الجنس في الثقافة العربية محمد جلال أحمد هاشم - تاريخ نكاح الغلمان والتحرش الجنسي في السودان

استشرى التّحرّش الجنسي، بالفتيات والنّساء خاصّةً، خلال العقود الأخيرة بدرجة أصبح معها بمثابة ظاهرة ملفتة للنظر. وقد بلغ أمره حدّه الأقصى عندما أصبح النّاس يتعاملون مع التّحرّش الجنسي على أنّه من مخايل الرّجولة. وللتّحرّش الجنسي تاريخ في السّودان، ولو يكن غير طويل، إلاّ أنّه يكفي لترسيخ أقدام هذه الظّاهرة غير الحضاريّة وغير الأخلاقيّة.

أدناه سوف نعمد إلى تاريخ هذه الظّاهرة في بعدها الذّكوري (وهو الأشيع تاريخيّاً) والأنثوي (وهذا هو البعد الخفي)، ثمّ في بعدها المزدوج، وبخاصّةٍ تحرّش الرّجال بالفتيات والنّساء، أكان ذلك في الشّارع، أم في المدارس والجامعات، أم في الأسواق أم في أماكن العمل، دع عنك المناسبات الاجتماعيّة والعامّة.

يمكن تلخيص التّحرّش الجنسي sexual harra ssment على أنّه معاملة الإنسان لإنسان آخر بطريقة تهضم حقوقَ الأخير الأساسيّة والمكتسبة، الاختياريّة، بطريقة توحي بأنّ الغرض من ذلك حملُه لممارسة الجنس معه، أكان ذلك مقابل إجراءات ثوابيّة أو عقابيّة أو بدونها. على هذا لا يكون التّحرّش الجنسي مقصوراً على معاملة الرّجل للمرأة وفق هذه الكيفيّة، إذ يمكن أن يشمل معاملة الرّجل لرجل آخر، أو معاملة المرأة لامرأة أخرى، أو حتّى معاملة المرأة للرّجل. وكلُّ هذا موجود في أيّ مجتمع، لكن ربّما دون أن يأخذ منحىً سلوكيّاً مؤسّسيّاً.

من أشهر أنواع التّحرّش الجنسي في السّودان، ممّا شكّل سلوكاً مؤسّسيّاً، نوعان أحدُهما قديم والآخر طارفٌ جديد نسبيّاً. النّوع القديم هو التّحرّش الجنسي البيدوفيلي، أي التّحرّش بالأطفال، في حال السّودان الذّكور منهم. وقد فشت هذه الظّاهرة في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، فرفدت لنا أدباً كاملاً هو أدب التّغزّل في الغلمان، كما أنتجت لنا مؤسّسة في حدّ ذاتها قامت على استرقاق الأطفال بغرض الاستمتاع بهم جنسيّاً.

التحرّش الجنسي بالأطفال وظاهرة المثليّة الذّكوريّة

ربّما دخلت هذه الظّاهرة إلى السّودان مع دخول العرب المسلمين إليه. إذ يُلاحظ انعدام هذه الظّاهرة في الشّعوب القديمة المجاورة لبلاد النوبة، مثل الحبشة (إثيوبيا حاليّاً) والتي تكاد تنعدم فيها ظاهرة المثليّة الذّكوريّة. ولكن يغلب الظّنّ أنّ ظاهرة المثليّة الذّكوريّة وابتدارها بالتّحرّش الجنسي بالصّبيان، إن كانت موجودة، قد تكرّست ثقافيّاً واجتماعيّاً مع العثمانيّين والأتراك، إن لم تكن قد دخلت أصلاً معهم، منذ غزو السّلطان سليم الثّاني للجزء الشّمالي للسّودان (1565م) وصولاً إلى الاستعمار المصري التّركي (1821م). فالرّحّالة بيركهاردت (1987: 446-7) يحكي عن شكوى قدّمها له القاضي بسواكن ضدّ حاكمها عن محمّد علي باشا ليقوم بتسليمها للأخير عندما يصل إلى الحجاز. وقد شاتملت الشّكوى على عدّة تهم منها عدم اعتراف حاكم سواكن بالعملة التي ضربها محمّد علي باشا، وعدم مواظبته على حضور صلاة الجمعة. وقد كان من بين التّهم التي دُبّجت ضدّ الحاكم، واحدة بعينها، ربّما لم يسمح الحياء لبيركهاردت أن يذكرها باسمها، فشرع يلمّح بها معرّضاً. فهو يقول، حرفيّاً، بلسان القاضي، أنّ حاكم سواكن قد "... أهان وظيفته بميوله غير الطّبيعيّة" ويستخدم بركهاردت كلمة "propensities" التي تجوز ترجمتُها حسبما قمنا به، بينما تعني حرفيّاً أن ينحني المرء بنصفه الأعلى إلى الأمام، أو، باللهجة العامّيّة السّودانيّة "ينفقِس". وما كان هذا سيلفت النّظر لولا أن أضاف بيركهاردت نجمة هامشيّة فوق هذه الكلمة ليقوم بشرحها في أسفل الصّفحة بقوله: " يبدو أنّ هذه هي الجريمة الوحيدة في الشّرق التي لم تخترق بعد أفريقيا [يعني بأفريقيا بلاد السّودان التي مرّ بها]، حيث تعبّر جميع الطّبقات عن تقزّزها واستفظاعها ممّا يصفه الحجّاج العائدون بخصوص تمادي الأتراك والعرب [في هذه الممارسة] غير الطّبيعيّة". ولا يأخذنا غير عارضة عابرة من الشّك في ترجيح أن المقصود هنا هو اللواط. ففي كلّ ترحاله بين أسوان ودنقلا وبربر إلى شندي، ثمّ منها إلى التّاكا فسواكن، يشير بيركهاردت إلى سوء أخلاق السّودانيّين وأنّهم في غالبهم لا عاصم لهم من رذيلة الدّعارة النّسويّة وإدمان السّكر ثمّ الغشّ والغدر والخيانة، مع ذكره لمكارمهم أيضاً. لكنّه في كلّ هذا لا يُشير إلى حادثة لواط واحدة. وتعود أهمّيّة شهادة بيركهاردت، بالإضافة إلى دقّته وصدقه المشهود، إلى أنّه كان يخالط في رحلاته عامّة النّاس بأكثر من صفوتها. فلو أنّه مرّ بحادثة لواط أو أيّ تحرّش جنسي من هذا النّوع، لكان قد أتى على ذكرها.

هذا ما كان قُبيل الحكم الاستعمار التّركي المصري بسنوات قلائل (ثماني سنوات بالضّبط، أي في عام 1813م). ولكن في منتصف القرن التّاسع عشر انتشر اللواط في الخرطوم (عاصمة دولة الاستعمار التّركي المصري) بدرجة أكبر من ملحوظة، فقد أصبح ظاهرة، وذلك جرّاء تحلّل الحكومة من أيّ التزام أخلاقي إزاء ما يحدث في المدينة، حسبما يرى بعض الباحثين. فقد كانت الخرطوم حينها تجمع شتيتاً من أجناس أوروبّيّة ومصريّة وتركيّة وسوريّة، وأرمن وشركس، وخلافه بالإضافة إلى المجموعات السّودانيّة بمختلف الجهات الأربع. ويصف أحد الباحثين أنّ ما كان "... يربط بين أخلاقهم جميعاً التّنكّب عن طريق الفضيلة والانطلاق الخالي من الضّوابط الاجتماعيّة" (أحمد أحمد سيد أحمد، 2000: 293)؛ محمّلاً المسئوليّة في ذلك إلى تجارة الرّق والعناصر الأوروبّيّة، فكان أن انتشر البغاء واللواط. وعن الأخير يقول: "واللواط في الخرطوم أكثر رواجاً من البغاء ... ففي السّوق والميادين تشاهد الجماعة من المخنّثين في ملابس النّساء والكحل في عيونهم والخضاب في أكفّهم يقودهم رئيس منهم عاري اللحية، وهم يصوّبون نظراتِهم السّافلة هنا وهناك بحثاً عن صيد. ولم يكن المال ـ في كثير من الأحيان ـ الدّافع إلى اتّخاذ هذه الصّناعة، ففي سنة 1866 كان رئيس ’اللواطيّين‘ شابّاً قويّاً في العشرين من عمره ومن أسرة طيّبة يمكن اعتبارها من أحسن العائلات البرجوازيّة في المدينة ..." (المرجع السّابق: 294).

وهكذا ما إن أهلّ آخر زمن التّركيّة، حتّى وقعت حادثة نكراء، وفي مدينة الأبيّض تحديداً، عدّها البعض من الأسباب المباشرة التي أدّت إلى التفاف النّاس حول الثّورة المهديّة وقائدها. ففي الفترة التي قضاها المهدي بالأبيّض، قبيل إعلان دعوته، يروي إبراهيم فوزي (1319 هـ [1901م]، مج 2: 73-4) أنّ المهدي "... في ذات يوم سمع ضوضاء الطّبول والموسيقى بمنزل بجوار منزله، ورأى من النّاس الدّهشة والاستغراب. فسأل عن الأساب، فقيل له إنّ فلاناً النّخّاس يريد أن يتزوّج بغلام اسمه (قرفة). فلم يصدّق [المهدي ذلك] وأخيراً دعى [دعا] إثنين من أتباعه وذهبوا إلى محلّ البدعة، فوجدوا المدعوين والموائد ممدودة والموسيقى تصدح، والدّفوف تعزف. وجيء بشخص يلبس عمامةً وطيلساناً كالعلماء، فأجرى صيغة العقد، ودخل النّخّاس بالغلام. فأمسك المتهمدي [المتمهدي] سيفه وهمّ بضرب عنق النّخّاس وكلّ من قابله من أولئك الفسقة والضّالّين، فأمسكه صاحباه وحملاه إلى منزله. فاجتمع معه جماعة من المشايخ وذهبوا إلى الحكومة يشكون إليها أمر هذه المنكرات، فقوبلوا بالإهانة والازدراء، وقال لهم مامور الضّبطيّة (الدّنيا حرّة!).

ثمّ ينفي إبراهيم فوزي الحادثة قائلاً: "وبالبحث وإجراء التّحقيق من رجال الحومة تحقّق أنّ المسألة ألعوبة ولم يكن لها أثر من الحقيقة" (المرجع السّابق: 74). وقد لا يؤخذ برأيه هذا، إذ جاء في معرض دفاعه عن نظام الحكم الذي كان ينتمي إليه؛ فالحادثة لا تزال راسخة في التّاريخ الشّفاهي، بل تمتدّ إلى تحديد فخذ القبيلة التي ينتمي إليها أبطالُها. ولعلّ ممّا يؤكّد ما ذهب إليه من نفي عدم ورود هذه القصّة في مذكّرات يوسف ميخائيل (أبو شوك، 2004)، إذ لا بدّ وأن تكون قد هزّت مدينة صغيرة كالأبيّض التي عاش فيها يوسف ميخائيل، إذ لم تكن أكثر من قرية ممّا نعهد الآن. ولكن، في المقابل، التّوصيف الذي قدّمه أحمد أحمد سيد أحمد أعلاه للمخنّثين وعادة التّشبّه بالنّساء يمكن أن يتّخذ كبيّنة تدعم وقوع حادثة الأبيّض التي عمد إبراهيم فوزي باشا إلى نفيها؛ ففي ظاهرة سافرة كهذه من حيث التّشبّه بالنّساء، وفي ظلّ تحلّل من قبيل الذي تمّ وصفُه، لا يستبعد المرء تطوّر العلاقة المثليّة لتصبح زواجاً، تأسّيّاً بالعلاقة بين الذّكر والأنثى. في تحقيقه لمذكّرات مذكّرات يوسف ميخائيل عمد أبو شوك (2004: ش) إلى إدخال العاكفتين المتقابلتين ([]) إمّا يحذف حرف أو كلمة لا لزوم لها في أصل المخطوطة، أو لإدخال حرف أو كلمة يرى المحقّق أنّ الكلام لا يستقيم إلاّ بها. من هذا ما نقرؤه عند وصف يوسف ميخائيل عن تكاتف الجميع، وانتفاء الفوارق الاجتماعيّة والاقتصاديّة والطّبقيّة بين النّاس في سبيل بناء التّحصينات والخندق (القيقر) حول مدينة الأبيّض قبيل محاصرتها من قبل قوّات المهدي (2004: 82-1): "وفي هذا السّاعة صار العبد مع سيّده إخوان، والعسكري مع أولاد البلد تـ[ـيـ]ـمان، والو[ا]طي بقا مع الرّجال إخوان ...". وفي رأينا أنّ المحقّق قد جانبه الصّوب في موضع العاكفتين في مفردة (الو[ا]طي)، ولربّما فضّل أن يستفيد من مساحة التّحيّز العلمي الذي يسمح له به المقام هنا. فلو أنّه غيّر موضع العاكفتين، ثمّ أبدال الألف باللام، على النّحو التّالي: (الـ[ـلـ]ـوطي)، لاستقام المعنى بأكثر ممّا ذهب إليه. إذ ما هي دلالة "الواطي"، وما مدى مقابلتها لمفهوم الرّجولة؟ فاللواط، كما أشرنا إلى ذلك في المعتقد الشّعبي العام، يذهب بالرّجولة ويضع المرء في خانة أقرب إلى النّساء من الرّجال؛ ولذا يجوز مقابلته بالرّجولة. وعلى هذا يبقى الرّجال بجانب، ويبقى المثليّون بجانب آخر، كومين متمايزين، أللهمّ إلاّ في الملمّات الشّديدة، حيث يمكن أن يتّحدوا جميعاً، وهي لحظات استثنائيّة، عادةً ما تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه سابقاً.

استمرّ الحال، من حيث انتشار اللواط في الفترة المصريّة التّركيّة، على هذا المنوال حتّى زمن المهديّة حيث يذكر إبراهيم فوزي باشا (1901: 173-175) خبراً عن وجود الشّواذ جنسيّاً في المجتمع السّوداني خلال الحكم الاستعماري التّركي المصري، ويسمّيهم بالمخنّثين؛ ويحكي أنّ هذه الظّاهرة كانت منتشرة، حيث كان هؤلاء المخنّثون يُرسلون شعورهم ويتشبّهون بالنّساء، فضلاً عن افتتاحهم لأنفسهم دوراً قائمة على الدّعارة الذّكوريّة بجانب قِوادتهم للدّعارة الأنثويّة. وقد أخذتهم المهديّة في أوّل عهدها بالشّدّة، فسجنتهم واستتابتهم، وأرغمتهم على أداء الصّلوات ونبذ حياة التّخنّث. ولكن ما لبث أن صعد نجم هؤلاء بفضل بعض قيادات التّعايشة وأمرائهم الذين اصطفوا هؤلاء المخنّثين وضمّوهم إليهم ليعيشوا تحت أسقف منازلهم، وعلى رأسهم عثمان شيخ الدّين (ابن الخليفة عبدالله التّعايشي) والأمير محمود ود أحمد الذي ذاع عنه تعلّقه بأحد المخنّثين. ويختم إبراهيم فوزي إفادته بإدانة لهؤلاء الأمراء قائلاً: "كما إنّ العقل يستبعد سلامة أولئك الأمراء من التّلطّخ بأوضار تهمة اللواط أعاذنا الله منها" (المرجع السّابق: 175).

وقد وقعتُ على قصص مرويّة شفاهيّاً، دون أن أقع على توثيقٍ لها، تحكي عن تعامل الخليفة عبدالله مع هؤلاء. فمع الوفود المبايعة له جاء شيوخ المهن، مثل شيخ النّجارين، وشيخ الحدّادين إلخ؛ وفي الضّمن جاء شيخ المثليّين (الملاوطيّة)، فاحتجّ الخليفة في جرأة هؤلاء وقدومهم، فهدّأ القومُ من حوله من روعه، مشيرين إلى خطر هذه المجموعة وما يمكن أن تلعبه من دور سلبي في حال مباشرتهم بالعداوة. وصادف أنّ اسم شيخ المثليّين كان "عبدالله"، على اسم الخليفة. وعندما سأله الخليفة عن اسمه، ردّ بلباقة: "يسلم الاسم"، فشدّ طلب الخليفة للاسم، فردّ مرّة أخرى بلباقة: "الاسم سالم"، وذلك اتّقاءً لغضب الخليفة، فسار ذلك مثلاً، كما سار عليه الاسم "سالم". وقد سُرّ منه الخليفة أيّما سرور للباقته وحسن حديثه، فختم لقاءه بتعليق سار بدوره مثلاً: "الملاوطيّة قولكُم زين، إلاّ فعِلْكُم شين"، ثمّ صرفه. فيما بعد تؤكّد الرّوايات الشّفاهيّة إدخال الخليفة للمثليّين إلى السّجن (سجن السّاير). وقد حدث في إحدى زياراته إلى السّجن أن استقبله المثليّون بالزّغاريد، على عادة النّساء في التّرحيب، تسليماً منهم بما عليه أمرُهم، فضحك الخليفة، وكان رجلاً لا تفوته روح الدّعابة على قسوته المفرطة، فردّ ممازحاً لهم: "الملاوطيّة صوتكم سمِح بالحيل". ويحكي سلاطين باشا (1978: 264) عن أنّه "وُجد في السّودان في أوائل حكم الخليفة عبدالله قوم أمعنوا في ضروب الفساد وأطلقوا العنان لشهواتهم فعاقبهم الخليفة في مبدأ الأمر بنفيهم وتشريدهم إلى الرّجّاف، ولكنّه عدل عن ذلك بعد قليل من الزّمن وانتهى إلى حلّ حاسم وهو سهولة كبرى في معاملة شعب بعيد عن الأخلاق القويمة ...". فهل تُرى جاء قوله في معرض الإشارة إلى المثليّين ممّن أُطلق عليهم وصف المخنّثين؟

على أيٍّ، تُفيد هذه المحكيّات عن أنّ ظاهرة الشّذوذ الجنسي الرّجالي كانت مستشرية في المجتمع السّوداني الذي تسيطر عليه حرائك الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة خلال الاستعمار المصري التّركي وكذلك خلال حكم المهديّة. وبما أنّه لا توجد إفادات عن هذه الظّاهرة في فترة التي تسبق الاستعمار المصري التّركي (أو لم نقع عليها مع شدّتنا في طلبها، بما يمكن أن يعني محدوديّة الظّاهرة إن كانت موجودة)، يمكن القول باطمئنان كبير أنّ الاستعمار التّركي المصري هو الذي أرسى قواعدها، إن لم يكن قد أدخلها. وقد زاد تكريس هذه الظّاهرة خلال عقود الاستعمار البريطاني المصري منذ بدء القرن العشرين، إذ لم تتساهل فقط الإدارة البريطانيّة إزاء تحرّش موظّفيها وإداريّيها ومدرّسيها بأطفال المدارس وصغار موظّفي الدّولة، بل غضّت الطّرف عنهم عمداً تعويضاً لإداريّيها الذين كان أغلبُهم حديثي تخرّج من الجامعات، إذ ربّما لم تكن تسمح لهم شروط الخدمة القاسية، ذات الشّدّة، بأن يتزوّجوا إلاّ بعد سنوات من الخدمة. وربّما كان في المخطّط من وراء الإذن غير المباشر بالتّحرّش بالأطفال كسر كرامة رجال الغد في مجتمع مسلم محافظ يُنظر فيه إلى اللواط على أنّه يذهب برجولة الضّحيّة في حال التّحرّش، أو بصورة إجماليّة الشّخص الملوط.

تكرّست النّظرة الإزرائيّة فيما يتعلّق بذهاب ممارسة اللواط بالرّجولة في بنية الثّقافة العربيّة الإسلاميّة (بل في غالب الثّقافات في العالم) بافتراض أنّ المجامعة الجنسيّة لا تحدث إلاّ بين ذكرٍ وأنثى. وبالتّالي من يقع عليه فعل اللواط يحتلّ موقع المرأة، وبالتّالي لا يصبح رجلاً مكتمل الرّجولة. وبالفعل تماهى المثليّون في غالبهم الأعمّ مع هذه الفرضيّة، فتخنّثوا، أي أظهروا مخايل الأنوثة مع كونهم فيسيولوجيّاً رجال. كما زادت على ذلك الثّقافة العربيّة الإسلاميّة بمقايسة اللواط على قواعد اللغة النّحويّة، فأصبح لدينا مفهوم الفاعل والمفعول به. جاء في الأثر عن عكرمة، عن ابن عبّاس الحديث التّالي المنسوب إلى النّبي (ص): "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به". وقال سيّد سابق (1971، مج. 1: 275): "رواه الخمسة إلاّ النّسائي. قال في النّيل: وأخرجه الحاكم والبيهقي. وقال الحافظ: رجالُه موثوقون إلاّ أنّ فيه اختلافاً". فبرغم ثقاته إلاّ أنّ به اختلافاً؛ ومع كلّ هذا لم يشفع هذا الاختلاف في تخفيف حدّة التّصنيف والتّحميل. ولعلّ ممّا يُضعف هذا الحديث، على ما فيه من رواةٍ ثقاة، جودة سبك التّعبير الخطابي في مصطلحي "الفاعل" و"المفعول به"؛ فهنا شبهة ألاّ يكون هذا التّعبير قد تبلور إلاّ بعد أنّ تطوّر علم النّحو والصّرف واكتمل بناء مصطلحاته العلميّة. وكلّ هذا يتّفق مع السّلوك العام في الثّقافة الشّرقيّة القائمة على حرائك الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة التي ينتقص فيها اللواط من كرامة ورجولة المفعول به دون الفاعل (مع التّحفّظ لما في الخطاب الاصطلاحي من رنّة لفعل الاغتصاب). وربّما كانت منجاة الجاني (الفاعل) من المعرّة بسبب القوّة الماديّة للرّجل إزاء المرأة، وعلى هذا قيس وضع اللواط. أمّا منجاة الفاعل من مغبّة التّعيير المنتقص من الرّجولة في الفترة الاستعماريّة بالسّودان فقطعاً تعود إلى السّلطة التي التي كان يتمتّع بها الفاعل الاستعماري. بهذا ساءت سمعة المدارس النّظاميّة أوّل عهدها بالنّظر إليها على أنّها مفسدة للأولاد.

فشت ظاهرة التّحرّش الجنسي اللواطي خلال القرن العشرين على وجهٍ أخصّ في المراكز الحضريّة، وارتبطت بالمدارس وطبقة الأفنديّة، واشتُهر أكثر ما اشتُهر بها قطاع من المدرّسين ورؤساء الأقسام بدواوين الحكومة، ثمّ في مجالات حداثويّة أخرى مثل الرّياضة والغناء، ثمّ بين بعض السّاسة والمتنفذّين في جهاز الدّولة. وهكذا انتشرت ظاهرة اللواط بكثرة نسبيّة قبيل منتصف القرن العشرين واضمحلّت في أخرياته، ولا عجب، إذ كانت تتلقّى رعاية استعماريّة بمجرّد غضّ الطّرف عنها. وقد ساعد في انتشارها انتكاسة وضع المرأة في المراكز الحضريّة بخلاف وضعها في الرّيف. وهذا يشي بالوضع المقلوب للحداثة ممّا أفضنا فيه في مكوّنات إنسان أمدرمان. كما ساعد انفتاح المجتمع نوعيّاً في أخريات القرن العشرين، جرّاء تزايد تعليم البنات وانفتاحهنّ، على زوال واضمحلال الظّاهرة. ولا نعني بذلك انتهاء المثليّة، فهذا ممّا لا يمكن الزّعم به؛ ما نعنيه هو اختفاء ظاهرة التّحرّش الجنسي بالصّبيان (أو ثقافة الغلمان) بوصفها من مخايل الرّجولة والفحولة.

يخرج الصّبيان الذين تعرّضوا للاعتداء الجنسي، في المجتمع السّوداني المحكوم بمعياريّة الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة، وهم يعانون من جملة من المشاكل المرتبطة بالفهم الخاطئ للرّجولة، إذ عادةً ما ينشأون برجولة مجروحة ومشكوك فيها، وهكذا قد يخرجون للنّاس في مقبل أيّامهم بنفسيّة أذَويّة traumatized، مصابة بعدم الثقة في النفس. وبالتّالي قد تعمد هذه الشخصية لأن تكون تصالحية غير مهاجمة. وعلى هذا قد يحدث تماهي، فيقضون بقيّة حياتهم متصالحين مع حقيقة أنهم خُلقوا هكذا. ولكن هذا قد لا يعني رضاءهم فعليّاً وحقيقيّاً بهذا المصير، فقد تتولّد في دواخلهم أحقاد دفينة تجاه المجتمع ككلّ، وبخاصّة إزاء القطاعات التي تزدريهم. ومن بين رماد هذا الحقد الدّفين ربّما تتخلّق جرثومة نزعات لعنف كامن عميقاً في تلافيف النّفس وخفاياها اللاشعوريّة. وبالطّبع ليس أيسر من توظيف هذا العنف الكامن من قبل العديد من الجهات المستغلّة manipulative، التي لا يوجد "أشطر" منها في اكتشافه والانتباه لوجوده رغم كمونه. ولكن لا بدّ من توفّر التّهيّؤ النّفسي حتّى تقوم هذه الجهات بتحريك تكتيكاتها التي تأتي بأحد حالتين، الأولى إعلائيّة sublimative والثّانية انحطاطيّة degenerative.

يكمن التّكتيك الإعلائي في أن يقوم هذا الشّخص المأزوم (أو أن يُدفع ليقوم) بالانتماء إلى حركة فكريّة سياسيّة، أو أيّ تنظيم آخر، من المفترض أنّه يعمل في سبيل صالح المجتمع والإنسانيّة (كيفما اتّفق فكرُه)، وذلك إمّا تكفيراً أو تجاوزاً لجراحات النّفس الغائرة من ذلك الماضي الأذوي؛ وتأتي الحركات الإسلاميّة بخاصّةٍ والدّينيّة بعامّة كأحد أقوى المرشّحين لاستيعاب هذه الشّخصيّات المأزومة، وذلك كون الدّين يكفّر ويجُبّ ما قبله، على عكس الحركات اليساريّة الكلاسيكيّة، إذ ترفض هؤلاء وتعتبر ذلك الماضي نقيصة لا تُكملُها منجزات مقتبل العمر ومآلاته. وفي الحقيقة ظلّت تهمة التباس ماضي بعض منسوبي حركة الإخوان المسلمين بالمثليّة في مطلع شبابهم تطاردهم إلى الكهولة، بالحقّ أو بالباطل. من ذلك ما أورده شوقي ملاّسي (2004: 31) بخصوص أهداب التّهمة التي لاحقت زعيم حركة الإخوان المسلمين، شيخ حسن التّرابي، طيلة عمره منذ أيّام الطّلب بمدرسة حنتوب الثّانويّة، أوائل الخمسينات، والرّجل لا يعبأ بها في صمدانيّةٍ نضاليّة تستوجب الإعجاب. يقول ملاّسي: "مضى العام الدّراسي الثّالث هادئاً قبل أن تنفجر قنبلتان. كانت الأولى اجتماعيّة وغير هامّة، لكنّها شغلت المدرسة ومجتمعاتها زماناً. وقعت الحادثة في داخليّة أبو عنجة، التي كان يرأسها جعفر نميري، وعرفت بقصّة (كشكوش ـ التّرابي) عندما انتشر خبر عن اعتداء، أو محاولة اعتداء من الطالب كشكوش على الطّالب حسن التّرابي. وراجت قصص وسط الطّلاّب حول هذا الأمر، ونتج عن ذلك الحادث طرد الطّالب كشكوش من المدرسة، ثمّ طلب المستر براون [ناظر المدرسة] من الطّالب حسن التّرابي أن يستعدّ لامتحان الشّهادة من الصّفّ الثّالث. وبالفعل امتحن التّرابي ونجح في إحراز شهادة كيمبردج، متفوّقاً حتّى على زملائه الذين امتحنوا معه بعد إكمالهم للصّفّ الرّابع". بعد هذا يورد ملاّسي أنّ القنبلة الثّانية ذلك العام كانت تتعلّق بقرار وزير المعارف، عبد الرّحمن علي طه، بطرد مائة طالب من مدرسة خور طقّت الثّانويّة بالقرب من الأبيّض. ونقدّم هنا عدّة ملاحظات، أوّلها أنّ الحادثة غير مؤكّدة لشاهد عصر إذا ما كانت اعتداءً قد وقع أم محاولة اعتداء؛ ثانياً، لم يأبه ذلك المجتمع، ولا يزال غير آبهٍ، بهذه التّفصيلة المهمّة، فهو في تعطّشه الفضائحي يساوي بين وقوع الحدث وبين المحاول فيه؛ والمجتمع في هذا إنّما يتصرّف مثل مدمن المحدّرات الذي يتمنّى لو أنّ المجتمع كلّه قد أصبح مدمناً. فانتهاك أعراض الصّبية أصبحت منتشرة لدرجة انّ هناك تيّاراً غالباً يريد لأيّ صبي صغير أن يقع ضحيّة لهذه الظاهرة الغاشمة، أكان ذلك بالحقّ أم بالباطل؛ ثمّ فلنلاحظ كيف طوى النّسيان الجاني، بينما لم يتحرّر الضّحيّة من تبعة تهمة لم تثبت عليه بالدّليل القاطع.

ومن أكثر الإفادات جسارةً في هذا الشّأن ما نسبته بعض أعمدة الصّحف الموالية للحركة الإسلاميّة على لسان أحد الولاة (كرم الله عبّاس، والي القضارف) باتّهام بعض منسوبي الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) بممارسة اللواط وإمكانيّة فتح بيوت مخصّصة لهذا، مع التّهديد بإغلاقهاً. فقد جاء عن الوالي أنّه "... مضي في جنونه ليقول بالصّوت العالي إنّ هناك ممارسات لا أخلاقيّة، حتّى داخل حزب المؤتمر الوطني، متّهماً بعض أعضائه بممارسة أفعال قوم لوط، وحدّد أماكن بعينها لترك فتح [كذا] أبوابها لهؤلاء المنحرفين، مهدِّداً إيّاهم بإغلاقها خلال مدّة زمنيّة لا تنقص ولا تزيد" (عبد الماجد عبد الحميد، عمود صدى الخبر، "كرم الله عبّاس: سقوط القناع والعمامة"، جريدة الانتباهة، 8/5/2010، العدد رقم 1597). ولكن، الحقيقة التي لا يمكن أن يماري فيها النّاس أنّه لا يمكن حصر هذه الممارسة في فئة بعينها، ذلك أنّ المثليّة الذّكوريّة ليست سوى ثقافة استشرت بين طبقة الأفنديّة، وترسّخت منذ عقود سبقت قيام تنظيم الإخوان المسلمين بكثير. أللهمّ إلاّ أن يكون ذلك لغرض، مثلما هو الحال في الكيد لشيخ التّرابي.

أمّا التّكتيك الثّاني الانحطاطي، فهو أن يتمكّن الحقد من الشّخص المأزوم إلى درجة أن يصبح مستعدّاً للانتقام الذي لا يلحق بمن آذوه بالضّرورة، بل بالمجتمع الذي قد يبدو غير مبالٍ به ولا بما يعانيه. وأكثر التّنظيمات الملائمة لاستيعاب هؤلاء هي الأجهزة الأمنيّة في الأنظمة الديكتاتوريّة، حيث يضطلعون بمهام التّعذيب الوحشي الذي يشبع فيهم نهمَهم المرضي للانتقام. هناك أدلّة كثيرة تشير إلى أنّ أجهزة الأمن خلال نظام مايو قد لجأت إلى استخدام بعض ضحايا التّحرّش الجنسي الأطفالي، ممّن انتهى بهم الأمر على المثليّة، في غرف تعذيبها. كما هناك إفادات عديدة عن العنف المبالغ فيه الذي بدأ به نظام الإنقاذ الإسلامي، حيث يرى بعض المراقبين إمكانيّة أن يكون لهذا العامل دور كبير في صرعة التّعذيب الوحشي فيما عُرف ببيوت الأشباح. وحسب فهم ميشيل فوكو في مسألة الانضباط والعقاب، قد تكون هذه النّقلة العقابيّة التي لم يألفها المجتمع قد جاءت كتطوّر لتراكمات الحقد والكراهيّة الذّاتيّة والأخرويّة، مدّشنةً بذلك عهد انتهائها (راجع الفصل الثّامن أعلاه). ولكن مع هذا لا تخلو المسألة من محاولة لمقايسة الوضع في بعض الدّول المجاورة، العربيّة منها والأفريقيّة، بوضع السّودان.

هذا ما كان بخصوص التّحرّش الجنسي الذّكوري، وهو شيء ذو خطر في مجتمع تقليدي يربط المثليّة الجنسيّة بالأنوثة، وهذا ما استدعى التّعرّض له لتبيين أنّه شيء يختلف تماماً، الأمر الذي يوجب آليّة مختلفة للتّعامل معه، ومنذ الصّغر. أمّا النّوع الثّاني من التّحرّش الجنسي فهو ذلك الموجّه ضدّ المرأة وصغار الفتيات في العمل والمدارس والجامعات تباعاً، وهو ما سنتعرّض له أدناه، لكن ليس قبل التّعرّض للمثليّة بين النّساء.

التّحرّش الجنسي بالمرأة وظاهرة المثليّة النّسائيّة

فيما يتعلّق بالمثليّة النّسائيّة هناك مؤشّرات عديدة، ولكن مسكوت عنها بطبيعة الحال، تُشير إلى أنّها كانت قد استشرت إبّان العهد المايوي عندما كان تنظيم الاتّحاد الاشتراكي يدير شئون البلاد. وقد دخلت هذه الظّاهرة إلى غِيابة المسكوت عنه، وذلك بزوال نظام مايو الذي لم يكن سوى قائمة عرض طارئة لظاهرة ربّما كانت أرسخ قدماً منه. فالمؤكّد أنّ هذه الممارسة كظاهرة بدأت في منتصف القرن العشرين، وذلك تحديداً بامرأة من أصول شاميّة، وُلدت بالسّودان، ثمّ درست بالخارج وعادت إليه وهي ناضجة. وقد استهدفت نساء الأسر من الطّبقة المتميّزة اجتماعيّاً. بعد ذلك انتشرت هذه الظّاهرة بين النّساء والفتيات العاملات، أي اللائي خرجن للعمل. وربّما كان ذلك معاوضةً لتشدّدهنّ في التّعفّف من حيث علاقاتهنّ بالرّجال، وهو ما جعل المجتمع يقبل أن يخرجن للعمل. في منتصف ستّينات القرن العشرين استشرت هذه الظّاهرة بين العديد من النّساء العاملات في الخدمة العامّة، وتحديداً المهن التي ترخّص المجتمع للنّساء بمزاولتها كالتّعليم والتّمريض وخلافه، وبوجهٍ أخصّ انتشرت بين العاملات اللائي عشن حياة الدّاخليّات. وهكذا ما إن جاء نظام مايو حتّى خرجت هذه الظّاهرة إلى الضّوء، مستقوية بالوضع المائز الذي نالته المرأة أوّل سنيّ مايو. وقد تردّد حينها أن بلغ الأمر درجة قام معها الرّئيس نميري باستدعاء بعضهنّ، محذّراً لهنّ ممّا يفعلن. واليوم لا تزال المثليّة النّسائيّة تمارس، وبخاصّةٍ بين فتيات الجامعات، دون أن يبلغ المجتمع درجة ولو دنيا من الرّشاد والنّضج لمواجهة هذه الظّاهرة. وكيف يمكن لنا أن نحلم بهذا في مجتمع ازورّ عن مواجهة قضيّة دوليّة مثل مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)!

ولعلّ ممّا يجعل المثليّة النّسويّة كامنة في تلافيف قطاعات المجتمع وغير ملحوظة ذكوريّة المجتمع الطّاغية نفسها. إذ حكمت أيديولوجيا هذه الذّكوريّة على المرأة أن تتقلّص حركتُها في أضيق مجال ممكن. في هذا جاز استفراد النّساء بعضهنّ ببعض دون أن يُثير هذا شكوك الرّجل. ولهذا قد لا يلاحظ مجتمع الذّكور وجود هذه الظّاهرة بين نسائه، بينما تعجز النّساء عن تداول هذه القضايا بغية تعيير من يقعن تحت طائلة المثليّة منهنّ لذات التّابوهات المتعلّقة بالجنس إلاّ خلسةً. كما ساعدت ذكوريّة المجتمع الطّاغية في تجاهل هذه الظّاهرة من منطلق أنّ المثليّة النّسائيّة لا ضرر منها ولا خوف طالما أنّ المرأة لا تملك عضواً ذكريّاً، ذلك كون هذا العضو شرطاً لازماً لتشكّل التّابو الجنسي، هذا حتّى لو اصطنعت المرأة لها واحداً ممّا رفدت به التّكنولوجيا الحديثة. فذكوريّة المجتمع جعلته عاجزاً عن تصوّر أيّ مواضعة جنسيّة مكتملة بغير وجود الذّكر مع عضوٍ قادر على الانتصاب. وهذا هو السّبب وراء التّرخّص في مخالطة المخصيّين للنّساء في هذه المجتمعات؛ وهي ثقافة انتشرت وتمدّدت حتّى شملت جميع الخدم الذّكور، إذ ربّما تتصرّف نسوة البيت المتسيّدات أمامهنّ بغير احتشام وذلك باعتبار أنّه من غير الوارد أن تبلغ به رجولتُه المجروحة بالاستخدام المنزلي مبلغ أن يُستثار بسيّدته. فهذا الاستخدام، ولو كان بأجر مدفوع، ليس سوى ابن ثقافة الرّقّ كونه لا يُحبّذ الاستخدام المنزلي إلاّ من المجموعات التي كانت مؤسّسة الرّقّ تستهدفها تقليديّاً، مثل جبال النّوبة، الجنوب، وما شابه. في المقابل، قد يتماهى الخادم في طهرانيّة ظاهريّة مع مسكنة متغابية، من خلالها يكرّس لمكانته في الأسرة كخادم أمين (ولد بيت).

التّحرّش الجنسي بالمرأة واستعراض المرأة للرّجال في الشّارع

يعود التّحرّش الجنسي بالفتيات والنّساء في شمال السّودان والمراكز الحضريّة بعموم إلى الوضع المقلوب للمدينة من حيث الانفتاح النّوعي بين الجنسين. فقد حكمت المدينة في بدايات تشكّلها على المرأة أن تقرّ في بيتها فلا تخرج منه إلاّ لضرورة؛ هذا بينما رفيقتُها في الرّيف، بصورة عامّة، تشارك الرّجل العمل في الحقل وفي السّوق وفي كلّ مناحي الحياة. تمخّض عن هذا قانون اجتماعي مؤدّاه أنّ على المرأة أو الفتاة التي تخرج من منزلها أن تتحمّل مسئوليّة ما يحدث لها، وما يحدث لها هو بالطّبع التّحرش الجنسي الذي يبدو كما لو كانت قبيلة الرّجال قد توحّد رأيُها بخصوصه. فالرّجال، يتبعهُم الغاوون من الفتية والصّبيان، كما لو انعقدت مخايلُ الرّجولة عندهم على عدم تفويت أيّ فرصة للتّحرّش الجنسي بالمرأة متى ما كان ذلك متاحاً ولو بصورة عابرة؛ فمجرّد اقتراب المرأة أو الفتاة من الرّجل أو الفتى كفيل بأن يجعل الأخيرَين يسعيان للاحتكاك بها وملامسة جسدها كيفما اتّفق؛ فإمّا لكزاً بالكوع في خاصرتها إذا ما جلست بجانبه في المركبات العامّة، أو احتكاكاً بالأقدام تحت ستار المقاعد، أو غمزاً بخائنة الأعين، أو حتّى همزاً بالأصابع. هذا فضلاً عن التّحرّش اللفظي المفتوح في مشارع الطّرقات العامّة والذي عادةً ما يستهدف التّلميح إلى جسدها بأسلوب أقلّ ما يمكن وصفُه أنّه بذيء. هذا هو واقع الحال في المراكز الحضريّة من السّودان التي تطرح نفسها كنماذج لإعادة إنتاج الهوامش الرّيفيّة. والغرض النّهائي من هذا النّوع من التّحرّش الجنسي تكريس دونيّة المرأة وليس استدراجها بغية مواقعتها جنسيّاً بالضّرورة، مع إمكانيّة حدوث هذا في أيّ حالة مواتية.

تدهورت العلاقة النّوعيّة في السّودان خلال العقود الأخيرة إلى درجة أن أصبح التّحرّش الجنسي أساسها في الغالب الأعمّ. ومكمن التّدهور يعود إلى أنّ التّحرّش الجنسي قد حقّق طفرة، إذ لم يعد الغرض منه تكريس إحساس الرّجل بتفوّقه الذّكوري إزاء إحساس المرأة بدونيّتها الأنثويّة، بل تعدّاه ليصبح سلوكاً مؤسّسيّاً الغرض منه قهر المرأة من خلال التّعامل المباشر معها، بمعاكستها في عملها وإعاقتها في دراستها أو حرمانها من الخدمات الأساسيّة. كلّ هذا لحملها على الخضوع الجنسي إشباعاً لنهم الرّجل الذي عادةً ما يكون في موقع يمكّنه من إلحاق الأذى أو الضّرر الدّراسي أو الوظيفي أو الخدمي بها. وبلغ الأمر غايتَه الدّنيا من حيث الانحطاط عندما تحوّل إلى ابتزاز يقوم به العديد من الرّجال في أمكنة العمل أو في الجامعات، فإمّا أن تسمح لهم المرأة أو الفتاة بأن يضاجعوها، وإلاّ فاتتها التّرقية، أو حتّى الوظيفة نفسها، أو درجة النجاح مهما جدّ منها العزم وتجلّت فيها النّباهة.

حدث هذا التّدهور المريع في سياق بعينه يمكن تلخيصُه في ثلاثة عوامل، أوّلُها هو اتّحاد بنيتي الوعي التّناسلي والوعي البرجوازي، وهو أمر قديم، بيد أنّه تكرّس بغياب أيّ مشروع للحداثة، وهو ما لخّصناه في النّظرة الانحطاطيّة للرّجل إزاء المرأة وشعوره بأنّها ممّا يُشترى بالمال. ويعود هذا إلى سيادة مفهوم الشّرف المادّي الذي يستند على الجسد كمختبر مادّي للعفّة والطّهارة. وهذا يعكس بعد مجتمعاتنا عن مفهوم الشّرف كقيمة أخلاقيّة، جماليّة، يستمدّ محكوميّته من شفافيّة الجمال، لا غلاظة الجسد. أمّا العامل الثّاني فهو موجة الهوس الدّيني التي استحكمت في العقود الأخيرة، والتي لم ترَ في المرأة شيئاً بخلاف مظنّة الرّزيلة. وبما أنّ هذا النّمط من التّديّن عادةً ما يكون مهجوساً بالجنس، لذا نشط في تفويج الزّيجات بطريقة مهووسة تعكس درجة تهجيسه بالجنس وبالمرأة. كما عمل في نفس الوقت، محكوماً بتهجّساته الجنسيّة، إلى تشريع أنماط من الزّواج لم يعرفها المجتمع السّوداني المسلم، مثل زواج المسيار، لا نشداناً لفقهٍ حداثويٍّ ينقذ شبابَنا من تبكيت الضّمير إزاء موجة التّحرّر الجنسي، بل إشباعاً لرغباتهم الجنسيّة في المقام الأوّل بحيث يُتيح لهم مواقعات جنسيّة ميسّرة وبأقلّ تكلفة. أي الانجراف مع موجة التّحرّر الجنسي وبأقلّ التّكاليف، ولكن من منظور فقهي يعفيهم من المساءلة، كما لو كان المسّائل بشراً وليس الله. أمّا العامل الثّالث فكان انصياع مؤسّسة الدّولة، عبر أجهزتها الحزبيّة السّياسيّة للخطاب الدّيني العقابي، الانضباطي نفسه، للدّرجة التي كأن لم يعد للحكومات من مهام غير ضبط النّساء والفتيات خشية أن يأتين بالفاحشة. فلأن تغطّي النّساءُ رؤوسهنّ أصبح أعلى درجة عند الحكّام الملتاثين من النّظر إلى ما إذا كانت النّساء يتمتّعن بصحّة جيّدة، دع عنك أكل مال السُّحت وظلم النّاس وتقتيلهم بغير وجه حقّ، كما دع عنك التّفريط في الأرض.

وقد كان نتاج هذا كلّه أن زادت الرّزيلة بدرجة أصبحت فيها المرأة تُستعرض من قبل الرّجال في الشّوارع بغية إغوائها ومواقعتها في اجتراءٍ لم يعرفه المجتمع السّوداني من شماله إلى جنوبه، من غربه إلى شرقه في عقوده السّابقة. وظلّت قبيلة الرّجال في غالبها الأعمّ تنظر إلى هذا على أنّه من سيماء الفحولة وممّا لا يُعيب، بل يجلب المفخرة. وهكذا إن هي إلاّ زمن قليل حتّى تماهى قطاع من المرأة في ذات السّلوك، فأصبحت تستعرض الرّجالَ، ليس في زوايا الطّرقات المعتمة ليلاً فحسب، بل في رابعة النّهار والشّمسُ رأْد الضّحى، في انتظار من يقلُّها فيمنحُها بدرةً من مال، فتمنحُه جسدَها. بيد أنّ هذا لا يجلب لها أيّ مفخرة، ولا غرو، إذ تبوء بالعار المرأةُ وحدها. ثمّ بلغ الحال أن برزت النّساءُ العاملاتُ في الدّعارة الشّوارعيّة وهنّ محجّبات، منقّبات، تمويهاً وإغراءً، إذ ليس أشهى للرّجل الملتاث من مواقعة المرأة العصيّة، المحجوبة عن الرّجال ـ مظهراً لا مخبراً.

عند هذا يفقد المجتمع حسَّه العام common sense، وليس أقتل للمجتمعات من هذا. وهكذا لم يعد هناك معيار للطّهر والعفاف عند الرّجال أو النّساء، فانهزمت القيم إذ غابت مُمايِزاتُها. فالفُسق والعهر السّياسي لا محالة سيجلب معه كلّ أنواع الفسق والتّعهّر الأخلاقي. وهذه هي بالضّبط المسئوليّة الجماعيّة للدّولة، كونها آليّة تركيز الإرادة الجمعيّة. حقّاً، لقد أخرجت الإنقاذ أسوأ ما في الشّعب السّوداني



د. محمد جلال أحمد هاشم



تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
الجنس في الثقافة العربية
المشاهدات
2,325
آخر تحديث
أعلى