"رسائل العُشّاق وهفوات الشُّعراء"
حين باحت الأديبة الأريبة غادة السّمان أخيراً برسائل غسان كنفاني العاشقة إليها، وطيّرت أوراقه في مهب رياح الأدب، أتاني صديقي متهللاً مبهور الأنفاس، ألقاها بين يدي، وقال:
- أريد أن أعرف رأيك!
استمهلته، وتصفحتها على عجل، وقلت وأنا ابتسم:
- هذا عاشق ساخط.
- ولماذا يسخط، بدل أن يتقلّب في مراتع الحب وجنباته؟
- سرّ سخطه يا عزيزي، أن السيدة غادة، لم تبد له جانب الود ولم تبادله لهفته أو شفت غليله حتى برسائل جوابية
- ولماذا ؟
- ببساطة لأنها امرأة متزوجة، ولها مكانة اجتماعية، عدا عن مكانتها الأدبية، التي تضع كل ما تفعل في دائرة الضوء، وعلى صفحات الجرائد، ومع ذلك فليس هذا هو السبب الحقيقي!
- هل تتلاعب بي يا رجل أم أنك تسخر مني؟
- لا هذا ولا ذاك، ولكن للأدباء دخائلهم وطرائقهم، فكأديبة وكامرأة، ستحتكم حتماً إلى ضميرها الخاص، وإلى غرائزها النسوية وحدسها، ولا شك أنها ستضع مشاعرها وأحاسيسها في الميزان، ربما قبل مكانتها حتى، وربما رأت أن لا تكون شريكا في مثل هذا الطيش، وأشفقت على غسان من أن تواجهه برفض فج، فاحتفظت بالأوراق، وتركت الباقي للزمن.
غسان بالطبع ليس بدعاً من الأمر، فقد وقع محمود درويش في حب مجندة يهودية، حباً أنكره هو ذاته، ولكن دون أن يتنكر له، فاكتفى بالعتاب:
بين ريتا وعيوني بندقية.
فهنا لا مساومة، ومع ذلك يعود ليقول: والذي يعرف ريتا ينحني ويصلي
لإله في العيون العسلية.
وقد علقت ناقداً أن هذا إكبار متكلف، وصورة شعرية ساذجة، ولا يمس الوجدان العربي، لأن تجسيد الإله أرث ثقافي أوروبي، أما عندنا فالتسبيح هو التعبير الصادق:
فلو قال:سبحان من خلق هاتين العينين:
لكان أبلغ في التعبير وأعمق في التأثير.
أما نزار قباني فكان عاشقاً مغامراً، وحتى هو لم يسلم من تعليق لاذعٍ من جانبي على أبياته: زيتية العينين لا تقلقي، وحينها صحت مستنكراً زيتية؟ زيتية؟
وصف لا يوحي بالجمال، عيون القط؟ لو قال عسلية مثلاً، حتى بُنيّة تخدم ضرورات القافية والوزن، أما زيتية فلا تصلح إلا للأكل.
صديقي الذي تعب من الإصغاء، قال آملاً ألا أخيبه وقد استبد به الفضول، وقد تركته أجوبتي أكثر حيرة، وتلهفاً لجوابٍ يشفي فضوله:
- ماذا عنك أنت،أنت شاعرٌ أيضاً، هل كتبت رسائل عشق، لامرأة بعينها، هل وقعت في الحب؟ هل بادلتك الشعور؟
- انا قصتي مختلفة يا عزيزي، فقد وقعت في الحب فعلاً، وكتبت رسائلي العاشقة، وأطلقتها في الفضاء المفتوح، أو أرسلتها أحياناً بالبريد.
- وكيف تلقتها؟
في حالتي كان هناك متسع للحديث، الحديث العابر وحتى المفعم بالمشاعر أحياناً، طريقتها في التقبل والإصغاء كانت ودودة ورائعة، وحتى تحفظاتها كانت تفصح أكثر مما تخفي.
لم تطل قصتنا كثيراً، فأنت تعرف تقلبات الحياة، ولكني لم أتوقف عن حبها يوماً واحداً ولا لحظة واحدة، وفي الحقيقة لم أرد منها شيئاً إلا أن تتقبل حبي لها وافتتاني بها، وها هي الأيام تجري وربما تصبح عجوزاً يوماً ما، ولكن صورتها لن تتغير في نظري، فصورتها مرسومة أبداً في قلبي هناك، حيث لا يطالها الزمن!
- وهل لا تزال تكتب لها الرسائل؟
- نعم في الفضاء المفتوح، وأنا واثقٌ أنها تقرؤها، وأن كلماتي تداعب مشاعرها، فأنا اوضحت لها أن حبي لها مجاني، لا يريد شيئاً بالمقابل، حتى أني قلت، يكفي أن تكوني هناك ليكون عالمي أجمل.
وكتبت لها مثلاً:
ما أجمل ضحكة عينيك أو : وجودك ابتسامة على شفاه العالم،
لا شك أنها تسر بكلماتي وربما تستبد بها الغبطة، ولكني لا أسألها، فأنا أحترم تحفظها، لا بل أحب ذاك التحفظ، كجزء من حبي لها!
- ولكن هل تقابلها ؟ هل تراها أحياناً؟
- نعم! ولكن في زحام العالم، الزحام الذي قد يفرد خلسة ركناً للحب، دون أن يحس احد بهُ.
ضرب صديقي الطاولة وهو يقول: لقد أمتعتني،هذا حبٌ حقيقي، وهذا كلام جميل، وانصرف راضياً، دون أن يلتفت إلي، لعله واقعٌ في الحُبّ هو الآخر!
نزار حسين راشد
حين باحت الأديبة الأريبة غادة السّمان أخيراً برسائل غسان كنفاني العاشقة إليها، وطيّرت أوراقه في مهب رياح الأدب، أتاني صديقي متهللاً مبهور الأنفاس، ألقاها بين يدي، وقال:
- أريد أن أعرف رأيك!
استمهلته، وتصفحتها على عجل، وقلت وأنا ابتسم:
- هذا عاشق ساخط.
- ولماذا يسخط، بدل أن يتقلّب في مراتع الحب وجنباته؟
- سرّ سخطه يا عزيزي، أن السيدة غادة، لم تبد له جانب الود ولم تبادله لهفته أو شفت غليله حتى برسائل جوابية
- ولماذا ؟
- ببساطة لأنها امرأة متزوجة، ولها مكانة اجتماعية، عدا عن مكانتها الأدبية، التي تضع كل ما تفعل في دائرة الضوء، وعلى صفحات الجرائد، ومع ذلك فليس هذا هو السبب الحقيقي!
- هل تتلاعب بي يا رجل أم أنك تسخر مني؟
- لا هذا ولا ذاك، ولكن للأدباء دخائلهم وطرائقهم، فكأديبة وكامرأة، ستحتكم حتماً إلى ضميرها الخاص، وإلى غرائزها النسوية وحدسها، ولا شك أنها ستضع مشاعرها وأحاسيسها في الميزان، ربما قبل مكانتها حتى، وربما رأت أن لا تكون شريكا في مثل هذا الطيش، وأشفقت على غسان من أن تواجهه برفض فج، فاحتفظت بالأوراق، وتركت الباقي للزمن.
غسان بالطبع ليس بدعاً من الأمر، فقد وقع محمود درويش في حب مجندة يهودية، حباً أنكره هو ذاته، ولكن دون أن يتنكر له، فاكتفى بالعتاب:
بين ريتا وعيوني بندقية.
فهنا لا مساومة، ومع ذلك يعود ليقول: والذي يعرف ريتا ينحني ويصلي
لإله في العيون العسلية.
وقد علقت ناقداً أن هذا إكبار متكلف، وصورة شعرية ساذجة، ولا يمس الوجدان العربي، لأن تجسيد الإله أرث ثقافي أوروبي، أما عندنا فالتسبيح هو التعبير الصادق:
فلو قال:سبحان من خلق هاتين العينين:
لكان أبلغ في التعبير وأعمق في التأثير.
أما نزار قباني فكان عاشقاً مغامراً، وحتى هو لم يسلم من تعليق لاذعٍ من جانبي على أبياته: زيتية العينين لا تقلقي، وحينها صحت مستنكراً زيتية؟ زيتية؟
وصف لا يوحي بالجمال، عيون القط؟ لو قال عسلية مثلاً، حتى بُنيّة تخدم ضرورات القافية والوزن، أما زيتية فلا تصلح إلا للأكل.
صديقي الذي تعب من الإصغاء، قال آملاً ألا أخيبه وقد استبد به الفضول، وقد تركته أجوبتي أكثر حيرة، وتلهفاً لجوابٍ يشفي فضوله:
- ماذا عنك أنت،أنت شاعرٌ أيضاً، هل كتبت رسائل عشق، لامرأة بعينها، هل وقعت في الحب؟ هل بادلتك الشعور؟
- انا قصتي مختلفة يا عزيزي، فقد وقعت في الحب فعلاً، وكتبت رسائلي العاشقة، وأطلقتها في الفضاء المفتوح، أو أرسلتها أحياناً بالبريد.
- وكيف تلقتها؟
في حالتي كان هناك متسع للحديث، الحديث العابر وحتى المفعم بالمشاعر أحياناً، طريقتها في التقبل والإصغاء كانت ودودة ورائعة، وحتى تحفظاتها كانت تفصح أكثر مما تخفي.
لم تطل قصتنا كثيراً، فأنت تعرف تقلبات الحياة، ولكني لم أتوقف عن حبها يوماً واحداً ولا لحظة واحدة، وفي الحقيقة لم أرد منها شيئاً إلا أن تتقبل حبي لها وافتتاني بها، وها هي الأيام تجري وربما تصبح عجوزاً يوماً ما، ولكن صورتها لن تتغير في نظري، فصورتها مرسومة أبداً في قلبي هناك، حيث لا يطالها الزمن!
- وهل لا تزال تكتب لها الرسائل؟
- نعم في الفضاء المفتوح، وأنا واثقٌ أنها تقرؤها، وأن كلماتي تداعب مشاعرها، فأنا اوضحت لها أن حبي لها مجاني، لا يريد شيئاً بالمقابل، حتى أني قلت، يكفي أن تكوني هناك ليكون عالمي أجمل.
وكتبت لها مثلاً:
ما أجمل ضحكة عينيك أو : وجودك ابتسامة على شفاه العالم،
لا شك أنها تسر بكلماتي وربما تستبد بها الغبطة، ولكني لا أسألها، فأنا أحترم تحفظها، لا بل أحب ذاك التحفظ، كجزء من حبي لها!
- ولكن هل تقابلها ؟ هل تراها أحياناً؟
- نعم! ولكن في زحام العالم، الزحام الذي قد يفرد خلسة ركناً للحب، دون أن يحس احد بهُ.
ضرب صديقي الطاولة وهو يقول: لقد أمتعتني،هذا حبٌ حقيقي، وهذا كلام جميل، وانصرف راضياً، دون أن يلتفت إلي، لعله واقعٌ في الحُبّ هو الآخر!
نزار حسين راشد