بعد أن أُطيح باليوتوبيات السردية الكبرى التي كانت تَعِد بمستقبل مثالي للبشرية، خيّر ومأمول، توارت صور المدن الفاضلة وكذا أخلاقيات السياسة والحكم والمجتمع ومعها آمال كبيرة خلف حداثة المذاهب العقلانية والتجريبية والنفعية، الرهان الذي اعتبر أليق بعصر صناعي ناهض لا يعول كثيرًا على التمنيات ولا على آلهة الأسلاف في رسم قواعد الحياة ومساراتها،
بقدر ما يسعى لإنقاذ نفسه من تأثيراتها في سياق نظرة نقدية جديدة تستند إلى منظومة قيم عالمية، بلغت غايتها في تشكيلات مجتمعية وثقافية متحررة، حققت كثيرًا من تطلعات الإنسان في التقدم العلمي والاستقرار والرفاه. في عقود لاحقة كانت شهدت تطورات فكرية ومجتمعية عدة، أصبح الزعم القائل إن حلم البشرية على غير صعيد تجسد في التطور الذي بلغته الحضارة الغربية بما تملكه من أدوات معرفة وقوة -على الأقل منذ عصر التنوير الأوروبي- خرافة مسكرة بفعل حركة التاريخ غير الرحيمة؛ إذ سحقت المغامرات الكولونيالية وحروب المصالح لذاذة ذاك الحلم، وأسفرت عن نتائج كارثية بحق شعوب عدة، فأزاحت ادعاءات التقدم المطرد للحضارة الإنسانية، وصولًا إلى لحظة انتحار العقل الأوروبي عشية الحربين العالميتين اللتين لم تخلفا سوى فداحة الموت وحكايات الجند المريرة.
هل علينا في عصر الإرهاب والكراهية مغادرة الأرض التي يتحكم بها الفاسدون والقتلة نحو عوالم أخرى لاستعادة فردوسنا المفقود ولو بوحي الخيال؟ هل بات نزوع الخلاص سردية فردية وسط غياب الآمال الإنسانية العريضة (الإيمان بالعقل والفضيلة والسلام)؟ كان بوسع السينما الخيالية بلُغتِها الفنية ووسائلها التعبيرية المؤثرة استعادة أسئلة إنساننا المعاصر، بعد أن غُيّبت آماله في متاهة الاستبداد وباتت حياته الوحيدة نهبًا لمصاصي الدماء وغريبي الخلقة. هل سيقول الأخ الأكبر وأشباهه في إمبراطورية أوشينا: إن الحياة اليسيرة الآمنة لم تعد قابلة للتحقق من دون سحق الآخرين ممن لم يلحقوا بركاب العالم الجديد الشجاع، أم تلك هي نهاية التاريخ التي تضعنا أمام رقدة إنسان فوكوياما الأخير؟
أفلام تنذر بحروب ودمار ورعب
إذا كان للعلم أساطيره بتعبير رولان بارت، فليس من المصادفة أن تعمل السينما- بوصفها ثمرة تطور العلوم- على مزج الميثولوجيا بالخيال العلمي لإنتاج صورة عصرية تستثمر فضائل الثورة التكنولوجية وهي ترسم، بما لها من قدرة، تطلعات البشر لغد أفضل لا تشوبه المخاوف. ففي عصر عُرف بتطوره العلمي استند الفن السابع إلى إرث سردي كبير دشنه طوال عقود مضت، نخبة من كبار الأدباء والكتاب ممن اتسمت أعمالهم بالرؤى المستقبلية (إي.ج. ويلز، الدوس هكسلي، راي برادبري، آرثر سي كلارك وسواهم) وبفضل ما قدمه الخيال الروائي المندهش بكشوفات العلم والمحذر من مخاطر استخدامه غير المسؤول أصبحت بعض أفلام الخيال الهوليودي مستودعًا لصراع الخير والشر (سلاسل حروب النجوم وغزوات الكواكب الأخرى) أو ساحة لتصادم القوى السحرية ونافذة للمغامرات الغريبة المدهشة (سبعة وجوه للدكتور لاو- آلة الزمن- رحلة إلى مركز الأرض…) التي تعبر عن شيء من البراءة الإنسانية المتوهجة التي تستهويها مواجهة معضلات الكون الغامض، بشكل يتطرف أحيانًا في رسم صورة للمستقبل البشري قاتمة، أو يعتدل حينًا آخر بالوقوف عند حدود المعقول فيه. لكن أفلام الخيال بشكل عام، من دون أن نكون مصرِّين على إلصاق صفة العلمي بها، قدمت في أوقات مختلفة، بجوار قصصها الشعبية، مساحة أوسع لمناقشة القضايا الفكرية التي تهم الإنسان وتستشرف ما سيؤول إليه مستقبله، وإن كانت تستهدف ضمنيًّا نقد الخلل الكامن في بنية مجتمعاتنا الراهنة، مثلما فعل المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو في فلمه «451 فهرنهايت» المأخوذ عن رواية راي برادبري.
من حيث الصناعة السينمائية يمكن القول: إن أفلام الخيال العلمي والفنتازيا والأسطوريات أسهمت منذ بدايات السينما (الصعود إلى القمر- جورج ميليس، ميتروبوليس- فريتز لانغ) في دفع عجلة التقنيات إلى الأمام بخطى سريعة منحت المخرجين إمكانيات واسعة لاستخدام الحيل التقنية والمؤثرات السينمائية التي يحتاجها هذا النمط من الأفلام الذي اعتبر في حينه اتجاهًا جديدًا في عالم الترفيه الأميركي وميلًا للهروب من الواقع بتعبير الناقد سكيب يونغ. ومن أجل تحقيق الإقناع بصورة سينمائية أخرى أشد تعقيدًا استثمرت السينما الخيالية كل الإمكانيات الأدبية والفنية المتاحة لصناعة أفلام مؤثرة تواجه الأسئلة المصيرية الكبرى كما في ملحمة كوبريك الخالدة «أوديسا الفضاء 2001»؛ إذ لم تقتصر مهمة السينما بشكلها الرقمي على تصوير الواقع بما هو كذلك، بل باتت منجذبة لمقاربة العوالم المتخيلة باعتماد أساليب فنية وتقنية لم تكن مسبوقة أو متطلبة في الأنواع الفلمية السائدة آنذاك (سلسة ماتريكس). في حين شهدت العقود اللاحقة موجة لافتة من الأفلام ذات النجاح الجماهيري– متفاوتة المستوى- تناولت المستقبل البشري بصورة مباشرة أو رمزية (فجر الموتى- وحش الفضاء- لقاء غريب من النوع الثالث- مانفستو وسواها). ومزجت تلك الأفلام المشغولة إلى حد كبير بهاجس التنبؤات بين إسقاطات الراهن وسرديات العوالم المستقبلية، وأحيانًا عبر تخيل صورة غد سوداوي تتحكم به قوى همجية مسيطرة. كانت الأفلام التي استند بعضها إلى أدب مكتوب معنية على نحو إسقاطي بمناقشة مشكلة الإنسان في غرب رأسمالي لا حدود لجشعه وأزماته.
ومنذ السبعينيات على نحو خاص، العقد الذي ورث خيبات الجيل الراديكالي الغاضب وفقد ثقته بالقوى التي تتحكم بمجتمعه، حلت يوتوبيات مضادة (التعبير الذي أطلقه الناقد بيتر نيكولز على نمط من الأفلام تمثل هجاء للمستقبل) محل أخرى متفائلة، ربما وجدت تباشيرها في أفلام من نمط (البرتقالة الآلية- فيديودروم- بليد رانر- الكوكب الفنتازي- برومثيوس)، فضلًا عن رؤى سينمائية متباينة الجودة والتأثير ركزت معالجاتها بحس مبالغ فيه أحياناً على ترجمة معتقدات سالفة عن نهاية العالم أو عن مستقبل وشيك سيحكمه الشر والفساد (من نمط أفلام يوم الاستقلال- نهاية العالم 2012- حرب العوالم- الطريق- وسواها)، سواء بفعل الاستخدام غير المسؤول للآلات أو بتوجيه العلم الصناعي والمختبري وجهة غير أخلاقية، وهو الأمر الذي سيتسبب في تدمير خيرات الأرض وتبديد القوى البشرية أو فنائها في مشاريع حمقاء ستقلب السحر على الساحر وهي تختتم عرضها الديستوبي الأليم. وبالنظر للحدود القصوى التي بلغتها أفلام الخيال العلمي (Sci-fi movies) في السبعينيات الحقبة التي بدت قلقة وشكاكة إزاء مستقبلها كما أسلفنا، سنرى عبر تناول عينة من الأفلام كيف بدت صورة المستقبل فيها وكيف أثرت تلك الصورة في أفلام أنتجت اليوم لتعاود قراءة المستقبل في زمن عصي على الفهم، أقل تفاؤلًا وأشد تهديدًا، تتسيّده المخاوف والاضطرابات والعداء المستمكن.
السينما الخيالية: ميثولوجيا معاصرة
عام 1973م أثار فيلم (soylent green) للمخرج ريتشارد فلايشر المأخوذ عن رواية «إفسح إفسح”لهاري هاريسون ردود أفعال متباينة إزاء الرؤية التشاؤمية التي قدمها عن مستقبل ينتظر البشر عام (2022م) وهي السنة التي اختارها الفيلم إطاراً زمنياً لأحداثه. في الفيلم ثمة عالم كئيب يخلو من مظاهر الحياة، الناس فيه تعمل بكد من أجل تأمين الحد الأدنى من المعيشة تحت وطأة مجاعة مقننة تشرف على إدارتها شركات احتكارية تقتر على الأهالي وجبة الغذاء الوحيدة المسماة «سويلنت غرين» التي نكتشف لاحقًا أنها ليست أكثر من إعادة تدوير لجثث البشر الذين يلقون حتفهم. قبل إطلاق فلم فلايشر بثلاثة أعوام قدّم المخرج روبرت وايز فلمه الموسوم «سلالة أندروميدا» عن رواية للكاتب الشهير «مايكل كريتون» صدرت عام 1969 وناقشت إمكانية الحياة خارج الأرض ومخاطر التمدد التكنولوجي للآلات على حياة البشر الذين يتمادون في تقدير نتائج تجاربهم العلمية. حقق الفلم في حينها نجاحاً تجاريّاً كبيراً واعتبر أحد الأفلام الأميركية الرائدة في مجال استخدام الحاسوب لتصميم المؤثرات البصرية وإنتاجها.
وعلى نحو أكثر إتقاناً وأبلغ دلالة قدم مخرج الخيال العلمي الألمع جورج لوكاس عقب مرور ثلاث سنوات على ملحمة ستانلي كوبريك «أوديسا الفضاء 2001» رائعته الخيالية المبكرة (THX- 1138) عام 1971م (إنتاج فرانسيس فورد كوبولا) التي تعدّ ابتعادًا من الطراز النمطي للرحلات العلمية إلى الفضاء الخارجي، لكونها رسمت مستقبلًا غرائبيّاً يمثل كناية تمس حاضرنا بصيغة درامية مشفرة. مشاهد سينمائية مشبعة ببياض مهيمن يفتقد إلى الحميمية الإنسانية، وحشود شبه آلية من حليقي الرؤوس المتسلطين تمارس عملًا ممنهجاً لتدجين البشر ومنعهم من التفكير أو الاختلاط تماشيًا مع قوانين فردوس وهمي.
في حينها اعتبر فيلم لوكاس فيلماً ثوريًّا ضمن مجاله النوعي، ليس فقط لناحية صناعته السينمائية البارعة، إنما لتحطيمه على نحو رمزي صلابة (السيستم) الذي يتحكم في كل شيء في مجتمع شمولي صارم يشبه في شكله المتخيل عالمنا الراهن. سنرى أن كل أحداث الفلم تجري في مدينة ديستوبية معقمة لا يخلف البشر فيها أي أثر أمام أشد أفعال السلطة استغلالًا وسطوة. الشخصيات في مملكة البياض تلك، مثل قطيع آلي من دون أسماء، أرقام مجردة عليها إطاعة الأوامر، وإذا ما ظهر خلل ما في أي مفصل من مفاصل الكتلة البشرية المقودة فإن المعالجات المتاحة تبدو أقرب لميكانيزم إصلاح أعطال الآلة، حيث تتم بالإشارة إلى أرقام محددة يجب اتباعها. يصدر أمر ما للحرس ويكون واجب التنفيذ حينها: اتبع الوسيلة 256 لأن 786 ستؤدي إلى حدوث مشاكل كبرى، لكن إذا كانت لديك مشكلة ما، فلا تتردد في طلب المساعدة. إنه عالم معلَّب مفرغ من آدميته، الحياة فيه تشبه الرقود في تابوت معدني. هذه اللغة الخالية من التمثيل الإنساني التي تستبدل بالأشياء والمسميات رموزًا مجردة تعيدنا إلى اللغة التي ابتكرها الروائي الإنجليزي جورج أورويل في روايته ذائعة الذكر «1984”التي تبدو في دراما من هذا النوع عنصرًا بنائيًّا مغايرًا لخاصية اللغة بوصفها وسيلة تخاطُب وتواصُل؛ ذلك أنها في إطار قاموسها الخاص عامل اغتراب مضاد للمثالية السياسية، يجنح إلى زحزحة مفاهيم اللغة داخل حيز اللغة ذاتها. إنه عالم مؤتمت ومبتكر، يشبه معرفتنا الأولية عن فردوس خيالي مصطنع لا قيمة للمشاعر الإنسانية فيه.
ما أن يتوقف ثيكس (روبرت دوفال) عن تناول الحبوب المفترض تناولها بحسب إرشادات صارمة يحددها النظام حتى يأخذ بالتأنسن والشعور بالرغبة الجنسية تجاه زميلته قبل أن يلاحق ويعاقب فيما بعد، بتهمة الاختلال الكيميائي والتمرد باعتباره كائنًا خطرًا غير سويّ. فلا نشاط أو متع مسموح بها خارج نظام العمل والإنتاجية. في السجن حيث يبدو الجحيم التكنولوجي أبيض بالكامل، بارد وخالٍ من أي شعور إنساني، يتعرف ثيكس على شخص آخر يحاول الهرب معه، ولكن ثمة ما يعرقل خططهم، وعقب محاولة مميتة ينجو ثيكس وحده ويقود مركبة سريعة في مشاهد مطاردة فائقة الإتقان. وفي المشهد الأخير (وهو من أروع المشاهد في تاريخ سينما الخيال العلمي) يترك لنا المخرج رسالة مفتوحة قابلة للتأويل؛ ففيما تناشد إدارة السلطة ثيكس بالعودة، قائلةً: ليس لديك مكان تذهب إليه، كما لا يمكنك الصمود خارج درع المدينة، يكافح ثيكس في الصعود إلى أعلى (ربما إشارة لصعود المسيح إلى السماء لخلاص البشرية) ومن ثم الخروج من فوهة المدينة المحصنة، نحو عالم مجهول.
يضعنا لوكاس أمام صورة بطله محاطًا بقرص الشمس، ينتصب وسط شعلتها الحمراء وسطوعها الأخاذ، يتحرك (ثيكس) بنشوة كائن ولد من جديد وفي الجوار تصدح موسيقا باخ بروحها المحرضة ونغم خلاصها الأبدي. ربما يدفعنا هذا المشهد الذي يستمر حتى نهاية الفلم إلى تأمل حقيقة أن المدينة المحصنة التي تدار بآلات متطورة ونظام رقابة صارم لم تكن في يوم ما منيعةً أمام الانهيار، بل إن سلطتها الفعلية هي ثمرة الخوف المستوطن في نفوس سكانها الذين لم يجرب أحد منهم مواجهتها. الانهيار المعنوي لسلطة المدينة الشمولية يعني خرق أيديولوجيتها، ويعني أيضا أن ينجح ثيكس بوعيه وإرادته (حيث الوعي عتبة التحرر) في الخروج من نطاق هيمنتها نحو عالم آخر ربما يمثل بداية جديدة للبشرية. في وقت ربما لم يكن المزاج مهيأً بعد للانحياز لهذا النوع المعقد من السيناريوهات السينمائية، قدم لوكاس في هذا الفلم الذي كتبه مع زميله والتر مارش تحفة بصرية يمكن إعادة قراءتها في زمن لاحق بوصفها ميثولوجيا معاصرة ذات دلالة تمزج كل عناصر الإدهاش والتشويق والترميز، لتصبح ديستوبيا (Dystopia) سينمائية عن زمن قادم، فاسد ومخيف.
المستقبل: عبودية رقمية
عالم غريب يخلقه المخرج آري فولمان في فلمه الموسوم «The Congress-2013”المأخوذ عن رواية قصيرة للكاتب البولندي ستانسلاف لِم، بعنوان: «مؤتمر الرؤية المستقبلية”نشرت أوائل السبعينيات بعد روايته الخيالية الشهيرة «سولاريس”الصادرة عام 1961م التي اقتبس عنها المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي فلمه الذي لا يقل شهرة بالعنوان نفسه. الفلم الحاصل على جائزة أكاديمية الاتحاد الأوربي كأفضل أنيميشن الذي اشتركت خمس دول أوربية في إنتاجه إضافة إلى إسرائيل يتأمل مستقبل البشر من خلال النظر لمستقبل صناعة السينما ذاته عبر دراما خيالية طريفة تنقسم جزأين رئيسين وتعتمد شكلين فنيين متباينين؛ تمثيل حي ورسوم متحركة. يجنح هذا الفلم عمدًا إلى نوع من الغموض المحبب باجتراح صور ذهنية مركبة تشير إلى المغزى الذي يتعين الانتباه إليه واستيعابه، وبخاصة وهو يطرح في ثنايا مشاهده السؤال المقلق حول ما تؤول إليه أحوال الناس وأخلاقياتهم حينما تغيب الضوابط في مجتمع نفعي مسيطر عليه بقوة المال والتكنولوجيا. عالم مصطنع لا يمكن التغاضي فيه عن وحشية مستترة تريد تحويل البشر- أصحاب المواهب والنجوم على نحو خاص- إلى أرقام في حسابات المنتفعين الذين يديرون اللعبة.
آري فولمان الذي ذاع صيته بعد فلمه «فالس مع بشير عام 2008» يلج هذه المرة بوابة المستقبل البشري من خلال حكاية ممثلة تدعى روبين رايت (تؤدي الشخصية الممثلة روبين رايت ذاتها) يتقدم بها العمر ولا تجد أية فرصة للنجاح، وليس أمامها سوى قبول عرض غريب يتلخص ببيع نسخة رقمية منها للشركة المنتجة. بعد ضغوط وإغراءات توافق روبين على خلق نسخة رقمية عنها لا تشيخ ولا تمرض، لكن مع محوها أو تواريها كشخصية عن عالم الواقع! سيتوقف عمر روبين عند سن 34، وفي الدقيقة 45 من زمن الفلم تدخل الممثلة الشابة بوابة العالم الافتراضي بعد مضي نحو 20 عامًا، فتدهش بعالم الشخصيات الكارتونية الذي ستكون جزءًا منه، لتكتشف لاحقًا في قاعة أحد الفنادق الفارهة المملوكة للشركة أن عشرات المشاهير قد سبقوها لولوج هذا السعادة المؤقتة عبر السماح باستنساخهم كشخصيات كارتونية خالدة تعيش أحلامها تحت تأثير حبوب الهلوسة. في عالم افتراضي مليء بالصور الزائفة يمكن للجميع أن يعيشوا وهْم أنهم مشاهير بنسخ افتراضية يصممها الكومبيوتر، مثلما يتناسون ضياعهم في نظام مؤتمت مسيطر عليه يعتمد الشرائح الإلكترونية والبطاقات الائتمانية وسواها. ومن الطريف في جزء الأنيميشن أن تظهر الشخصيات المعروفة إلى جوار بعضها، بغض النظر عن زمنها ومعناها، في ذاك الحفل البراق يمكن لك أن ترى مايكل جاكسون ومارلين مونرو إلى جوار المسيح وجيفارا وبوذا ومشاهير آخرين، والجميع بهيئة ليست غريبة بحد ذاتها فقط، إنما في استعمالها السينمائي أو لنقل في السياق الدلالي الذي وضعت فيه. إنه عالم حلمي يعيد التذكير بدهشة أليس وهي تتجول في بلاد العجائب.
في غضون ذلك تتعرض روبين لمحاولة اغتيال خلال حفل الشركة التي تقدم عروض التحويل الرقمي (ليس من المصادفة أن يكون اسمها ماراماونت Miramount في تلميح محتمل إلى شركة الإنتاج الشهيرة بارامونت) وتدير كل هذه العمليات التي تشجع الأفراد على التلذذ بأحلامهم المنشودة وتقمُّص الشخصية التي يرغبون فيها، فلا مستقبل من دون التحول إلى كائنات إلكترونية. لاحقًا سيجري استغلال النجمة السينمائية وتتعرض للابتزاز قبل أن تنجو بمساعدة إحدى الشخصيات التي ترتبط معها بصداقة، فتقدم لها كبسولة يمكن أن تعيدها إلى حياتها الطبيعية. ويترك لها الخيار في أن تبقى في عالم الشهرة والمال أو تعود إلى واقعها الذي لا يقل قسوة عما شاهدته في سفرها الافتراضي.
المفارقة تكمن في نهاية الأحداث حينما تقرر روبين العودة إلى حياتها للعناية بابنها المصاب بداء ضعف السمع، لتجد بعد فوات الأوان أن الابن قد تحول هو الآخر إلى شخصية كارتونية من أجل الخلاص من محنته الطويلة مع المرض. إنه نوع من الخلود الأحيائي في واقع افتراضي. قد يكون الخيال في عالم افتراضي من هذا النوع مجرد وهم مجاني لذيذ يمنحنا -كبشر عاجزين عن تغيير قوانين اللعبة- الإحساس المؤقت بقدرتنا على الابتكار والتفوق والشهرة، لكنه ينسينا في الوقت عينه الانتباه إلى حجم الأضرار المحتملة التي يلحقها بإرادتنا الفعلية، وبقدرتنا على رسم مستقبلنا الآمن، فضلًا عن كم التصدعات في كياننا الإنساني.
بقدر ما يسعى لإنقاذ نفسه من تأثيراتها في سياق نظرة نقدية جديدة تستند إلى منظومة قيم عالمية، بلغت غايتها في تشكيلات مجتمعية وثقافية متحررة، حققت كثيرًا من تطلعات الإنسان في التقدم العلمي والاستقرار والرفاه. في عقود لاحقة كانت شهدت تطورات فكرية ومجتمعية عدة، أصبح الزعم القائل إن حلم البشرية على غير صعيد تجسد في التطور الذي بلغته الحضارة الغربية بما تملكه من أدوات معرفة وقوة -على الأقل منذ عصر التنوير الأوروبي- خرافة مسكرة بفعل حركة التاريخ غير الرحيمة؛ إذ سحقت المغامرات الكولونيالية وحروب المصالح لذاذة ذاك الحلم، وأسفرت عن نتائج كارثية بحق شعوب عدة، فأزاحت ادعاءات التقدم المطرد للحضارة الإنسانية، وصولًا إلى لحظة انتحار العقل الأوروبي عشية الحربين العالميتين اللتين لم تخلفا سوى فداحة الموت وحكايات الجند المريرة.
هل علينا في عصر الإرهاب والكراهية مغادرة الأرض التي يتحكم بها الفاسدون والقتلة نحو عوالم أخرى لاستعادة فردوسنا المفقود ولو بوحي الخيال؟ هل بات نزوع الخلاص سردية فردية وسط غياب الآمال الإنسانية العريضة (الإيمان بالعقل والفضيلة والسلام)؟ كان بوسع السينما الخيالية بلُغتِها الفنية ووسائلها التعبيرية المؤثرة استعادة أسئلة إنساننا المعاصر، بعد أن غُيّبت آماله في متاهة الاستبداد وباتت حياته الوحيدة نهبًا لمصاصي الدماء وغريبي الخلقة. هل سيقول الأخ الأكبر وأشباهه في إمبراطورية أوشينا: إن الحياة اليسيرة الآمنة لم تعد قابلة للتحقق من دون سحق الآخرين ممن لم يلحقوا بركاب العالم الجديد الشجاع، أم تلك هي نهاية التاريخ التي تضعنا أمام رقدة إنسان فوكوياما الأخير؟
أفلام تنذر بحروب ودمار ورعب
إذا كان للعلم أساطيره بتعبير رولان بارت، فليس من المصادفة أن تعمل السينما- بوصفها ثمرة تطور العلوم- على مزج الميثولوجيا بالخيال العلمي لإنتاج صورة عصرية تستثمر فضائل الثورة التكنولوجية وهي ترسم، بما لها من قدرة، تطلعات البشر لغد أفضل لا تشوبه المخاوف. ففي عصر عُرف بتطوره العلمي استند الفن السابع إلى إرث سردي كبير دشنه طوال عقود مضت، نخبة من كبار الأدباء والكتاب ممن اتسمت أعمالهم بالرؤى المستقبلية (إي.ج. ويلز، الدوس هكسلي، راي برادبري، آرثر سي كلارك وسواهم) وبفضل ما قدمه الخيال الروائي المندهش بكشوفات العلم والمحذر من مخاطر استخدامه غير المسؤول أصبحت بعض أفلام الخيال الهوليودي مستودعًا لصراع الخير والشر (سلاسل حروب النجوم وغزوات الكواكب الأخرى) أو ساحة لتصادم القوى السحرية ونافذة للمغامرات الغريبة المدهشة (سبعة وجوه للدكتور لاو- آلة الزمن- رحلة إلى مركز الأرض…) التي تعبر عن شيء من البراءة الإنسانية المتوهجة التي تستهويها مواجهة معضلات الكون الغامض، بشكل يتطرف أحيانًا في رسم صورة للمستقبل البشري قاتمة، أو يعتدل حينًا آخر بالوقوف عند حدود المعقول فيه. لكن أفلام الخيال بشكل عام، من دون أن نكون مصرِّين على إلصاق صفة العلمي بها، قدمت في أوقات مختلفة، بجوار قصصها الشعبية، مساحة أوسع لمناقشة القضايا الفكرية التي تهم الإنسان وتستشرف ما سيؤول إليه مستقبله، وإن كانت تستهدف ضمنيًّا نقد الخلل الكامن في بنية مجتمعاتنا الراهنة، مثلما فعل المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو في فلمه «451 فهرنهايت» المأخوذ عن رواية راي برادبري.
من حيث الصناعة السينمائية يمكن القول: إن أفلام الخيال العلمي والفنتازيا والأسطوريات أسهمت منذ بدايات السينما (الصعود إلى القمر- جورج ميليس، ميتروبوليس- فريتز لانغ) في دفع عجلة التقنيات إلى الأمام بخطى سريعة منحت المخرجين إمكانيات واسعة لاستخدام الحيل التقنية والمؤثرات السينمائية التي يحتاجها هذا النمط من الأفلام الذي اعتبر في حينه اتجاهًا جديدًا في عالم الترفيه الأميركي وميلًا للهروب من الواقع بتعبير الناقد سكيب يونغ. ومن أجل تحقيق الإقناع بصورة سينمائية أخرى أشد تعقيدًا استثمرت السينما الخيالية كل الإمكانيات الأدبية والفنية المتاحة لصناعة أفلام مؤثرة تواجه الأسئلة المصيرية الكبرى كما في ملحمة كوبريك الخالدة «أوديسا الفضاء 2001»؛ إذ لم تقتصر مهمة السينما بشكلها الرقمي على تصوير الواقع بما هو كذلك، بل باتت منجذبة لمقاربة العوالم المتخيلة باعتماد أساليب فنية وتقنية لم تكن مسبوقة أو متطلبة في الأنواع الفلمية السائدة آنذاك (سلسة ماتريكس). في حين شهدت العقود اللاحقة موجة لافتة من الأفلام ذات النجاح الجماهيري– متفاوتة المستوى- تناولت المستقبل البشري بصورة مباشرة أو رمزية (فجر الموتى- وحش الفضاء- لقاء غريب من النوع الثالث- مانفستو وسواها). ومزجت تلك الأفلام المشغولة إلى حد كبير بهاجس التنبؤات بين إسقاطات الراهن وسرديات العوالم المستقبلية، وأحيانًا عبر تخيل صورة غد سوداوي تتحكم به قوى همجية مسيطرة. كانت الأفلام التي استند بعضها إلى أدب مكتوب معنية على نحو إسقاطي بمناقشة مشكلة الإنسان في غرب رأسمالي لا حدود لجشعه وأزماته.
ومنذ السبعينيات على نحو خاص، العقد الذي ورث خيبات الجيل الراديكالي الغاضب وفقد ثقته بالقوى التي تتحكم بمجتمعه، حلت يوتوبيات مضادة (التعبير الذي أطلقه الناقد بيتر نيكولز على نمط من الأفلام تمثل هجاء للمستقبل) محل أخرى متفائلة، ربما وجدت تباشيرها في أفلام من نمط (البرتقالة الآلية- فيديودروم- بليد رانر- الكوكب الفنتازي- برومثيوس)، فضلًا عن رؤى سينمائية متباينة الجودة والتأثير ركزت معالجاتها بحس مبالغ فيه أحياناً على ترجمة معتقدات سالفة عن نهاية العالم أو عن مستقبل وشيك سيحكمه الشر والفساد (من نمط أفلام يوم الاستقلال- نهاية العالم 2012- حرب العوالم- الطريق- وسواها)، سواء بفعل الاستخدام غير المسؤول للآلات أو بتوجيه العلم الصناعي والمختبري وجهة غير أخلاقية، وهو الأمر الذي سيتسبب في تدمير خيرات الأرض وتبديد القوى البشرية أو فنائها في مشاريع حمقاء ستقلب السحر على الساحر وهي تختتم عرضها الديستوبي الأليم. وبالنظر للحدود القصوى التي بلغتها أفلام الخيال العلمي (Sci-fi movies) في السبعينيات الحقبة التي بدت قلقة وشكاكة إزاء مستقبلها كما أسلفنا، سنرى عبر تناول عينة من الأفلام كيف بدت صورة المستقبل فيها وكيف أثرت تلك الصورة في أفلام أنتجت اليوم لتعاود قراءة المستقبل في زمن عصي على الفهم، أقل تفاؤلًا وأشد تهديدًا، تتسيّده المخاوف والاضطرابات والعداء المستمكن.
السينما الخيالية: ميثولوجيا معاصرة
عام 1973م أثار فيلم (soylent green) للمخرج ريتشارد فلايشر المأخوذ عن رواية «إفسح إفسح”لهاري هاريسون ردود أفعال متباينة إزاء الرؤية التشاؤمية التي قدمها عن مستقبل ينتظر البشر عام (2022م) وهي السنة التي اختارها الفيلم إطاراً زمنياً لأحداثه. في الفيلم ثمة عالم كئيب يخلو من مظاهر الحياة، الناس فيه تعمل بكد من أجل تأمين الحد الأدنى من المعيشة تحت وطأة مجاعة مقننة تشرف على إدارتها شركات احتكارية تقتر على الأهالي وجبة الغذاء الوحيدة المسماة «سويلنت غرين» التي نكتشف لاحقًا أنها ليست أكثر من إعادة تدوير لجثث البشر الذين يلقون حتفهم. قبل إطلاق فلم فلايشر بثلاثة أعوام قدّم المخرج روبرت وايز فلمه الموسوم «سلالة أندروميدا» عن رواية للكاتب الشهير «مايكل كريتون» صدرت عام 1969 وناقشت إمكانية الحياة خارج الأرض ومخاطر التمدد التكنولوجي للآلات على حياة البشر الذين يتمادون في تقدير نتائج تجاربهم العلمية. حقق الفلم في حينها نجاحاً تجاريّاً كبيراً واعتبر أحد الأفلام الأميركية الرائدة في مجال استخدام الحاسوب لتصميم المؤثرات البصرية وإنتاجها.
وعلى نحو أكثر إتقاناً وأبلغ دلالة قدم مخرج الخيال العلمي الألمع جورج لوكاس عقب مرور ثلاث سنوات على ملحمة ستانلي كوبريك «أوديسا الفضاء 2001» رائعته الخيالية المبكرة (THX- 1138) عام 1971م (إنتاج فرانسيس فورد كوبولا) التي تعدّ ابتعادًا من الطراز النمطي للرحلات العلمية إلى الفضاء الخارجي، لكونها رسمت مستقبلًا غرائبيّاً يمثل كناية تمس حاضرنا بصيغة درامية مشفرة. مشاهد سينمائية مشبعة ببياض مهيمن يفتقد إلى الحميمية الإنسانية، وحشود شبه آلية من حليقي الرؤوس المتسلطين تمارس عملًا ممنهجاً لتدجين البشر ومنعهم من التفكير أو الاختلاط تماشيًا مع قوانين فردوس وهمي.
في حينها اعتبر فيلم لوكاس فيلماً ثوريًّا ضمن مجاله النوعي، ليس فقط لناحية صناعته السينمائية البارعة، إنما لتحطيمه على نحو رمزي صلابة (السيستم) الذي يتحكم في كل شيء في مجتمع شمولي صارم يشبه في شكله المتخيل عالمنا الراهن. سنرى أن كل أحداث الفلم تجري في مدينة ديستوبية معقمة لا يخلف البشر فيها أي أثر أمام أشد أفعال السلطة استغلالًا وسطوة. الشخصيات في مملكة البياض تلك، مثل قطيع آلي من دون أسماء، أرقام مجردة عليها إطاعة الأوامر، وإذا ما ظهر خلل ما في أي مفصل من مفاصل الكتلة البشرية المقودة فإن المعالجات المتاحة تبدو أقرب لميكانيزم إصلاح أعطال الآلة، حيث تتم بالإشارة إلى أرقام محددة يجب اتباعها. يصدر أمر ما للحرس ويكون واجب التنفيذ حينها: اتبع الوسيلة 256 لأن 786 ستؤدي إلى حدوث مشاكل كبرى، لكن إذا كانت لديك مشكلة ما، فلا تتردد في طلب المساعدة. إنه عالم معلَّب مفرغ من آدميته، الحياة فيه تشبه الرقود في تابوت معدني. هذه اللغة الخالية من التمثيل الإنساني التي تستبدل بالأشياء والمسميات رموزًا مجردة تعيدنا إلى اللغة التي ابتكرها الروائي الإنجليزي جورج أورويل في روايته ذائعة الذكر «1984”التي تبدو في دراما من هذا النوع عنصرًا بنائيًّا مغايرًا لخاصية اللغة بوصفها وسيلة تخاطُب وتواصُل؛ ذلك أنها في إطار قاموسها الخاص عامل اغتراب مضاد للمثالية السياسية، يجنح إلى زحزحة مفاهيم اللغة داخل حيز اللغة ذاتها. إنه عالم مؤتمت ومبتكر، يشبه معرفتنا الأولية عن فردوس خيالي مصطنع لا قيمة للمشاعر الإنسانية فيه.
ما أن يتوقف ثيكس (روبرت دوفال) عن تناول الحبوب المفترض تناولها بحسب إرشادات صارمة يحددها النظام حتى يأخذ بالتأنسن والشعور بالرغبة الجنسية تجاه زميلته قبل أن يلاحق ويعاقب فيما بعد، بتهمة الاختلال الكيميائي والتمرد باعتباره كائنًا خطرًا غير سويّ. فلا نشاط أو متع مسموح بها خارج نظام العمل والإنتاجية. في السجن حيث يبدو الجحيم التكنولوجي أبيض بالكامل، بارد وخالٍ من أي شعور إنساني، يتعرف ثيكس على شخص آخر يحاول الهرب معه، ولكن ثمة ما يعرقل خططهم، وعقب محاولة مميتة ينجو ثيكس وحده ويقود مركبة سريعة في مشاهد مطاردة فائقة الإتقان. وفي المشهد الأخير (وهو من أروع المشاهد في تاريخ سينما الخيال العلمي) يترك لنا المخرج رسالة مفتوحة قابلة للتأويل؛ ففيما تناشد إدارة السلطة ثيكس بالعودة، قائلةً: ليس لديك مكان تذهب إليه، كما لا يمكنك الصمود خارج درع المدينة، يكافح ثيكس في الصعود إلى أعلى (ربما إشارة لصعود المسيح إلى السماء لخلاص البشرية) ومن ثم الخروج من فوهة المدينة المحصنة، نحو عالم مجهول.
يضعنا لوكاس أمام صورة بطله محاطًا بقرص الشمس، ينتصب وسط شعلتها الحمراء وسطوعها الأخاذ، يتحرك (ثيكس) بنشوة كائن ولد من جديد وفي الجوار تصدح موسيقا باخ بروحها المحرضة ونغم خلاصها الأبدي. ربما يدفعنا هذا المشهد الذي يستمر حتى نهاية الفلم إلى تأمل حقيقة أن المدينة المحصنة التي تدار بآلات متطورة ونظام رقابة صارم لم تكن في يوم ما منيعةً أمام الانهيار، بل إن سلطتها الفعلية هي ثمرة الخوف المستوطن في نفوس سكانها الذين لم يجرب أحد منهم مواجهتها. الانهيار المعنوي لسلطة المدينة الشمولية يعني خرق أيديولوجيتها، ويعني أيضا أن ينجح ثيكس بوعيه وإرادته (حيث الوعي عتبة التحرر) في الخروج من نطاق هيمنتها نحو عالم آخر ربما يمثل بداية جديدة للبشرية. في وقت ربما لم يكن المزاج مهيأً بعد للانحياز لهذا النوع المعقد من السيناريوهات السينمائية، قدم لوكاس في هذا الفلم الذي كتبه مع زميله والتر مارش تحفة بصرية يمكن إعادة قراءتها في زمن لاحق بوصفها ميثولوجيا معاصرة ذات دلالة تمزج كل عناصر الإدهاش والتشويق والترميز، لتصبح ديستوبيا (Dystopia) سينمائية عن زمن قادم، فاسد ومخيف.
المستقبل: عبودية رقمية
عالم غريب يخلقه المخرج آري فولمان في فلمه الموسوم «The Congress-2013”المأخوذ عن رواية قصيرة للكاتب البولندي ستانسلاف لِم، بعنوان: «مؤتمر الرؤية المستقبلية”نشرت أوائل السبعينيات بعد روايته الخيالية الشهيرة «سولاريس”الصادرة عام 1961م التي اقتبس عنها المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي فلمه الذي لا يقل شهرة بالعنوان نفسه. الفلم الحاصل على جائزة أكاديمية الاتحاد الأوربي كأفضل أنيميشن الذي اشتركت خمس دول أوربية في إنتاجه إضافة إلى إسرائيل يتأمل مستقبل البشر من خلال النظر لمستقبل صناعة السينما ذاته عبر دراما خيالية طريفة تنقسم جزأين رئيسين وتعتمد شكلين فنيين متباينين؛ تمثيل حي ورسوم متحركة. يجنح هذا الفلم عمدًا إلى نوع من الغموض المحبب باجتراح صور ذهنية مركبة تشير إلى المغزى الذي يتعين الانتباه إليه واستيعابه، وبخاصة وهو يطرح في ثنايا مشاهده السؤال المقلق حول ما تؤول إليه أحوال الناس وأخلاقياتهم حينما تغيب الضوابط في مجتمع نفعي مسيطر عليه بقوة المال والتكنولوجيا. عالم مصطنع لا يمكن التغاضي فيه عن وحشية مستترة تريد تحويل البشر- أصحاب المواهب والنجوم على نحو خاص- إلى أرقام في حسابات المنتفعين الذين يديرون اللعبة.
آري فولمان الذي ذاع صيته بعد فلمه «فالس مع بشير عام 2008» يلج هذه المرة بوابة المستقبل البشري من خلال حكاية ممثلة تدعى روبين رايت (تؤدي الشخصية الممثلة روبين رايت ذاتها) يتقدم بها العمر ولا تجد أية فرصة للنجاح، وليس أمامها سوى قبول عرض غريب يتلخص ببيع نسخة رقمية منها للشركة المنتجة. بعد ضغوط وإغراءات توافق روبين على خلق نسخة رقمية عنها لا تشيخ ولا تمرض، لكن مع محوها أو تواريها كشخصية عن عالم الواقع! سيتوقف عمر روبين عند سن 34، وفي الدقيقة 45 من زمن الفلم تدخل الممثلة الشابة بوابة العالم الافتراضي بعد مضي نحو 20 عامًا، فتدهش بعالم الشخصيات الكارتونية الذي ستكون جزءًا منه، لتكتشف لاحقًا في قاعة أحد الفنادق الفارهة المملوكة للشركة أن عشرات المشاهير قد سبقوها لولوج هذا السعادة المؤقتة عبر السماح باستنساخهم كشخصيات كارتونية خالدة تعيش أحلامها تحت تأثير حبوب الهلوسة. في عالم افتراضي مليء بالصور الزائفة يمكن للجميع أن يعيشوا وهْم أنهم مشاهير بنسخ افتراضية يصممها الكومبيوتر، مثلما يتناسون ضياعهم في نظام مؤتمت مسيطر عليه يعتمد الشرائح الإلكترونية والبطاقات الائتمانية وسواها. ومن الطريف في جزء الأنيميشن أن تظهر الشخصيات المعروفة إلى جوار بعضها، بغض النظر عن زمنها ومعناها، في ذاك الحفل البراق يمكن لك أن ترى مايكل جاكسون ومارلين مونرو إلى جوار المسيح وجيفارا وبوذا ومشاهير آخرين، والجميع بهيئة ليست غريبة بحد ذاتها فقط، إنما في استعمالها السينمائي أو لنقل في السياق الدلالي الذي وضعت فيه. إنه عالم حلمي يعيد التذكير بدهشة أليس وهي تتجول في بلاد العجائب.
في غضون ذلك تتعرض روبين لمحاولة اغتيال خلال حفل الشركة التي تقدم عروض التحويل الرقمي (ليس من المصادفة أن يكون اسمها ماراماونت Miramount في تلميح محتمل إلى شركة الإنتاج الشهيرة بارامونت) وتدير كل هذه العمليات التي تشجع الأفراد على التلذذ بأحلامهم المنشودة وتقمُّص الشخصية التي يرغبون فيها، فلا مستقبل من دون التحول إلى كائنات إلكترونية. لاحقًا سيجري استغلال النجمة السينمائية وتتعرض للابتزاز قبل أن تنجو بمساعدة إحدى الشخصيات التي ترتبط معها بصداقة، فتقدم لها كبسولة يمكن أن تعيدها إلى حياتها الطبيعية. ويترك لها الخيار في أن تبقى في عالم الشهرة والمال أو تعود إلى واقعها الذي لا يقل قسوة عما شاهدته في سفرها الافتراضي.
المفارقة تكمن في نهاية الأحداث حينما تقرر روبين العودة إلى حياتها للعناية بابنها المصاب بداء ضعف السمع، لتجد بعد فوات الأوان أن الابن قد تحول هو الآخر إلى شخصية كارتونية من أجل الخلاص من محنته الطويلة مع المرض. إنه نوع من الخلود الأحيائي في واقع افتراضي. قد يكون الخيال في عالم افتراضي من هذا النوع مجرد وهم مجاني لذيذ يمنحنا -كبشر عاجزين عن تغيير قوانين اللعبة- الإحساس المؤقت بقدرتنا على الابتكار والتفوق والشهرة، لكنه ينسينا في الوقت عينه الانتباه إلى حجم الأضرار المحتملة التي يلحقها بإرادتنا الفعلية، وبقدرتنا على رسم مستقبلنا الآمن، فضلًا عن كم التصدعات في كياننا الإنساني.
ديستوبيا سينمائية ..أفلام الخيال العلمي ونبوءات مستقبل البشر - جريدة تاتوو
توارت صور المدن الفاضلة وكذا أخلاقيات السياسة والحكم والمجتمع ومعها آمال كبيرة خلف حداثة المذاهب العقلانية والتجريبية والنفعية، الرهان الذي اعتبر أليق بعصر صناعي ناهض لا يعول كثيرًا على التمنيات ولا على آلهة الأسلاف في رسم قواعد الحياة ومساراتها،
www.tatoopaper.com