علاوي كاظم كشيش - كزار حنتوش يدخل الجنة على عناد امريكا - وقائع ولادة جديدة

ماذا كنت تقول لموتك يا ابن الحنتوش
حتى روضتَ جسارته
فالموت عضوض
أسرع من ماشة خباز
وأصابع حلاق
في الديوانية
جاع الجوع وما جاع الشاعر
في رئتيه شمس عاشقة
من بلد النهرين
ومن الشطرة (رسميةُ) شاعرة
تلقط حب الكلمات وتزرعه
في الديوانية بين الشطرين
آخ يا ابن الحنتوش
تركت العيد بلا عيد
وانتبذتْ روحك سردابا نجفيا
حتى تولد بين أضالعنا
وأصابعنا وتذوب كبيض اللقلق فوق مواجعنا
علمنا يا انبل صعلوك
ماذا كنت تقول لموتك يا ابن الحنتوش
ومن المالك بينكما والمملوك

(لن أموت حتى آخذ معي شخصية عظيمة).هذا ما كان يقوله عراب الزهدي كزار حنتوش قبل موته، وعند ما مات أخذ صدام معه ولا يعرف احد كيف سيلتقيان هناك.....شاعر تضج الحياة والبساطة والعمق في دمه ودكتاتور ذهبت أمجاده الزائفة هباءا منثورا.

الصديق الشاعر صلاح السيلاوي أيقظني في الخامسة فجر يوم السبت 30/12/2006 وقال انا ذاهب الى الديوانية لحضور تشييع كزار حنتوش فوافني الى كراج كربلاء الموحد...صباح بارد جدا وريح شمالية لو أراد كزار ان يكتب عنها لقال تسمط سمط. قلت في سري هل هذا يوم تختاره لتدفن يا كزار..شحة دفء في حياتك وفي مماتك فلا غاز ولا نفط في بلد البترول منذ طفولتك وحتى الآن. ورحت اردد ما علق في وجداني من كلمات كزار:

يا من أسرفت بأكل الجمر على ريب
لم لم تبتلع الياء من اسم الحاج كليب
العيب العيب العيب
ثبرت الناس بهذا العيب
فبكم تشرى الأقية في سوق مريدي من هذا العيب

في الطريق الى الديوانية انطلق راديو السيارة بعد السادسة والنصف فجرا لينقل تفاصيل اعدام صدام كنا انا وصلاح السيلاوي نقلب أعمارنا بين الشاعر الذي غازل روح البربين وقميص الخباز والديوانية في قصائده وبين نهاية ديكتاتور أسس منهجا للقتل والكراهية والخراب.كنا نفلسف هذه المصادفة في التوقيت وتسائلنا هل ان كزار اثر على الحكومة لتقدم موعد إعدام الطاغية لكي يصحبه الى هناك؟. ربما فكزار له اسراره وسلطته وربما وصلت الى الحكومة.

في الديوانية أمام جامع الرسول كان حشد من الرجال قد تناثروا أمام باب الجامع بشتى الأصناف من كسبة وسياسيين وأدباء وكان في استقبالنا الشاعر ماجد موجد وهنا بدأت الحيرة والارتباك فقد اعتدنا ان نتداول اسم الحبيب كزار ونحن نبتسم وأما في هذا الموقف فقد عدنا أطفال حيارى لا ندري كيف نتصرف تبادلنا التعازي والعناق وكان الشاعر رياض الغريب الذي جاء من محافظة بابل قد بادرني بالعناق قائلا بأسى واضح ( متعودين) وهذه الكلمة تبادلناها في مجلس فاتحة المرحوم العزيز احمد آدم.قلت له نعم نحن متعودين.كانت في قلوبنا حسرة كبيرة ونحن نردد في سرنا يا حيف يا كزار لقد قتلك العرق ولكن ماجد موجد روى لنا تفاصيل موته فسررنا لهذه الميتة العظيمة وهون علينا الكثير اذ قال ان كزار يوم الخميس حضر أمسية تكريم زوجته الشاعرة رسمية محيبس زاير في جمعية الشعراء الشعبيين وبعد ان تم الاحتفال صعد وقرأ قصيدته في رسمية والمنشورة في ديوانه الأخير اسعد انسان في العالم وقال:

لولا بغداد وفيروز ورسمية
لاقترنت ضفدعة بي.

وبعد نزوله من المنصة سقط اثر نوبة قلبية أسكتته الى الأبد وفي مستشفى الديوانية تأكدوا من وفاته,قال ماجد موجد أنهم أعادوا جثمان كزار بعد تغسيله الى الجامع عصرا ولكنهم في الليل هو ومحمد الفرطوسي وآخرون عادوا الى الجامع واقنعوا الحارس بأنهم يودون توديع عزيزهم وقراءة الفاتحة له وكانوا من الشباك ينظرون الى كزار مسجى في تابوته وينادونه بطفولة كاملة: هَيْ ولك كزار انهض.

دخل الصعاليك الى التابوت وكشفوا وجه كزار وصوره وتحدثوا معه وتسامروا مودعين لأكثر من ساعة ثم انصرفوا على أمل تشييعه يوم السبت قلت لماجد هذا حدث في رواية كان كان العوام لجورج امادوا فقال نعم ونحن شئنا ان يكون وداع كزار وداعا غير تقليدي ولم نكن نعلم بجورج امادوا وكانكانه العوام حتى اخبرنا فراس الشاروط وأنت.اقتربت من جثمان كزار أنا وصلاح السيلاوي وماجد موجد وكانت اسعد وأعمق لحظة في حياتي.قبلناه وقرأت له مقطعا من سورة يس وقلت له يا كزار اذهب آمنا فمثلك لا يوصى ولا يرثى وربما سيستقبلك الله كما يستقبل الأطفال الأبرياء.قلت لماجد ان الامام علي الذي يحبه كزار الى حد العشق قد قال سيدخل الجنة أناس لا صاموا ولا صلوا ولكن على قدر عقولهم وطيبتهم.والله اعلم.

انطلق موكب التشييع تصدرته مجموعة لافتات لكن المذهل في هذا الموكب ان نعش كزار كان في وسط المشيعين الذين توافدوا وتنوعوا وكان عدد كبير من كسبة الديوانية اسمع حفيف خطاهم على اسفلت الشارع وسادهم صمت مهيب عبرنا جسر الديوانية وقرب مبنى البريد تذكرت قبل ست سنوات جئت الى الديوانية وذهبت مع كزار الذي كان مفلسا تماما الى البريد واستلم رسالة ليس فيها سوى الكلمات بينما كان ينتظر إعانة من صديق ما فهز يديه.وسألني كم صديق لديك فقلت كثيرون فهز يديه استخفافا وحسرة وقال لا تنتظر أحدا.بعد مبنى البريد بمسافة قليلة وقرب حافة الرصيف كانت قطة صغيرة دهستها سيارة قبل مرور موكبنا بلحظات ما زالت تنازع أنفاسها الأخيرة وخاصرتها تختلج بصعوبة مرت عليها أقدام المشيعين ولكن عيني سقطت عليها وأصابني حزن كبير وأدركت تماما ان كزار كان ينظر اليها من جوف التابوت.آه يا كزار. قال: دمعة كلب مهضوم تؤلمني..يا الهي هذا إنسان لم يقل فقط بل فعل ما قال.وراء الموكب كانت امراة تلفعت بعباءتها ولم تظهر سوى عين واحدة كانت تتابع الموكب بخطوات عجلى وكأننا سرقنا منها كزار قلت لماجد موجد هل هذه المرأة أخته.فقال لا ادري ولكن البارحة جاءت الى الجامع فتاة من كربلاء وأصرت على عناد جميع الرجال ان تدخل الى الجامع حيث نعش كزار قرب المحراب وقد انحنت على النعش وبكته بكاءا أبكانا جميعا واتضح فيما بعد انها يتيمة من كربلاء وكان قد رباها وهي صغيرة وهذه من أسرار كزار التي يفعلها قلبه الطيب ولا يفصح عنها.

خارج المدينة أردنا الانطلاق الى النجف وودعنا المشيعين ولكن مراسل العراقية التقى بدكتور لا اعرفه وراح هذا الدكتور يلوم السياسيين والمحافظ على عدم حضورهم التشييع ودخل في التنظير لهذه القضية فاحتججنا عليه وصاح به شاعر من شعراء الديوانية لم اعرفه من قبل وقال لهذا الدكتور يا دكتور ان كزار يكفيه هذا الحشد من الكسبة ودع الأمور على بساطتها.

في الطريق الى النجف صادفتنا صعوبات تجاوزناها مع السيطرات التي انتشرت على الطرق بمناسبة العيد وإعدام صدام كان كزار ومواقفه مثار حديثنا طيلة الطريق ولكنني أدركت نوعا من الانشراح والألفة عندما وصلنا مقبرة النجف وشاهدنا الآلاف من الزائرين يذهبون لزيارة قبور موتاهم في هذا اليوم وقلت لله درك يا كزار أينما ذهبت أحاط بك الفقراء والبسطاء.هل هذه مصادفة ان يجتمع الناس وتجتمع معهم أنزلنا النعش قرب مقبرة عائلته قلت للشاعر عقيل حبيب انزل من السيارة يا عقيل .فقال لماذا؟. قلت: لكي ندفن عزيزنا كزار ونعود. فقال: يا الهي ما هذه القسوة؟. أكملنا مراسيم الدفن وتركنا كزار هناك في سرداب العائلة البارد المظلم.قلت لأصحابي في طريق العودة الآن أصبحتم أحرارا وصار لأي منكم ان يعيد إنتاج كزار الذي في داخله.

انشغلنا في اخراج المشهد الذي سيلتقي فيه كزار مع صدام قال ماجد موجد ان كزار عندما يرى صدام سيقول له ولك لهنا وما خلصت منك...وكنا نضحك ببراءة وشجن. اما أنا فرأيت ان كزار سيرى صدام واقفا في الطابور أملا في دخول الجنة وسيتقدم منه كزار وباسلوبه الحصيف المهذب في مثل هذه الحالات وسيقول له: رجاءا أخي هذا طابور الفقراء فاذهب الى طابور القتلة. ظلت في قلبي رسمية الرائعة قيل لي أنها عندما سقط كزار كانت تدور حوله كالحمامة المذبوحة.تركت لها سلاما عند أدباء الديوانية لأنني لا أستطيع زيارتها في مثل هذه الظروف.

قرأت لقاء مع كزار على صفحات الزمان أجراه الصحفي خالد ايما من الديوانية في الثالث من كانون الأول الماضي ولأول مرة فتح نوافذه الكثيرة وقطف ثمارا ناضجة جدا لقراءه فقال: عندي بلاد لا تعدلها كل كنوز المهراجات..عندي شمس عراقية وحدائق ورسمية.باستطاعتي ان أدعو الموت باشارة من إصبعي فيغادرني مثل كلب وذيله بين ساقيه الخ الخ.وفي النهاية انا على يقين بأنني سأدخل الجنة على عناد أمريكا.المهم انني ولدت في بلاد ما بين النهرين وهذا شرف ما بعده شرف.

عدنا الى الديوانية وأقمنا مجلس الفاتحة في جامع الهندي وقضينا ليلتنا في بيت الشاعر محمد الفرطوسي وعدنا الى كربلاء يوم الأحد لنعايد عوائلنا. وفي داخلنا كزار جديد فتي لا يشيخ ابدا.

علاوي كاظم كشيش



  • Like
التفاعلات: الشاعر سعد جاسم
أعلى