د. محمد سمير عبد السلام - تجاوز بنية الغياب في ديوان " سيعود من بلد بعيد"

الاتصال الروحي الوجودي بالآخر / الابن، ودلالاته الثقافية، والجمالية ثيمة متواترة في خطاب محمد الشحات الشعري، وتبدو واضحة في ديوانه "سيعود من بلد بعيد"، وقد صدر عن دار الأدهم للنشر بالقاهرة سنة 2019.
ورغم وفرة تناول نصوص الأدب منذ الإلياذة لهوميروس للعلاقات العائلية؛ وبخاصة علاقة الابن بالأب؛ فإنها تتخذ شكلا مختلفا في ديوان محمد الشحات؛ لأنها ترتبط بإشكالية اللحظة الحضارية الراهنة، وانعكاساتها النسبية في النص، كما ترتبط بحداثة قاموس محمد الشحات الشعري، وخصوصيته البنائية التي تومئ لعلامات الذكريات، والأشياء الصغيرة، والحكايات، والأحلام التي تومئ إلى الغربة، والحضور الروحي، أو الطيفي الملتبس بالغياب المؤجل للابن.
إن الذات المتكلمة – في ديوان محمد الشحات – تعيد بعث الماضي بصورة شعرية، وتشير إلى إشكالية العلاقة بالزمن، وما يحتمله من لحظات متباينة ترتبط بحدس الأصالة، والشعور بمؤقتية الكينونة، أو حضورها المؤقت كما هي في تصور هيدجر، والتباس الحضور بالغياب، وتأكيد عودة الابن، أو احتماليتها الاستعارية في الخطاب الأدبي للصوت المتكلم.
إن الكتابة عن الاتصال الروحي بالآخر ضمن العلاقات العائلية تتجاوز بنية الغياب، ومركزيتها المحتملة؛ ويمكننا معاينة ذلك في مأساة أنتيجون لسوفوكليس؛ إذ تتصاعد علاقة الاتصال الوجودي فيما وراء موت الأخ عبر إشكالية دفنه، وكذلك نعاين علاقة الأب بالابن في خطاب الملك بريام الذي وجهه لأخيل في إلياذة هوميروس؛ لأجل دفن ابنه هيكتور بطل طروادة؛ وكأن الذات تستنزف كل أشكال الغياب في بنية العودة الاستعارية، وتجددها فيما وراء الوجود اليومي، والحضور الجسدي.
يجدد الاتصال الروحي بالآخر – إذا – علاقة الذات بالزمن، وحدة التعارض بين الأصالة، والغياب، كما يؤسس لإشكالية الهوية بمستوياتها الشخصية، والثقافية؛ إذ إن الصوت المتكلم لا ينفصل عن أخيلة الآخر / الابن كما في ديوان محمد الشحات؛ فالاتصال بينهما يؤكد الهوية الذاتية المشتركة، والحوارية في آن، وسنجد أن الخطاب الشعري في الديوان يمثل صوت الأب / المتكلم باتجاه الابن المسافر، أو يعيد الصوت تخييل صوت الابن، ويوجه خطابه الشعري للأب، أو يخاطب الأب الحفيدة في ثلاث قصائد في الديوان؛ ويؤكد هذا التنوع الهوية المشتركة التي تستعيد الماضي في بنية الحضور نفسها من جهة، وأصالة حضور الآخر ضمن ذاكرة الذات المتكلمة، وصيرورتها الشعرية في فعل الكتابة من جهة أخرى.
أما إشكالية اغتراب الذات، والآخر؛ فتشير إلى قراءة الصلة الروحية ضمن نسبية اللحظة الحضارية الراهنة التي تسودها العلاقات الآلية، والمنفعة السريعة، بينما نجد القصيدة تعلي من الارتباط الروحي والوجودي، والجمالي بالآخر، وتستعيد العلاقات العائلية الأولى من داخل علامات الذاكرة، والأشياء الصغيرة، وأخيلة العودة، وتجددها الاستعاري المتجاوز للغياب، وتذكرنا إيماءات الغربة ضمن اللحظة الحضارية الراهنة بحالة تأجيل الاتصال بالابن المسافر، وتأكيد الاغتراب المضاعف بين خطاب الأب، وخطاب الابن في فيلم إسكندرية نيويورك ليوسف شاهين؛ وكان شاهين قد أخرجه، وكتبه مع خالد يوسف 2004؛ ولكن كلا من الذات، والآخر، أو الابن، والأب في ديوان محمد الشحات، يحاول تجاوز مركزيات الحدود الزمكانية من داخل تأكيد الهوية عبر الذاكرة، وإمكانية تجددها في الحاضر، والمستقبل بصورة مغايرة للانفصال السائد في طرق التفكير.
ويناقش الناقد والمفكر تزفيتان تودوروف إشكالية علاقة الماضي بالهوية، والذاكرة في كتابه الأمل، والذاكرة، خلاصة القرن العشرين، ويرى أن قيمة الماضي تكمن في تفسيراته المتباينة، والمتعارضة أحيانا، ويسهم الماضي في تأكيد الهوية الفردية، أو الجماعية، ويغذي مبادئ تصرفاتنا في الحاضر، ويتفق تودوروف مع الموقف الوسطي إزاء الماضي، بين مركزية الرجوع إليه، والنسيان. (1).
يرتكز خطاب تودوروف الفلسفي، والنقدي – إذا – على إعادة تشكيل الماضي، وتفاسيره المحتملة في سياق حضاري نسبي محدد، كما يشير إلى فاعليته الخفية التي تشكل الهوية عبر الذاكرة، ويحاول تجاوز هيمنة الماضي، أو مركزيته في قراءة لحظة الحضور بما تحمله من تعقيد في علاقات القوى الحضارية، وتحولاتها المحتملة، دون أن ينصرف خطاب تودوروف أيضا عن مزج الهوية الشخصية بالهوية الثقافية في إشكالية قراءة الماضي، وتأويلاته المحتملة.
وسنجد في ديوان محمد الشحات تخييلا لعلامات الماضي التي تعزز من كل من الهوية الثقافية، وتجدد الحضور الشخصي الاستعاري للذات، والآخر، وتوحي عتبة العنوان / سيعود من بلد بعيد إلى تأكيد بنية العودة، والتباسها المحتمل بالغياب في آن؛ وكأن الشاعر يستبق العودة في تشبيهاتها، وأخيلتها، ويذكرنا بتصور بودريار عن التشبيه، واستباقه أحيانا للحدث، كما يومئ العنوان بحضور الآخر الابن في بنية الصوت المتكلم، وسرده للأخيلة، والأحلام التي تستعيد محتوى الذاكرة من أجل تجدد الهوية المشتركة، وبكارة الاتصال الروحي الأول، وبخاصة في لحظات طفولة الابن، ونضجه، وكذلك لحظات اللقاء، أو الوداع، أو كتابة الخطابات، والقصائد.
وتعزز النزعة الذاتية الغنائية – في الديوان – من جماليات التوافق، أو الهارموني بين الذات، والابن، خاصة في العلامات المتعلقة بالأثر، أو بالاتصال الواقعي الاستعاري، ودلالاته الكونية المحتملة؛ فالغرفة – في نص الغيرة من الشوق – قد تعيدنا إلى المدلول المجازي للرحم، والنشوء، ووهج البدايات، ومن ثم تؤكد الهوية، وتجددها الشعري في القصيدة من خلال الأوراق، وآثار الابن.
يقول:
"كانت تحاصرني عيونك / فانزويت بغرفة / أخفيت في أركانها / خطواتك الأولى / وأول ما نطقت به / وأنت تركت في جنباتها / بعضا من الأوراق / كنت حملتها في سلتين / حتى إذا ما ازداد شوقي / كنت أرحل في غيابك ... / لأشم ريحك في الجدار / ووقع كفيك اللتين / تشكلان سفينة / تجري على موج البحار". (2).
يعيد الشاعر تخييل علامات الماضي؛ ليعيد تشكيل الاتصال الروحي، والجمالي بالآخر / الابن، ويبدو ذلك في العلامات الدالة على البدايات الأولى، ووفرتها في الخطاب الشعري، كما تومئ الغرفة إلى تجدد النشوء، والهوية، وانفتاحها على الحلم، وعلى المجال الكوني في خصوصية التشكيل اللغوي في بنية القصيدة؛ إذ تنتقل الذات من آثار الابن (الأوراق – اللعب – الروائح) إلى المجال الكوني، والحلمي الافتراضي؛ وكأن الغياب – في النص – مرتبط بحضور طيفي خيالي مفرط، عبر الأثر، ويوحي السرد الشعري بدينامية حضور الآخر، وتصاعد نغماته ضمن بنية الغياب المؤجل نفسها.
وقد يؤجل الشاعر بنية العودة، ويفكك الإشارات التقليدية إلى الزمن في قصيدة غريب يلقاه غريب؛ يقول: "بعض الفطائر في انتظارك / وجه أمك / لم يزل يستقبل الليلات / بحثا عنك في قصص الطفولة / وليكن هذا المساء / بداية الحلم الجميل / فجأة / قد راقها / أن تشتهي من نور وجهك / تسترد بشاشة / آنستها في عرس أمك / وهي ترتب غرفة / وخزانة / وهياكل اللعب القديمة / والدفاتر / والورود اليابسات / وبقية الأشياء".(3).
يفكك المتكلم علاقات الزمن التقليدية من خلال صورة العودة الطيفية للابن على مائدة الإفطار، ومن خلال صورة ابتسامة الأم التي سبقت ولادته؛ وهو ما يؤكد استنزاف الأصالة للغياب، وحدود البنى الزمكانية الصلبة، ويعود الشاعر لبلاغة استعادة الأثر، والأشياء الصغيرة في علامات الورود، والدفاتر، واللعب، والغرفة، وغيرها، ويذكرنا بمقاومة الأثر لمركزية المحو في تصور دريدا؛ وتذكرنا ابتسامة الأم وبحثها عن الوجه بتوافقية الهوية الثقافية المتجاوزة لبنية الغربة، وشكولها المختلفة بين الذات، والآخر، وتأتي علامة المنزل كفضاء جمالي توافقي يستعيد الحضور الاستعاري للابن من داخل غيابه، أو يعيد الشاعر تشكيل بنيته الشعرية – في القصيدة – كمجال سيميائي يمكن للابن استعادة روائحه في الغربة.
وقد يجسد المتكلم بنية العودة في سياق التحام الفن بالواقع عبر فعل الكتابة؛ وتبدو الكتابة هنا كشكل من أشكال التخاطر في عبورها للحدود باتجاه الآخر؛ يقول في قصيدة عودة الابن إلى أحضان أبيه: "فتركت قصاصات الورق / إلى مكتبك الساجي / حتى إذا ما عدت لتقرأها / وترى فوق جدار الغرفة / جدك وهو يفاخر بنياشين / أوصى أن تملكها / ضن علي / وأوصاك بها / لم أعرف أنك أولى مني / لكن لحظة أن دارت عيناي / بغرفتك المهجورة / ورأيت ملامحك / وقد علقت بتصاوير الجدران / جيوش من أسراب الخوف تراصت". (4).
يتخذ تأكيد الهوية شكلا جماليا هنا؛ وذلك من خلال اللقاء بين الفضاء الجمالي، والواقعي، والأخيلة، والأطياف؛ فعودة الابن تتصل بقصائد الأب، وأثر الجد / النياشين، وطيف الجد المتخيل في فضاء الغرفة المجازي، وتصاوير الجدران، وتأتي هذه الوسائط الجمالية في فضاء الغرفة التصويري الذي يعبر الحدود، ويجسد حالة تشبه التخاطر، ولكن تتجلى في الاثر الجمالي، والخيالي للشعر، والصور، والأطياف التي تحيا في الذاكرة، وفي فعل الكتابة.



===========
د. محمد سمير عبد السلام (أكاديمي وناقد مصري)
*هوامش /
(1) راجع، تزفيتان تودوروف، الأمل، والذاكرة، خلاصة القرن العشرين، ت: نرمين العمري، مكتبة العبيكان بالرياض، ط1، 2006، ص 242.
(2) محمد الشحات، سيعود من بلد بعيد، دار الأدهم بالقاهرة، ط1، سنة 2019، ص – ص 7، 8.
(3) محمد الشحات، السابق، ص- ص 12، 13.
(4) السابق، ص 17.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى