منقول - موت الرسالة الشخصية

قبل سنوات قليلة ، أي في المراحل التي سبقت الثورة التكنولوجية المتسارعة وظهور الإنترنت وابتداع الإيميل ، كان الكتاب والمثقفون في العالم كله يكتبون لبعضهم رسائل ورقية. كانت تلك الرسائل طويلة ، او قصيرة ، ذات أسلوب أدبي رفيع أو سريعة متعثرة الأسلوب ذات طابع يومي: المهم ان تلك الرسائل ، المكتوبة بخط اليد أو على الآلة الكاتبة ، كانت طريقة من طرق تواصل الكتاب مع بعضهم بعضا ، أو مع الآخرين: الأصدقاء ، والحبيبات والأهل والقراء. وقد شكلت هذه المراسلات عبر العصور مادة أدبية تجمع بعد وفاة الكتاب ، أو حتى أثناء حياتهم ، لتقدم إضاءة على أعمالهم وحياتهم وسلوكهم اليومي ، ما يمثل نوعا من النظرة المواربة على حياة الكاتب ونصه الإبداعي. حتى الفواتير والعقود والإيصالات وتذاكر السفر جمعت وحللت للتعرف على الوضع الإقتصادي ، وضنك العيش أحيانا ، للكاتب أو الفنان.

من دراسة المراسلات نشأت رؤى ونظريات حول ادب الكاتب أو الإنجاز الفني للرسام أو الممثل أو المخرج. ومن بين المراسلات التي لا زالت تلقى الإهتمام والتحليل ، بغرض الكشف عن مسيرة الكاتب ووعيه الأدبي ومسار تحولاته ، مراسلات جبران خليل جبران وصديقته وراعيته وعاشقته ماري هاسكل. حول هذه الرسائل كتبت عشرات الكتب بالإنجليزية والعربية ، توصل بعضها إلى أن كتابات جبران بالإنجليزية ما كان لها أن تأخذ صورتها التي هي عليها الآن لولا أصابع ماري هاسكل التي مرت عليها وشذبت إنجليزيتها.

سما يهمنا هنا ليس مراسلات جبران خليل جبران وماري هاسكل ، أو مراسلات مي زيادة وعباس محمود العقاد ، أو رسائل فدوى طوقان إلى أنور المعداوي ، بل فكرة الرسالة نفسها المكتوبة بخط اليد او حتى بحروف الآلة الكاتبة. فهذا الميراث الإنساني يوشك على الإنقراض بدخول العالم كله عصر الإنترنت والرسالة الإلكترونية والفيس بوك والتويتر ، وكل الوسائل التي تقرب البعيد ولكنها تقلل من طابع الخصوصية والبوح ، وتجعل الأسلوب يشحب ويتوارى لصالح لغة إستعمالية يومية سريعة هدفها إيصال المعلومة أو الفكرة وليس تأمل العالم والظواهر والكتابة عن المشاعرالداخلية للشخص.

هذا كله آيل للإنقراض ، الأسلوب والخصوصية والبوح ، والتواصل الإنساني الحميم العميق الذي نجده في رسائل جبران وماري هاسكل ، رسائل جبرا إبراهيم جبرا إلى أصدقائه (التي لا بد انها احترقت باحتراق بيته في شارع الأميرات بحي المنصور في بغداد قبل أسابيع في تفجير إنتحاري) ، رسائل فان جوخ إلى أخيه التي تكشف عن فقره وجوعه ومرضه النفسي الذي أطلع كل هذه اللوحات الخالدة التي يبلغ ثمن الواحدة منها الآن مئات الملايين من الدولارات.

لقد حلت الرسالة الإلكترونية محل الرسالة الشخصية. يكتب المرء الآن على الشاشة ويضغط على مفاتيح لوحة الكي بورد فتصل الرسالة في الحال إلى صاحبها. لا حاجة للذهاب إلى البريد ووضع الطوابع ، ولا ضرورة لساعي البريد الذي يدور في شوارع القرية أو المدينة ليوصل الرسائل. لا توقع ولا لهفة ، بل ثقافة إستعمالية سريعة مثلها مثل الأكل السريع الجاهز الذي يحمل الطعم نفسه دائما.

لست بالطبع ضد هذا النوع من التواصل الإنساني ، فهو سهّل الحياة ، ومكنني من إرسال مقالتي هذه وأنا جالس في مطبخ بيتي أكتب على طاولة المطبخ ، ثم بضغطة واحدة على مفتاح ألـ Enter تصل المقالة إلى موسى حوامدة. هذا عالم مدهش بالفعل ، لم نحلم به من قبل حتى في أقصى شطط أحلامنا وخيالنا الطفولي الواسع المحلق. لكنني أتساءل: كيف يمكن حفظ كل هذه الرسائل المرسلة عبر شبكة الإنترنت؟ كيف ندرس مراسلات الأدباء والفنانين والسياسيين والشخصيات العامة؟ أتذكر كتابا لروائي ومسرحي أمريكي اسمه جي. بي. ميلر نشر كتابا عام 2003 بعنوان "الممرضات الشيطانيات" ، ساخرا من "آيات شيطانية" لسلمان رشدي وعدد كبير من الكتاب في العالم ، أورد قائمة بأعمال الكاتبة الأمريكية غزيرة الإنتاج جويس كارول أوتس فوضع في نهاية القائمة تقريبا رسائلها الإلكترونية في ثلاثة مجلدات. هل هذه هي الطريقة لحفظ رسائلنا الإلكترونية: أن نعيد طباعتها ليتمكن الباحثون من دراستها؟




الدستور -
أعلى