مدرسة اليونيتي الإنجليزية، ما تزال في موقعها القديم، على الجانب الشرقي، تحافظ على جذوتها البريطانية. أسوار عالية مؤلفة من الطوب الأحمر، كلّ طوبة مستقلة بموضعها، مؤتلفة مع غيرها.
في قبالة اليونيتي، كان عهده بالمركز الثقافي الأمريكي، قبلة المجتمع المخملي، إلى حدود الثمانينات من القرن المنصرم. هل كان يتوسطه فناء أندلسي؟ وهل بوسع الذاكرة ان تسعفه وقتما يشاء؟ بدا له أن في موضعه بناءاً اسمنتياً عليه لافتة مكتوب عليها "البنك الإسلامي السوداني".
كلية كومبوني، على الجهة الغربية، لم يتغير في مظهرها شيء. إطلالة رومانية، بدا له أنها مستوحاة في عمارتها من أبرشيات كورتونه، في نواحي فلورنسا، فناء واسع عريض، تحيط به مقصورات وغرف وقاعات تعبث بالخيال وتمضي به في كلَ وجهة ومسرب، تكاد معها ان تحسّ دبيب الرهبان والنسّاك؛ وأن تسمع صلصلة النواقيس الخافتة الخفيضة؛ وأن تلمح تلك الغلالة المجدولة من الأصوات والعطور والأضواء، المؤتلفة كلها في الألق الإيطالي المتأنق.
الطوب الأحمر، والحجر الرملي، كلاهما ممّا عرفه أهل السودان، من عهد كوش ونبتة ومروي. بدا له من مآثر الترك والانجليز أنهم أطَروا استخدام الطوب خاصَة، وحدَدوا ملامحه في الإنشاءات الإدارية والمصانع والأسواق.
لم يزل يذكر دكاكين نيالا ومتاجرها ومظلاتها وبرنداتها ذات الأقواس الحسنة الصنع، المؤلفة من الطوب الأحمر. كانت تلك البرندات ممرّاً ظليلاً للمشاة وأغلبهم من الأطفال، وكان على طرفي كلّ دكّان مكنة خياطة يديرها "ترزي"، وكان ممّن يذكر من "الترزية" أمام متجر أبيه، عبد الله علي رحمة. كان من أوسط فور، وكان ممَا يقربه منه، أناقة في الهندام ووضاءة في الوجه، واستقامة في الخلق، وكان يداعب الطفل ويناديه بلغة فور: "سولونقا ترتاس"، ويترجم له المعنى: عربي مطرطش".
ثم مضت الأيام والأعوام، وتفرّق شمل عمّار تلك المعاهد والديار، وسرّ الفتى بعد زمان حينما بلغه أن الرجل انتخب عمدة لاهله على امتداد شاطئي وادي "بلبل تمبسكو".
كانت تنتظم خلف متجر والده وما جاوره من متاجر، سوق نسوة تباع فيها الفاكهة والثمار والبقول والكسرة، وكان ممّا اعتاد عليه، وحسبه حقاً لا منازع عليه، أن يشتري منقة، من تلك السوق، ثم إن أباه فاجأه يوماً بأن حرمه شراء ما اعتاد عليه، فرأى في ذلك قسوة لم يعتدها من أبيه، فشقً عليه احتمالها، فبكى. ثم بدا له، بعد تعاقب السنين، أن شراءه المنقة بنفسه، وهو بعد طفل، من التدريب؛ وأن حرمانه منها يوماً أو يومين، من التأديب. ذلك كان نهج أبيه معه، وذلك كان نهجه، من بعد، هوناً مّا، مع بنيه.
على يمين الشارع المتّجه إلى الشمال، أنشأ اليهود في بدايات القرن المنصرم معبداً لهم. بناء مستطيل، محدود المساحة، عالي الأسوار، رشيق المداخل والأبواب، في واجهته نجمة داوود. لم يعد المعبد كما كان، تغيرت الواجهة وتبدلت الأبواب الضيقة، وبدا له أن الأسوار العالية الحذرة لم تتبدل، وأن مسحة المعابد اليهودية المنكفئة إلى داخلها، كما عهدها في البندقية وباريس، لم تزل بادية عليه، برغم اللافتة المنصوبة على واجهته، المكتوب عليها بخط ّعريض: (البنك الأهلي السوداني).
تذكر انه دخل "سيناغوغا" في فينيسيا البندقية. كان وقتها في حدّ الشباب وذروة سلطانه، يقود أكثر خطاه التطلّع والشغف والفضول والرغبة في المعرفة. نظروا إليه، فانكرت أعينهم ملامحه، وبان ذلك في وجوههم. كان راغباً في كشف طقوسهم وسماع نبرات أصواتهم، وأنغام تراتيلهم، وحركة أجسامهم، وهم في صلاة ودعاء.
كان ذلك من صبوات الشباب وغوايته وعنفوانه!
د. مصطفى أحمد علي
الخرطوم، أكتوبر 2018
في قبالة اليونيتي، كان عهده بالمركز الثقافي الأمريكي، قبلة المجتمع المخملي، إلى حدود الثمانينات من القرن المنصرم. هل كان يتوسطه فناء أندلسي؟ وهل بوسع الذاكرة ان تسعفه وقتما يشاء؟ بدا له أن في موضعه بناءاً اسمنتياً عليه لافتة مكتوب عليها "البنك الإسلامي السوداني".
كلية كومبوني، على الجهة الغربية، لم يتغير في مظهرها شيء. إطلالة رومانية، بدا له أنها مستوحاة في عمارتها من أبرشيات كورتونه، في نواحي فلورنسا، فناء واسع عريض، تحيط به مقصورات وغرف وقاعات تعبث بالخيال وتمضي به في كلَ وجهة ومسرب، تكاد معها ان تحسّ دبيب الرهبان والنسّاك؛ وأن تسمع صلصلة النواقيس الخافتة الخفيضة؛ وأن تلمح تلك الغلالة المجدولة من الأصوات والعطور والأضواء، المؤتلفة كلها في الألق الإيطالي المتأنق.
الطوب الأحمر، والحجر الرملي، كلاهما ممّا عرفه أهل السودان، من عهد كوش ونبتة ومروي. بدا له من مآثر الترك والانجليز أنهم أطَروا استخدام الطوب خاصَة، وحدَدوا ملامحه في الإنشاءات الإدارية والمصانع والأسواق.
لم يزل يذكر دكاكين نيالا ومتاجرها ومظلاتها وبرنداتها ذات الأقواس الحسنة الصنع، المؤلفة من الطوب الأحمر. كانت تلك البرندات ممرّاً ظليلاً للمشاة وأغلبهم من الأطفال، وكان على طرفي كلّ دكّان مكنة خياطة يديرها "ترزي"، وكان ممّن يذكر من "الترزية" أمام متجر أبيه، عبد الله علي رحمة. كان من أوسط فور، وكان ممَا يقربه منه، أناقة في الهندام ووضاءة في الوجه، واستقامة في الخلق، وكان يداعب الطفل ويناديه بلغة فور: "سولونقا ترتاس"، ويترجم له المعنى: عربي مطرطش".
ثم مضت الأيام والأعوام، وتفرّق شمل عمّار تلك المعاهد والديار، وسرّ الفتى بعد زمان حينما بلغه أن الرجل انتخب عمدة لاهله على امتداد شاطئي وادي "بلبل تمبسكو".
كانت تنتظم خلف متجر والده وما جاوره من متاجر، سوق نسوة تباع فيها الفاكهة والثمار والبقول والكسرة، وكان ممّا اعتاد عليه، وحسبه حقاً لا منازع عليه، أن يشتري منقة، من تلك السوق، ثم إن أباه فاجأه يوماً بأن حرمه شراء ما اعتاد عليه، فرأى في ذلك قسوة لم يعتدها من أبيه، فشقً عليه احتمالها، فبكى. ثم بدا له، بعد تعاقب السنين، أن شراءه المنقة بنفسه، وهو بعد طفل، من التدريب؛ وأن حرمانه منها يوماً أو يومين، من التأديب. ذلك كان نهج أبيه معه، وذلك كان نهجه، من بعد، هوناً مّا، مع بنيه.
على يمين الشارع المتّجه إلى الشمال، أنشأ اليهود في بدايات القرن المنصرم معبداً لهم. بناء مستطيل، محدود المساحة، عالي الأسوار، رشيق المداخل والأبواب، في واجهته نجمة داوود. لم يعد المعبد كما كان، تغيرت الواجهة وتبدلت الأبواب الضيقة، وبدا له أن الأسوار العالية الحذرة لم تتبدل، وأن مسحة المعابد اليهودية المنكفئة إلى داخلها، كما عهدها في البندقية وباريس، لم تزل بادية عليه، برغم اللافتة المنصوبة على واجهته، المكتوب عليها بخط ّعريض: (البنك الأهلي السوداني).
تذكر انه دخل "سيناغوغا" في فينيسيا البندقية. كان وقتها في حدّ الشباب وذروة سلطانه، يقود أكثر خطاه التطلّع والشغف والفضول والرغبة في المعرفة. نظروا إليه، فانكرت أعينهم ملامحه، وبان ذلك في وجوههم. كان راغباً في كشف طقوسهم وسماع نبرات أصواتهم، وأنغام تراتيلهم، وحركة أجسامهم، وهم في صلاة ودعاء.
كان ذلك من صبوات الشباب وغوايته وعنفوانه!
د. مصطفى أحمد علي
الخرطوم، أكتوبر 2018