المعاصرة في الخط العربي هي عمل خطوط لم ترى سابقا وجذور هذه المعاصرة هي الخطوط القديمة. والتي زينت لقرون عديدة جدران المعالم المعمارية، وكذلك ما وصل الينا من الخطوط في اللوحات والكتب.
الخطوط القديمة عملت بمدن كثيرة وعلى مساحات شاسعة، تقع ما بين الصين والاندلس. وعلى مدة زمنية تقارب الالف سنة.
ولا يمكن معاصرة الخط دون معرفة ما أعطته لنا هذه الخطوط القديمة.
تغيرت أشكال الحروف العربية عدة مرات ضمن اساليب كثيرة ومتنوعة. حتى وصلت الى خط الثلث، أهم الخطوط وأكثرها ثراء. ولكن الرغبة البشرية بالتطور والتي اعطتنا خط الثلث، هي التي تدعونا الآن الى الضرورة بعمل خطوط اخرى تعكس اجواء العصرالذي نعيش فيه. لأن كوفي المصاحف قبل الف سنة كان أجمل الخطوط وسيدها في وقته. وأحتج الكثير في القرن العاشرعلى استخدام اساليب اخرى بدله. ولو طبقت افكارالمحتجين في ذلك العصر لما حصلنا على روائع الاساليب الخطية التي نعرفها اليوم ولا حتى خط الثلث.
استعمل الخط العربي في مجالات عديدة داخل المدينة الاسلامية، منها ماخط على الورق للقراءة. ومنها مانفذ على الجدران كديكور، للرؤية أكثر منه للقراءة. كما ان الكثير من الحاجيات المستعملة في الحياة اليومية زينت أيضا بالخط، وكل استعمال جديد فرض تحوير وابتكار للخط لملائمة الاحتياجات الجديدة.
وانطلاقا من معرفة هذا التاريخ الثري للخط العربي، أكتب هذه الصفحات حول استعمال الخط بمجال الفن التشكيلي، أي لايعني هذا المقال المطالبة بتغيير كل الخط العربي نحو تعبير تشكيلي معاصر، انما التفكير بأضافة جديدة الى جانب كل الاساليب التي وصلت الينا.
أول مرة صعدت الكلمات المخطوطة من الكتاب الى الجدار تعود الى نهاية القرن السابع الميلادي عندما بنيت قبة الصخرة، وتطلب الديكور الداخلي تزيين الجدران، فكبرت الكلمات المقدسة من كوفي المصاحف ورسمت على الجدران بفصوص الفسيفساء ( وهي قطع من الزجاج أو الحجر الملون ) فنرى عشرات الامتار من السطورالمخطوطة، والتي لازالت في مكانها حتى يومنا الحاضر.
نرى في هذه الخطوط تأثير الفصوص الملونة على شكل الخط، وهو التحول الجديد الذي طرأ على شكل الخط الكوفي الاول، أي كوفي المصاحف. والذي كان يخط بالقلم. وهذه البداية بأستعمال الخط في ديكور المعالم الاسلامية أصبحت فيما بعد قاعدة تطبق على كل المعالم المعمارية في المدينة الاسلامية ولحد يومنا الحالي. وهكذا لم تستعمل الصور ولا التماثيل في ديكور المدينة الاسلامية الا نادرا. وبقيت الصور صغيرة في الكتب فقط.
هنالك استعمال آخر للفسيفساء، في محراب المسجد الجامع في قرطبة ـ القرن العاشر الميلادي ـ لازال هو الآخر موجودا حتى يومنا الحاضر. وتتميز خطوطه الكوفية بجماليات جديدة لا تشابه خطوط قبة الصخرة. كما ألغى الخطاط الفراغ بين الكلمات تماما، وبهدف جمالي بحت.
ومن نص لإبن عذاري:
يوضح التقاء الفنون حول البحر المتوسط في ذلك الزمن.
( عندما طلب الخليفة الحكم الثاني من امبراطور بيزنطة ارسال فصوص الفسيفساء وبعض الصناع لتزيين المسجد الجامع في قرطبة، حضر بالفعل صانع بيزنطي ساهم في وضعها بمكانها وعلم طائفة من صنّاع قرطبة هذه الصناعة )
ونرى مع مرور الزمن اشكالاً مختلفة ومواد متعددة لخط الحرف العربي على البنايات لاحصر لها. ولم تولد هذه الخطوط من لاشيء انما من تكاثف التجارب الكثيرة، ولجهود اجيال متعددة من الخطاطين والمهنيين.
يذهب المظهر الجمالي للحرف الى ابعد من خط كلمات للقراءة، اذ تحورت الحروف وأتخذت اشكالاً تعود لرغبة الخطاط في الابداع من جهة، والى تأثير المواد المستعملة للخط من جهة اخرى. فالخطوط الرهيفة التي عملت من الطين المفخور لاتشابه الخطوط الصلدة المنحوتة على الحجر. كذلك فرضت المساحات المعطاة للخطاط اشكالاً للحروف تتناسب مع هذه المساحات، كالمربع والمثلث والدائرة والمستطيل.
وغالبا ماعمل الخطاط سابقاً تكوينات من عدة كلمات، وعند خط هذه التكوينات، يعرف الخطاط من اول حرف يخطه اين ستكون مواقع الحروف الاخرى، وحتى آخر حرف للعبارة المخطوطة. وان هذه التكوينات الخطية هي ابداع جديد يعود الى القرن الرابع عشر الميلادي وخصوصا في الخطوط المملوكية.
تكمن اهمية تكوينات الخط في كونها تدفع المشاهد للتخيل، عبر الشكل المتشابك للحروف، من أجل التوصل لقراءة النص المخطوط. فتتجول العيون في حركات الحروف وأشكالها الصاعدة والمدورة. وبوعي او بلا وعي يتأثر المشاهد ايضاً بما تعكسه المادة التي عمل منها الخط.
الكلمات لها معنى، وشكل الخط معروف ومدروس، ولكن هنالك شيء ثالث يولد من تخيلات المشاهد عند رؤية الخط، وهذا الشيء هو المهم في الخط وهو الذي يجعله فن كباقي الفنون الاخرى.
كل مادة لها طاقاتها التعبيرية، فمادة الطابوق هي الطين المفخور والذي يوحي بالنار. بينما عندما يلوّن الطابوق بالازرق ويزجج ( السيراميك ) فأنه يوحي بالماء. وعندما تغرق جدران السيراميك في أشعة الشمس تنبهر العيون بالالوان الذهبية والفروق الرهيفة بداخلها، حيث ترى العين ذبذبات الضوء على وداخل السيراميك.
الكلمات التي خطت بالطابوق وما سمي ( بالكوفي الهندسي ) تأخذ شكلاً مبسطاً
جداً، ولكن هذا التبسيط ليس سهلاً، اذ يرفع الخطاط كل مايمكن حذفه مع الابقاء
على الاساسي والجوهري فقط.
توصل الخطاط دائما الى اختزال جريء من أجل ادخال الحروف بالمكان المخصص لها. وهذه البحوث والخلق والابتكارالمستمر للحرف العربي كانت في كل مكان، على الحاجيات المستعملة في الحياة اليومية كالاواني والمصابيح أو على الجدران العالية.
بشكل عام لايوجد فرق في الفن الاسلامي بين خطوط بناية شاهقة، أو خطوط اناء من الخزف أو علبة من النحاس. القيمة الفنية هي واحدة، الجمال هنا يكون أيضاً في التماثل والتكرار. في الظل والنور. في التوازن والتقابل. فيولد عالم من السحر، في حروف جديدة لم تــُرى من قبل. يوم كانت مخيلة الخطاط تبدع خطوط جديدة لكل مكان جديد. وان ابداع كهذا اليوم سوف يعطي المعاصرة للخط العربي.
وكل هذه الابتكارات في الخط كانت تنشط مخيلة البشر. وتشهد على ذلك هذه السطور من رسالة للقاضي الفاضل:
من ألفات ألفت الهمزات غصونها حمائم
ومن لامات بعدها يحسدها المحب على عناق قدودها النواعم
ومن واوات ذكرت ما في وجنة الاصداغ من العطفات
ومن ميمات دنت الافواه من ثغرها لتنال الرشفات
ومن سينات كأنها الثنايا في تلك الثغور
ومن دالات دلت على الطاعة لكاتبها بأنحناء الظهور
النظر هنا يتوجه الى جماليات الحروف وليس الى معاني الكلمات. فالكلمات المخطوطة تعطي الشكل، وكل شكل نراه يوحي لنا بأشياء لها علاقة بذاكرتنا. علاقة غامضة بما نكتنزه من رسوم سجلت في الذاكرة منذ الطفولة. وهكذا ان ايحاءات اللامرئي هي التي تعطي القيمة للخط.
وعن الفراغ خلف الخطوط يقول ابي اسحاق الصابي:
اذا رقشت بيض الصحائف خلتها تطرز بالظلماء أردية الشمس
وتوجد خطوط كثيرة اهتم الخطاط فيها بالفراغ المحيط بالحروف. اهتمام يعادل اهتمامه بالحروف نفسها.
الحروف المتكررة تخلق في ذهن المشاهد الايحاء بحركية مستمرة. بتدفق الالفات واللامات وتتابع الحروف المستديرة في نغم متوازن مابين جسم الحرف واللاجسم المحيط به.
بعض الخطوط تأثرت بالزخرفة المحيطة بها وشابهتها. ففي جوار الزخارف النباتية نرى حروفاً مرنة مستديرة. وفي جوار الزخرفة النجمية نرى حروفا كوفية مستقيمة. وفي أكثر الاحيان كان الخطاط القديم هو الذي يرسم الزخارف ويبتكر أشكالها. ولم يكن الخطاط يرسم الزخارف النباتية كما تراها العين، انما كما يفهمها هندسياً. فتحورت أشكال الاغصان والاوراق والزهور الى رسوم تخضع لمفهوم هندسي. بينما ان نفس الاشكال في الحديقة تكون خاضعة لمؤثرات ضغوط الفضاء وسحب الجاذبية الارضية والرياح والامطار فتكون اشكالها مختلفة بأستمرار عن شكلها الجوهري. كذلك ان الزخارف الهندسية كانت تخفي بداخلها مفاهيم المربعات السحرية الآتية من علم الفلك. ولم تكن مجرد رسوم لمليء الفراغ. انما اعطيت معاني ترتبط بالكواكب السماوية.
كان الخطاط يعيد رسم الزخارف ويحور هياكلها لتتناسب والفضاء الممنوح لها من قبل المعماري، ولكي تدخل المساحات المحددة لها دون زيادة أو نقصان. وهكذا كان فن الخط مكملا لفن المعمار، ولو ترفع الخطوط والزخارف من مكانها لفقدت البناية الكثير من أهميتها.
يتجه الفن الحديث في عالم اليوم الى اساليب تبدوا لأول وهلة وكأنها ناقصة وغير مكتملة. وهدف الفنان من ذلك انه يريد ان يساهم المشاهد أيضاً في اكمال النواقص وتخيلها مما يدفعه للمساهمة في العمل الفني، فيشعر بأنه هو فنان أيضاً. وذلك بالرجوع الى حدسه ومعرفته الفطرية للجوهر الهندسي والى عوالمه الغامضة وثقافته العامة. وهنا تكمن أهمية دور الفن في المساهمة بأعلاء النفس البشرية.
نرى في الخط العربي مثل هذه الحالة في صعوبة القراءة لكل ماهو على الجدران، وكذلك في خطوط التشكيلات كالطغرة مثلا، حيث يتحير المشاهد في تفكيك الكلمات لمعرفة النص. ولكن هذه الحيرة والبحث عن لغزالخطوط تقود من يكون صبورا الى معرفة اسرار الخط. وبذلك يصل الى معرفة جديدة وارتفاع حسي وذهني. وكل ارتفاع للانسان انما هو مساهمة بارتفاع الحياة.
كان موضوع البحث الفني دائماً في موازاة كل البحوث البشرية الاخرى حول الوجود والكينونة. عبر عملية الابداع والخلق المستمر الذي نراه في تاريخ الفن لكل الشعوب.
خلق اشكال لم تــُرى سابقاً. انما هي معرفة جديدة وأجواء جديدة تجد لها صدى عند نفسية المشاهد، ولها تأثير على كل النشاطات البشرية، وبالتالي هي نفسها مانسميه الحضارة.
فالحضارة ماهي الا تراكم مجموعات من النتاجات الفنية والادبية والعلمية المبتكرة في مكان ما، فتصبح فيما بعد كتراث وأرث للاجيال التي تتعاقب في نفس المكان.
الشكل في الخط يمكن ان يكون كتعدد المظاهر لموضوع واحد في الجوهر. مثل الحروف التي هي بالاصل تملك شكل واحد لكنما كل اسلوب أعطاها مظهرا مختلفا وغير شكلها فيما بعد.
خلف الحروف هنالك هياكل هندسية يلبسها الخطاط عبارات جديدة في كل مرة يبتكر فيها تكوين جديد.
وان الفراغ المحيط بالحروف هو الآخر يتجدد في كل مرة يتغير فيها شكل الحرف. ففي كل جملة جديدة يعيد الخطاط توزيع الفضاء حول الحروف من جديد، بهدف الوصول الى توازن مرئي. تماماً كالانغام الموسيقية اذ تستمر الاصوات مابين لحظات صامتة.
الاهتمام بما هو خلف الحروف انما هو جوهر فن الخط العربي. اذ ان الحروف سبق وان تعرف عليها الخطاط. لكنما الفراغ حول الحروف هو جديد عند خط كل عبارة جديدة. ويمكن القول ان التحكم في هذا الفراغ هو الذي يعطي الخط جمالياته.
وعند الاختزال والاختصار للنصوص المخطوطة تتكاثف المعطيات الجمالية. فيكون القليل يوحي بالكثير، من خلال الشكل والمعنى. وهنالك خطوط استلهمت الطبيعة كالاشجار والغيوم والجبال، كالكوفي المزهر. يقلد الفنان الطبيعة ليس كما ترى بالعين انما باستلهام طريقتها وعاداتها وهيآتها.
كل خطاط تقوده احساساته الواعية واللاواعية في عالم الفن فيختار هذا الاسلوب أو ذاك. فأن الخط ككل الفنون الاخرى هو عمل حضاري يبتديء بتقنية صعبة في حروف متحركة وحية تريد ايجاد التعادل بين السحب والدفع. أو بين الثبات والطيران. تريد تعادل بين الكتلة المخطوطة والفراغ الذي تحل به. فتحاول الكلمات ايجاد الالتئام دون التضحية بجمالياتها.
الكتابة العربية فيها حروف صاعدة على الخط الافقي كالالف واللام، وأخرى مستلقية كالسين والباء، وثالثة معلقة كالحاء والميم في آخر الكلمة. ووجود كل حرف انما هو مرتبط بوجود الحروف الاخرى. حيث يشكل الكل وحدة متكاملة.
كالهياكل العالية، صاعدة بحيوية الى الاعلى، تريد خلق التوازن مابين ثقل الحروف وضغوط الفضاء، فتتحول الكلمات الى طاقة مضغوطة داخل حروفها. وهكذا اضطر الخطاط دائماً الى تغيير اشكال الحروف في كل كلمة وداخل كل سطر وتكوين.
... وعلى حسب تمكن ( الخطاط ) من ادارة قلمه وسرعة يده في الدوران يكون صفاء جوهر حروفه ...
الشيخ عماد الدين بن العفيف
ويصف ابن المعتز خطوط احد الخطاطين وكيفية توصله لتعادل منغم بين الحروف والفراغ:
اذا أخذ القرطاس خلت يمينه تفتح نوراً أو تنظم جوهرا
هنالك مجالات في الخط للتعبير أبعد من الكلمات نفسها، فأن المدات في الخط مثلا ما هي الا مجال الخطاط في الحلم والتخيلات ومكان حريته الواسع، يتصرف في المدة كما يحب. والمدات هي ليست حروفا انما هي زيادة أو تطويل للحرف.
وعن المدات يقول أبو جعفر النحاس:
...المدات تــُحسن الخط وتفخمه في مكان، كما يحسن مد الصوت اللفظ ويفخمه في مكان...
وهذه المدات سمحت للخطاط في استغلالها لعمل التكوينات الخطية، والتكوين هو التفاف الكلمات وحروفها حول بعضها البعض، تتقارب الحروف لتوحي بالقوة والصلابة، وبتقاربها المنغم توحي بالارتباط حتى لو كانت منفصلة، لانها تطيع قانون الحركة المستديرة والمتجددة كالجذب المغناطيسي.
توحي الكلمات مرة بالبطيء وأخرى بالسرعة، هنالك خطوط ثابتة وأخرى ذات حركات سريعة كالرياح والبرق، وهذه الانطباعات ماهي الا رغبات وافكار آتية من رؤى الخطاط الفنية. استوحاها من جوهر اشكال الطبيعة.
النبتة الصاعدة تلاقي في صعودها ضغط الفضاء الذي يجبرها على الانحناء. تقاوم للوقوف والصعود عالياً. فتولد لهذه النبتة خطوط مستقيمة تخفي بداخلها خطوط منحنية. او خطوط منحنية تخفي خطوطا مستقيمة بداخلها. وكمثال فأن جذع الشجرة كما نراه من بعيد يكون مستقيما، ولكنه في الحقيقة ملتويا على نفسه. ونرى ذلك عندما نقترب منه ونتمعن النظر في خطوطه الصاعدة. وهذه هي اسرار الطبيعة والتي يمكن ان تدخل الخط فتكون من اسرار قوته.
كل هذه الاشكال هي اشكال سليمة ولدتها الطبيعة، وهي اشكال حية للتعبير عن الحياة، ومن خلالها يمكن للخطاط استلهام اشكال جديدة لاثراء تجربته الفنية. فالخط المستقيم كخط المسطرة هو خط ميت لا حياة فيه. بينما لو يخفي هذا الخط المستقيم خطا منحنيا بداخله يكون أكثر قوة وأكثر جمالا، كالالف في خط الثلث مثلا وكل الانحناءات المخفية بداخله.
الخط الجميل قد يكون في حركتين أو ثلاثة، ولا توجد ضرورة لكلمات كثيرة. على شرط ان يعبر القليل بقوة كالكثير.
كل حرف له بناء خاص وقياسات معروفة، وعندما يحتوي هذا الشكل المادة اللونية فيكون كأناء من الزجاج يوحي ما بداخله.
خط الف حرف هو شيء ممكن، لكن الصعوبة تكمن في خط حرف واحد فقط يحوي قوة الف حرف. وخط هذا الحرف الواحد لايعني السهولة. انما لصقله واعطائه طاقة تعبيرية لابد من تكرار خطه الف مرة.
ان كان الشعر أحد الينابيع المهمة لألهام الخط الحديث، فأن أشكال وحركات الرقص أيضاً يمكنها أن تلهمه. أن جسم الانسان له محور عمودي وكل حركاته تكون بالنسبة الى هذا المحور. فعندما يعوم الراقص في الفضاء بحركات ذات طاقة عالية في السرعة والبطيء، القوة والرهافة، الثقل والخفة، الصعود والهبوط، انذاك يمكن للخطاط وعي حركات أشكاله الخطية. كما الراقص في حركاته السريعة يجد الحلول الآنية المتناغمة لكل عقبة. يمكن ايضا للخطاط عبر الحدس والمعلومات المتراكمة في الذهن واللاوعي أن يجد حلول للعقبات التي يصادفها اثناء الخط.
الموسيقى أيضاً يمكنها أن تلهم الخطاط، لأن الاصوات الموسيقية هي في تعاقب زمني منغم. توازي تردد الحروف العربية المتناغمة مع الفراغ المحيط بها. وبمظهرالحروف المخطوطة السميك مرة والنحيف مرة اخرى، يمكنها ان توحي بالتحرك داخل المساحة المحددة للورقة.
يتخيل الخطاط قبل البدء شكل الهيكل الذي سوف يلبس الحروف العربية، وعندما تكون الرؤية واضحة في الذهن، يدفع الخطاط يده لرسم هذا التكوين عبر الحركات الدائرية والمستقيمة. وأحيانا تدخل الصدفة في الخط الحديث فتأتي اشكال اهملت ونسيت منذ زمن طويل، لكنها بقيت مسجلة في اعماق الخطاط.
... أنظر الى الحروف كيف وضعت على الطبائع، والى الطبائع كيف وضعت على الحروف، وكيف تنتقل الطبائع الى الحروف والحروف الى الطبائع.
جابر بن حيان
وهكذا يمكن في الخط ان توحي الكلمة بأشياء غير الكلمة نفسها، وكل مشاهد قد يتخيل أشياء تختلف من الواحد للآخر. ان من يتأمل الحركات الخطية يمكنه ان
يدخل نفس عالم التخيلات والرؤى عند الخطاط نفسه.
تعكس الخطوط اهتمامات الخطاط المتعددة في ابراز النور والظلال، واعطاء أهمية للحبر وبقية المواد اللونية. واختيار النصوص التي تعبر عن فكر الخطاط.
الالوان هي ضوء ومادة. الشفافة والنقية منها توحي بالنور. اما الالوان الترابية فأنها توحي بالعتمة.
من الضروري للخطاط التعرف على جوهر الالوان وكيفية صناعتها. أو تحسين الاصباغ المباعة في الاسواق. للتوصل الى ألوان تختلف من خطاط لآخر، ولكي تعبر عن رغبات وأحاسيس الخطاط في لحظة الخط، وكذلك لتعبر عن رغبة المشاهد فيما بعد. ان نوعية المادة اللونية تترك تأثيرا على نفس المشاهد. وهي من أهم الاشياء في اللوحة.
آلة الخط الاساسية هي القصبة ولكن لابد من ابتكار ألآت اخرى للخط الحديث. ألآت تعطي للحروف اشكال جديدة. على ان لايكون هنالك انفصام وأنقطاع تام مع الاشكال القديمة للخط العربي ومظاهرها. الرغبة هنا هي تطوير الخط العربي وأضافة شيء جديد واعطاء نكهة معاصرة للحروف. والمفروض ان يدرك المشاهد انتماء الخط الحديث الى اصل يعود للخطوط القديمة، وهذا الانتماء يجب ان يكون ظاهرا من اول لحظة.
زمن خط كل حرف يدخل في الحرف نفسه، ويمكن لعين المشاهد ان تخمن بطيء الخطاط او سرعته. وهكذا يوحي الحرف بالزمن الذي يسكن داخله. وبالحدس يدرك المشاهد كم من الوقت استغرق انجاز الحرف. ففي الماضي كان الخط يتم ببطيء، لكنما في خط حديث يكون انجاز الخط بسرعة اكثر، ولكن هذا لايمنع الاستفادة من البطيء في بعض الاماكن التي تتطلب ذلك.
السرعة توحي بأن الخط هو وليد عصرنا الحالي. والسرعة اليوم تعتبر في حد ذاتها قيمة جمالية. زمن الخط القديم طويل، زمن الخط الحديث قصير، ولكن يجب الا تضّيع السرعة ماهو جوهري ومهم في الخط. كما ان هذا لايعني الحكم على جودة الخط حسب زمن انجازه. كل ما نريده اليوم هو عمل خطوط تعطي المشاهد متعة جمالية وتدخله الى عالم من العواطف والتفكير.
الحركة الآنية السريعة تتجاوز المعرفة الذهنية، وتعكس معرفة الجسد واللاوعي، فتعطي معلومات قد لايمكن التعرف عليها في البطيء. وهكذا ان وسائل الفن هي أقصر الطرق للمعرفة ولاختبار مايكمن في داخل الخطاط نفسه. وبما انه وليد مجتمعة فستكون هذه المعلومات والحوار الذي تسببه من وسائل الثقافة والتقدم.
السرعة هي انفجار فطري يأتي في لحظات يرغب فيها الانسان بالتعبير الحاد. تعبيرقد لايمكن قوله بالطرق القديمة للخط.
الحركة السريعة في الخط يمكن ان نتخيلها كالسيل الهادر لايوقفه الا ثبات سد او جبل.
خطوط اللحظات السريعة هي كسرعة البرق ، توحي بما يسكن في النفس. النفس المضطربة او النفس الهادئة. انفجار تعبيري يذهب الى ابعد من مايقوله النص المكتوب، فيكتشف الخطاط انفعالاته المغمورة في قعر اللاوعي ويتعرف على ذاته. وهذه المعرفة انما تنصب فيما بعد بمجال الثقافة العامة وبالتالي تكون زيادة في الوعي لطبيعة البشر.
حركات متشابكة وملتوية او حركات صافية نقية واضحة. تناقضات النفس البشرية الغامضة تصعد الى الاعلى لترتسم على الورقة. تعطي نفسها لمن يتحسسها، كترجمة لممارسة حياتية انسانية. عبر تجربة الفنان، ولكنها تتوجه للكل كمعرفة جديدة.
يمكن ان تكون انفعالات واحتجاج، أو توطيد نظام جديد بعد العاصفة، مرتسما بقوة الضربات الرشيقة للحركات الخطية.
... اذا كان الخط حسن الوصف، مليح الرصف، مفتح العيون، املس المتون، كثير الأئتلاف، قليل الاختلاف، هشت اليه النفوس وأشتهته الارواح ...
لابد من التوضيح بأن الخط ككل الفنون كانت له سابقا استعمالات متعددة داخل المدينة. وفيه تيارات مختلفة عبر القرون، داخل أماكن جغرافية مختلفة. فأن خطوط الكتب تختلف تماما عن خطوط الجدران، وخطوط اللوحات تختلف عن خط الحاجيات والاواني النحاسية... وهكذا يمكن اليوم ان تولد تيارات جديدة لادخال الخط في اللوحات التشكيلية. كي تعكس العالم الحديث الذي نعيش فيه. ولتوضح التأثر بتطور كل شيء يحوطنا كالمعمار داخل المدينة العربية. اذ لايمكن ان لانتغير في الاحساس للاشياء عندما نترك البيوت الطينية الواطئة القديمة، ونذهب للسكن او للعمل اليوم داخل بنايات عالية كناطحات السحاب. اضافة للتطور الهائل لوسائل النقل والعمل السريعة التي غيرت مفهومنا للعالم.
وهكذا نحن في عصر تتم فيه تحولات كثيرة داخل المدن، ولما كان الفن يوازي مسيرة الحياة أو يسبقها أحياناً، فلابد من حيوية جديدة للمظاهر الخطية. فالخط ككل الفنون هوضروري لتطوير الجوانب الخيرة عند الانسان.
الهندسية الجوهرية في الخط العربي تجعله عالميا، اذ يتمتع الانسان برؤيته حتى من لايتمكن على قرائته.
وهذه الهندسية الكامنة خلف الحروف يمكن ان تبقى في الخط الحديث ايضاً.
عصرنا الحالي انما هو عالم جديد، وأنه يتطلب خط جديد، وهذ الخط الجديد يمكنه ان يأخذ الهيكل الهندسي القديم ولكنه يغير المظهر. من اجل الوصول لمظهر معاصر. وبنفس الوقت سيتجدد الفراغ خلف الخط، ليعطي فكرة جديدة عن الفضاء.
لايمكن الرجوع الى الوراء. انما يمكن النظر الى الوراء لأستلهام الماضي لا تقليده. استلهام اجمل الخطوط للابتكار وللصعود عاليا في فن له القدرة على التأثيرعلى الحياة. الخط الحديث يقول شيء لا يمكن قوله بالشكل القديم. شكل الخط الحديث يبدأ برغبة اكتشاف جمال العصر الحالي. وهذا الجمال هو ليس نتيجة محددة ومعروفة مسبقاً. انما انه لغز يتطلب أكتشافه.
و مع مرور السنين سوف يتم نضوج الاشكال الجديدة للخط الحديث والمعاصر. والتي ستكون استمرارية لخطوط الماضي، وبمرور الزمن ستصبح في المستقبل هي الاخرى قديمة ولابد من تجاوزها.
لابد من الايمان بأن قواعد الخط المتداولة اليوم هي ليست خالدة الى الابد. وانها ليست أكثر من تطور للكوفي الاول وماتلاه من اساليب. والفضل يعود لبعض الخطاطين اللذين أضافوا حروفا اخرى متجددة على مرور الزمن وفي كل قرن. مما يؤكد لنا ضرورة اضافات جديدة في عصرنا الحالي.
تغنى الكثيرون بجمال خطوط ابن مقلة ( 886 ـ 940 )، ومع الاسف لم نرى خطوطه. بينما ان بعض خطوط ابن البواب ( توفي عام 1022 ) اعتبرت في زمنها أجمل الخطوط وأعتبرت تطوير لتركة ابن مقلة. مالبث الخطاط ياقوت المستعصمي ( 1203 ـ 1298 ) ان يتخطاها بوضع قواعد جديدة للخط ألهمت الخطاطين لثلاثة قرون من الزمن.
حمد الله الأماسي ( 1436 ـ 1520 ) تجاوز طريقة ياقوت فعمل على تجديد أسلوبي النسخ والثلث وادخلهما في هندسية جديدة الى جانب رهافة ظاهرة لقوة كامنة. فعاشت بعده هذه الطريقة لثلاث قرون ايضا.
وفي القرن التاسع عشر شارك الكثير من الخطاطين العثمانيين في تطوير كل التركة القديمة. بناء جديد للحروف وأناقة على غاية الرهافة والقوة بآن واحد.
خطوط الخطاط العثماني تعتبر اليوم في قمة ماتوصل اليه الخط العربي. ولا زلنا نتعلم منها.
ان اي فن لايتجدد يعتبر قديما ومحنطا. وتهجره الاجيال الشابة داخل المجتمع. لانه يمثل الماضي . ان سبب تدهور وضع الخطاط العربي، يعود الى كونه يمثل الماضي دون وجود جسر يربطه في الحاضر. مما لاشك فيه ان محاولات حديثة تتم هنا وهناك في السنوات الاخيرة، ولكنها ليست كافية نسبة لملايين الناس الذين يكتبون بالحرف العربي. ولكنها بذرة تحتاج لخصوبة مستقبلية. وتحتج لرعاية وتشجيع.
فلو نقارن الخطاط العربي بالخطاط الياباني لنجد ان الخط الحديث في اليابان، هو الذي جلب الانتباه الى الخطاط الذي يحمل تركة الماضي والذي يواصل الاساليب القديمة، وأعتبر الخطاط التقليدي في اليابان كنز وطني حي. وهكذا وجد هذا الخطاط والخطاط الحديث كل منهما مكانه المحترم.
لذلك لابد من خطوط تعكس نكهة عصرنا. وهي التي سوف تدفع للتعرف اكثر فأكثر على خطوط الماضي كجذور للخط الحديث. نعم كجذور لشجرة متماسكة في ارضها لكنها تترك اغصانها تاخذ مكانا واسعا في الفضاء بحرية.
www.massoudy.net
حسن المسعود ـ باريس ـ نشر في مجلة ( حروف عربية ) العدد الثلاثون ـ 2012
الخطوط القديمة عملت بمدن كثيرة وعلى مساحات شاسعة، تقع ما بين الصين والاندلس. وعلى مدة زمنية تقارب الالف سنة.
ولا يمكن معاصرة الخط دون معرفة ما أعطته لنا هذه الخطوط القديمة.
تغيرت أشكال الحروف العربية عدة مرات ضمن اساليب كثيرة ومتنوعة. حتى وصلت الى خط الثلث، أهم الخطوط وأكثرها ثراء. ولكن الرغبة البشرية بالتطور والتي اعطتنا خط الثلث، هي التي تدعونا الآن الى الضرورة بعمل خطوط اخرى تعكس اجواء العصرالذي نعيش فيه. لأن كوفي المصاحف قبل الف سنة كان أجمل الخطوط وسيدها في وقته. وأحتج الكثير في القرن العاشرعلى استخدام اساليب اخرى بدله. ولو طبقت افكارالمحتجين في ذلك العصر لما حصلنا على روائع الاساليب الخطية التي نعرفها اليوم ولا حتى خط الثلث.
استعمل الخط العربي في مجالات عديدة داخل المدينة الاسلامية، منها ماخط على الورق للقراءة. ومنها مانفذ على الجدران كديكور، للرؤية أكثر منه للقراءة. كما ان الكثير من الحاجيات المستعملة في الحياة اليومية زينت أيضا بالخط، وكل استعمال جديد فرض تحوير وابتكار للخط لملائمة الاحتياجات الجديدة.
وانطلاقا من معرفة هذا التاريخ الثري للخط العربي، أكتب هذه الصفحات حول استعمال الخط بمجال الفن التشكيلي، أي لايعني هذا المقال المطالبة بتغيير كل الخط العربي نحو تعبير تشكيلي معاصر، انما التفكير بأضافة جديدة الى جانب كل الاساليب التي وصلت الينا.
أول مرة صعدت الكلمات المخطوطة من الكتاب الى الجدار تعود الى نهاية القرن السابع الميلادي عندما بنيت قبة الصخرة، وتطلب الديكور الداخلي تزيين الجدران، فكبرت الكلمات المقدسة من كوفي المصاحف ورسمت على الجدران بفصوص الفسيفساء ( وهي قطع من الزجاج أو الحجر الملون ) فنرى عشرات الامتار من السطورالمخطوطة، والتي لازالت في مكانها حتى يومنا الحاضر.
نرى في هذه الخطوط تأثير الفصوص الملونة على شكل الخط، وهو التحول الجديد الذي طرأ على شكل الخط الكوفي الاول، أي كوفي المصاحف. والذي كان يخط بالقلم. وهذه البداية بأستعمال الخط في ديكور المعالم الاسلامية أصبحت فيما بعد قاعدة تطبق على كل المعالم المعمارية في المدينة الاسلامية ولحد يومنا الحالي. وهكذا لم تستعمل الصور ولا التماثيل في ديكور المدينة الاسلامية الا نادرا. وبقيت الصور صغيرة في الكتب فقط.
هنالك استعمال آخر للفسيفساء، في محراب المسجد الجامع في قرطبة ـ القرن العاشر الميلادي ـ لازال هو الآخر موجودا حتى يومنا الحاضر. وتتميز خطوطه الكوفية بجماليات جديدة لا تشابه خطوط قبة الصخرة. كما ألغى الخطاط الفراغ بين الكلمات تماما، وبهدف جمالي بحت.
ومن نص لإبن عذاري:
يوضح التقاء الفنون حول البحر المتوسط في ذلك الزمن.
( عندما طلب الخليفة الحكم الثاني من امبراطور بيزنطة ارسال فصوص الفسيفساء وبعض الصناع لتزيين المسجد الجامع في قرطبة، حضر بالفعل صانع بيزنطي ساهم في وضعها بمكانها وعلم طائفة من صنّاع قرطبة هذه الصناعة )
ونرى مع مرور الزمن اشكالاً مختلفة ومواد متعددة لخط الحرف العربي على البنايات لاحصر لها. ولم تولد هذه الخطوط من لاشيء انما من تكاثف التجارب الكثيرة، ولجهود اجيال متعددة من الخطاطين والمهنيين.
يذهب المظهر الجمالي للحرف الى ابعد من خط كلمات للقراءة، اذ تحورت الحروف وأتخذت اشكالاً تعود لرغبة الخطاط في الابداع من جهة، والى تأثير المواد المستعملة للخط من جهة اخرى. فالخطوط الرهيفة التي عملت من الطين المفخور لاتشابه الخطوط الصلدة المنحوتة على الحجر. كذلك فرضت المساحات المعطاة للخطاط اشكالاً للحروف تتناسب مع هذه المساحات، كالمربع والمثلث والدائرة والمستطيل.
وغالبا ماعمل الخطاط سابقاً تكوينات من عدة كلمات، وعند خط هذه التكوينات، يعرف الخطاط من اول حرف يخطه اين ستكون مواقع الحروف الاخرى، وحتى آخر حرف للعبارة المخطوطة. وان هذه التكوينات الخطية هي ابداع جديد يعود الى القرن الرابع عشر الميلادي وخصوصا في الخطوط المملوكية.
تكمن اهمية تكوينات الخط في كونها تدفع المشاهد للتخيل، عبر الشكل المتشابك للحروف، من أجل التوصل لقراءة النص المخطوط. فتتجول العيون في حركات الحروف وأشكالها الصاعدة والمدورة. وبوعي او بلا وعي يتأثر المشاهد ايضاً بما تعكسه المادة التي عمل منها الخط.
الكلمات لها معنى، وشكل الخط معروف ومدروس، ولكن هنالك شيء ثالث يولد من تخيلات المشاهد عند رؤية الخط، وهذا الشيء هو المهم في الخط وهو الذي يجعله فن كباقي الفنون الاخرى.
كل مادة لها طاقاتها التعبيرية، فمادة الطابوق هي الطين المفخور والذي يوحي بالنار. بينما عندما يلوّن الطابوق بالازرق ويزجج ( السيراميك ) فأنه يوحي بالماء. وعندما تغرق جدران السيراميك في أشعة الشمس تنبهر العيون بالالوان الذهبية والفروق الرهيفة بداخلها، حيث ترى العين ذبذبات الضوء على وداخل السيراميك.
الكلمات التي خطت بالطابوق وما سمي ( بالكوفي الهندسي ) تأخذ شكلاً مبسطاً
جداً، ولكن هذا التبسيط ليس سهلاً، اذ يرفع الخطاط كل مايمكن حذفه مع الابقاء
على الاساسي والجوهري فقط.
توصل الخطاط دائما الى اختزال جريء من أجل ادخال الحروف بالمكان المخصص لها. وهذه البحوث والخلق والابتكارالمستمر للحرف العربي كانت في كل مكان، على الحاجيات المستعملة في الحياة اليومية كالاواني والمصابيح أو على الجدران العالية.
بشكل عام لايوجد فرق في الفن الاسلامي بين خطوط بناية شاهقة، أو خطوط اناء من الخزف أو علبة من النحاس. القيمة الفنية هي واحدة، الجمال هنا يكون أيضاً في التماثل والتكرار. في الظل والنور. في التوازن والتقابل. فيولد عالم من السحر، في حروف جديدة لم تــُرى من قبل. يوم كانت مخيلة الخطاط تبدع خطوط جديدة لكل مكان جديد. وان ابداع كهذا اليوم سوف يعطي المعاصرة للخط العربي.
وكل هذه الابتكارات في الخط كانت تنشط مخيلة البشر. وتشهد على ذلك هذه السطور من رسالة للقاضي الفاضل:
من ألفات ألفت الهمزات غصونها حمائم
ومن لامات بعدها يحسدها المحب على عناق قدودها النواعم
ومن واوات ذكرت ما في وجنة الاصداغ من العطفات
ومن ميمات دنت الافواه من ثغرها لتنال الرشفات
ومن سينات كأنها الثنايا في تلك الثغور
ومن دالات دلت على الطاعة لكاتبها بأنحناء الظهور
النظر هنا يتوجه الى جماليات الحروف وليس الى معاني الكلمات. فالكلمات المخطوطة تعطي الشكل، وكل شكل نراه يوحي لنا بأشياء لها علاقة بذاكرتنا. علاقة غامضة بما نكتنزه من رسوم سجلت في الذاكرة منذ الطفولة. وهكذا ان ايحاءات اللامرئي هي التي تعطي القيمة للخط.
وعن الفراغ خلف الخطوط يقول ابي اسحاق الصابي:
اذا رقشت بيض الصحائف خلتها تطرز بالظلماء أردية الشمس
وتوجد خطوط كثيرة اهتم الخطاط فيها بالفراغ المحيط بالحروف. اهتمام يعادل اهتمامه بالحروف نفسها.
الحروف المتكررة تخلق في ذهن المشاهد الايحاء بحركية مستمرة. بتدفق الالفات واللامات وتتابع الحروف المستديرة في نغم متوازن مابين جسم الحرف واللاجسم المحيط به.
بعض الخطوط تأثرت بالزخرفة المحيطة بها وشابهتها. ففي جوار الزخارف النباتية نرى حروفاً مرنة مستديرة. وفي جوار الزخرفة النجمية نرى حروفا كوفية مستقيمة. وفي أكثر الاحيان كان الخطاط القديم هو الذي يرسم الزخارف ويبتكر أشكالها. ولم يكن الخطاط يرسم الزخارف النباتية كما تراها العين، انما كما يفهمها هندسياً. فتحورت أشكال الاغصان والاوراق والزهور الى رسوم تخضع لمفهوم هندسي. بينما ان نفس الاشكال في الحديقة تكون خاضعة لمؤثرات ضغوط الفضاء وسحب الجاذبية الارضية والرياح والامطار فتكون اشكالها مختلفة بأستمرار عن شكلها الجوهري. كذلك ان الزخارف الهندسية كانت تخفي بداخلها مفاهيم المربعات السحرية الآتية من علم الفلك. ولم تكن مجرد رسوم لمليء الفراغ. انما اعطيت معاني ترتبط بالكواكب السماوية.
كان الخطاط يعيد رسم الزخارف ويحور هياكلها لتتناسب والفضاء الممنوح لها من قبل المعماري، ولكي تدخل المساحات المحددة لها دون زيادة أو نقصان. وهكذا كان فن الخط مكملا لفن المعمار، ولو ترفع الخطوط والزخارف من مكانها لفقدت البناية الكثير من أهميتها.
يتجه الفن الحديث في عالم اليوم الى اساليب تبدوا لأول وهلة وكأنها ناقصة وغير مكتملة. وهدف الفنان من ذلك انه يريد ان يساهم المشاهد أيضاً في اكمال النواقص وتخيلها مما يدفعه للمساهمة في العمل الفني، فيشعر بأنه هو فنان أيضاً. وذلك بالرجوع الى حدسه ومعرفته الفطرية للجوهر الهندسي والى عوالمه الغامضة وثقافته العامة. وهنا تكمن أهمية دور الفن في المساهمة بأعلاء النفس البشرية.
نرى في الخط العربي مثل هذه الحالة في صعوبة القراءة لكل ماهو على الجدران، وكذلك في خطوط التشكيلات كالطغرة مثلا، حيث يتحير المشاهد في تفكيك الكلمات لمعرفة النص. ولكن هذه الحيرة والبحث عن لغزالخطوط تقود من يكون صبورا الى معرفة اسرار الخط. وبذلك يصل الى معرفة جديدة وارتفاع حسي وذهني. وكل ارتفاع للانسان انما هو مساهمة بارتفاع الحياة.
كان موضوع البحث الفني دائماً في موازاة كل البحوث البشرية الاخرى حول الوجود والكينونة. عبر عملية الابداع والخلق المستمر الذي نراه في تاريخ الفن لكل الشعوب.
خلق اشكال لم تــُرى سابقاً. انما هي معرفة جديدة وأجواء جديدة تجد لها صدى عند نفسية المشاهد، ولها تأثير على كل النشاطات البشرية، وبالتالي هي نفسها مانسميه الحضارة.
فالحضارة ماهي الا تراكم مجموعات من النتاجات الفنية والادبية والعلمية المبتكرة في مكان ما، فتصبح فيما بعد كتراث وأرث للاجيال التي تتعاقب في نفس المكان.
الشكل في الخط يمكن ان يكون كتعدد المظاهر لموضوع واحد في الجوهر. مثل الحروف التي هي بالاصل تملك شكل واحد لكنما كل اسلوب أعطاها مظهرا مختلفا وغير شكلها فيما بعد.
خلف الحروف هنالك هياكل هندسية يلبسها الخطاط عبارات جديدة في كل مرة يبتكر فيها تكوين جديد.
وان الفراغ المحيط بالحروف هو الآخر يتجدد في كل مرة يتغير فيها شكل الحرف. ففي كل جملة جديدة يعيد الخطاط توزيع الفضاء حول الحروف من جديد، بهدف الوصول الى توازن مرئي. تماماً كالانغام الموسيقية اذ تستمر الاصوات مابين لحظات صامتة.
الاهتمام بما هو خلف الحروف انما هو جوهر فن الخط العربي. اذ ان الحروف سبق وان تعرف عليها الخطاط. لكنما الفراغ حول الحروف هو جديد عند خط كل عبارة جديدة. ويمكن القول ان التحكم في هذا الفراغ هو الذي يعطي الخط جمالياته.
وعند الاختزال والاختصار للنصوص المخطوطة تتكاثف المعطيات الجمالية. فيكون القليل يوحي بالكثير، من خلال الشكل والمعنى. وهنالك خطوط استلهمت الطبيعة كالاشجار والغيوم والجبال، كالكوفي المزهر. يقلد الفنان الطبيعة ليس كما ترى بالعين انما باستلهام طريقتها وعاداتها وهيآتها.
كل خطاط تقوده احساساته الواعية واللاواعية في عالم الفن فيختار هذا الاسلوب أو ذاك. فأن الخط ككل الفنون الاخرى هو عمل حضاري يبتديء بتقنية صعبة في حروف متحركة وحية تريد ايجاد التعادل بين السحب والدفع. أو بين الثبات والطيران. تريد تعادل بين الكتلة المخطوطة والفراغ الذي تحل به. فتحاول الكلمات ايجاد الالتئام دون التضحية بجمالياتها.
الكتابة العربية فيها حروف صاعدة على الخط الافقي كالالف واللام، وأخرى مستلقية كالسين والباء، وثالثة معلقة كالحاء والميم في آخر الكلمة. ووجود كل حرف انما هو مرتبط بوجود الحروف الاخرى. حيث يشكل الكل وحدة متكاملة.
كالهياكل العالية، صاعدة بحيوية الى الاعلى، تريد خلق التوازن مابين ثقل الحروف وضغوط الفضاء، فتتحول الكلمات الى طاقة مضغوطة داخل حروفها. وهكذا اضطر الخطاط دائماً الى تغيير اشكال الحروف في كل كلمة وداخل كل سطر وتكوين.
... وعلى حسب تمكن ( الخطاط ) من ادارة قلمه وسرعة يده في الدوران يكون صفاء جوهر حروفه ...
الشيخ عماد الدين بن العفيف
ويصف ابن المعتز خطوط احد الخطاطين وكيفية توصله لتعادل منغم بين الحروف والفراغ:
اذا أخذ القرطاس خلت يمينه تفتح نوراً أو تنظم جوهرا
هنالك مجالات في الخط للتعبير أبعد من الكلمات نفسها، فأن المدات في الخط مثلا ما هي الا مجال الخطاط في الحلم والتخيلات ومكان حريته الواسع، يتصرف في المدة كما يحب. والمدات هي ليست حروفا انما هي زيادة أو تطويل للحرف.
وعن المدات يقول أبو جعفر النحاس:
...المدات تــُحسن الخط وتفخمه في مكان، كما يحسن مد الصوت اللفظ ويفخمه في مكان...
وهذه المدات سمحت للخطاط في استغلالها لعمل التكوينات الخطية، والتكوين هو التفاف الكلمات وحروفها حول بعضها البعض، تتقارب الحروف لتوحي بالقوة والصلابة، وبتقاربها المنغم توحي بالارتباط حتى لو كانت منفصلة، لانها تطيع قانون الحركة المستديرة والمتجددة كالجذب المغناطيسي.
توحي الكلمات مرة بالبطيء وأخرى بالسرعة، هنالك خطوط ثابتة وأخرى ذات حركات سريعة كالرياح والبرق، وهذه الانطباعات ماهي الا رغبات وافكار آتية من رؤى الخطاط الفنية. استوحاها من جوهر اشكال الطبيعة.
النبتة الصاعدة تلاقي في صعودها ضغط الفضاء الذي يجبرها على الانحناء. تقاوم للوقوف والصعود عالياً. فتولد لهذه النبتة خطوط مستقيمة تخفي بداخلها خطوط منحنية. او خطوط منحنية تخفي خطوطا مستقيمة بداخلها. وكمثال فأن جذع الشجرة كما نراه من بعيد يكون مستقيما، ولكنه في الحقيقة ملتويا على نفسه. ونرى ذلك عندما نقترب منه ونتمعن النظر في خطوطه الصاعدة. وهذه هي اسرار الطبيعة والتي يمكن ان تدخل الخط فتكون من اسرار قوته.
كل هذه الاشكال هي اشكال سليمة ولدتها الطبيعة، وهي اشكال حية للتعبير عن الحياة، ومن خلالها يمكن للخطاط استلهام اشكال جديدة لاثراء تجربته الفنية. فالخط المستقيم كخط المسطرة هو خط ميت لا حياة فيه. بينما لو يخفي هذا الخط المستقيم خطا منحنيا بداخله يكون أكثر قوة وأكثر جمالا، كالالف في خط الثلث مثلا وكل الانحناءات المخفية بداخله.
الخط الجميل قد يكون في حركتين أو ثلاثة، ولا توجد ضرورة لكلمات كثيرة. على شرط ان يعبر القليل بقوة كالكثير.
كل حرف له بناء خاص وقياسات معروفة، وعندما يحتوي هذا الشكل المادة اللونية فيكون كأناء من الزجاج يوحي ما بداخله.
خط الف حرف هو شيء ممكن، لكن الصعوبة تكمن في خط حرف واحد فقط يحوي قوة الف حرف. وخط هذا الحرف الواحد لايعني السهولة. انما لصقله واعطائه طاقة تعبيرية لابد من تكرار خطه الف مرة.
ان كان الشعر أحد الينابيع المهمة لألهام الخط الحديث، فأن أشكال وحركات الرقص أيضاً يمكنها أن تلهمه. أن جسم الانسان له محور عمودي وكل حركاته تكون بالنسبة الى هذا المحور. فعندما يعوم الراقص في الفضاء بحركات ذات طاقة عالية في السرعة والبطيء، القوة والرهافة، الثقل والخفة، الصعود والهبوط، انذاك يمكن للخطاط وعي حركات أشكاله الخطية. كما الراقص في حركاته السريعة يجد الحلول الآنية المتناغمة لكل عقبة. يمكن ايضا للخطاط عبر الحدس والمعلومات المتراكمة في الذهن واللاوعي أن يجد حلول للعقبات التي يصادفها اثناء الخط.
الموسيقى أيضاً يمكنها أن تلهم الخطاط، لأن الاصوات الموسيقية هي في تعاقب زمني منغم. توازي تردد الحروف العربية المتناغمة مع الفراغ المحيط بها. وبمظهرالحروف المخطوطة السميك مرة والنحيف مرة اخرى، يمكنها ان توحي بالتحرك داخل المساحة المحددة للورقة.
يتخيل الخطاط قبل البدء شكل الهيكل الذي سوف يلبس الحروف العربية، وعندما تكون الرؤية واضحة في الذهن، يدفع الخطاط يده لرسم هذا التكوين عبر الحركات الدائرية والمستقيمة. وأحيانا تدخل الصدفة في الخط الحديث فتأتي اشكال اهملت ونسيت منذ زمن طويل، لكنها بقيت مسجلة في اعماق الخطاط.
... أنظر الى الحروف كيف وضعت على الطبائع، والى الطبائع كيف وضعت على الحروف، وكيف تنتقل الطبائع الى الحروف والحروف الى الطبائع.
جابر بن حيان
وهكذا يمكن في الخط ان توحي الكلمة بأشياء غير الكلمة نفسها، وكل مشاهد قد يتخيل أشياء تختلف من الواحد للآخر. ان من يتأمل الحركات الخطية يمكنه ان
يدخل نفس عالم التخيلات والرؤى عند الخطاط نفسه.
تعكس الخطوط اهتمامات الخطاط المتعددة في ابراز النور والظلال، واعطاء أهمية للحبر وبقية المواد اللونية. واختيار النصوص التي تعبر عن فكر الخطاط.
الالوان هي ضوء ومادة. الشفافة والنقية منها توحي بالنور. اما الالوان الترابية فأنها توحي بالعتمة.
من الضروري للخطاط التعرف على جوهر الالوان وكيفية صناعتها. أو تحسين الاصباغ المباعة في الاسواق. للتوصل الى ألوان تختلف من خطاط لآخر، ولكي تعبر عن رغبات وأحاسيس الخطاط في لحظة الخط، وكذلك لتعبر عن رغبة المشاهد فيما بعد. ان نوعية المادة اللونية تترك تأثيرا على نفس المشاهد. وهي من أهم الاشياء في اللوحة.
آلة الخط الاساسية هي القصبة ولكن لابد من ابتكار ألآت اخرى للخط الحديث. ألآت تعطي للحروف اشكال جديدة. على ان لايكون هنالك انفصام وأنقطاع تام مع الاشكال القديمة للخط العربي ومظاهرها. الرغبة هنا هي تطوير الخط العربي وأضافة شيء جديد واعطاء نكهة معاصرة للحروف. والمفروض ان يدرك المشاهد انتماء الخط الحديث الى اصل يعود للخطوط القديمة، وهذا الانتماء يجب ان يكون ظاهرا من اول لحظة.
زمن خط كل حرف يدخل في الحرف نفسه، ويمكن لعين المشاهد ان تخمن بطيء الخطاط او سرعته. وهكذا يوحي الحرف بالزمن الذي يسكن داخله. وبالحدس يدرك المشاهد كم من الوقت استغرق انجاز الحرف. ففي الماضي كان الخط يتم ببطيء، لكنما في خط حديث يكون انجاز الخط بسرعة اكثر، ولكن هذا لايمنع الاستفادة من البطيء في بعض الاماكن التي تتطلب ذلك.
السرعة توحي بأن الخط هو وليد عصرنا الحالي. والسرعة اليوم تعتبر في حد ذاتها قيمة جمالية. زمن الخط القديم طويل، زمن الخط الحديث قصير، ولكن يجب الا تضّيع السرعة ماهو جوهري ومهم في الخط. كما ان هذا لايعني الحكم على جودة الخط حسب زمن انجازه. كل ما نريده اليوم هو عمل خطوط تعطي المشاهد متعة جمالية وتدخله الى عالم من العواطف والتفكير.
الحركة الآنية السريعة تتجاوز المعرفة الذهنية، وتعكس معرفة الجسد واللاوعي، فتعطي معلومات قد لايمكن التعرف عليها في البطيء. وهكذا ان وسائل الفن هي أقصر الطرق للمعرفة ولاختبار مايكمن في داخل الخطاط نفسه. وبما انه وليد مجتمعة فستكون هذه المعلومات والحوار الذي تسببه من وسائل الثقافة والتقدم.
السرعة هي انفجار فطري يأتي في لحظات يرغب فيها الانسان بالتعبير الحاد. تعبيرقد لايمكن قوله بالطرق القديمة للخط.
الحركة السريعة في الخط يمكن ان نتخيلها كالسيل الهادر لايوقفه الا ثبات سد او جبل.
خطوط اللحظات السريعة هي كسرعة البرق ، توحي بما يسكن في النفس. النفس المضطربة او النفس الهادئة. انفجار تعبيري يذهب الى ابعد من مايقوله النص المكتوب، فيكتشف الخطاط انفعالاته المغمورة في قعر اللاوعي ويتعرف على ذاته. وهذه المعرفة انما تنصب فيما بعد بمجال الثقافة العامة وبالتالي تكون زيادة في الوعي لطبيعة البشر.
حركات متشابكة وملتوية او حركات صافية نقية واضحة. تناقضات النفس البشرية الغامضة تصعد الى الاعلى لترتسم على الورقة. تعطي نفسها لمن يتحسسها، كترجمة لممارسة حياتية انسانية. عبر تجربة الفنان، ولكنها تتوجه للكل كمعرفة جديدة.
يمكن ان تكون انفعالات واحتجاج، أو توطيد نظام جديد بعد العاصفة، مرتسما بقوة الضربات الرشيقة للحركات الخطية.
... اذا كان الخط حسن الوصف، مليح الرصف، مفتح العيون، املس المتون، كثير الأئتلاف، قليل الاختلاف، هشت اليه النفوس وأشتهته الارواح ...
لابد من التوضيح بأن الخط ككل الفنون كانت له سابقا استعمالات متعددة داخل المدينة. وفيه تيارات مختلفة عبر القرون، داخل أماكن جغرافية مختلفة. فأن خطوط الكتب تختلف تماما عن خطوط الجدران، وخطوط اللوحات تختلف عن خط الحاجيات والاواني النحاسية... وهكذا يمكن اليوم ان تولد تيارات جديدة لادخال الخط في اللوحات التشكيلية. كي تعكس العالم الحديث الذي نعيش فيه. ولتوضح التأثر بتطور كل شيء يحوطنا كالمعمار داخل المدينة العربية. اذ لايمكن ان لانتغير في الاحساس للاشياء عندما نترك البيوت الطينية الواطئة القديمة، ونذهب للسكن او للعمل اليوم داخل بنايات عالية كناطحات السحاب. اضافة للتطور الهائل لوسائل النقل والعمل السريعة التي غيرت مفهومنا للعالم.
وهكذا نحن في عصر تتم فيه تحولات كثيرة داخل المدن، ولما كان الفن يوازي مسيرة الحياة أو يسبقها أحياناً، فلابد من حيوية جديدة للمظاهر الخطية. فالخط ككل الفنون هوضروري لتطوير الجوانب الخيرة عند الانسان.
الهندسية الجوهرية في الخط العربي تجعله عالميا، اذ يتمتع الانسان برؤيته حتى من لايتمكن على قرائته.
وهذه الهندسية الكامنة خلف الحروف يمكن ان تبقى في الخط الحديث ايضاً.
عصرنا الحالي انما هو عالم جديد، وأنه يتطلب خط جديد، وهذ الخط الجديد يمكنه ان يأخذ الهيكل الهندسي القديم ولكنه يغير المظهر. من اجل الوصول لمظهر معاصر. وبنفس الوقت سيتجدد الفراغ خلف الخط، ليعطي فكرة جديدة عن الفضاء.
لايمكن الرجوع الى الوراء. انما يمكن النظر الى الوراء لأستلهام الماضي لا تقليده. استلهام اجمل الخطوط للابتكار وللصعود عاليا في فن له القدرة على التأثيرعلى الحياة. الخط الحديث يقول شيء لا يمكن قوله بالشكل القديم. شكل الخط الحديث يبدأ برغبة اكتشاف جمال العصر الحالي. وهذا الجمال هو ليس نتيجة محددة ومعروفة مسبقاً. انما انه لغز يتطلب أكتشافه.
و مع مرور السنين سوف يتم نضوج الاشكال الجديدة للخط الحديث والمعاصر. والتي ستكون استمرارية لخطوط الماضي، وبمرور الزمن ستصبح في المستقبل هي الاخرى قديمة ولابد من تجاوزها.
لابد من الايمان بأن قواعد الخط المتداولة اليوم هي ليست خالدة الى الابد. وانها ليست أكثر من تطور للكوفي الاول وماتلاه من اساليب. والفضل يعود لبعض الخطاطين اللذين أضافوا حروفا اخرى متجددة على مرور الزمن وفي كل قرن. مما يؤكد لنا ضرورة اضافات جديدة في عصرنا الحالي.
تغنى الكثيرون بجمال خطوط ابن مقلة ( 886 ـ 940 )، ومع الاسف لم نرى خطوطه. بينما ان بعض خطوط ابن البواب ( توفي عام 1022 ) اعتبرت في زمنها أجمل الخطوط وأعتبرت تطوير لتركة ابن مقلة. مالبث الخطاط ياقوت المستعصمي ( 1203 ـ 1298 ) ان يتخطاها بوضع قواعد جديدة للخط ألهمت الخطاطين لثلاثة قرون من الزمن.
حمد الله الأماسي ( 1436 ـ 1520 ) تجاوز طريقة ياقوت فعمل على تجديد أسلوبي النسخ والثلث وادخلهما في هندسية جديدة الى جانب رهافة ظاهرة لقوة كامنة. فعاشت بعده هذه الطريقة لثلاث قرون ايضا.
وفي القرن التاسع عشر شارك الكثير من الخطاطين العثمانيين في تطوير كل التركة القديمة. بناء جديد للحروف وأناقة على غاية الرهافة والقوة بآن واحد.
خطوط الخطاط العثماني تعتبر اليوم في قمة ماتوصل اليه الخط العربي. ولا زلنا نتعلم منها.
ان اي فن لايتجدد يعتبر قديما ومحنطا. وتهجره الاجيال الشابة داخل المجتمع. لانه يمثل الماضي . ان سبب تدهور وضع الخطاط العربي، يعود الى كونه يمثل الماضي دون وجود جسر يربطه في الحاضر. مما لاشك فيه ان محاولات حديثة تتم هنا وهناك في السنوات الاخيرة، ولكنها ليست كافية نسبة لملايين الناس الذين يكتبون بالحرف العربي. ولكنها بذرة تحتاج لخصوبة مستقبلية. وتحتج لرعاية وتشجيع.
فلو نقارن الخطاط العربي بالخطاط الياباني لنجد ان الخط الحديث في اليابان، هو الذي جلب الانتباه الى الخطاط الذي يحمل تركة الماضي والذي يواصل الاساليب القديمة، وأعتبر الخطاط التقليدي في اليابان كنز وطني حي. وهكذا وجد هذا الخطاط والخطاط الحديث كل منهما مكانه المحترم.
لذلك لابد من خطوط تعكس نكهة عصرنا. وهي التي سوف تدفع للتعرف اكثر فأكثر على خطوط الماضي كجذور للخط الحديث. نعم كجذور لشجرة متماسكة في ارضها لكنها تترك اغصانها تاخذ مكانا واسعا في الفضاء بحرية.
www.massoudy.net
حسن المسعود ـ باريس ـ نشر في مجلة ( حروف عربية ) العدد الثلاثون ـ 2012