، يبدأ الانطباع بما يجري حوله، خاصة مما يعنيه، منذ أول تكوينه الجنيني، حيث يبدأ بالانفتاح المنفعل منذ لحظة الجماع بين أبويه، التي تؤسس كيانه! لكن، ماذا تقصدين بسؤالك؟!".
- "يطاردني في خيالي، شبحٌ فرغ من ذبح امرأة سوداء، في ليل دامس، لم يزل رحمُها، ينزف دم الولادة… كابوس يخنقني، الوليدة تصرخ والأم، من الهلع؛ زلزال يضرب الكون ويصدعه… حليمة! يد تقطر بالدم تمتد بساطور نحو عنقي، ويد تضغط كفها القاسية على فمي وانفي معاً!! هل تسمعينني؟! أنقذيني! قدمان ثقيلتان تضغطان بطني! الجنين يستغيث! هل تسمعي صراخه: لا تذبحوها! لا تذبحوها! حليمة!! سقف الحجرة يهوي فوقي! العمارة تميد بي، تسقط في البحر… حيتان وقروش تعصر عظامي! حليمة! أقامت قيامة الله؟! رحماك ربي! جنود الغضب يدفعون الرجال إلى جهنم… نساء تُولْوِل.. نساء تزغرد… انطفأ العالم في رأسي! هل ما زلتِ معي أيتها السوداء مثلي؟! لا تخذليني!". ثم نامت، بعد صمت لفّها، وهي تلتصق بحليمة، وتئنّ بالأسى وترتعد!
قبل ذلك كان سامي، يزور منزل السوداوتين، أول هذه الليلة. قضى وقتاً مع سماح في الفراش. ثم دعا حليمة، من وراء الباب المغلق للانضمام إليهما. كان يستلقي على ظهره، عارياً.. دخلت حليمة، عارية كعادتها، جذبها من يدها، تمدّدت إلى جواره. نهضتْ سماح، ارتدت ملابسها، وتكوّمت على كرسي يحتل زاوية في حجرتها… وراحت تبكي بصمت…
قال سامي بنزق: "طلبتُ من سماح أن تتخلص من جنينها، رفضت! الفضيحة تزحف نحونا! ماذا أفعل؟! هل ألقي بنفسي من الشرفة إلى البحر، لتبتلعني وحوشه؟! هل أقتل سماح، فأضيف إلى جرائم هذا العالم البشع، جريمة أخرى؟! أنا مستهتر، هذا صحيح، لكنني لا أطيق قتل حشرة! ولكنها الفضيحة! إنها كارثة: ماذا سأكون له؟ أبوه، أم خاله؟!".
زاغتْ عينا سماح، في فراغ مشوّش. اجتاحها المشهد المفزِع، الذي داهم طفولتها، وهي في التاسعة، في يوم عيد ميلادها، يوم صفعتها مديرة المدرسة، بقسوة امرأة عقيم: "ساطور يقطر الدم منه، في يد متوحشة، وامرأة مذبوحة، تضم بذراعين متصلبتين، على صدرها أسود الجلد، أبيض القلب، طفلة لها، جاءت من لدن الله، على التو!".
رمى سامي ساعده على بطن حليمة، استدارت نحوه. قال بشبق: "تذبحني الرغبة فيك!".
- "لن تنالني!".
"تواصلين التحدي إذن أيتها الزنجية القميئة؟!".
نهضت حليمة. تناولت بحركة هادئة، كتاباً من فوق الرفّ في حجرة سماح. فتحت صفحته الأولى. قرأت بنبرة واثقة عمّيقة: "الصحافة هي المهنة المناط بها، أن تفتح كتاب حياتنا الاجتماعية على ضياء الشمس المشرقة، الدافئة…!".
ومن خلف الزجاج المطلّ على أفق البحر المترامي، سرحتْ في الماضي البعيد: "منذ ثلاثين جيلاً، أو أكثر، غادر جدي الأكبر، بلاده في أواسط أفريقيا، التي لا يزال أهله الأصليون فيها، يعيشون عراة، من الثياب، ومن الكذب، ومن عذاب الشهوة أيضاً! فما الذي قادك يا جدي إلى هنا؟! اشترى الأثرياء حريتك؛ ثم ارتديتَ ضلالَهم ونفاقَهم؛ غفر الله لك! لكنّنا، نحن أبناءك وأحفادك، نحفظ عنك، درسَ الحكمة الأفريقية: تلد الحقيقة عارية، فيلقفها الجهل، وتذبحها وحوش الغاب الإنسانية!".
أطلق سامي زفرة مغيظة، وريحاً خبيثاً، ومضى…
حضنت حليمةُ سماح، الليل كله، إلى أن بزغت الشمس من جديد. نهضتا؛ ونهضت، في الوقت ذاته، نسوة مخيم هند، اللواتي تدافَعْن في الطرقات الضيقة، ليتزاحمن، حول سيارة شحن كبيرة، تحمل أكياس الدقيق والأرز والسكر، وغير ذلك، من المواد التموينية، تربض قبالة مئذنة مسجد المخيم، التي لا تنفكّ تبتهل لله وتنتحب… في الزحام، سقطت عجوز تحت أقدام نسوة طرايا، يعْصُرن بينهن الشيخَ عبد السميع، المشرف على توزيع مساعدات أبي سامي في مخيم هند…
وفي بيت عائلة هند، اتفق أبوها، مع أبي سامي، على تنفيذ الاقتراح المتعلق بفتح دكان بقالة، يعمل فيه أبو هند، ويزوّده أبو سامي بما يحتاجه من المواد، على شرط تقاسم الأرباح، بين الجهد المبذول في العمل ورأس المال..
لم يمكث أبو سامي طويلاً، في بيت صهره. وبعد مغادرته، وصل عبد السميع، الذي كان قد فرغ من توزيع المساعدات على نساء المخيم.
أعدّت له هند، إفطاراً سريعاً، تناوله بشهية. وعندما سألته: "هل كنت عادلاً؟!"؛ رمقها بعيون تستعر، وقال في سريرته: "متى أحظى بعدل الله، فأحرث أرضك، وأسقي بئرك؟!".
وقال وهو يهم بالخروج: "إذا اتصل بك عمّي أبو سامي، على هاتفك المحمول، فأخبريه أنني مضطر لأداء زيارة لقريب لي مريض، مما يجعلني أتخلف عن الذهاب إليه، في الموعد الذي ضربه لي صباح اليوم".
وكان عبد السميع، قد منح، ثلاثاً من نسوة المخيم، اختارتهن حاسّته الخاصة وخبرته مع المرأة، كميات مضاعفة من مساعدات أبي سامي. واتفق مع كل منهن، وعلى انفراد، بمتابعة حالاتهن، ميدانياً…
وهند، منذ نهوضها، هذا الصباح، ترتدي ثوبها السماوي، وتتوشّح بمنديل أسود، ويعتريها انقباض قلِق… جلستْ تنتظر رجوع عريسها، وفيما أطفال بيت أبيها، يعبثون بالكسل، الذي يلفّ ضحى المخيم، كان سؤالٌ يراودها، وعينها ترفّ بإلحاح: "تُرى، ماذا يخبئ القدر لي؟!".
وأبو سامي، من متجره، طلب من المحاسب المسئول عن تنظيم سجلاته المالية، أن يحدّد له بدّقة، المستحقَّ عليه (على أبو سامي) من الضرائب والديون…وهاتف محاميَه، وطلب منه، إعداد عقدِ بيع العمارة التي تقيم فيها سماح، لصالحها… وهاتف وزارةَ الأوقاف والشؤون الإسلامية، وطلب منها، إيفاد مندوب عنها، لاستلام المسجد المقام على الأرض المجاورة للبيت الذي ستقيم هند فيه، معه… وعاد يهاتف محاميَه، ليطلب منه، تحرير عقود بالتنازل، عن أراض يمتلكها، لصالح مؤسسات متعددة، شرط أن تنتفع بها، انتفاعاً مشتركاً؛ وحرّر صكّاً مالياً بقيمة كبيرة، لحساب مشروع مشترك، تعود أرباحه، للمستفيدين من هذه المؤسسات، ويكفي، الصكّ كذلك، لإقامة مجمع، على الأرض نفسها، يشمل مباني مدرسة ومستشفى ونادي ترفيه، ومجمع صناعات يدوية، ومركزاً لرعاية المسنين، والمعْوزين والمعاقين… ومعهداً لتعليم الفنون، ومنها، كما طلب بالتحديد، فنّ الرقص، الذي وصفه لمحاميه، بأنه فنّ صوفي… واعتذر، في محادثات هاتفية أخرى، عن تراجعه عن تنفيذ اتفاقات تجارية كان عقدها… وحرّر صكوكاً مالية متعددة، بمبالغ محددة، باستثناء صكّ مفتوح، حرّره لصالح حليمة.
منذ هذا الصباح، كان أبو سامي ينعم بسكينة الروح… وفي المسجد القريب، من بيت عائلة هند، أدّى صلاة الظهر، برفقة والد هند، وتجولّا معاً، بعد الصلاة، في طرقات المخيم… ولم يكفّ أبو سامي، عن إلقاء تحية السلام، على كل من مرّ به، كبيراً أو صغيراً، أنثى أو ذكَرا.. وكان داخله، يلقي التحيات على الدواب أيضاً… وحافظ، طول جولته، على ابتسامة تشرقُ من حنايا وجهه…
ولَجا معاً، باب بيتَ عائلة هند. نهضت العروس تستقبلهما… انحنيا معاً، يلثمان ظهرَي كفيها… انحسر الانقباض من عينيها، استضاءتا بنور البهجة…حضنها الرجلان في وقت واحد، وبكيا من غير صوت.. عاودها الانقباض، ورفّت عينُها.. شقّ صراخُ طفلة رضيعة صفحة الوجوم التي ارتدتها بيوت المخيم من حولهم!!
انطلقا، أبو سامي وعروسه، بالسيارة، في رحلة تخلّلا فيها تفاصيل قطاع غزة… وتركا، للغة العيون أن تصل بينهما… شردا طويلاً في الأفق المترامي فوق هدير يقذفه المجهول… ترجَّلا، تسلّلا من سياج يحمي بستان برتقال من ماشية الرعاة.. وفي البحر الأخضر الذي يضاجع موسيقى كونية، منظومةً في ثمار ناضجة متلهفة، تميد على صدر هند، ذوّبتْهما قبلة نهلت من ماء الخلود، وحملتهما على أجنحة من نور، لا يراها الرائي… ذكورة وأنوثة، في أريج السرمدية، تستعيد، في حرية الطبيعة وحدتها القديمة.. "ربّاه؛ ما أجملَ ما أبدعْت!"؛ قالا معاً، بالقلوب وبالعيون… انطلقا، إلى الحدّ المسوّر بالأسلاك المكهربة، التي تُسيِّج إسرائيل بها، قطاع غزة.. صرخ أبو سامي بفزع طفل ضلّ عن أهله، في ليل وحْشي قارس: "مجرمون!".. شردا في الأفق الممتد أمامهما، المترامي وراء الحصار.. استدارا؛ فتلاقت عيونهم: أبو سامي يذرف الدموع… وهند، تبتسم بحب أمّ لطفل عاد إليها بعد ضياع…
واصلا رحلتهما بالسيارة… تسمرّا قبالة مستوطنة إسرائيلية في وسط قطاع غزة؛ الدم يغلى في عروق أبي سامي… اقترب جندي إسرائيلي منهما… صاحا معاً: " مجرمون!".
ومع حلول أول الليل، أنهيا رحلتهما، بزيارة لمنزل سماح، التي كانت، ومنذ الصباح، ترتدي ثوباً أبيض، يحشر، بينه، وبين قامتها النحيفة، الطويلة، جنينها، الذي لم يعد يخجل من الإعلان عن وجوده… الذي صدم أبا سامي، كما لو كان صخرة بحجم جبَل، هوَتْ فجأة على رأسه، فأودت به، إلى قاع الموت..
وفي خيال يتمزق بكل عذابات عمره، قفزت صورة سماح، وهي تحته، ذات ليلة، قبل حوالي خمسة أشهر، عندما ضاجعها، وللمرة الأولى، مضاجعة كاملة، على غير ما كان يجري بينهما، من قبل.. كانت العذابات تذبحه حينئذ، كما تفعل به الآن، عذابات تشرخ قلبَ الأب وقلبَ الابنة، بساطور دموِيٍّ واحد… في تلك الليلة ضمّته بعنف حتى كادت تطحن جسدَه الذي كان منهوكاً تحت تأثير خمور احتساها بشراهة، اعتاد الإسراف في تعاطيها، لعلّه يهرب بها من سواد تاريخه…
انهار أبو سامي… ألقت سماح جسدَها المنتفض بزلزال، فوق أبيها.. "اغْفري لي يا ابنتي!"؛ قال بعينين تتوسلانها…
صمت الكون… شقَّه نزْعٌ عميق واهٍ أخير: "سماح.. سماح.. أنا أبوك!!".
قالت حليمة، والنحيب يأتي من صخب الموج المتلاطم وهو يضاجع شاطئ غزة: "مثواك الجنة!".
روت حليمة، بعد الانتهاء من مراسم جنازة إبي سامي، أنّ المُتوَفي، كتب في وصيّة تركها لدى هند، أنْ لا يُكفّن جسده، بعد وفاته، وأنْ لا يوضع جثمانه في قبر تحت الأرض، ولا فوقها.. وطلب أنْ يرفع جسده، فوق صرح زجاجيٍّ عال، مفتوحا على الأفق المطلق، كان أمر ببنائه، على أعلى كثيب في قطاع غزة، لا يفصله عن البحر فاصل؛ وطلب أنْ يُبقى عليه عاريا، ممدّدا على ظهره، لا مسند تحت رأسه، وأنْ يُباعَد بين ساقيه، وأنْ تُنشر ساعداه، إلى أقصى مدى..
قالت حليمة: " كان أبو سامي، قد حفظ عني، إنّ الموت، مثل الحبّ، طُهْرٌ وحريّة".
أضافت: "لكنّ وصيّة أبي سامي، ظلّت، منذ استلمتها هند، في صندوق مغلق. وحين تذكّرَتها هند، قامت تفتحها، لكنّ الريح العاتي، وقدْ هبّ حولها فجأة، حملها إلى بعيد بعيد، ثمّ بددّها!"...
قالت مريم: "أمّا أنا، فقد أطعمتُ النارَ كلّ ثيابي، وانطلقتُ في أفق النُّور المفتوح، عارية، حرّة، محبّة، مبتهجة، ما بقيتُ حيّة!
غزة في: 29/4/2000
حسن ميّ النوراني
فلسطين – غزة
هاتف: 2588528 59 00972
بريد إلكتروني:
[email protected]
[email protected]
[email protected]
ودّت هند، لو أن خطيبها، لم يطلب منها، التوقف عن العمل، في مكتب ابنه. فهي لا ترحب، ببداية علاقة زواج، تكبت حريتها، التي تمارسها، بصورة ما، كما شأن بنات غزة، بالهروب من جحيم المعتقلات البيتية للنساء. ولا تميل، لأن تسمح لزوجها، بإسقاط عبودية الذكورة العربية التاريخية، المستفحلة في ذواتهم، على العلاقة ما بينها وبينه. هي لن تعطيه حق ممارسة ديكتاتوريتة، وفرض واجب الطاعة عليها… في المقابل، لا تريد هند، أن تخسر الرصيد الذي كسبته، لدى أبي سامي، بما أظهرت له، من قابلية عملية، وكلامية، أنها تحترم تراثه الاجتماعي الذكري، الذي يرفع الرجل، إلى مقام الرب للأسرة، أو إلى مقام إلاه ذكر، له، على النساء، حق الولاء، وعلى حساب كرامتهن وحريتهن… قالت في نفسها: "الصبر نصف الإيمان"، وتذكرت المثل الشعبي: "بوس الكلب من تمه، لحَد ما تاخُد حاجتك مُّنه"؛ أضافت بتأفف: "وما هو إلا كلب، أبو كلب!".
كذلك، تعي هند، أن التوقف عن العمل في مكتب سامي، سيحميها من أخطار قد تهدد مشروع زواجها، قد تنجم عن احتكاك محتمل، مع سامي. فقد تغيظه، فيرد على ذلك، بكشف أسرار علاقتهما معاً، لأبيه، فتفشل خطتها، وينقلب عليها تدبيرها، بما قد يعرضها، لملاقاة مصير شقيقتها الكبرى، إذا انتشر خبر ما وقع لها، ومنها، في مكتب عملها.
وتتفادى، بتوقفها عن العمل، احتمال تعرضها لخطر، يأتي من عبد السميع، إذا ما أفلت من ضوابط، تلجم، رغبة شبقة، مجنونة، تغلى في صدره، نحوها. وتخشى، من نفسها، أن تفقد قدرتها على كبح جماح إرادة الانتقام لديها في لحظة مغرية، فيفسد ما تخطط له، وما أنجزته حتى الآن…
أمرت انفعالها بالهدوء. وسمعتها شقيقتها التي تشاركها الفراش، وهي تقول: "تحتاج المرأة إلى الدهاء، والحكمة، والمثابرة، والصبر، وإظهار الضعف، إذا أرادت أن تنتصر في معركتها القديمة، مع الذكورة الحمقاء، المتسلطة، الهمجية!".
سحبت نفساً عمّيقاً، وحضنت شقيقتها، ونامتا…
وفي صباح اليوم التالي، أضاف مأذون مخيم هند رقماً جديداً، في مسلسل التاريخ المتمادي في الغيّ، كما قال والد العروس، في سريرته، وذراعاه تمتدان، ليحضنا ابنته الأولى، التي نجحت في توريط رجل، في شراك الزواج، الذي يعتقد (أبوها) أنه "خطيئة الإنسان القديمة، وحماقة تتوارثها الأجيال، ندفع حريته ثمناً للإصرار على استمرار ارتكابه لها"….
أقبل أبو سامي على عروسه لتهنئتها، وهي تتحدث إلى نفسها، وعيونها تحملق في المأذون: "ها قد أصبحت مملوكي يا خبيث الرائحة!". قال: "مبروك لنا"؛ لثمت يده ورفعتها إلى جبهتها. والتفتت إلى أبيها، وتوقد شرر معجون بالفرح، في قلبها، قبل أن تنحني على يده، وتلثمها مرات عدة!.
تجاذبت أبا سامي، البهجة والعذابات. فها قد وجد أهلاً؛ ولكن.. ولكن زواجا، لم تلعلع فيه، زغاريد الأم، هو فرحة يتيمة، ناقصة. وتقافزت الصور في مخيلته: صورة سماح، المحرومة من أبوة معلنة في النور؛ المحرومة من حضن دافئ، تحتاجه كل الأنفس، وهو المحروم من بنوتها: "لماذا لا أملك الشجاعة فأعلن أبوتي لها؟ ستكون، على الأقل، بعض أهل لرجل مقطوع من شجرة! سامي؟! لا خير فيه، البنات أقرب إلى قلب رجل إنحدر إلى نهايته!". لملم أحزانه، واقترب من عروسه، وهمس في أذنها: "سنقضي شهر العسل، في رحلة إلى الخارج!".
كان ذهنه، يتجه إلى سوريا، لعله يلتقي فيها بذويه، الذين فارقهم في عام 1948. وأخذ يلوم نفسه: "لماذا لم أحاول السفر إليهم قبل ذلك؟!". لم يملك الشجاعة الكافية لمواجهتهم. وعندما راودته، ذات مرة، فكرة استصدار تصاريح لهم، لزيارته، في غزة، صدمته المعارضة الإسرائيلية، لمنح المواطنين الفلسطينيين المقيمين في سوريا، تصاريح بدخول مناطق السلطة الوطنية في قطاع غزة والضفة الغربية. وكان يثق، أن عمالته للاحتلال الإسرائيلي، لن تشفع له، ولن تجديه، إذا أقدم على طلب تصريح يسمح لأهله بزيارته. لقد تراجع، عن هذه الفكرة، في حينها، لسبب أعمق؛ إنه لم يكن يملك الجرأة، ليواجه ذاته العمّيقة، الممتدة في تاريخ أسرته المشرف!
اصطحب أبو سامي عروسه وأباها، إلى بيته، بعد أن اقترح أن تقوم هند بالإشراف على التغييرات، التي ترغب، في إدخالها، على البيت، الذي ستقيم فيه مع زوجها.
أذهلتها فخامة بيتها المرتقب، عندما دلفت إليه. قارنت بصمت، بينه وبين بيت عائلتها، قالت لنفسها: "أخيرا، سأرحل من قبر فوق الأرض!".
يعيش أبو سامي، في فيلا واسعة، وأنيقة، تقوم وسط حديقة من أشجار الفواكه والزينة، ومؤثثة بفرش ملوكي. أبت هند أن تدخل البيت، قبل أبيها، وزوجها، رغم إصرارهما، مرددين، في وقت واحد: "النساء أولاً". وبعد خطوة واحدة، من عتبة باب الفلاّ، المطل على الممر، الذي يشق أرضية مزروعة بالإنجيل الريَّان، والمحفوف، بأشجار زينة قصيرة، التفت أبو سامي إلى عروسه، وقال، بعينين مبتهجتين: "ظل هذا البيت معتماً حتى هذه اللحظة؛ ولكنه سيستنير، بوجودك، وإلى الأبد، إنشاء الله!". قال أبوها مباركاً: "الحب نور يهزم شياطيننا، سأصلي لكما، لتنعما بالبهجة الخالدة!".
بعد طواف سريع بأرجاء البيت، وبحماس شبابي، انحاز أبو سامي إلى جانب هند، التي رأت أنه يجب قلب كيان البيت، بكل تفاصيله؛ وهو مالم يستحسنه أبوها، الذي قال إنه (البيت) لا يحتاج إلى أية تعديلات أو إضافات. قال أبو سامي: "أريد تجديد حياتي بالكامل. وفي غضون أيام قليلة، سيتم تغيير الأثاث كله، ولون الجدران، والستائر، والتحف والسجاد، والنجف، وأدوات المطبخ.. وكل شئ؛ وغلى ذوق سيدة ما تبقى من عمري، وما مضى، عروستنا الجميلة!".
وبقلبين يرقصان، تشابكت كفّا العروسين، وانطلقا في رحلة حول الفلاّ، في الحديقة الواسعة، التي يحتل ركنها الشمالي الغربي، المسجد الواقع تحت مسئولية الشيخ عبد السميع، الذي يقيم، هو، وأسرته، في حجرة ملحقة به.
اختلى أبو هند، بنفسه، في حجرة المكتب بالفلاّ؛ فهجمت عليه سياط تأنيب الضمير، تلسعه من كل نحو، لمصاهرته رجلاً لا يليق به أن يربط مستقبل ابنته به. حاول أن يقنع نفسه بصواب موقفه الذي كاد يكون حيادياً، إزاء الرغبة التي تملكت هند، للزواج من أبي سامي، والتي دعمها بدور الأب الاجتماعي فقط، الذي يؤمن، بأنه، لا ينبغي أن يتعدى حدود التغطية الرسمية لما يقرره الأبناء؛ وهو، في قرارة ذاته، يتعذب بشراسة، كلما تذكر، جريمته التي ارتكبها ضد كبرى بناته: "وهل تمر لحظة بي أنسى فيها ما فعلت؟! هل هو شئ يمكن نسيانه؟! جريمة لا تغتفر! لماذا إذن أقف أمام رغبة هند؟ إذا كنت قد ذبحت شقيقتها الكبرى، مرة واحدة، فهل أذبح هند، ألف مرة؟! النساء للرجال، كما الرجال للنساء، هذا حق طبيعي؛ وللمرأة أن تختار رجلها، هذا حق طبيعي اجتماعي! الاعتداء على هذا الحق جريمة، من نوع جريمة الذبح التي ارتكبتها بجهالتي وبحقدي وبانصياعي لتاريخ ذكري دموي يدافع بوحشية الغاب عن ضلالات فكر ووجدان سقيم: الله خلق الرجال للنساء! هل يؤلمني أن الرجل الذي اختارته ابنتي له ماض نجس؟! لماذا خلق الله الماء والصابون؟! الحب يطهرنا من نجاستنا! والروح التي في كل واحد منا طاهرة. الحب يستنهض الروح! وأبو سامي ليس النجاسة الوحيدة في صفحة العالم العربي! وهو ضحية! هل أخنقه أنا أيضاً، إذا طرق باب بيتي ليفلت من تاريخ يضطهده، أو من قدر مشؤوم، حاق به منذ ضل عن أهله؟! استجار بي، فهل أحرمه الماء؛ فهل إن جاء ملهوف وعطشان، إلى ماء من مائي، أصدّه وادفعه إلى هلاكه؟! ذَبحتُ مرة، فلن أذبح بعدها، ولا خنزيرا!! ولن أقتل حيًّا ولا نسمة حياة!!".
لم يقف أحد، من عائلة هند، ضد زواجها من أبي سامي، والسبب، أن ذلك، يفتح طريق، ظلت مغلقة، أمام شقيقاتها، وأمامها، تحت حصار اجتماعي، ضربه الناس، حول العائلة، التي شاع زوراً، أن ابنتها الكبرى، تورطت في علاقة مع شاب، أثمرت حملاً؛ فاضطرت العائلة، إلى غسل عارها، بذبح هذه الابنة، البريئة، في حقيقة الأمر. لم يأت رجل، ليطلب الزواج من بنات أبي هند، الذي دفع ثمناً باهظاً للحفاظ على شرفه الوطني. وبنات، تقدم بهن العمر، واستفحل في نفوسهن، إحساس بالقهر، والظلم الاجتماعي؛ قد يفلتن من استبداد الذعر بهن، وينطلقن، متحديات لكل شئ. كان أبو هند، يحسب لهذا الأمر ألف حساب، خاصة فيما يتعلق بهند، الجريئة، الطموحة، المتهورة أيضاً؛ "أنها تقضي ساعات طويلة خارج الرقابة العائلية المباشرة، بحجة العمل؛ هذا يقلقني!"؛ قال أبوها، ذات مرة، يخاطب أمها، التي لم تكن أقل منه قلقاً!
عاود الكدر مشاغباته، في صدر أبي هند، وهو يهمُّ بالجلوس، في الصالون الكبير، جوار صهره، الذي دخل الفلاّ، بعد رحلته القصيرة، مع عروسه؛ تنهد أبو هند، وألقى بجسده، المنهوك بحسرة قديمة، وقال في داخله: "لست وحدي الذي يقدم التنازلات الصعبة في هذه الأيام!!".
تسمَّرت عينا هند، في حدقات خالتها تتأهب لقذفها بحمم تنطلق من صورة لسامي، معلّقة على الجدار، في الصالون الكبير للفلا. كظمت غيظا دفاعيا، وتساءلت: "ما السبيل إلى طرده من هذا البيت، ومن حياة أبيه كلها؟!". وتمثلت صورة الواقعة الأخيرة بينهما، ولامت نفسها: "لماذا لم أفلت بولي في منخاريه أو أتبرّز في فمه، وأنا أضغط وجهه بمؤخرتي؟!". فلت منها، قولها بصوت مكبوت، لكنه مسموع: "النذل، ابن النذل!!". تلفت الرجلان إليها، تستفسر ملامح وجهيهما عما ندّ عنها.. "آه؟!.. هل قلت شيئا؟!"؛ قالت ببلاهة متقنة، وقفزت من اللحظة، برشاقة وسرعة..
دلفت إلى حجرة النوم؛ فتحت نافذتها الواسعة، ابتسمت وهي تكتشف أن نافذة الحجرة، تقع، على اتجاه يعاكس اتجاه القبلة، ما يعني، أن اتجاه الصلاة في مسجد عبد السميع، يمرّ من نافذة حجرة نومها، قبل أن يواصل امتداده نحو الكعبة. "بعد قليل، ستكون صلاتك إلى فرجي يا عبد السميع"؛ قالت، وحمدت الله: "أنت أهل للثناء كله، يا من ترعى خطاي، يا نصير المرأة، ونصير كل مقهور في أرضك وليلك!". وعندما أغلقت النافذة، واستدارت، توقفت تصغي لشيطانها: "إذا أدرت لك ظهري يا مولاي الشيخ، فستمر، في طريقك إلى الكعبة، من مؤخرتي! هذا يليق بك، وبالمنافقين خلفك، المذعنين، مثل خراف عمّياء، لا يضئ الإيمان قلوبهم! ماذا؟ هأهأ، ستدخلون الجنة بصلواتكم الجوفاء! أقسم بالله العظيم، أنكم لن تشمّوا ريحها! ستدخلون النار، انتقاماً من الله منكم على الخطيئة التي تقترفونها، بإهدار الماء في وضوئكم، الذي لا يغسل شيئاً من أوساخ قلوبكم! زوجي المغفل، صلى الليلة الماضية؛ هل يعتقد أن الله تاجر مثله، يقايض الجنة، وحورياتها، بالسقوط وتمريغ الأنوف النتنة في تراب غزة القرفان من أحيائه وأمواته معاً؟!".
صدمتها صورة كاملة لزوجها، معلقة على جدار حجرة النوم. بصقت عليها، وقالت بتأفف: "عجوز منفِّر! تقيم مسجداً لعل الله يغفر لك؟! أيها المنافق، الضال، صبراً قليلاً، سأدِسُّ مئذنته في مؤخرتك أيها العفن!".
وقبل أن يغادروا الفلاّ، اتفق الثلاثة، على الالتقاء، فيها، مرة أخرى، فور الانتهاء من تجديدها، الذي قال أبو سامي، أنه سيكلف عبد السميع، بالقيام بمسئولية الإشراف على تنفيذه؛ بتوجيهات العروس، في بحر ثلاثة أيام. وسيجمع اللقاء المنتظر، نزولاً، عند رغبة مشتركة، اتفق عليها العروسان، أفراد عائلة هند، وسامي، وحليمة، وسماح، لتناول عشاء احتفالي بمناسبة عقد قران هند، على أبي سامي.
في الطريق من باب الفلاّ، إلى السيارة، نظر أبو سامي إلى هند، وقال بحب يتناثر من عينيه، وفمه: "أمتلك من البهجة، ما يكفي لإنقاذ تعساء الأرض أجمعين، من قيود الظلام! هل تشاطريني ذلك؟!". ابتسمت، واحمرت وجنتاها، ونكّست رأسها، بعد أن حركّت شفتيها بقبلة سريعة، قذفتها إليه، من خلف أبيها، الذي كان يسبقهما بخطوات قليلة.
فتح أبو سامي لعروسه، باب السيارة الخلفي الأيمن، بعد أن كان أبو هند، قد أخذ مكانه، على المقعد الأمامي، من جهة اليمين. دفعت العروس وجهها، بخفة، نحو وجه خطيبها، فاستقبله، بطبع قبلة سريعة على شفتيها، أحست بعذوبتها، واعتراها حياء بريء؛ ونهضت، فجأة، في عقلها، إرادة دراسة الفلسفة، التي اشتهتها طويلاً. وتساءلت، والسيارة قد بدأت الحركة: "ما هذا الشيء الجديد الذي تختلج به نفسي؟!". شردت أفكارها في كل اتجاه: "رباه، هل يسع قلب واحد، نار الحقد ونار الحب، في لحظة واحدة؟!". وتذكرت، مقولة لحكيم: "صنع الله الحقد والحب، من مادة واحدة، ولهدف واحد: الحرية.. أجل، الحرية، فالحرية مادة الله وطبيعته، ونوره وبهجته!" أغمضت عينيها، ذرفت دموعا غزيرة: ورددت بصمت وبِنفْس حسيرة: "يرحم الله شقيقتي الكبرى؛ يرحم الله أبي، يرحم الله أبا سامي؛ يرحمني!!"، وأجهشت بالبكاء. وللتو، انتقلت عدوى البكاء، إلى الجالسين في مقاعد السيارة الأمامية…
17
ابتهج عبد السميع، بالمهمة التي كلفه أبو سامي، بها، والتي سينفذ خلالها، رغبات هند، المتعلقة بتجديد البيت الذي ستقيم فيه، مع زوجها. وأَسرّ إمام المسجد في نفسه: "سأكون زوجها الثاني!".
ينظر عبد السميع، للمهمة التي سيتفرغ لأدائها، تحت إشراف هند، بأنها ستمنحه فرصة التخلص، المؤقت، من المواظبة على عمله، إماماً للمسجد، الذي لا يهواه، ولا يجيده، ولا يمتلك من المؤهلات المطلوبة له، سوى اللحية الكثة، والطاعة الأمينة، لأبي سامي، الذي يستعين به، لتأدية الخدمات الخاصة، ومنها، ممارساته الجنسية.
وسيستبدل، في الأيام التي سيقوم خلالها، بأداء مهمته الجديدة، صحبة هند، المنتشية بروح انتصار أنثوي، بقرف زوجة، يرى أنها، وبجدارة، سيدة المقرفات، ليس في قطاع غزة فقط، ولكن، في الأرض كلها.
أبو سامي، لم يجد في نفسه، ولا في أوقات جدب من النساء، كان يصيبه، أية رغبة، في إقامة علاقة جنسية، مع زوجة مخدومه. كان يجفو فظاظتها، وشراسة عينيها، وقذارتها.
وكانت، بدورها، تشكو من زوجها لأبي سامي: "يضاجعني كما لو كنت حمارة. يدفع قضيبه في فرجي دون مقدمات، ويخرجه بعد أن يكون قد بصق، في وجه كرامتي الأنثوية، مرتين: من تحت، ومن فوق! لم أذق، منذ تزوجته، لذة الجماع. أشتهيها بحرقة!".
كان أبو سامي يرثي لحالة الهوان التي تنحر أنوثة زوجة عبد السميع، لكنه لم يملك أريحية تكفي لدفعه، لإطفاء نارها. كان يقول لها: "لو كانت روحي التي في ذكورتي أطهر، مما هي عليه، لمنحتك ما تستحقه أنثى، من حق ومن كرامة!".
وما كان لينحاز إلى جانبها، في معاركها مع زوجها. كان لعبد السميع، حظوة كبيرة، لدى سيده، الذي هو بحاجة إلى"بئر أسرار"، كانه عبدُ السميع .
التحق عبد السميع، بالعمل مع أبي سامي، بمهنة شيال، في متجر لأبي سامي، بعد أن أقلع عن مزاولة مهنة سرقة كتب المساجد، التي أصابته بإحباط، لفشله في إقناع الناس، بأنه كان يؤدي، من خلالها، رسالة روحية؛ "لكن هذا الوطن، مقبرة للمخلصين، كلا! إنه عطن"؛ قال، وأضاف، وهو يوضح لأبي سامي، الأسباب التي تدفعه للبحث عن فرصة عمل، مهما كانت، توفر له، شيئاً مما يملأ أفواه أطفاله التي لا تعرف الشبع، ولا السكوت: "زوجتي مثل الأرانب، وليتها كانت جميلة مثلهن. والمساجد، اتخذت احتياطات للمحافظة على ما لديها من كتب قليلة؛ لماذا أسقط راوي الحديث النبوي، الكتب، من الأثر الشريف الذي حدد المشاعات بين الناس؟ هل توافق يا عمّي أن يضاف إليها أيضاً: والنساء؟!". قهقها معاً، وردَّ أبو سامي: "وجد كلانا، رفيقاً كان يبحث عنه!".
وبعد أن أثبت عبد السميع، أنه محل ثقة، اشترى أبو سامي له، عربة يجرها بغل. وانتشى عبد السميع ببغله، مثلما تنتشي أنثى، بمضاجعة معشوقها. وتماهى ببغله، وكان يردد في نفسه : "أخيرا، وجدت صديقي وأخي!". ولم يكن يحنق، عندما يشتمه سائقو السيارات، وهو، يعيق حركتها، بقولهم: "بغل يقود بغلاً!". وكان الوحيد، بين أصحاب البغال، في غزة، الذي لا يحمل سوطاً ليجلد به بغله. وشوهد كثيراً، وهو، يساعد البغل، على جرّ أحمال العربة، في الطرقات الصاعدة، أو الهابطة، وكان يقول، بصوت مجلجل: "لا صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة، ولا دين، لمن لا يرحم إخوانه الدواب!". وعندما اعترض عليه، معلم للدين، بقوله: "المؤمنون هم الأخوة!"، ردَّ عبد السميع: "هل لديك دليل على أن الحيوانات كافرة؟!". وقال في مرة أخرى، في نقاش مع مثقف، كان ينقل له أثاثه: "لم يرسل الله للدواب أنبياء لعدم حاجتها إليهم!". أجاب المثقف: "بل لأنها ليست مكلفة!"؛ فردَّ عبد السميع: "كلا! بل، لأنها ليست ناقصة، ولا جاهلة، ولا حاقدة، ولا مغرورة، ولا متسلطة، لأنها مخلصة لحرية البراءة البكر يا أستاذ!!".
توطّدت علاقة أبي سامي، مع عبد السميع، منذ انتقل الأول، للعيش، في فلَّته، التي تقع، بعيداً عن زحمة المساكن في غزة. كان يحتاج إلى أنيس، مؤتمن، على شؤونه النسائية. وأنشأ المسجد، على مقربة من الفلاّ، لدوافع مختلفة، منها، ضمان بقاء عبد السميع، قريباً منه؛ الذي كانت من مهماته، توفير مناخ نفسي يحتاج إليه، أبو سامي، يعود، إلى ما يختلج في نفسه، من أحاسيس بالدونية، تفضحها عيون الناس، وهى تتفحصه.
كان عبد السميع، قوَّاداً، لحساب وليّ نعمته. وكانت ممارسات أبي سامي الجنسية، محكومة بأغلال تنشب في داخله، فتمنعه من منح لذة المضاجعة لنساء نزواته، اللواتي كنّ يعاملنه بمنطق تجاري، الذي كان يلعب، دوره المثبط لأبي سامي في ممارساته معهن. كان يقول لعبد السميع: "أنا أحتقر المرأة التي تبيع فرجها بالمال". وكان عبد السميع يشاركه الرأي: "الممارسة الجنسية صلاة روحية، لا صفقة تجارية!".
لكن النساء، اللواتي كنّ يتاجرن بفروجهن، في سوق أبي سامي، ينقلبن، إلى إنسانيتهن، وصدورهن تتّقد بالنار المقدسة، تحت لحية عبد السميع الكثة. كان عبد السميع فحلاً، وكان صبوراً مع طالبات اللذة، الحرة من نكد الزوجات، والبعيدة عن الضجر، من جسد تجفوه الروح، هو جسد امرأته، كما وصفه. وكانت النسوة، اللواتي يحظين، بانطلاقة روحية، بعد أن يفرغن من اللقاءات العقيمة مع أبي سامي، يندمجن، مع عبد السميع، في طقوس ماجنة، تمتد من بداية الإنسان المتوحشة، إلى انجذاب المتصوفة.
وكانت تعتري عبد السميع، حالات من الشعور بالذنب، بسبب ممارساته الجنسية، خارج النطاق المحصور بالزواج، وعن دور القوَّاد، الذي يلعبه لصالح أبي سامي. ولكنه كان يفلت من مشاعر الذنب، بقوله إن حب النساء غريزة، وإن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال إن الله حبب إليه النساء والطيب. ووقف ذات مرة، وكان يرتدي جبّة الشيوخ وطربوشهم المعمّم، أمام نفر، من زملائه القدامى من أصحاب العربات، والشيالين، فقال وهو يدفع صدره، ويرفع عقيرته: "هل تعرفون لماذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بحلق الشارب وإعفاء اللحية؟! كان صلوات الله وسلامه عليه، يحرص على توفير مناخ للنساء، لِينضحْن باللذة الكبرى مع الرجال! هل من زوجاتكم، من تمنحكم اللذة؟! أما أنا فلا!".
سيُغْلِق زواج أبي سامي، الباب، الذي كانت تأتي منه النساء إلى عبد السميع. الذي كان يمارس نشاطه الجنسي، في الفلاّ، بعد مغادرة صاحبها لها، بعد أن يقرف من النساء، اللواتي جئن لقضاء أوقات معه. يخفف من هذه الخسارة، قناعته، بأن هند، ستكون حقله المفتوح، الذي لا يستطيع أبو سامي، أن يحرثه. إن شبق امرأة ثلاثينية، نار لا تطفئها بقايا ذكورة، تنذر، بنضوب قريب، كما يعتقد. ويدعم اطمئنانه إلى ذلك، أن هند، ألقت شباكها في طريقه؛ وهو صيد، لا يقاوم امرأة.
خلال تجديد بيت الزوجية، الذي ستقيم فيه هند، تجاهل عبد السميع، رغبات العروسين. وفعل ماتهواه نفسه هو. كان يتذرّع بأسباب مختلفة، للدفاع عن مخالفته لرغبتهما؛ وكان يتصرف، بوعي، وبدون وعي، وكأنه يعدّ عشّ زواج له. ورتّب حجرة النوم، المخصصة للعروس، في نظام، يضع ذيل السرير، في مواجه النافذة، التي تفتح، باستقامة، على محراب المسجد. قال في نفسه: "لِيراها خيالي، وأنا أؤم المغفلين ورائي، وهي مستلقية على ظهرها، فاتحة فخذيها، فيكون قيامي، وسجودي، بينهما!".
وهو على يقين، أن هند، ستتشبث به، بعد أول مغامرة له معها: "كل من جربتني مَرّة، لا تقدر على الاستغناء عني. فأنا الوحيد بين رجال العرب، الذي يتجرد من أنانيته، مع التجرد من ثيابه، في حضرة امرأة… أنا وحدي الذي يأخذ من المرأة، أقلّ مما يعطيها!".
ويدبر أبو سامي، أمراً: إنه يخشى من عبد السميع على هند؛ لذا، أضمر قراراً سينفذه قبل دخوله بعروسه: سينقل المسئولية عن المسجد، إلى وزارة الأوقاف. وسيمنح عبد السميع، مبلغاً من المال، ليشتغل به، بعيداً عنه. وسيوفر له بيتاً، بعيدا عن البيت الذي ستقيم فيه هند، بعد الزواج.
18
اندفعت نساء حارة هند، لحظة وصولها إلى بيت أبيها، في المخيم، عائدة مع عريسها، بعد إتمام عقد القران بينهما. وبحب عفوي أقْبلْن يعانقنها، مهنئات، ومبتهلات إلى الله، أن يبارك لها. ولكن هند، دون تخطيط، أحجمت عن مصافحة، وعناق امرأة كانت تحمل طفلها، الذي كان يضحك ببراءة، رسمت، في عيني أمه، بهجة، دفعتها، بإخلاص، للإقبال على هند، التي ردت، بجمود، كان يحترق، بنار غيرة، اشتعلت فجأة، بصورة رجل، حلمت هند به، منقذاً لها.. وزوجاً!!
جلال زوج المرأة، أمّ الطفل ذي الصفحة البيضاء، المشرقة ببراءة الحرية الأصلية، هو، شقيق الفتاة، التي انتهكت قانون الجور، الذي فرض على هند وشقيقاتها، حصاره المظلم، منذ اغتيال شيطان الجهل المنافق، صبية طاهرة، ذبحتها أقاويل غير مسئولة!
كان جلال، يحثّ شقيقته صباح، على مداومة زيارة بيت أبي هند، والجلوس، مطولاً، مع بناته، اللواتي، كانت فتيات المخيم، ونسوانه، يتحاشينهن، تفادياً لما قد يجره ذلك عليهن من عقوبة الأهل القاسية.
ارتبط جلال مع والد هند، بصداقة نشأت، منذ اجتمعا في المعتقل الإسرائيلي. وظل جلال، يعرف فضل أبي هند، ويحفظ له التقدير الذي يستحقه مواطن شريف، كما كان يقول، وهو ينتقد المواقف السلبية التي يقفها الناس من أبي هند وأهله.
وتصدّى جلال، للإشاعة التي لوّثت الفضاء الأبيض، لحياة أسرة هند. كان جلال حكيماً ونقياً. وكان أهل المخيم يأخذون عليه أنه لا يرتاد مساجدهم. لكن أحداً منهم، لم يذكر عنه عيباً يشين أخلاقه. وكان يقول لخلصائه: "أنا دائم الصلاة في مسجد يحمله رأسي". كان نورانياً ومبتهجاً بالحب. وكان يقول لصباح في أوقات سمر كان يضمهما كما لو كانا عشيقين: "الحب يطهرنا من الصغائر والكبائر معاً.. الحب يحررنا من أن نرى قبائح الصور".
عشقت روحُ هند، صورةَ جلال. ونقلت إليه، بواسطة صباح، رغبتها في الإنضمام إلى جماعة شرع جلال في تأسيسها، تهدف لتجسيد حيّ، لشعار ترفعه: "وطن الحب وطن أجمل!".
قالت صباح لهند: "الحب يجب أن ينتصر، إنه كرامتنا، كذا يؤمن جلال، وأنا أيضاً. إنه نبي هذا الزمن. وهو يدعو إلى أن نقتسم، بالعدل، رغيفاً روينا زرعه، معاً، بالدم والألم!".
يتبنى جلال، فلسفة تجاه إسرائيل، يصفها فيها، بأنها صنيعة الحقد الإنساني: "مشروع حقد، يهزمه مشروع الحب. نحن لا نملك قوة عسكرية لندحر وجود إسرائيل. ولكننا نملك مادة الروح. فلسطين وطن الروح. الروح هي الحب وهي الحرية والعدل والكرامة، هي بهجة الحب. إسرائيل عدوان شرس ضد الروح. الروح من أمْر الله. الروح لا تنهزم. الروح حق، إسرائيل باطل. والحق؛ وعندما يصير الإيمان به إرادة ناهضة، فاعلة بإخلاص، يُزهق الباطل!".
تزوجت صباح، ولم تعد قادرة على زيارة هند وشقيقاتها. وتزوج جلال، وظلت هند، تحلم به: "لماذا فعلت ذلك؟"؛ قالت في سريرتها، بعد أن هدأت الجلبة التي استقبلتها لدى عودتها مع عريسها، بعد عقد قرانهما. نكست رأسها، وهي تجلس بين أبيها وأبي سامي؛ راودها سؤال: "هل تخليت عن إيماني بجلال الذي كان يقول إن الحب أكبر من رغبة التملك؟!".
شرد ذهن هند في الماضي.. "جلال، كان الماء الذي يروي عطشي. لم نكن نلتقي. ولكن روحي كانت رهينة في فضاء الجمال الذي كان يخلقه بدعوته. الحرية! هذا ماء الحياة؛ الحرية مادة الله؛ كذا نقلت صباح عنه. ونحن مادة الحرية. هل تحيا الحرية في ظلام الأغلال؟ ماذا يريد مني أبو سامي؟! هل يستطيع أن يؤمن بدعوة جلال؟! هل يعيدني إلى إيماني القديم بالحب الذي تعلمته من جلال؟!. لماذا أترك الحقد يخرب صورة جلال المطبوعة في أعماق نفسي؟!".
نفضتها كهرباء ذاتية. أطلقت صيحة مذبوحة. وقفت فجأة. فزع أبوها وعريسها وقالا معاً، بلهفة: "عساك بخير!". جلست، لم تنبس بكلمة، ظلّا يراقبانها؛ عاودت الشرود، استباحها العذاب، قالت في سريرتها: "هل يجمع قلب امرأة، في يوم عرسها، جنة الحب، ونار الحقد، معاً؟! لماذا تنغص أيها الشيطان يوماً تنتظره كل فتاة؟! رباه؛ هل غدوت مخبولة؟! هأنذا أضيع من جديد؛ أينك يا روح جلال، شيطان الحقد يهجم على ذكراك! كلا! يجب أن أنتقم! ما الحب؟! أكذوبة نُزَوِّق بها قبحنا! جلال وسامي أكاذيب، ذات ألوان مختلفة! أما الحقيقة، فهي أن شقيقتي الكبرى ما تزال مذبوحة، وأنني بعد أيام قلائل، سأزفّ إلى رجل ليذبحني أيضاً… ونظرياتك يا جلال أوهام تحملها العواصف، قبل أن تدهمنا! وتعال يا حبي الخائب، وفسر لي، استقبال نساء حارتنا لعروس الثريّ أبي سامي: هل يحْملن مشاعر صادقة نحوي، أم يفرشن الطريق للحصول على مساعدات زوجي التي وعد بها أهالي المخيم؟! جلال، أيها الأبله! وأنت لا تزال تنام على حصيرة، تؤمن أننا نملك قوة نهزم بها الطاغوت… امْضِ في غيِّك أيها الرجل الذي يفتقد الحيلة! خذلتَ حبي! أنا أيضاً سأخذل دعوتك؛ تعال وانظر إلى البيت الذي سأقيم فيه. بيتي جنّة وأهمّ من ذلك، إنه قبلة المسجد الذي يؤم فيه عبد السميع نفراً من المعاقين أمثالك! ربّاه؛ دُوارٌ يلقيني في بطن الحوت الهائج فوق موج يناطح صخور البحر العنيدة… رحماك!".
قضت هند، بعد مغادرة عريسها لبيت أبيها، بقية النهار، في حالة من اللاتحدد. وعندما بدأت غلالة الظلام الليلي، ترتدي الأفق، الشتوي، البارد، نخزها مغص. كان يؤرقها الخوف من أن لا يأتيها، كعادته، كل شهر. ابتسمت بوجه ذابل، وتمتمت: "لا زال الله يحبني!". وشملتها بهجة ناعمة، وهي تستسلم لنوم مبكر، نهضت منه، على قهقهة، لعلع بها أبو سامي، وهو يدهم حجرتها، برشاقة طفل لا تكدر المنعصات لحظته!
لملمتْ هند فوضى الصحو الفجائي، بشيء من الارتباك، المخلوط بالتوجع المكتوم، الذي فضحته معالم وجهها، من المغص الذي تفاقم، والذي ارتابت في شأنه: هل هو المغص الذي يرافق الدورة الشهرية؟! أم هو احتجاج ما، على شئ ما؟!
19
أنارت البهجة، شيخوخةَ أبي سامي، التي تقهقرت من معالم وجهه المحفور بالأخاديد، وهو يمازح حماته، التي كان يجلس بينها وبين عروسه، حول مائدة الإفطار المفروشة على الأرض، في بيت والد هند، فيما كان إبريق الشاي ينفث بخاره، من فوق نار الحطب، المتقدة في كانون يقاوم برودة صباح طقس شتوي، لا تصدّها منازل المخيم الهزيلة…
مال أبو سامي نحو عروسه، وأسرّ في أذنها: "الحياة امرأة تمنحنا البهجة!". أجابت، بوجنتين متوردتين: "خير متاع الدنيا المرأة الصالحة، التي إذا نظر إليها زوجها أبهجته؛ وإذا غاب عنها…"؛ توقفت، من غير سبب محدد، قبل أن تستكمل الحديث النبوي: "حفظته في عرضه وماله". والذي استبدلت فيه، بوعي، كلمة" أبهجته" بكلمة"أسرّته"، وبوعي أيضا، تعمّدت أن تسقِط منه: "وإذا أمرها أطاعته"!
كانت نفس هند، وهي تجلس إلى جوار عريسها، تضْطرم بصراع خيالات جلال وسامي وعبد السميع، وشقيقتها المذبوحة. وفي جلبة أطفال يتصايحون، في بيت أبيها، وفي البيوت الملاصقة له، التي تفصلها حيطان وهمية، تشي بما يجري خلفها، من تأوهات وزفرات، ومناوشات من كل صنف، في هدأة الليل، ثورة الشبق، ونزاع الحرمان… اجتاح الرعب مركب هند، الهارب في لجة بحرها من وحوش الماء واليابسة، تتقاذف الدم الحار، وتدفن الأحياء في التراب، تذبح البراءة وتغتال حرية الجمال… شردت في غياهب الجحيم، وقفت لقمة في بلعومها، وأخرى في يد قطعت نصف المسافة إلى فمها؛ أخفضت رأسها، وانفجرت دموعها: "الحقد يقتل صاحبه، فأي شيطان يتلبّسني؟!"، قالت في خاطرها المشروخ… انتفضت وقامت، وكفّت أيادي الجميع عن الطعام! وغام وجه أبو سامي، وهو يراقب عروسه، بحزن يتصل بتاريخه الأسيان. وطلب إلى إحدى شقيقات هند، أن تجهز له الأرجيلة، التي لا يزال أبوها يحتفظ بها، ذكرى من أبيه، الذي نقلها معه، من بين أشياء قليلة، عند الهجرة من قريته في فلسطين عام 1948.
انكمش أبو سامي في زاوية المجلس، وسرح الخيال به، على نغم الكركرة، إلى أيام طفولته الأولى، في القرية التي ولد فيها. جاء هذا الصباح، لزيارة عروسه، بغير سيارته. تمنى لو أتى على ظهر حمار، ليسترجع ذكرى القرية التي كان المحظوظ فيها، هو القادر على امتلاك حمار، ينقله إلى حيث شاء. وراودته الرغبة الموجعة، أن يقضي سحابة يومه، جالساً القرفصاء، بين عجائز المخيم، المزروعات في طرقاته البائسة، لعله يستنشق العبق القديم، من نسوة، كان منهن، من لاعبته في طفولته، أو فيهن، من لا تزال تروي الحكايا عن المراتع البعيدة!
رأى نفسه، وهو يدفن طفولتَه المذعورة، من أخبار المذابح، التي ارتكبتها عصابات اليهود المسلحة، في حضن أمّه، للمرة الأخيرة، قبل أن يبدأ رحلة الهجرة والضياع… شرد في صحارى عمره، إلى أن انتبه إلى هند، وهي تجلس قبالته، خجولة، خافضة العينين: "هل تكوني أمي؟!"؛ سألها بلوعة ضياعه. امتقع وجهها بالألوان كلها، أسرّت في نفسها: "أنا أحقر مما تراني!". ضغط على كفها براحتيه؛ تمتمت بحياء: "أرجو أن تساعدني على ذلك!". أشرقت البهجة في عينيه. دعاها إلى رحلة حرّة. أجابت بنبرة مذنب يطلب الصفح: "هبني دقائق قليلة لإعداد نفسي!".
تجولّا في أنحاء المخيم. كانا صامتين. بلغا نهايته المفتوحة على فضاء رملي أصفر ناعم. أمسك أبو سامي يد عروسه، وانطلقا يجريان كما لو كانا هاربين من مطاردين يطلبون رأسيهما. وقفا على ربوة رملية، يترامى، بعيداً عنها، لون أخضر، يقابل زرقة بحرية. رمى راحتيه على كتفيها. نظر إليها، بعينين شائختين، لكنهما مبتهجتان. استنشق نفساً عميقاً. قال بنبرة حكيم عاشق: "حريتنا هي امرأة نحبها! وأعترِف الآن، أنني لم أملك حريتي طوال عمري، إلا بحبك! أجل؛ أنت أول امرأة، بعد أمّي، أحبها!".
راودها الشيطان أن تقول: "أنت كاذب، وساقط؛ ومن يحب لا يكذب ولا يخون!". أخفضت عينيها، واستسلمت له وهو يجذبها من كفّيها، لتجلس، بعد أن سبقها بالجلوس، في ضحى مشمس، رقيق النسمات، يلفّه صمت يعزف موسيقى حب كوني رائق، ترقص الروح على ألحانها، رقصةَ جمال حريتها، وبراءتها البكر.. تابع: "أعرف أن أخطائي، هوَّة سحيقة تحيط بي من كل صوب، وأن قلبك الطاهر، لن يجتازها، نحوي، في وقت قصير. ولكن؛ من يحب، يصبر على المرارة. نفورك الداخلي مني مرير لي، ولكني أحبك! أجل؛ أحبك! الله لم يصنعني من مادة الشاطين. والحب إيمان! هل تذكرين متى أسلم عمر بن الخطاب؟! حدث ذلك، وهو في طريقه ليقتل النبي! اغفري لي! الحب، كالإيمان، يَجُبُّ ما قبله. الحب طهارة تستحيي براءة طفولتنا المبكرة. بي ظمأ محموم إلى صدر امرأة، أدفن فيه شيبي، فأنزرع فيه طفلاً صافياً، من جديد! اسألي أباك يا هند، أنا ابن عائلة، يشهد لها الناس بالطهارة! اسألي أباك، الرجل الطاهر مثل أبي: لماذا وافق على زواجي منك، وأنا الملعون بالألسنة والعيون! سيقول لك: لأن أبي كان طاهراً؛ ولأنني أستطيع أن أعود طاهراً كما بدأت! دعيني أفتح كتابي بين يديك، واحكمي مثلما يفعل القاضي النزيه. وأعاهدك، بحب مخلص، إذا حكمت ضدي، وإذا ظللت تعتقدين أنني لست ضحية عدوان واجهته، منذ طفولتي، وأنني لن أعود طاهراً كما أول نشأتي، أعاهدك، برجولة نهضت في دمي، بحبي لك، أن احترم استخدامك لحقك في طلب الطلاق، الذي أضفته، سراً بيني وبين المأذون، وبشروطه المنصوص عليها في عقد القران، والتي لا تعرفيها أيضاً، ولا يعرفها أبوك، والتي تنازلت، وفقاً لها، ولصالحك، عن ملكية البيت الذي ستقيمين فيه، والمزرعة الملحقة به، ابتداء من اللحظة التي يقع فيها، انفصال بيننا، بإرادتي، أو بإرادتك، أو بإرادة الله…".
كتمت هند، عاصفة اجتاحتها، مما كشف عنه أبو سامي. ونازعتها الرغبة أن تصرخ في وجهه: "كفى! أنا لست أطهر منك، وفي صدري من الحقد، ما يحرق الأرض بمائها". تماسكت للحظات، ثم انفجرت تبكي، وألقت رأسها على صدره الذي انتفض فزعاً وشوقاً… وحنان أب لابنةٍ زوجه… وفيما كانت إشراقة جوّانية تزحف خلف تراجع نوبة الانفعال التطهّري، قالت هند، بنبرة ودودة، وهي تضغط راحة أبي سامي بقوة، بين كفيها: "أنا سعيدة بهذا اليوم الذي سأقرأ فيه كتابَ زوجي!".
قال وهو يلفّ ذراعه حول كتفها، ويلمس وجهها بوجهه: "أعتذر إليك. أنا أجور على حق عروس، في الابتهاج بالخطبة. أرجو أن أختتم بذلك كتاب خطايا عمري!". ردّت وشفتاها تكادان تلامس شفتيه: "لا تحرمني من بهجة أمّ باعترافات طفلها بشقاوته العبثية!".
طأطأ رأسه، وذاب في صمت الرمال التي خالها، تصيخ السمع له أيضاً، وهو يقول: "ما هي جريمة طفل، هرب أهله من موت كان يحدق بهم، وبه، وضلّ عنهم؛ فتلقّفه الضياعُ والعراء والجوع والرعب والليل الضاري والهوان…؟!".
طبعت قبلة على خده، وهي ترفع هامتها، وتحثه لينهض… تشابكت أياديهما، وقد خلعا أحذيتهما، وطوّحت بالخمار عن رأسها، وعقدته حول المنطقة السفلى من جذعها؛ ومضيا يمشيان بين الكثبان…
- "لا أزال أشعر بالقبلة الأخيرة التي طبعتها أمّي على خدي، وهي تحاول تهدئة روعي الذي اجتاحني، مع دفق الانفجارات، قريباً من بيتنا، التي كانت تمزق الليل والأمن، في حرب عام 1948!".
رغبت هند، في تحويل اتجاه الحديث، بينها وبين عريسها مع الحفاظ على مواصلة الحديث عن نفسه، لتبديد أسى لاحظته في وجهه.. فقالت: "لقد حالفك الحظ، فاستكملت دراستك الجامعية؟!".
- "كلا؛ ولكنني تعهّدت نفسي بتعليمها وبتثقيفها، وأنا شغوف بدراسة الحكمة، ومن كل منابعها! إنني أعشق الفلسفة؛ هل توافقينني لو أني اقترحت عليك، مواصلة تعليمك، بدراسة الفلسفة؟ إني أرجو أن تحققي لي رغبة لم يكن بمقدوري أن أحققها لنفسي!".
قهقهت بفرح: "هذه غواية تجمعنا؛ ولكن جامعات غزة لا تترك لمنتسبيها فرصة للضلال في نور العقل؟!".
لاذ بالصمت، وارتسمت ملامح ضِيق في عينيه، فتألمت هند لظنها أنه ترجم محاولتها الكلام بينهما، إلى وجهه أخرى، غير التي أرادها، بأنه عمل، قصدت منه إنهاء الحديث في موضوع لا يلقى استحسانها… ابتسمت وهي تداعب أنامله بشفتيها، وقالت: "دعنا نواصل قراءة كتابك.. تحبُّ الزوجات المهووسات بهوى الفلسفة، أن يبدأن حياتهن، بدراسة تجارب أزواجهن…".
قال: "بينما كان أقراني، ينتظمون في صفوف دراستهم الأولية، كنت أنا، أطوف على الأبواب، أقرعها بوجل، وبتردد، فأسأل أهلها، عن شيء أدفعه إلى جوفي المحروم من خيرات الله؛ وأعرض عليهم استعدادي لتقديم ما أستطيعه من خدماتي التي يحتاجها المترفون أو الكسالى أو العجزة… كنت أنقل القمامة من البيوت التي يستهلك أهلها، نصيبهم، ونصيب الفقراء البائسين مثلي، وكنت أحمل السلال فارغة ومثقلة، عن المتسوقين من أماكن بعيدة. وكنت أحظى بالقليل من المال أو القليل مما يزيح جوعا يرزح فوق كاهل طفل عار من أهله؛ ولكني كنت أتلقّى الكثير الكثير، من السباب ومن الركل ومن البصاق أيضاً.. فأحمل ما جمعت، في قرارتي، واستسلم للنوم، بين قاربين مهملين، كنت أخالهما أمّي وأبي، كانا راسيين على بعد من شاطئ غزة، كاف لحمايتي من النوم في مرعى الموج.. واستمر شأني على ذلك، حتى عثرتُ على محفظة كان بها من المال، ما يكفي لشراء صندوق لمسح الأحذية، ودون الكرسي الذي يجلس الماسح عليه؛ فتحولت إلى مهنتي الجديدة، التي كان زبائنها، يرون أنني أحقر من الوسخ الذي أزيله عن أحذيتهم؛ وكثيراً، ما كان وجهي هدفاً لأحذية يصوبها إليه الغاضبون مما يعتبروه، أداءً لا يستحق من الثمن، غير قذفي بالحذاء، وبالسباب، والبصاق!! كنت أحمل نفسي على الصبر على الذُل؛ ولكن رغبتي في الانتقام كانت تتفاقم، وفي غفلة من وعيي… وذات مرة، وبعد أن فرغتُ من تنظيف وتلميع حذاء زبون، دسّ الرجل يده في جيب معطفه الداخلي، فلم يجد محفظة نقوده، أو هكذا ادّعى؛ فانقضّت، فجأة، وبوحشية، يداه، تعصران عنقي الهزيل، المزروع فوقه وجه بدأ خط الشوارب يرتسم فيه، وصرخ بفجور، يتهمني بأنني سرقته، بخفة يد. وجرّني إلى مركز الشرطة، الذي كان رجاله كراماً معي، في الصفع والركل واللعن والبصاق… أمضيت أسبوعاً في الحجز، انتظارا من الشرطة أن يسأل أهلي عني، ويستلمونني؛ ولكني انتهيت إلى الإفراج عني، بعد أن تأكد قائد المركز أنني غريب، منقطع عن أي قريب… كنت قد بلغت سنّ الحلم قبل فترة وجيزة، من حجزي في مركز الشرطة، وفيه، دفعتني رغبة الانتقام، لأتخيل أنّي ألوط بكل رجال المركز. وفي مرحاضها العفن، قذفت أول ماء الذكورة… وبعد خروجي، بات ضرورياً لمواصلة مهنتي، أن أترك المنطقة التي انطبع في ظنّ أهلها، وروّادها، أنني أملك خفّة يد تسرق الكحل من العين، خاصة وأن الرجل الذي اتهمني بسرقته، هو من الأعيان التي تحظى باحترام الناس له، وبتصديق ما يقوله…. وأخذتْ حرارة المراهقة ترتفع في دمي؛ ولكن، خذلني ضعف فتى لا قبيلة له، تدافع عنه، ولا قانون ينصفه، ولا أخلاق ترعى ضياعه. قمعت رغبة حادة في الانتقام، ونقلت نشاطي إلى منطقة أخرى، وكنت قد فقدت قدرة الصبر على جلوس القرفصاء، الممل والمضني، انتظر مقدم الزبائن؛ فعدت أطوف بالبيوت، أبحث عن لقمتي المغموسة بهوان الضياع، كما كنت أفعل من قبل؛ لكني أحمل هذه المرة، على ظهر مقوس، بعظام ناتئة، صندوق مسح الأحذية… كانت أصوات الأنوثة، التي تصدر من خلف الأبواب التي أطرقها، لعرض خدماتي على بيوتها، تلهب نفسي الملتاعة بين طفولة فقدت أمها، وكل ذويها، وبين فتوة تصرخ ببكارة الشهوة تحت بساطير جيش سلطان القمع الجائر... وعندما كانت النسوة، يشقُقن أبواب بيوتهن، بحذر، وبقدْر يسمح فقط، بمرور الأحذية من أياديهن الناعمة المزيّنة بالحنّاء، إلى يدي المعروقة، المحروقة باشتهاء لمْسِ جلد أنثوي؛ كنت أهوي في جحيمي، وفي ذكريات هواني وضياعي المبكر…".
توقف عن السير والكلام معاً. وجفّ ريقه، وشردت عيناه، وتمنّى لو يفتح كثيب الرمل الذي ينتصبان فوقه، بطنَه، فيبلعهما، لتضمهما الأبدية معاً… تأملت هند معالم وجهه، فخال لها أنه امتقع بلون الموت. قال بنبرة تئنّ بوجع نفسي قديم: "أشعر أن النهاية تدنو. وأودّ لو أنّي أذوي في بحرك؛ فأغدو من الخالدين!".
جلست، وجذبته من يده، فأقعدته في حجرها. تمنّى لو يرضع ثديها، أو يلثم فمها: "ما الفرق بين الأم والزوجة؟" سألها، وشعاع طفولي يقفز من عينيه. ابتسمت له، وهي تحيط عنقه بكفيها، برفق، فقال بعينين شردتا من جديد: "ظللت أكبت غيظي، وامنع كبريائي الجريح، من التمرد على هواني إلى أن شتمني رجل بما مس شرف أمي. فأضمرت أن انتقم منه، وأن أدوس شرفه العائلي. اقتحمت بيته، بعد أن ترصّدت خروجَه إلى عمله؛ فعندما شقّت زوجتُه الشابة، باب بيتها، لتقذف أحذيتها وأحذيته في وجهي، كالعادة، اندفعت وأنا ملتهب بحقد الانتقام، والرغبة المتفجرة، في جسدها البض الذي ينثر شبقه في الريح، والذي طالما أشقاني في الخيال. كانت ترتدي قميص نوم أحمر قصير، يشفّ عن قطعتين سوداويتن، ضيقتين، مشدودتين، فوق صدر عليه قبّتين، وبين فخذين تتلاطم الأنوثة الناضجة الصارخة على أمواجهما… بدت كما لو أنها كانت تنتظر اقتحامي عليها البيت الذي لم يكن يشاركها فيه، بعد خروج زوجها، غير قطة تضج بالتقافز والمواء… هربتْ نحو حجرة النوم المكسوة بستائر في لون السماء الصافية، والمؤثثة بفراش، لو كان لي، ما أضعت ليلي في النوم، ولكن، بالابتهاج بالنظر إليه… أنشبتُ أصابعي الخشبية في ثدييها؛ لم أكن أعرف كيف يفعل الرجل بالمرأة وهي تحته. ولكني بللت ثيابي بماء اندفق مني، وانا أعض عنقها بشراسة جمل، استنفد طاقة الصبر على الهوان! لم تقاومني؛ وعندما هممتُ بالنهوض جذبتني بعنفوان، وألقتني تحتها، ولثمتني من فمي بقسوة استنفرتْ ذكورةّ معذبة، فقلبتها تحتي، فاسترخت، وبكت، دون صوت.. قذفتُ مرة أخرى ثمّ وقفْت. تركتني أمضي دون أن تنبس ببنت شفة… وعندما عدت إليها في اليوم التالي، أدركت أنها تخون زوجها بإرادة تقاوم إحباطَها، وتقاوم فجورَ الذكورة. استمرت علاقتنا، بعد أن اكتسبتُ خبرة الجماع؛ ولكنني ظللت هدفاً للإهانة التي لم تكفّ عن توجيهها لي، كلما أفرغتُ فيها، حمولَة الشهوة وحمولَة الانتقام… ثم صارت هذه المرأة، بعد سنوات، هي الدرب المظلم الذي سلكتُه نحو خيانة الوطن، والعبث بكل قيم الحياة الجميلة! لم أكن راضياً عمّا أفعل، ولكنني عميت، ولم يضئ أحد بصيرتي، وحاصرني الناس في ظلامي، فهل يحررني حبك يا أماه من شياطيني؟ هل تغفري لي؟!".
ضمّت رأسَه إلى صدرها، وضغطته وهو يحاول التملص من قبضتها، وقد راودته الرغبة في أن يقلبها، في الفضاء المفتوح على كل اتجاه.. وفي اللحظة التي كاد فيها أن يأسر شفتيها، دفعته عنها بدلال أنثوي، ونهضت برشاقة، وانطلقت تجري، وهو خلفها، إلى أن وقعت على وجهها، فأدارها على ظهرها، وتمدد فوقها، ولثم فمها بشهوة معتّقة، فاستسلمت له، ومادت الأرض بهما، فتسللت يده، بين وسطيها، فقالت من تحت أسرها الفميِّ: "الإشارة حمراء".
20
في بيت سماح، كانت حليمة تجاهد لتهدئة ثورة نحيب، انفجرت في هدأة الليل، في الفراش الذي كان يضمّها وصديقتها، سماح؛ التي كان الظلام ينشقّ لها، وهي تستلقي على ظهرها، وتحملق في فزع، تذرف دموعاً تنهمر من أول عمرها، ملتهبة بالذكريات البشعة… قالت بكلمات منزوعة من دفق الأحزان: "هل يعي الطفل ما يجرى حوله، وهو لم يزل في ساعاته الأولى بعد ولادته؟!".
أجابت حليمة، وهي تضغط رأس صديقتها، على صدرها: "أعتقد ذلك! بل، يبدأ الانطباع بما يجري حوله، خاصة مما يعنيه، منذ أول تكوينه الجنيني، حيث يبدأ بالانفتاح المنفعل منذ لحظة الجماع بين أبويه، التي تؤسس كيانه! لكن، ماذا تقصدين بسؤالك؟!".
- "يطاردني في خيالي، شبحٌ فرغ من ذبح امرأة سوداء، في ليل دامس، لم يزل رحمُها، ينزف دم الولادة… كابوس يخنقني، الوليدة تصرخ والأم، من الهلع؛ زلزال يضرب الكون ويصدعه… حليمة! يد تقطر بالدم تمتد بساطور نحو عنقي، ويد تضغط كفها القاسية على فمي وانفي معاً!! هل تسمعينني؟! أنقذيني! قدمان ثقيلتان تضغطان بطني! الجنين يستغيث! هل تسمعي صراخه: لا تذبحوها! لا تذبحوها! حليمة!! سقف الحجرة يهوي فوقي! العمارة تميد بي، تسقط في البحر… حيتان وقروش تعصر عظامي! حليمة! أقامت قيامة الله؟! رحماك ربي! جنود الغضب يدفعون الرجال إلى جهنم… نساء تُولْوِل.. نساء تزغرد… انطفأ العالم في رأسي! هل ما زلتِ معي أيتها السوداء مثلي؟! لا تخذليني!". ثم نامت، بعد صمت لفّها، وهي تلتصق بحليمة، وتئنّ بالأسى وترتعد!
قبل ذلك كان سامي، يزور منزل السوداوتين، أول هذه الليلة. قضى وقتاً مع سماح في الفراش. ثم دعا حليمة، من وراء الباب المغلق للانضمام إليهما. كان يستلقي على ظهره، عارياً.. دخلت حليمة، عارية كعادتها، جذبها من يدها، تمدّدت إلى جواره. نهضتْ سماح، ارتدت ملابسها، وتكوّمت على كرسي يحتل زاوية في حجرتها… وراحت تبكي بصمت…
قال سامي بنزق: "طلبتُ من سماح أن تتخلص من جنينها، رفضت! الفضيحة تزحف نحونا! ماذا أفعل؟! هل ألقي بنفسي من الشرفة إلى البحر، لتبتلعني وحوشه؟! هل أقتل سماح، فأضيف إلى جرائم هذا العالم البشع، جريمة أخرى؟! أنا مستهتر، هذا صحيح، لكنني لا أطيق قتل حشرة! ولكنها الفضيحة! إنها كارثة: ماذا سأكون له؟ أبوه، أم خاله؟!".
زاغتْ عينا سماح، في فراغ مشوّش. اجتاحها المشهد المفزِع، الذي داهم طفولتها، وهي في التاسعة، في يوم عيد ميلادها، يوم صفعتها مديرة المدرسة، بقسوة امرأة عقيم: "ساطور يقطر الدم منه، في يد متوحشة، وامرأة مذبوحة، تضم بذراعين متصلبتين، على صدرها أسود الجلد، أبيض القلب، طفلة لها، جاءت من لدن الله، على التو!".
رمى سامي ساعده على بطن حليمة، استدارت نحوه. قال بشبق: "تذبحني الرغبة فيك!".
- "لن تنالني!".
"تواصلين التحدي إذن أيتها الزنجية القميئة؟!".
نهضت حليمة. تناولت بحركة هادئة، كتاباً من فوق الرفّ في حجرة سماح. فتحت صفحته الأولى. قرأت بنبرة واثقة عمّيقة: "الصحافة هي المهنة المناط بها، أن تفتح كتاب حياتنا الاجتماعية على ضياء الشمس المشرقة، الدافئة…!".
ومن خلف الزجاج المطلّ على أفق البحر المترامي، سرحتْ في الماضي البعيد: "منذ ثلاثين جيلاً، أو أكثر، غادر جدي الأكبر، بلاده في أواسط أفريقيا، التي لا يزال أهله الأصليون فيها، يعيشون عراة، من الثياب، ومن الكذب، ومن عذاب الشهوة أيضاً! فما الذي قادك يا جدي إلى هنا؟! اشترى الأثرياء حريتك؛ ثم ارتديتَ ضلالَهم ونفاقَهم؛ غفر الله لك! لكنّنا، نحن أبناءك وأحفادك، نحفظ عنك، درسَ الحكمة الأفريقية: تلد الحقيقة عارية، فيلقفها الجهل، وتذبحها وحوش الغاب الإنسانية!".
أطلق سامي زفرة مغيظة، وريحاً خبيثاً، ومضى…
حضنت حليمةُ سماح، الليل كله، إلى أن بزغت الشمس من جديد. نهضتا؛ ونهضت، في الوقت ذاته، نسوة مخيم هند، اللواتي تدافَعْن في الطرقات الضيقة، ليتزاحمن، حول سيارة شحن كبيرة، تحمل أكياس الدقيق والأرز والسكر، وغير ذلك، من المواد التموينية، تربض قبالة مئذنة مسجد المخيم، التي لا تنفكّ تبتهل لله وتنتحب… في الزحام، سقطت عجوز تحت أقدام نسوة طرايا، يعْصُرن بينهن الشيخَ عبد السميع، المشرف على توزيع مساعدات أبي سامي في مخيم هند…
وفي بيت عائلة هند، اتفق أبوها، مع أبي سامي، على تنفيذ الاقتراح المتعلق بفتح دكان بقالة، يعمل فيه أبو هند، ويزوّده أبو سامي بما يحتاجه من المواد، على شرط تقاسم الأرباح، بين الجهد المبذول في العمل ورأس المال..
لم يمكث أبو سامي طويلاً، في بيت صهره. وبعد مغادرته، وصل عبد السميع، الذي كان قد فرغ من توزيع المساعدات على نساء المخيم.
أعدّت له هند، إفطاراً سريعاً، تناوله بشهية. وعندما سألته: "هل كنت عادلاً؟!"؛ رمقها بعيون تستعر، وقال في سريرته: "متى أحظى بعدل الله، فأحرث أرضك، وأسقي بئرك؟!".
وقال وهو يهم بالخروج: "إذا اتصل بك عمّي أبو سامي، على هاتفك المحمول، فأخبريه أنني مضطر لأداء زيارة لقريب لي مريض، مما يجعلني أتخلف عن الذهاب إليه، في الموعد الذي ضربه لي صباح اليوم".
وكان عبد السميع، قد منح، ثلاثاً من نسوة المخيم، اختارتهن حاسّته الخاصة وخبرته مع المرأة، كميات مضاعفة من مساعدات أبي سامي. واتفق مع كل منهن، وعلى انفراد، بمتابعة حالاتهن، ميدانياً…
وهند، منذ نهوضها، هذا الصباح، ترتدي ثوبها السماوي، وتتوشّح بمنديل أسود، ويعتريها انقباض قلِق… جلستْ تنتظر رجوع عريسها، وفيما أطفال بيت أبيها، يعبثون بالكسل، الذي يلفّ ضحى المخيم، كان سؤالٌ يراودها، وعينها ترفّ بإلحاح: "تُرى، ماذا يخبئ القدر لي؟!".
وأبو سامي، من متجره، طلب من المحاسب المسئول عن تنظيم سجلاته المالية، أن يحدّد له بدّقة، المستحقَّ عليه (على أبو سامي) من الضرائب والديون…وهاتف محاميَه، وطلب منه، إعداد عقدِ بيع العمارة التي تقيم فيها سماح، لصالحها… وهاتف وزارةَ الأوقاف والشؤون الإسلامية، وطلب منها، إيفاد مندوب عنها، لاستلام المسجد المقام على الأرض المجاورة للبيت الذي ستقيم هند فيه، معه… وعاد يهاتف محاميَه، ليطلب منه، تحرير عقود بالتنازل، عن أراض يمتلكها، لصالح مؤسسات متعددة، شرط أن تنتفع بها، انتفاعاً مشتركاً؛ وحرّر صكّاً مالياً بقيمة كبيرة، لحساب مشروع مشترك، تعود أرباحه، للمستفيدين من هذه المؤسسات، ويكفي، الصكّ كذلك، لإقامة مجمع، على الأرض نفسها، يشمل مباني مدرسة ومستشفى ونادي ترفيه، ومجمع صناعات يدوية، ومركزاً لرعاية المسنين، والمعْوزين والمعاقين… ومعهداً لتعليم الفنون، ومنها، كما طلب بالتحديد، فنّ الرقص، الذي وصفه لمحاميه، بأنه فنّ صوفي… واعتذر، في محادثات هاتفية أخرى، عن تراجعه عن تنفيذ اتفاقات تجارية كان عقدها… وحرّر صكوكاً مالية متعددة، بمبالغ محددة، باستثناء صكّ مفتوح، حرّره لصالح حليمة.
منذ هذا الصباح، كان أبو سامي ينعم بسكينة الروح… وفي المسجد القريب، من بيت عائلة هند، أدّى صلاة الظهر، برفقة والد هند، وتجولّا معاً، بعد الصلاة، في طرقات المخيم… ولم يكفّ أبو سامي، عن إلقاء تحية السلام، على كل من مرّ به، كبيراً أو صغيراً، أنثى أو ذكَرا.. وكان داخله، يلقي التحيات على الدواب أيضاً… وحافظ، طول جولته، على ابتسامة تشرقُ من حنايا وجهه…
ولَجا معاً، باب بيتَ عائلة هند. نهضت العروس تستقبلهما… انحنيا معاً، يلثمان ظهرَي كفيها… انحسر الانقباض من عينيها، استضاءتا بنور البهجة…حضنها الرجلان في وقت واحد، وبكيا من غير صوت.. عاودها الانقباض، ورفّت عينُها.. شقّ صراخُ طفلة رضيعة صفحة الوجوم التي ارتدتها بيوت المخيم من حولهم!!
انطلقا، أبو سامي وعروسه، بالسيارة، في رحلة تخلّلا فيها تفاصيل قطاع غزة… وتركا، للغة العيون أن تصل بينهما… شردا طويلاً في الأفق المترامي فوق هدير يقذفه المجهول… ترجَّلا، تسلّلا من سياج يحمي بستان برتقال من ماشية الرعاة.. وفي البحر الأخضر الذي يضاجع موسيقى كونية، منظومةً في ثمار ناضجة متلهفة، تميد على صدر هند، ذوّبتْهما قبلة نهلت من ماء الخلود، وحملتهما على أجنحة من نور، لا يراها الرائي… ذكورة وأنوثة، في أريج السرمدية، تستعيد، في حرية الطبيعة وحدتها القديمة.. "ربّاه؛ ما أجملَ ما أبدعْت!"؛ قالا معاً، بالقلوب وبالعيون… انطلقا، إلى الحدّ المسوّر بالأسلاك المكهربة، التي تُسيِّج إسرائيل بها، قطاع غزة.. صرخ أبو سامي بفزع طفل ضلّ عن أهله، في ليل وحْشي قارس: "مجرمون!".. شردا في الأفق الممتد أمامهما، المترامي وراء الحصار.. استدارا؛ فتلاقت عيونهم: أبو سامي يذرف الدموع… وهند، تبتسم بحب أمّ لطفل عاد إليها بعد ضياع…
واصلا رحلتهما بالسيارة… تسمرّا قبالة مستوطنة إسرائيلية في وسط قطاع غزة؛ الدم يغلى في عروق أبي سامي… اقترب جندي إسرائيلي منهما… صاحا معاً: " مجرمون!".
ومع حلول أول الليل، أنهيا رحلتهما، بزيارة لمنزل سماح، التي كانت، ومنذ الصباح، ترتدي ثوباً أبيض، يحشر، بينه، وبين قامتها النحيفة، الطويلة، جنينها، الذي لم يعد يخجل من الإعلان عن وجوده… الذي صدم أبا سامي، كما لو كان صخرة بحجم جبَل، هوَتْ فجأة على رأسه، فأودت به، إلى قاع الموت..
وفي خيال يتمزق بكل عذابات عمره، قفزت صورة سماح، وهي تحته، ذات ليلة، قبل حوالي خمسة أشهر، عندما ضاجعها، وللمرة الأولى، مضاجعة كاملة، على غير ما كان يجري بينهما، من قبل.. كانت العذابات تذبحه حينئذ، كما تفعل به الآن، عذابات تشرخ قلبَ الأب وقلبَ الابنة، بساطور دموِيٍّ واحد… في تلك الليلة ضمّته بعنف حتى كادت تطحن جسدَه الذي كان منهوكاً تحت تأثير خمور احتساها بشراهة، اعتاد الإسراف في تعاطيها، لعلّه يهرب بها من سواد تاريخه…
انهار أبو سامي… ألقت سماح جسدَها المنتفض بزلزال، فوق أبيها.. "اغْفري لي يا ابنتي!"؛ قال بعينين تتوسلانها…
صمت الكون… شقَّه نزْعٌ عميق واهٍ أخير: "سماح.. سماح.. أنا أبوك!!".
قالت حليمة، والنحيب يأتي من صخب الموج المتلاطم وهو يضاجع شاطئ غزة: "مثواك الجنة!".
روت حليمة، بعد الانتهاء من مراسم جنازة إبي سامي، أنّ المُتوَفي، كتب في وصيّة تركها لدى هند، أنْ لا يُكفّن جسده، بعد وفاته، وأنْ لا يوضع جثمانه في قبر تحت الأرض، ولا فوقها.. وطلب أنْ يرفع جسده، فوق صرح زجاجيٍّ عال، مفتوحا على الأفق المطلق، كان أمر ببنائه، على أعلى كثيب في قطاع غزة، لا يفصله عن البحر فاصل؛ وطلب أنْ يُبقى عليه عاريا، ممدّدا على ظهره، لا مسند تحت رأسه، وأنْ يُباعَد بين ساقيه، وأنْ تُنشر ساعداه، إلى أقصى مدى..
قالت حليمة: " كان أبو سامي، قد حفظ عني، إنّ الموت، مثل الحبّ، طُهْرٌ وحريّة".
أضافت: "لكنّ وصيّة أبي سامي، ظلّت، منذ استلمتها هند، في صندوق مغلق. وحين تذكّرَتها هند، قامت تفتحها، لكنّ الريح العاتي، وقدْ هبّ حولها فجأة، حملها إلى بعيد بعيد، ثمّ بددّها!"...
قالت مريم: "أمّا أنا، فقد أطعمتُ النارَ كلّ ثيابي، وانطلقتُ في أفق النُّور المفتوح، عارية، حرّة، محبّة، مبتهجة، ما بقيتُ حيّة!
غزة في: 29/4/2000
حسن ميّ النوراني
فلسطين – غزة
هاتف: 2588528 59 00972
بريد إلكتروني:
[email protected]
[email protected]
[email protected]