كان وضعي لا يطاق ولذلك إعتبرت من المناسب القيام بخطوات معيّنة كي أدبّرّ الحال .. وهكذا شيّدت تمثالاً بشرياً من مختلف اللدائن اليابانية التي تحاكي الجسم والشعر والأظافر إلى آخره .. وقام مهندس إلكتروني من معارفي لقاء مبلغ ليس بالتافه، بصنع ميكانزم لداخل التمثال: سيكون قادراً على الكلام والأكل والعمل والسير .. إلخ .. ولرسم قسمات الوجه كلفت فناناً بارزاً من المدرسة الواقعية القديمة وقد إستغرق صنع الوجه بصورة نموذجية وفق وجهي إثنى عشر جلسة .. وأصبح للتمثال أنفي العريض وشعري الغامق اللون والتجاعيد على طرفي فمي .. ولكنت قد عثرت على الفوارق بيننا لو لم أكن في مثل هذا الوضع المفيد وهو أنني أعرف جيداً بأنه هو أنا .. يكفي فقط أن أضع التمثال في المركز نفسه من حياتي.
سيذهب ورائي إلى العمل ويتقبل المديح والتعنيف من رئيسي .. سينحني إحتراماً وسيقتّر النقود ويبذل الجهد في كل موضع .. سأطلب منه فقط أن يحمل إلىّ كل ثاني أربعاء مرتبي وأنا سأعطيه النقود للمواصلات والغداء في العمل .. وبنفسي سأحرر الصكوك لدفع إيجار السكن والنفقات الضرورية، والباقي سأخفيه في جيبي .. كذلك سيصبح التمثال زوجاً لزوجتي .. سيمارس واجباته الزوجية في كل ثلاثاء وسبت، سيشاهد معها التلفزيون ويتناول وجبات الغداء الصحّي ويتشاجر معها في موضوع تربية الأطفال (زوجتي التي تعمل أيضاً تساهم من مرتبها في تكاليف المعيشة) كذلك سأوصي التمثال أن يلعب في مساءات أيام الإثنين مع فرقة زملائي في لعبة البولنج وأن يزور أمي مساء الجمعة ويقرأ في الصباح الجر يدة وقد يشتري بدلا عني الملابس (لي وله) ومع مرور الوقت ستظهر واجبات أخرى، وأنا أريد التخلص منها جميعاً .. وفي نيتي أن أحتفظ فقط لنفسي ما يمتعني.
قد تقولون أيتها السيدات والسادة بأنه عمل طموح؟ ولماذا؟ .. بالأساس يمكن حل مشاكل هذا العالم بطريقتين فقط: التخريب أو الإستنساخ .. القرن السابق توفرت لديه الإمكانية الأولى فقط .. وأنا لا أجد أيّ سبب يمنعني من الإستفادة من معجزات التكنيك المعاصر كي أحقق التحرر الشخصي .. إذ لديّ كامل الإختيار .. وطالما أنني لست من الأشخاص الميّالين إلى الإنتحار قررت إستنساخ نفسي .. في أحد صباحات أيام الإثنين أدرت زنبرك التمثال وتركته طليقاً بعد ان تأكدت من أنه يعرف ماعليه عمله أي كيف سأتصرف أنا في جميع المواقف التي هي معلومة عندي .. دقّ جرس الساعة المنبهة .. التمثال ينقلب إلى جنبه و يلكز زوجتي التي تنهض غير راغبة من الفراش المزدوج ثم يسكت المنبه .. يلبس هو نعاله والروب ثم يتوجه على ساقين متصلبتين إلى الحمام .. يقضي حاجته ويتغرغر ويحلق ذقنه ويعود إلى المخدع .. يأخذ الملابس من الخزانة ويعود إلى الحمام حيث يرتدي ملابسه وبعدها يتوجه إلى المطبخ.
بنتاي جالستان أمام الطاولة .. صغراهما لم تحضّر بالأمس دروسها .. الزوجة تكتب العذر لمعلمة البنت .. الكبرى تمضغ، بترفع، قطعة خبز باردة .. صباح الخير، بابا (ترحبان بالتمثال الذي يردّ التحية بتقبيلهما من الوجنتين) .. الفطور ينتهي بدون شجار، وأنا أستقبل هذا بإرتياح .. تغادر البنتان المكان ولم تلحظتا أيّ شيء .. صرت واثقاً من أن خطتي ستنجح .. الإنفعال الشديد يدفعني إلى خوف فظيع من أن يحصل عطب في الميكانزم، من أن التمثال لن يتعرف على الإشارات .. ولكن على العكس فكل شيء يحصل جيداً: التمثال يفتح جريدة (نيويورك تايمز) بصورة صحيحة، ويقضي نفس الوقت الذي أقضيه أنا في قراءة أخبار العالم كذلك يقضي الوقت نفسه عند قراءة أخبار الرياضة .. يقبل زوجتي ويغادر المسكن متوجهاً إلى المصعد (هل تتعرف ماكينة على أخرى يا ترى؟) وصل الآن إلى الطابق الأرضي ثم الباب الخارجي ثم الشارع .. إنه يسير بوتيرة معتدلة، فقد خرج في الوقت المناسب وليس مضطراً إلى أن يسرع في السير .. يتوجه الآن إلى المترو .. يبدو متوازناً رابط الجاش نظيفاً (أنا بنفسي نظفته ولمعته في مساء يوم الأحد) يمضي بلا هموم ويؤدي المهام المناطة به .. سيكون سعيداً لغاية رضائي عنه .. وبغض النظر عما سيفعله فرضائي معتمد على رضاء الآخرين عنه.
في المكتب لا أحد قد إنتبه إلى التبدل .. السكرتيرة تحييه .. هو يبعث إليها بإبتسامة تماماً كما أفعل أنا، بعدها يدخل إلى مكاني الصغير ويعلق معطفه ويجلس وراء المكتب .. السكرتيرة تحمل إليه بريدي .. بعد قراءته يملي على السكرتيرة الردود .. والآن عليه أن يتفرغ لكومة القضايا التي لم تنته يوم الجمعة .. يرّد على المكالمات الهاتفية ويتفق على موعد مع زبون محلي أثناء الغداء .. إنتبهت إلى فعل واحد غير منتظم: طوال الصباح دخن التمثال سبع سيجارات بينما أنا أدخن من عشر إلى خمس عشرة .. وتفسيرى لهذا الشيء أنه بدأ عمله اليوم ولا يملك الوقت للتعرض لهذا القدر الكبير من توتراتي وبعد ست سنوات من العمل في هذا المكتب .. إذن أنا أشك بأنه لن يشرب، مثلي إلى الغداء قدحين من الكوكتيل بل واحداً .. بالفعل حصل هذا .. ولكن هذه أمور صغيرة تكون مقبولة إذا كان هناك من يسجلها عامة، وهذا أمر أشك فيه .. إنه الآن مع الزبون من خارج المدينة .. سلوكه لاغبار عليه، وقد يكون هناك قليل من المبالغة في التأدب ولكنني أرجع هذا إلى إنعدام التجارب .. والحمد للرب إنه لا يخطيء لغاية الآن ولو مرة واحدة .. وأثناء الطعام يتصرف كما ينبغي، لايتباطيء في تناول الطعام بل يأكل بشهية .. وهو يعرف بأن عليه توقيع الشيكات وعدم الدفع بواسطة بطاقة الإعتماد، فشركته تملك في هذا المطعم حساباً مفتوحاً.
بعد الظهر يعقد مؤتمر بشأن المبيعات .. نائب الرئيس يلقي تقريراً عن مشروع حملة جديدة للدعاية في منطقة (الغرب الأوسط) التمثال يطرح مقترحاته .. الرئيس يهز رأسه .. التمثال يطرق بقلمه الطاولة الطويلة المصنوعة من خشب الماهون، و ملامح وجهه تكشف عن تفكير عميق .. وأنا ألاحظ بأنه يدخن سيجارة إثر أخرى .. أهو ياترى يشعر بالتوتر بمثل هذه السرعة؟.. لكم كانت حياتي صعبة .. إذ لم يمر يوم واحد وحتى التمثال تظهر عليه علائم التعب والملل .. ومرت بقية ساعات ما بعد الظهر بدون إضطرابات .. التمثال يعود إلى البيت إلى زوجتي وطفلتيّ، ويأكل غدائي بالشكل المطلوب، وخلال ساعة يلعب مع البنتين، ويشاهد مع الزوجة فيلماً من أفلام الويسترن في التلفزيون، ثم يأخذ حماماً ويعمل لنفسه شطائر اللحم ويذهب بعدها إلى المخدع لكي يستريح .. لا أعرف أيّ أحلام تأتيه ولكن تسرني فكرة أنها أحلام هادئة ولطيفة .. وإذا كان قبولي يضمن له حلماً هادئاً فأنا أمنحه هذا القبول .. أنا مسرور تماماً من عملي هذا.
ها أن التمثال ومنذ أشهر كثيرة هو في الخدمة .. وما عليّ أن أطالب به الآن؟.. درجة أعلى من الأهلية؟ بالطبع هذا أمر غير ممكن .. في الأيام الأولى إجتاز الإمتحان بشكل رائع .. ومنذ البداية كان شبيهاً بي وبأحسن صورة .. ولم يكن عليه أن يظهر أكثر مما أظهره، ويكفي أنه قبل دوره بسرور وبدون تمرد وأيّ خطأ ميكانيكي .. كذلك فزوجتي سعيدة معه وفي كل الأحوال ليست أكثر شقاء من السابق حين كانت معي .. البنتان تخاطبانه بـ(بابا) وتطلبان منه مصروف الجيب .. وفي العمل يمنحه الزملاء والرئيس ثقتهم .. رغم ذلك فقد لاحظت مؤخراً، وبالضبط منذ الأسبوع المنصرم ، شيئاً مقلقاً . وهو إهتمام التمثال بالسكرتيرة الجديدة الآنسة آمور (آمل أن ليس إسمها هو ما يثيره هناك في أعماق هذه الماكينة المعقّدة، وعندي شكّ في أن هذه المكائن تتقبل كل شيء حرفياً).
عند مدخل المكتب وبعد أن يحييها يبدو بأنه يتباطيء قليلاً قرب طاولتها، ويقف للحظة غير طويلة في حين أنني لغاية وقت ليس بالبعيد كنت أمرّ (وفعل هو ذلك أيضاً) من هناك إلى المكتب بدون أن أبطيء الخطوات .. كذلك صار، وكما يبدو، يملي رسائلاً أكثر .. لربما إزداد حماسه لخدمة الشركة؟ أذكر أنه تكلم في أول يوم في المؤتمر حول المبيعات .. قد يكون دافعه في الكلام إبقاء الآنسة آمور هناك لوقت أطول؟ وهل كانت تلك الرسائل التي أملاها ضرورية حقاً؟ أنا أقسم بأنه إعتبر الأمر هكذا .. ولكن ليس معلوماً أبدا أيّ شيء يخفيه هذا الوجه الجامد للتمثال .. أنا أخشى أن أسأله .. هل يعود ذلك إلى خشيتي من أن أتعرف على أسوأ حقيقة؟ أم أنني اخشى أيضاً أن يثير غضبه إعتدائي على حرّيته الشخصية؟ .. مهما كانت الأسباب قررت الإنتظار حتى يخبرني هو بنفسه .. وأثمر الإنتظار، فقد جاء الخبر الذي خشيته جداً .. في يوم ما في الساعة الثامنة صباحاً إنتبه هو إلىّ عندما كنت واقفاً تحت الدش أسترق النظر إليه أثناء حلاقته لذقنه وكنت مستغرباً وحسدته على أنه، وليس مثلي، لم يجرح نفسه .. ولما شككت بأن التمثال يملك مثل هذا القدر من الشعور كما لما ظننت بأنني سأرى دموعاً في عينيه .. حاولت أن أهدئه.
في البدء حاولت إقناعه بكل هدوء وبعدها عنّفته .. ولكن بدون نتيجة .. فالبكاء صار عويلاً .. وبدأ هو، أو بالأحرى إنفعاله الشديد الذي لا أعرف التعمق في معرفة آليته، يتمرد عليّ .. أصابني الذعر من أن تسمعه الزوجة والبنتان ويهرعن إلى الحمام ويرون وحشاً مجنوناً لا يفلح في أن يجعل رد فعله طبيعياً (هل هو ممكن رؤيتهن لكلينا في الحمام؟ هذا شيء ممكن) أفتح الدش وكلا صنبوري الماء وأطلق الماء من سيفون المرحاض كي يضيع صوته المعذّب في هذا الضجيج .. وهذا كله بسبب ذلك الغرام .. الغرام إلى الآنسة (آمور - غرام) في الحقيقة لم يسعني التقرّب لها حتى أنه لم يتكلم معها بإستثناء الحديث عن القضايا الرسمية .. وبالتأكيد لم ينم معها .. رغم ذلك هو عاشق يائس إلى درجة فقدان الوعي .. يريد أن يهجر زوجتي .. أوضح له بأن هذا أمر غير ممكن نظراً لواجباته ومسؤولياته أولاً .. إنه زوج زوجتي وأب طفلتيّ .. وكلهن غير مستقلات عنه، ومثل هذا التصرف لو حدث لدمّر حياتهن .. ثانياً ما الذي يعرفه هو عن الآنسة آمور؟.. هي أصغر منه بعشر سنوات على الأقل، ولم يبدر منها أي شيء يدل على أنها قد لاحظته عامة، ومن المحتمل أن لها فتاها وفي عمرها وترغب أن يتزوجها.
التمثال لايريد حتى الإستماع إلى ما أقوله ولا يريد أن أسرّه .. لابد أن يملك الآنسة آمور وإلا، وهنا يقوم بحركة مخيفة، سيضع حداً لحياته .. كأن يهشم رأسه بالحائط أو أن يقفز من النافذة محطماً إلى الأبد ميكانزمه الرقيق .. ينتابني الخوف .. فأنا أرى كيف ستنهار خطتي الرائعة التي ضمنت لي طوال الأشهر الأخيرة الحرية التامة وسكينة النفس .. أرى عودتي الشخصية إلى العمل، أرى الفراش مع الزوجة، ومشاهدة التلفزيون، وكيف أنزل الضربات الخفيفة على الطفلتين .. طالما كانت في السابق حياتي لا تطاق فأرجو التصوّر كيف ستكون الآن .. إذ ينبغي معرفة كيف مرت عليّ الأشهر الأخيرة عندما حكم التمثال حياتي .. فأنا أزحت إلى قاع العالم .. أنا أنام الآن كيفما اتفق: في الفنادق الرخيصة، في المترو (أصعد إليه في الساعات المتأخرة من الليل فقط) في الأزقة والبوابات .. لقد كففت وحتى عن أخذ مرتبي من التمثال إذ ليس عندي أيّ رغبة في شراء أي شيء .. صرت نادراً ما أحلق ذقني .. أسير الآن بملابس ممزقة ملطخة .. هل يبدو ذلك لكم أيتها السيدات والسادة أمراً منفراً؟ أبداً .. بالطبع أبداً، في الحقيقة حينما أزاحني التمثال عن حياتي كنت أملك خططاً رفيعة للحياة حياة ناس آخرين .. أردت أن أكون واحداً من باحثي القطب، عازف بيانو محترفاً، رجل دولة معروفاً في العالم.
جهدت في أن أصبح ألكسندر المقدوني وفيما بعد على التوالي موتسارتا، بسماركا، غريتا غاربو، ألفيس بريسلي وهو واضح أن كل هذا في مخيلتي حسب .. أوهمت نفسي بأنني حين أكون في جلودهم لفترة غير طويلة سوف لن أعرف شيئاً آخر عدا المتعة وليس العذابات، وسيكون بمقدوري أن أهرب، أن أتقمص شخصية أخرى متى شئت، لكن تجربتي فشلت بسبب إنعدام الإهتمام، بسبب الإنهاك إذا أراد أحد أن يقول ذلك .. إكتشفت أن لا أتحمل لأمد أطول أن أكون ذلك الإنسان الذي كنته بل أن أكون إنساناً عامة .. أنا أحب مراقبة الناس ولكني لا أحب الحديث معهم ولا أن أكون معهم ولا أن أرضيهم ولا إهانتهم على الأقل . لا أحب وحتى الكلام مع التمثال .. أنا متعب .. أرغب أن أكون جبلاً، شجرة، حجراً .. وإذا كان علي أن أن أبقى إنساناً فليس بإننتظاري غير حياة إنسان منعزل مهمل .. أنتم أيتها السيدات والسادة ترون بأنفسكم أن من غير الممكن أن يدمر التمثال نفسه بنفسه ثم أن أشغل مكانه وأعود إلى حياتي السابقة .. مازلت أحاول إقناعه .. آمره بأن يمسح دموعه ويتناول بجلد، الفطور العائلي، وأعده بالعودة إلى حديثنا في المكتب حين يملي رسائل الصباح على الآنسة آمور .. التمثال يوافق على أنه سيحاول ويجيء متأخراً وبعيون محتقنة بالدم كي يجلس أمام الطاولة.
تسأله زوجتي : أصبت ببرد يا حبيبي؟ .. يحمّر وجه التمثال ويغمغم بكلام غير مفهوم .. أنا أدعو كي لا يسرع .. فخوفي من أن ينهار، أرقبه بقلق كيف أكل قليلاً جداً وأبقى في الفنجان ثلاثة أرباع القهوة .. يخرج التمثال من البيت مكتئباً مما يثير إستغراب زوجتي وخوفها .. أراه كيف أخذ سيارة أجرة بدلاً من الذهاب إلى المترو .. في المكتب أسترق السمع إليه حين يملي الرسائل .. أخذ يزفر بعد كل جملة .. تلاحظ ذلك الآنسة آمور أيضاً .. أي شيء هذا؟ .. مم تعاني يا سيدي؟ تسأله بمرح .. يحل صمت طويل .. أنا أنظر من الخزانة، وماذا أرى .. التمثال والآنسة آمور يتلاصقان ملتهبين مثل الجمر .. التمثال يمرر يده على جسدها، وهي مغمضة العينين، كلاهما يجرح أحدهما الآخر بفمه .. التمثال ينتبه إليّ وأنا أنظر إليهما من وراء باب الخزانة .. أبعث إليه بإشارات سريعة كي يفهم بأنه علينا أن نتحادث وأنني أقف إلى جانبه و أريد مساعدته .. (في المساء؟) يسأل التمثال هامساً وهو يبتعد قليلاً عن الآنسة آمور الملتهبة (أنا مغرم بك) تجيبه هامسة أيضاً .. (وانا مغرمة بك) يقول التمثال بصوت أعلى قليلاً من الهمس (ولابد أن ألتقي معك) .. تجيبه الآنسة آمور هامسة (في المساء، في بيتي .. هذا عنواني) ثم تأتي قبلة أخرى وبعدها تخرج الآنسة آمور.
أخرج أنا من الخزانة وأغلق جيداً باب مكتبي .. يقول التمثال: عليك أن تفهم إما آمور وإما الموت .. أجيبه وأنا محبط: طيب لن أنصحك بعد الآن كي تكف عن هذا الأمر .. هي تبدو لي فتاة لطيفة وجذابة لحد كاف .. ومن يعلم لو كانت تعمل هنا في زمني (أرى كيف يقطب التمثال جبينه غاضباً ولذلك لم أنه المقابلة)ولكن عليك أن تعطيني قليلاً من الوقت . قال التمثال: وماذا عزمت على أن تفعله؟ كما يقول عقلي لي أن لا جديد عندك وإذا كنت قد فكرت بأنني سأعود إلى زوجتك وطفلتيك الآن حين تكون أمامي آمور .. أتوسل إليه أن يمنحني وقتاً .. ماذا في نيتي أن افعله؟ لاشيء أبسط منه .. التمثال موجود الآن في وضعي السابق .. تبدو له الحياة الآن لا تطاق، ولكن لكونه يكرع حياة حقيقية، فردية، لم أعرفها أنا في أيّ وقت، هو لا يريد أن يختفي عن العالم .. وينبغي الإعتراف بإنه راغب فقط في أن تحل الآنسة آمور الفاتنة وبدون أطفال، محل زوجتي المستعمَلة وإبنتيّّ الصاخبتين .. هكذا هي الحال، إذن أيّ مانع يحول دون أن يساعده الحل الذي توصلت إليه آنذاك تماماً كما ساعدني؟ .. فكل شيء هو أحسن من الإنتحار .. ما أحتاج إليه هو الوقت كي أعمل تمثالاً آخر يبقى مع زوجتي وطفلتيّ وبالطبع يذهب بدلاً عني إلى العمل حين يهرب هذا التمثال، وعلي أن أسميّه منذ الآن بتمثال حقيقي مع الآنسة آمور.
في ذلك الصباح أقترضت نقوداً منه كي أذهب إلى الحمام التركي للإغتسال، وحلاقة الرأس والذقن كذلك لشراء بذلة شبيهة بالبذلة التي يرتديها .. وحسب إقتراحه إتفقنا على أن نلتقي في مطعم صغير في (غرينويتش فيليج) لتناول وجبة الغداء، لن يلتقي فيه، بالتأكيد، بأحد قد يتعرف عليه .. ليس عندي أيّ فكرة من أيّّ شيء هو خائف .. خائف من أن إحداً قد يراه وحيداً يتناول غداءه ويحادث نفسه؟ ولكن هو الآن ذو مظهر لائق .. وإذا رأونا معا نحن الإثنين أيّ شيء هو أكثر طبيعية من توأمين بالغين يرتديان الملابس نفسها ومشغولين بتناول غداء مشترك وحديث صريح؟.. كلانا يطلب طبق سباغيتي آل بورو، ورخوّيات مشوّية .. بعد ثلاثة أقداح من الشراب يفهم التمثال وجهة نظري .. وآخذاً بعين الإعتبار مشاعر زوجتي، وليس مشاعري، يؤكد بلهجة صارمة على أنه يميل إلى الإنتظار .. ولكن ليس أطول من بضعة أشهر .. أنبهه إلى أنه خلال هذه الفترة لا أطلب منه إلا أن يحافظ على أن لا تكون علاقته بالآنسة آمور مفضوحة.
إن صنع تمثال ثان يلقى صعاباً أكثر من صنع الأول .. وهنا أنفقت كل ما وفّرت .. خلال عام واحد تقريباً .. فقد إرتفعت أسعار اللدائن التي يصنع منها أشباه البشر، والخامات الأخرى أيضاً كما إزدادت أجور صاحبيّ المهندس والمثَّال .. وما زاد الطين بلة أن مرتب التمثال لم يرتفع رغم تزايد تقدير رئيسي لصلاحية التمثال ونفعه للشركة .. وصار التمثال يتنرفز حين ألح عليه كي يسمح هو، وليس أنا، للمصوّر بعمل نموذج له ورسم ملامح الوجه .. رغم ذلك أنبّهه إلى مسألة أنه إذا كان التمثال الثاني شبيهاً بي مرة أخرى فإن التقليد قد يظهر مشوَّهاً بعض الشيء .. فبين مظهر التمثال الأول ومظهري حصلت بدون شك إختلافات معيّنة رغم أنني لم ألاحظها بنفسي .. أنا أرغب في أن يكون التمثال الثاني نسخة طبق الأصل للأول في أدق التفاصيل رغم أنني لا أقدر على إكتشافها بنفسي .. بالطبع أنا أجازف هنا، فقد تنتقل تلك الشهوة البشرية غير المتوقعة التي حرمت التمثال الأول من أن يكون ذا فائدة، إلى الثاني.
وفي الأخير كان التمثال الثاني جاهزاً .. ونتيجة لإلحاحي الشديد رضخ التمثال الأول (ولكن على مضض، فهو أراد أن يقضي وقت الفراغ مع الآنسة آمور) للتفرغ إلى التمرينات التي تستمر بضعة أسابيع، وهنا أيضاً مسألة تلقين التمثال الثاني عقائدياً .. وفي الأخير جاء اليوم العظيم .. فأثناء سباق يوم الأحد في لعبة البيسبول ، وبالضبط في أثناء الجولة السابعة يدخل التمثال الثاني حياة الأول .. وقد تمّ الإتفاق على أن الأول يخرج لِشراء السجق ويعود الثاني محمّلاً به والمشروبات .. الأول يقفز إلى سيارة الإجرة ويمضي كي يستلقي بين ذراعي الآنسة آمور المفتوحتين .. كان هذا قد حدث قبل تسع سنوات .. والتمثال الثاني يعيش مع زوجتي بدون انفعالات قوية ولا إنهيارات عصبية مثل التي كنت قد تعرضت لها .. البنت الكبرى هي الآن في الجامعة، والصغرى في المدرسة المتوسطة .. كذلك ولد طفل آخر هو صبي، وعمره الآن ست سنوات .. إنتقلوا إلى سكن تعاوني في (فوريست هل) وزوجتي تركت عملها، أما التمثال الثاني فهو الآن مدير مكتب نائب رئيس الشركة .. والتمثال الأول أنهى دراسته المسائية وكان قد عمل أثناءها نادلاً، كذلك عادت الآنسة آمور إلى الدراسة وحصلت على شهادة تؤهلها كي تكون معلمة .. هو الآن مهندس معماري ذو خبرة ليست بالقليلة، أما هي فتعلم اللغة الإنجليزية في المدرسة الإعدادية التي تحمل إسم جولي ريتشمن .. عندهما طفلان، صبي وبنت .. وهما في أقصى السعادة .. ومن حين إلى آخر أزور كلا التمثالين.
بالطبع قبل كل زيارة أقوم على الدوام بتحسين مظهري .. فأنا اعتبر نفسي قريباً وعرّاباً وفي بعض الأحيان عمّاً للأطفال .. جميعهم لا يميلون إلى لقائي، ربما السبب هو مظهري الذي يدعو إلى الرثاء ولكن تنقصهم الجراة كي يغلقوا الباب بوجهي .. أنا لا أمكث أبداً طويلاً عندهم .. على أيّ حال أتمنى لهم كل الخير كما أمتدح نفسي على أنني قد أفلحت بهذه الصورة اللائقة وغير المحرومة من المسؤولية، في حل مشاكل ما تبقى من حياة شقية قصيرة وهبت لي.
سيذهب ورائي إلى العمل ويتقبل المديح والتعنيف من رئيسي .. سينحني إحتراماً وسيقتّر النقود ويبذل الجهد في كل موضع .. سأطلب منه فقط أن يحمل إلىّ كل ثاني أربعاء مرتبي وأنا سأعطيه النقود للمواصلات والغداء في العمل .. وبنفسي سأحرر الصكوك لدفع إيجار السكن والنفقات الضرورية، والباقي سأخفيه في جيبي .. كذلك سيصبح التمثال زوجاً لزوجتي .. سيمارس واجباته الزوجية في كل ثلاثاء وسبت، سيشاهد معها التلفزيون ويتناول وجبات الغداء الصحّي ويتشاجر معها في موضوع تربية الأطفال (زوجتي التي تعمل أيضاً تساهم من مرتبها في تكاليف المعيشة) كذلك سأوصي التمثال أن يلعب في مساءات أيام الإثنين مع فرقة زملائي في لعبة البولنج وأن يزور أمي مساء الجمعة ويقرأ في الصباح الجر يدة وقد يشتري بدلا عني الملابس (لي وله) ومع مرور الوقت ستظهر واجبات أخرى، وأنا أريد التخلص منها جميعاً .. وفي نيتي أن أحتفظ فقط لنفسي ما يمتعني.
قد تقولون أيتها السيدات والسادة بأنه عمل طموح؟ ولماذا؟ .. بالأساس يمكن حل مشاكل هذا العالم بطريقتين فقط: التخريب أو الإستنساخ .. القرن السابق توفرت لديه الإمكانية الأولى فقط .. وأنا لا أجد أيّ سبب يمنعني من الإستفادة من معجزات التكنيك المعاصر كي أحقق التحرر الشخصي .. إذ لديّ كامل الإختيار .. وطالما أنني لست من الأشخاص الميّالين إلى الإنتحار قررت إستنساخ نفسي .. في أحد صباحات أيام الإثنين أدرت زنبرك التمثال وتركته طليقاً بعد ان تأكدت من أنه يعرف ماعليه عمله أي كيف سأتصرف أنا في جميع المواقف التي هي معلومة عندي .. دقّ جرس الساعة المنبهة .. التمثال ينقلب إلى جنبه و يلكز زوجتي التي تنهض غير راغبة من الفراش المزدوج ثم يسكت المنبه .. يلبس هو نعاله والروب ثم يتوجه على ساقين متصلبتين إلى الحمام .. يقضي حاجته ويتغرغر ويحلق ذقنه ويعود إلى المخدع .. يأخذ الملابس من الخزانة ويعود إلى الحمام حيث يرتدي ملابسه وبعدها يتوجه إلى المطبخ.
بنتاي جالستان أمام الطاولة .. صغراهما لم تحضّر بالأمس دروسها .. الزوجة تكتب العذر لمعلمة البنت .. الكبرى تمضغ، بترفع، قطعة خبز باردة .. صباح الخير، بابا (ترحبان بالتمثال الذي يردّ التحية بتقبيلهما من الوجنتين) .. الفطور ينتهي بدون شجار، وأنا أستقبل هذا بإرتياح .. تغادر البنتان المكان ولم تلحظتا أيّ شيء .. صرت واثقاً من أن خطتي ستنجح .. الإنفعال الشديد يدفعني إلى خوف فظيع من أن يحصل عطب في الميكانزم، من أن التمثال لن يتعرف على الإشارات .. ولكن على العكس فكل شيء يحصل جيداً: التمثال يفتح جريدة (نيويورك تايمز) بصورة صحيحة، ويقضي نفس الوقت الذي أقضيه أنا في قراءة أخبار العالم كذلك يقضي الوقت نفسه عند قراءة أخبار الرياضة .. يقبل زوجتي ويغادر المسكن متوجهاً إلى المصعد (هل تتعرف ماكينة على أخرى يا ترى؟) وصل الآن إلى الطابق الأرضي ثم الباب الخارجي ثم الشارع .. إنه يسير بوتيرة معتدلة، فقد خرج في الوقت المناسب وليس مضطراً إلى أن يسرع في السير .. يتوجه الآن إلى المترو .. يبدو متوازناً رابط الجاش نظيفاً (أنا بنفسي نظفته ولمعته في مساء يوم الأحد) يمضي بلا هموم ويؤدي المهام المناطة به .. سيكون سعيداً لغاية رضائي عنه .. وبغض النظر عما سيفعله فرضائي معتمد على رضاء الآخرين عنه.
في المكتب لا أحد قد إنتبه إلى التبدل .. السكرتيرة تحييه .. هو يبعث إليها بإبتسامة تماماً كما أفعل أنا، بعدها يدخل إلى مكاني الصغير ويعلق معطفه ويجلس وراء المكتب .. السكرتيرة تحمل إليه بريدي .. بعد قراءته يملي على السكرتيرة الردود .. والآن عليه أن يتفرغ لكومة القضايا التي لم تنته يوم الجمعة .. يرّد على المكالمات الهاتفية ويتفق على موعد مع زبون محلي أثناء الغداء .. إنتبهت إلى فعل واحد غير منتظم: طوال الصباح دخن التمثال سبع سيجارات بينما أنا أدخن من عشر إلى خمس عشرة .. وتفسيرى لهذا الشيء أنه بدأ عمله اليوم ولا يملك الوقت للتعرض لهذا القدر الكبير من توتراتي وبعد ست سنوات من العمل في هذا المكتب .. إذن أنا أشك بأنه لن يشرب، مثلي إلى الغداء قدحين من الكوكتيل بل واحداً .. بالفعل حصل هذا .. ولكن هذه أمور صغيرة تكون مقبولة إذا كان هناك من يسجلها عامة، وهذا أمر أشك فيه .. إنه الآن مع الزبون من خارج المدينة .. سلوكه لاغبار عليه، وقد يكون هناك قليل من المبالغة في التأدب ولكنني أرجع هذا إلى إنعدام التجارب .. والحمد للرب إنه لا يخطيء لغاية الآن ولو مرة واحدة .. وأثناء الطعام يتصرف كما ينبغي، لايتباطيء في تناول الطعام بل يأكل بشهية .. وهو يعرف بأن عليه توقيع الشيكات وعدم الدفع بواسطة بطاقة الإعتماد، فشركته تملك في هذا المطعم حساباً مفتوحاً.
بعد الظهر يعقد مؤتمر بشأن المبيعات .. نائب الرئيس يلقي تقريراً عن مشروع حملة جديدة للدعاية في منطقة (الغرب الأوسط) التمثال يطرح مقترحاته .. الرئيس يهز رأسه .. التمثال يطرق بقلمه الطاولة الطويلة المصنوعة من خشب الماهون، و ملامح وجهه تكشف عن تفكير عميق .. وأنا ألاحظ بأنه يدخن سيجارة إثر أخرى .. أهو ياترى يشعر بالتوتر بمثل هذه السرعة؟.. لكم كانت حياتي صعبة .. إذ لم يمر يوم واحد وحتى التمثال تظهر عليه علائم التعب والملل .. ومرت بقية ساعات ما بعد الظهر بدون إضطرابات .. التمثال يعود إلى البيت إلى زوجتي وطفلتيّ، ويأكل غدائي بالشكل المطلوب، وخلال ساعة يلعب مع البنتين، ويشاهد مع الزوجة فيلماً من أفلام الويسترن في التلفزيون، ثم يأخذ حماماً ويعمل لنفسه شطائر اللحم ويذهب بعدها إلى المخدع لكي يستريح .. لا أعرف أيّ أحلام تأتيه ولكن تسرني فكرة أنها أحلام هادئة ولطيفة .. وإذا كان قبولي يضمن له حلماً هادئاً فأنا أمنحه هذا القبول .. أنا مسرور تماماً من عملي هذا.
ها أن التمثال ومنذ أشهر كثيرة هو في الخدمة .. وما عليّ أن أطالب به الآن؟.. درجة أعلى من الأهلية؟ بالطبع هذا أمر غير ممكن .. في الأيام الأولى إجتاز الإمتحان بشكل رائع .. ومنذ البداية كان شبيهاً بي وبأحسن صورة .. ولم يكن عليه أن يظهر أكثر مما أظهره، ويكفي أنه قبل دوره بسرور وبدون تمرد وأيّ خطأ ميكانيكي .. كذلك فزوجتي سعيدة معه وفي كل الأحوال ليست أكثر شقاء من السابق حين كانت معي .. البنتان تخاطبانه بـ(بابا) وتطلبان منه مصروف الجيب .. وفي العمل يمنحه الزملاء والرئيس ثقتهم .. رغم ذلك فقد لاحظت مؤخراً، وبالضبط منذ الأسبوع المنصرم ، شيئاً مقلقاً . وهو إهتمام التمثال بالسكرتيرة الجديدة الآنسة آمور (آمل أن ليس إسمها هو ما يثيره هناك في أعماق هذه الماكينة المعقّدة، وعندي شكّ في أن هذه المكائن تتقبل كل شيء حرفياً).
عند مدخل المكتب وبعد أن يحييها يبدو بأنه يتباطيء قليلاً قرب طاولتها، ويقف للحظة غير طويلة في حين أنني لغاية وقت ليس بالبعيد كنت أمرّ (وفعل هو ذلك أيضاً) من هناك إلى المكتب بدون أن أبطيء الخطوات .. كذلك صار، وكما يبدو، يملي رسائلاً أكثر .. لربما إزداد حماسه لخدمة الشركة؟ أذكر أنه تكلم في أول يوم في المؤتمر حول المبيعات .. قد يكون دافعه في الكلام إبقاء الآنسة آمور هناك لوقت أطول؟ وهل كانت تلك الرسائل التي أملاها ضرورية حقاً؟ أنا أقسم بأنه إعتبر الأمر هكذا .. ولكن ليس معلوماً أبدا أيّ شيء يخفيه هذا الوجه الجامد للتمثال .. أنا أخشى أن أسأله .. هل يعود ذلك إلى خشيتي من أن أتعرف على أسوأ حقيقة؟ أم أنني اخشى أيضاً أن يثير غضبه إعتدائي على حرّيته الشخصية؟ .. مهما كانت الأسباب قررت الإنتظار حتى يخبرني هو بنفسه .. وأثمر الإنتظار، فقد جاء الخبر الذي خشيته جداً .. في يوم ما في الساعة الثامنة صباحاً إنتبه هو إلىّ عندما كنت واقفاً تحت الدش أسترق النظر إليه أثناء حلاقته لذقنه وكنت مستغرباً وحسدته على أنه، وليس مثلي، لم يجرح نفسه .. ولما شككت بأن التمثال يملك مثل هذا القدر من الشعور كما لما ظننت بأنني سأرى دموعاً في عينيه .. حاولت أن أهدئه.
في البدء حاولت إقناعه بكل هدوء وبعدها عنّفته .. ولكن بدون نتيجة .. فالبكاء صار عويلاً .. وبدأ هو، أو بالأحرى إنفعاله الشديد الذي لا أعرف التعمق في معرفة آليته، يتمرد عليّ .. أصابني الذعر من أن تسمعه الزوجة والبنتان ويهرعن إلى الحمام ويرون وحشاً مجنوناً لا يفلح في أن يجعل رد فعله طبيعياً (هل هو ممكن رؤيتهن لكلينا في الحمام؟ هذا شيء ممكن) أفتح الدش وكلا صنبوري الماء وأطلق الماء من سيفون المرحاض كي يضيع صوته المعذّب في هذا الضجيج .. وهذا كله بسبب ذلك الغرام .. الغرام إلى الآنسة (آمور - غرام) في الحقيقة لم يسعني التقرّب لها حتى أنه لم يتكلم معها بإستثناء الحديث عن القضايا الرسمية .. وبالتأكيد لم ينم معها .. رغم ذلك هو عاشق يائس إلى درجة فقدان الوعي .. يريد أن يهجر زوجتي .. أوضح له بأن هذا أمر غير ممكن نظراً لواجباته ومسؤولياته أولاً .. إنه زوج زوجتي وأب طفلتيّ .. وكلهن غير مستقلات عنه، ومثل هذا التصرف لو حدث لدمّر حياتهن .. ثانياً ما الذي يعرفه هو عن الآنسة آمور؟.. هي أصغر منه بعشر سنوات على الأقل، ولم يبدر منها أي شيء يدل على أنها قد لاحظته عامة، ومن المحتمل أن لها فتاها وفي عمرها وترغب أن يتزوجها.
التمثال لايريد حتى الإستماع إلى ما أقوله ولا يريد أن أسرّه .. لابد أن يملك الآنسة آمور وإلا، وهنا يقوم بحركة مخيفة، سيضع حداً لحياته .. كأن يهشم رأسه بالحائط أو أن يقفز من النافذة محطماً إلى الأبد ميكانزمه الرقيق .. ينتابني الخوف .. فأنا أرى كيف ستنهار خطتي الرائعة التي ضمنت لي طوال الأشهر الأخيرة الحرية التامة وسكينة النفس .. أرى عودتي الشخصية إلى العمل، أرى الفراش مع الزوجة، ومشاهدة التلفزيون، وكيف أنزل الضربات الخفيفة على الطفلتين .. طالما كانت في السابق حياتي لا تطاق فأرجو التصوّر كيف ستكون الآن .. إذ ينبغي معرفة كيف مرت عليّ الأشهر الأخيرة عندما حكم التمثال حياتي .. فأنا أزحت إلى قاع العالم .. أنا أنام الآن كيفما اتفق: في الفنادق الرخيصة، في المترو (أصعد إليه في الساعات المتأخرة من الليل فقط) في الأزقة والبوابات .. لقد كففت وحتى عن أخذ مرتبي من التمثال إذ ليس عندي أيّ رغبة في شراء أي شيء .. صرت نادراً ما أحلق ذقني .. أسير الآن بملابس ممزقة ملطخة .. هل يبدو ذلك لكم أيتها السيدات والسادة أمراً منفراً؟ أبداً .. بالطبع أبداً، في الحقيقة حينما أزاحني التمثال عن حياتي كنت أملك خططاً رفيعة للحياة حياة ناس آخرين .. أردت أن أكون واحداً من باحثي القطب، عازف بيانو محترفاً، رجل دولة معروفاً في العالم.
جهدت في أن أصبح ألكسندر المقدوني وفيما بعد على التوالي موتسارتا، بسماركا، غريتا غاربو، ألفيس بريسلي وهو واضح أن كل هذا في مخيلتي حسب .. أوهمت نفسي بأنني حين أكون في جلودهم لفترة غير طويلة سوف لن أعرف شيئاً آخر عدا المتعة وليس العذابات، وسيكون بمقدوري أن أهرب، أن أتقمص شخصية أخرى متى شئت، لكن تجربتي فشلت بسبب إنعدام الإهتمام، بسبب الإنهاك إذا أراد أحد أن يقول ذلك .. إكتشفت أن لا أتحمل لأمد أطول أن أكون ذلك الإنسان الذي كنته بل أن أكون إنساناً عامة .. أنا أحب مراقبة الناس ولكني لا أحب الحديث معهم ولا أن أكون معهم ولا أن أرضيهم ولا إهانتهم على الأقل . لا أحب وحتى الكلام مع التمثال .. أنا متعب .. أرغب أن أكون جبلاً، شجرة، حجراً .. وإذا كان علي أن أن أبقى إنساناً فليس بإننتظاري غير حياة إنسان منعزل مهمل .. أنتم أيتها السيدات والسادة ترون بأنفسكم أن من غير الممكن أن يدمر التمثال نفسه بنفسه ثم أن أشغل مكانه وأعود إلى حياتي السابقة .. مازلت أحاول إقناعه .. آمره بأن يمسح دموعه ويتناول بجلد، الفطور العائلي، وأعده بالعودة إلى حديثنا في المكتب حين يملي رسائل الصباح على الآنسة آمور .. التمثال يوافق على أنه سيحاول ويجيء متأخراً وبعيون محتقنة بالدم كي يجلس أمام الطاولة.
تسأله زوجتي : أصبت ببرد يا حبيبي؟ .. يحمّر وجه التمثال ويغمغم بكلام غير مفهوم .. أنا أدعو كي لا يسرع .. فخوفي من أن ينهار، أرقبه بقلق كيف أكل قليلاً جداً وأبقى في الفنجان ثلاثة أرباع القهوة .. يخرج التمثال من البيت مكتئباً مما يثير إستغراب زوجتي وخوفها .. أراه كيف أخذ سيارة أجرة بدلاً من الذهاب إلى المترو .. في المكتب أسترق السمع إليه حين يملي الرسائل .. أخذ يزفر بعد كل جملة .. تلاحظ ذلك الآنسة آمور أيضاً .. أي شيء هذا؟ .. مم تعاني يا سيدي؟ تسأله بمرح .. يحل صمت طويل .. أنا أنظر من الخزانة، وماذا أرى .. التمثال والآنسة آمور يتلاصقان ملتهبين مثل الجمر .. التمثال يمرر يده على جسدها، وهي مغمضة العينين، كلاهما يجرح أحدهما الآخر بفمه .. التمثال ينتبه إليّ وأنا أنظر إليهما من وراء باب الخزانة .. أبعث إليه بإشارات سريعة كي يفهم بأنه علينا أن نتحادث وأنني أقف إلى جانبه و أريد مساعدته .. (في المساء؟) يسأل التمثال هامساً وهو يبتعد قليلاً عن الآنسة آمور الملتهبة (أنا مغرم بك) تجيبه هامسة أيضاً .. (وانا مغرمة بك) يقول التمثال بصوت أعلى قليلاً من الهمس (ولابد أن ألتقي معك) .. تجيبه الآنسة آمور هامسة (في المساء، في بيتي .. هذا عنواني) ثم تأتي قبلة أخرى وبعدها تخرج الآنسة آمور.
أخرج أنا من الخزانة وأغلق جيداً باب مكتبي .. يقول التمثال: عليك أن تفهم إما آمور وإما الموت .. أجيبه وأنا محبط: طيب لن أنصحك بعد الآن كي تكف عن هذا الأمر .. هي تبدو لي فتاة لطيفة وجذابة لحد كاف .. ومن يعلم لو كانت تعمل هنا في زمني (أرى كيف يقطب التمثال جبينه غاضباً ولذلك لم أنه المقابلة)ولكن عليك أن تعطيني قليلاً من الوقت . قال التمثال: وماذا عزمت على أن تفعله؟ كما يقول عقلي لي أن لا جديد عندك وإذا كنت قد فكرت بأنني سأعود إلى زوجتك وطفلتيك الآن حين تكون أمامي آمور .. أتوسل إليه أن يمنحني وقتاً .. ماذا في نيتي أن افعله؟ لاشيء أبسط منه .. التمثال موجود الآن في وضعي السابق .. تبدو له الحياة الآن لا تطاق، ولكن لكونه يكرع حياة حقيقية، فردية، لم أعرفها أنا في أيّ وقت، هو لا يريد أن يختفي عن العالم .. وينبغي الإعتراف بإنه راغب فقط في أن تحل الآنسة آمور الفاتنة وبدون أطفال، محل زوجتي المستعمَلة وإبنتيّّ الصاخبتين .. هكذا هي الحال، إذن أيّ مانع يحول دون أن يساعده الحل الذي توصلت إليه آنذاك تماماً كما ساعدني؟ .. فكل شيء هو أحسن من الإنتحار .. ما أحتاج إليه هو الوقت كي أعمل تمثالاً آخر يبقى مع زوجتي وطفلتيّ وبالطبع يذهب بدلاً عني إلى العمل حين يهرب هذا التمثال، وعلي أن أسميّه منذ الآن بتمثال حقيقي مع الآنسة آمور.
في ذلك الصباح أقترضت نقوداً منه كي أذهب إلى الحمام التركي للإغتسال، وحلاقة الرأس والذقن كذلك لشراء بذلة شبيهة بالبذلة التي يرتديها .. وحسب إقتراحه إتفقنا على أن نلتقي في مطعم صغير في (غرينويتش فيليج) لتناول وجبة الغداء، لن يلتقي فيه، بالتأكيد، بأحد قد يتعرف عليه .. ليس عندي أيّ فكرة من أيّّ شيء هو خائف .. خائف من أن إحداً قد يراه وحيداً يتناول غداءه ويحادث نفسه؟ ولكن هو الآن ذو مظهر لائق .. وإذا رأونا معا نحن الإثنين أيّ شيء هو أكثر طبيعية من توأمين بالغين يرتديان الملابس نفسها ومشغولين بتناول غداء مشترك وحديث صريح؟.. كلانا يطلب طبق سباغيتي آل بورو، ورخوّيات مشوّية .. بعد ثلاثة أقداح من الشراب يفهم التمثال وجهة نظري .. وآخذاً بعين الإعتبار مشاعر زوجتي، وليس مشاعري، يؤكد بلهجة صارمة على أنه يميل إلى الإنتظار .. ولكن ليس أطول من بضعة أشهر .. أنبهه إلى أنه خلال هذه الفترة لا أطلب منه إلا أن يحافظ على أن لا تكون علاقته بالآنسة آمور مفضوحة.
إن صنع تمثال ثان يلقى صعاباً أكثر من صنع الأول .. وهنا أنفقت كل ما وفّرت .. خلال عام واحد تقريباً .. فقد إرتفعت أسعار اللدائن التي يصنع منها أشباه البشر، والخامات الأخرى أيضاً كما إزدادت أجور صاحبيّ المهندس والمثَّال .. وما زاد الطين بلة أن مرتب التمثال لم يرتفع رغم تزايد تقدير رئيسي لصلاحية التمثال ونفعه للشركة .. وصار التمثال يتنرفز حين ألح عليه كي يسمح هو، وليس أنا، للمصوّر بعمل نموذج له ورسم ملامح الوجه .. رغم ذلك أنبّهه إلى مسألة أنه إذا كان التمثال الثاني شبيهاً بي مرة أخرى فإن التقليد قد يظهر مشوَّهاً بعض الشيء .. فبين مظهر التمثال الأول ومظهري حصلت بدون شك إختلافات معيّنة رغم أنني لم ألاحظها بنفسي .. أنا أرغب في أن يكون التمثال الثاني نسخة طبق الأصل للأول في أدق التفاصيل رغم أنني لا أقدر على إكتشافها بنفسي .. بالطبع أنا أجازف هنا، فقد تنتقل تلك الشهوة البشرية غير المتوقعة التي حرمت التمثال الأول من أن يكون ذا فائدة، إلى الثاني.
وفي الأخير كان التمثال الثاني جاهزاً .. ونتيجة لإلحاحي الشديد رضخ التمثال الأول (ولكن على مضض، فهو أراد أن يقضي وقت الفراغ مع الآنسة آمور) للتفرغ إلى التمرينات التي تستمر بضعة أسابيع، وهنا أيضاً مسألة تلقين التمثال الثاني عقائدياً .. وفي الأخير جاء اليوم العظيم .. فأثناء سباق يوم الأحد في لعبة البيسبول ، وبالضبط في أثناء الجولة السابعة يدخل التمثال الثاني حياة الأول .. وقد تمّ الإتفاق على أن الأول يخرج لِشراء السجق ويعود الثاني محمّلاً به والمشروبات .. الأول يقفز إلى سيارة الإجرة ويمضي كي يستلقي بين ذراعي الآنسة آمور المفتوحتين .. كان هذا قد حدث قبل تسع سنوات .. والتمثال الثاني يعيش مع زوجتي بدون انفعالات قوية ولا إنهيارات عصبية مثل التي كنت قد تعرضت لها .. البنت الكبرى هي الآن في الجامعة، والصغرى في المدرسة المتوسطة .. كذلك ولد طفل آخر هو صبي، وعمره الآن ست سنوات .. إنتقلوا إلى سكن تعاوني في (فوريست هل) وزوجتي تركت عملها، أما التمثال الثاني فهو الآن مدير مكتب نائب رئيس الشركة .. والتمثال الأول أنهى دراسته المسائية وكان قد عمل أثناءها نادلاً، كذلك عادت الآنسة آمور إلى الدراسة وحصلت على شهادة تؤهلها كي تكون معلمة .. هو الآن مهندس معماري ذو خبرة ليست بالقليلة، أما هي فتعلم اللغة الإنجليزية في المدرسة الإعدادية التي تحمل إسم جولي ريتشمن .. عندهما طفلان، صبي وبنت .. وهما في أقصى السعادة .. ومن حين إلى آخر أزور كلا التمثالين.
بالطبع قبل كل زيارة أقوم على الدوام بتحسين مظهري .. فأنا اعتبر نفسي قريباً وعرّاباً وفي بعض الأحيان عمّاً للأطفال .. جميعهم لا يميلون إلى لقائي، ربما السبب هو مظهري الذي يدعو إلى الرثاء ولكن تنقصهم الجراة كي يغلقوا الباب بوجهي .. أنا لا أمكث أبداً طويلاً عندهم .. على أيّ حال أتمنى لهم كل الخير كما أمتدح نفسي على أنني قد أفلحت بهذه الصورة اللائقة وغير المحرومة من المسؤولية، في حل مشاكل ما تبقى من حياة شقية قصيرة وهبت لي.