شحاته عزيز جرجس - العسكري.. قصة قصيرة

هتف الشاويش جابر:

قف يا عمران…

ثم أعادها بأكثر حدة بينما جسده يهتز انفعالاً. لم يتوقف عمران بل انفلت وراح يتسلق الدرج وجابر في أثره.

أعاد الأمر بالتوقف مرة أخرى وهو يلهث خلفه. لم يتوقف. بيد كل منهما سلاحه، وكل منهما يحجم عن استعماله.

بلغا معا السطح العلوي بعد الطابق الخامس للمنزل المحاصر أما بقية القوة المهاجمة فانتشرت في الشارع أسفل المنزل، وبداخل ردهاته، وفي المنازل المجاورة. لا أحد يعرف موقع الرجلين فقد انفلت جابر من قوة الهجوم حين لمح عمران يستلل هاربا فتعقبه.

قف يا عمران …

وحدهما الآن فوق السطح العلوي بعد الطابق الخامس للمنزل المحاصر. وتوقف عمران. الآن توقف مرغما. وصار لصق السياج المتهدم الذي يحيط بالسطح العلوي للمنزل. دنا منه. بيد كل منهما سلاحه وكل منهما يحجم عن استعماله. دنا منه أكثر. واجهه. تأمل وجهه المغلف بالذعر والفزع والذهول. أنت كما أنت يا عمران. لم تتغير. بعد سنوات طوال أنت كما أنت. لم تتغير. وهذا البريق الغريب في عينيك يميزك منذ طفولتك. عندئذ تسلل إلى أذنيه للمرة المائة، أو ربما المليون صوت العجوز عبر الزمن السحيق مغمغًا:

أوصيك بعمران يا جابر..

ووقتها سمعها جابر جيدًا. وسمعتها المرأة ذات الرداء الأبيض. وسمعها الطبيب الشاب الواقف لصق فراشه، هناك، في المستشفى الصغير عند أطراف المدينة، حيث تمدد السجين عبدالحميد بينما انتصب إلى جوار فراشه الشرطي رقم 65065 جابر عبدالنعيم.

اوصيلك بعمران يا جابر.

وتشهد عليك يا جابر المرأة، والطبيب، وجدران هذا المستشفى، وحتى أوراق أشجار حديقتها التي تعملقت حتى طاولت النافذة، وكأنما تسترق السمع، الوحيد الذي لم يسمعها وقتها عمران نفسه، صبي العاشرة، الذي من المحتمل أنه وقتها كان يستبدل بقطعة معدنية مختلسة من ملء ملعقة صغيرة من الدندرمة، من بائع جوال، أو ربما كان يلهو في فناء دار جده، أو ربما كان يتسلق جدار منزل متهدم في عبث طفولي، او كان يشمر عن ساقيه متتبعًا رذاذ المياه من عربة رش الشوارع، ولكن الاحتمال الأكبر أن يكون وقتها بين يدي زوجة أبيه يلتقي صفعاتها المعتادة عن جرم اعتاده – أيضًا – وهو اختلاس بيض الدجاج وبيعه للجيران.. ومن المؤكد أنه خلال صياحه كان يستغيث باسم أبيه الذي كان في ذات اللحظة يردد للمرة الثالثة:

أوصيك بعمران يا جابر.. أنقذه منها فهي…

ولم يكمل، وبعدها بثوان هتفت ذات الرداء الأبيض:

مات السجين.

كيف؟.. هكذا من غير كيف، ومن غير لماذا؟، وكل إنسان سوف يموت، ولا عجب أن يموت عبدالحميد بعد أن أذبلت سنون السجن جسده وجففت الأمراض عوده.

مسكين.. مات..

غمغمت ذات الرداء الأبيض ثم نشجت في صوت مكتوم أما هو فهتف بانفعال:

سلم نفسك يا عمران، لو حاولت الهرب سأطلق عليك الرصاص.

ثم اقترب منه أكثر وقد التصق بسياج السطح العلوي بعد الطابق الخامس للمنزل المحاصر. عاد يتأمل وجهه. بعينيه توسل ورجاء أن يتركه يهرب أما الآخر فبداخله إصرار على اقتناصه حيًا. وحتى أنت يا جابر لم تتمالك نفسك يومها وأجهشت. ثم نهضت تكمل مهمة السجان نحو سجينه الميت.

رقم السجين: 3800.

الاسم: عبدالحميد هلال.

العقوبة: مؤبد.

التهمة: الاتجار بالمخدرات.

سبب الوفاة: تليف في الكبد، وزوجة شرهة لا تملأ كنوز الأرض عينيها.

الأهم أنه مات.

وعليك يا جابر ا، تعمل بالوصية وتبحث عن الصبي وتنقذه من براثن زوجة الأب.

هكذا أوصاك..

سيدتي.. ما دمت قد تزوجت فدعيه يعيش معي… لقد أوصاني به قبل وفاته..

ولكنها واجهته بوجه متجهم بعكس كل صنوف النفاق والتلون.

هتف باستنكار مفتعل:

ماذا تقول؟!… إنه في منزلة ابني..

قال على الفور:

وسيكون ابني أيضًا..

ثم وهو يبتسم ملاطفًا:

سيدتي، لن أحرمك منه.. تعالي لرؤيته وقتما تريدين.. أما الزوجة العاقر فهتفت مداعبة خلال خلوة أثر لحظة انتشاء:
أيها الشرطي العجوز، لقد عوضنا الله خيرًا.. لم أنجب لك ابنا تمنيته وها قد منحنا الله ابنا..

ويلك يا جابر، وويل ويلك يا زوجة جابر..

سلم نفسك يا عمران…

ثم ذاب الوجه لتنسكب منه قطرات الذكريات فيثب الصبي لاهيًا في بيته الجديد، بيت جابر، ثم يشب يافًعا مكتملاً، ثم يرحل خفية متنكرًا بعد أول لقاء مع أنثى ليثبت بالدليل القاطع أن الأخلاق أيضا تورث، فتصيح العاقر في أسى وسخط:

ولد عاق من أب عاق..

ثم وهي تشيح بوجهها سخطًا:

عليه اللعنة.. ليتني ما قبلته ابناً..

عليك اللعنة..

وها اللعنة تطارده..

ها هو محاصر لصق السياج المتهدم، عند السطح العلوي للمنزل المحاصر، يتوسل بعينه دون أن ينبس فيصيح فيه جابر بخشونة:

سلم نفسك يا عمران… المنزل محاصر.. لن تنجح في الهرب.. أعدك أنني سأساعدك.

وماذا فعل بك الزمن يا عمران؟!.. وماذا فعلت بك الأنثى منذ رحلت بها عنا؟.. وأي قدر يجعلني أتلاقى بك بعد هذا الزمن لأطارك وأ؛اصرك وربما تقتلني أو أقتلك؟. فنظر إليه يتوسل..

اللعنة.

بمقدوري أن أدعك تهرب ولن أفعل.. بيدي النجاة ولن امنحها لك.

لن تشفع لك يا عمران سعادة منحتها لي سنوات وسنوات قبل أن ترحل معها، بذرة الشر وبؤرة الفساد والإفساد.

أوصيك بعمران يا جابر..

اصمت أيها الكهل، وعد أدراجك إلى قاع الزمن السحيق، ولتنتصب كل جبال المسكونة بيني وبينك تحجب صوتك عني وصورتك فلن، لن أتركه، عندئذ صاح صوت من الخلف:

سلم نفسك يا عمران.. المكان كله محاصر..

ها قد أدركت بقية القوة المكان. لا مفر.. سلم نفسك يا عمران.

لا.. لا.. لا تففز.. المنزل المجاور يبتعد كثيرًا عن السياج.

لا تقفز. بحق السنوات التي قضيناها معًا. وبحق الحب الذي منحته لي يومًا ومنحته لك دومًا، وبحق الألم الذي عشته منذ فارقت، لا تقفز.. لا فائدة.

وقفز عمران.. ولم تبلغ قدماه المنزل الآخر فهوى..

سقط.. وابنعثت صرخة مدوية ممدودة انقطعت عند منتصف المسافة قبل الوصول إلى الأرض.

وفي ذات اللحظة التي بلغ فيها الأرض وتمدد فوقها، هتفت ذات الرداء الأبيض:

مات السجين..

ثم نشجت بصوت خافت..

وجابر أيضا..



أعلى