محمود سعيد، مؤلف الرّواية المترجمة حديثا “فوهة في الفضاء”، مهاجر عراقي، يعيش في شيكاغو، حاصل على اللجوء السياسي، في الولايات المتحدة. أشير إلى هذا النقطة بسبب المناخ الحالي القائم على العداء والخوف تجاه اللاجئين العراقيين والسّوريين، ذلك العداء يتّضح كلّ يوم تقريبا في عناوين الصّحف. في 17 نوفمبر 2015، تبجح حاكم لويزيانا بوبي جندال بطلب تنفيذ قانون يمنع دخول اللاجئين السّوريين، قائلا: “نحن لا نريد هؤلاء اللاجئين في ولايتنا.” في الوقت الذي يركّز خطاب الرّئيس أوباما حول تفضيل الرّأفة بالمهاجرين: “القيادة الأميركية هي أن نهتمّ بالنّاس المنسيّين، أو الذين تعرّضوا للتّمييز، أو الذين عذّبوا، أو خضعوا لعنف لا يوصف، أو الذين انفصلوا عن عائلاتهم في سن مبكّرة جدا. هكذا نشعل ضوءًا ساطعا في أعلى التل“. ومع ذلك، تُظهر هذه المسألة أوباما خاسرًا سياسيًا.
سعيد هو برهان لفضائل نظام اللجوء التي يقدم ملاذا آمنا ليس فقط للمضطهدين فاقدي الجنسية، ولكن أيضا لأولئك الذين يعملون في القطاع الفكري الصّعب الخلّاق، في تخيلهم لمجتمع وطنيّ ممزّق كما هو واقع العراق.
لسعيد أكثر من 20 كتابا منع معظمها في أوقات مختلفة في العراق وسوريا ودول الخليج. هذا إضافة إلى أنّه سجن عدة مرات منذ 1960، هرب من العراق خلال حكم صدام حسين، وهو الآن يراقب من بعيد مدينته الموصل، المدمّرة تحت سيطرة داعش منذ ثمانية عشر شهرا.
سعيد هو المثل الأقرب لنقاش اللجوء ليس بسبب كل ما أساء إليه، ولا للمصائب التي عاناها، ولكن بسبب ما أنتج ككاتب. معاناة من المجتمع حيث يمكن أن يكتب وينشر ما يشاء، صمّم سعيد ببطء ودون ضجة إعلامية على تنفيذ مشروع بناء الأمة في شكل روايات وأعمال تخاطب مجتمعا مدنيّا، غير عابئ بالمخاطر كونه عانى من الصّدمة والتّرهيب الطّويل في العراق والمنفى، ومن خوفه وهو يراقب وطنا بدأ كل شيء فيها ينهار. يتذكّر سعيد عراقا كانت فيه حياة دينيّة معتدلة تحت سيادة القانون، من وجهة نظر الطّبقة المتوسطة.
رواية (فوهة في الفضاء) تروي أحداثًا وقعت عام 1980، وهي السّنة الأولى من الحرب بين إيران والعراق. بطل الرّواية هو منذر، قاض نزيه في مدينة البصرة، بالقرب من الخليج العربيّ والحدود الإيرانيّة. يمارس منذر واجبه متعاونا مع آخرين منهم قضاة دينيّون، في أجواء من تسامح سائد في أجواء ما قبل وبعد الحرب، ومن دون تشجنّج طائفيّ بين “السّنة والشّيعة” كما حدث بعدئذ، حيث أصبحوا في ساحة المعركة واحدا ضد الآخر. كان يعمل في جو من التّعايش وبخاصة عندما يظهر أبو حقي، وهو مُغَنٍ وصديق منذر يظهر في المحكمة بعد الدّوام، فيأنسون به ويطلبون منه سماع المزيد من الأغاني، كما يقول رئيس المحكمة لأبي حقي: هذا ليس بكافٍ، يجب أن نقيم حفلة في مكان مريح مع العود.
ا
ينظر أبو حقي ساخرا من عمامتي القاضيين السنيّ والجعفريّ، ويقول: مع الشّرب. يضحك الجميع ويؤكد القاضي السّنيّ: نعم مع الشّرب. بينما يضيف القاضيّ الشّيعيّ، “ليس فقط المشروبات ولكن : طق أصبع”.
انتهى أنور بن منذر في ذلك الوقت للتو من دراسته وتوجّه إلى الخدمة العسكريّة.
في مشهد مبكر، منذر يستمع من غرفة أخرى كما يصف أنور لأصدقائه خططه ليتزوج من فتاة جميلة رآها تمرّ في الشّارع وكان هو في مقهى. أنور يتباهي بأنّه سوف يبني منزلاً لها مع شرفة تطلّ على شطّ العرب، “الممر المائي الحيويّ اقتصاديّا “أحد أسباب الحرب بين إيران والعراق.” بينما يردّ صديق أنور مازحا أنّه لا يستطيع العيش في مثل هذا المنزل. ”إيران ستوجه له قذيفة في اليوم التّالي، لأنّها ستظنّه بيت أحد القادة”،يضحك الجميع.
العثور على موقع لبيت حلمه في عام 1980 لم يكن أقل مشاكل أنور، يمكن لأيّ شخص في أي وقت يقرأ رواية حرب يمكن أن تستمر. صراع دامٍ، أطول حرب في القرن ، تستمرّ لمدّة ثماني سنوات، وهي فترة زمنية من شأنها أنْ تضفي على رواية سعيد بعدًا ملحميًا على الرّغم من رهافة الحروف. بوابة في الفضاء لا تتورّط في التّفاصيل الدّبلوماسيّة والعسكريّة المعقّدة للحرب وبدلا من ذلك يركّز على قصّة الأسرة المكلومة وقصّة عاشقين..
في عام 1980، بعد مضي سنة واحدة فقط على ثورتها الإسلامية، تهيأ لصدام حسين ومؤيديه الأمريكان أنّ الوضع مهيّأ للغزّو، وبجيش صدام العسكريّ وتنظيماته الشّعبية، ظنوا أن النّصر باليد، لكنّهم أخطؤوا، فقد ورثت إيران خامس أكبر جيش في العالم من الشّاه المخلوع إضافة إلى المتطوّعين المتدينيّين، الذين يحرّكهم المخيال الدينيّ والوطنيّ. لذا انضّم العديد من هؤلاء المؤمنين إلى ميليشيات متطوّعي الباسيج، الذين ساروا بتسليح طفيف ليكونوا هجمات “الموجات البشريّة”، فأعطوا في كثير من الأحيان خسائر فادحة. استخدم الجنرالات الإيرانيّون في بعض الأحيان البشر كعلف في حقول الألغام، ليتّضح من خلال المعارك أيّ قوّات هي الأكثر خبرة. وجاء الدّعم الخارجيّ الرّئيس لإيران من سوريا، بقيادة والد بشار الأسد. في منتصف الطّريق من خلال الصّراع، ثم بدأت إدارة رونالد ريغان تزويد إيران بالأسلحة سرًّا، أيضا، في إطار ما أصبح فضيحة إيران كونترا.kh mahmood saed 6
بينما كان العراق، في الوقت نفسه، يحصل على دعم رسميّ من الولايات المتحدة وكذلك الاتحاد السوفيتي. وهذا يعني استمتاع صدام بميزة حاسمة، ولكن ثبت أنّ جيشه غير قادر على تعزيز المكاسب التي تحققت على أرض العدو. كان من نتائج الدّعم الثّنائي من القوّتين العظميين الحرب الباردة أن صدام شعر بأنّه حرّ في استخدام أسلحة الدّمار الشّامل مع الإفلات من العقاب. بعد فقدان أراضٍ كثيرة . بعد 1980 وجد صدام طريقه في استعمال غاز الأعصاب في الجبهة مع إيران وفي كردستان، فلجأ المجتمع الدّوليّ إلى الانقسام تجاه هذه الهجمات، وفي عام 1988، تراجعت إيران أخيرا وقبلت وقف إطلاق النار.
لم تبتعد (فوهة في الفضاء) عن ساحة المعركة فمنذر يزور الخنادق بالقرب من البصرة بحثا عن ابنه المفقود. سعيد ينقل شعور الضّمير العراقيّ المثقل بالذنب وجها لوجه مع قضيّة غاز الأعصاب، عندما يناقش منذر زوجته: الحرب جهاز أعمى مثل إعصار أو زلزال، تحرق كلّ شيء في طريقها. لا أحد يهرب. حتى المنتصر يشعر أنّه هزم في الدّاخل. هل تعتقدين أنّ الخميني أو صدام سيفوزان؟ هل سيشعر أيّ منهما بالسّعادة إذا انتنصر؟ لا، ستسحقه الهزيمة، في الدّاخل، حتى يموت، سيبقون يصارعون ضمائرهم. أسقط ترومان قنبلتين نوويّتين على كلّ من هيروشيما وناغازاكي. هُزمت اليابان. فازت أمريكا، لكن ترومان ظل مسكونًا بالهزيمة حتى وفاته.
الموضوع الرئيس في رواية سعيد ليس ضمير القادة العراقيّين، معاناة الشعب العراقي خلال الحرب، انهيار النّظام الاجتماعي. نحن محاصرون في هذه الدراما من الفقرة الأولى إلى النّهاية، فالقصف الجوي ينغّص إفطار العائلة، أطفال منذر يمارسون موهبة تعيين مكان سقوط القنبلة من أصواتها في اختراق الهواء، لكلّ قنبلة تسقط مكان. وفي وقت لاحق، بعد اختفاء أنور، يعرض سعيد بطريقة فائقة موهبة نقل المشاعر في حالة الرّعب من الحرب، من خلال ملاحظة ضبط النفس: “في اليوم الثالث على بدء المعركة بدأ المستشفى يستقبل برّادات، في البدء جاء براد واحد ضخم بطول أربعين قدمًا وحده، أوّل برّاد بمثل ذلك الحجم يقف هناك، ترى ماذا فيه؟ تعكس أشعة الشمس على صفائح الألمنيوم، التي تغلفه وميضًا حادًا يحرق المُقَل، ثم تكاثر عدد البرّادات، كما تنقسم الأميبيا، نافت على الخمسين ثم سرت شائعة أنّها تحمل جثث الشّباب القتلى، كانت البرّادات تنتظر دورها لتنزل الجثث، لم تستطع أمّ أنور إحصاءها، كانت تراقبها وتبكي فقط.
لا تجلب الحرب الموت فحسب بل تغير المبادئ، فمنذر ينتقد نفسه بقوة مُدينًا حالة الانطواء التي كان يعيشها في التّعاملات اليومية، وإيمانه بسيادة القانون، واحتقاره للطّموح في الحياة السّياسة، وتغليبه التّفكير العقليّ في الحياة “لقد بقيت القاضي العاديّ” كان معروفًا بنزاهته ويترفع عن دفع رشوة بسيطة تنقذ ابنه من الموت، بتعييينه بالخطوط الخلفيّة للجيش، حيث لا خطر من الحرب. “ظللت قاضيًا عاديّا يشار إليه بالاستقامة، لكنّه لا يحلّ ولا يربط، كالسّمكة تموت ما إن تغادر محيطها، هذه هي النّتيجة، شاب يعدل الدنيا، وما فيها، راح ثمن مبادئك”.
واستمرارا لافتراضاته الأخلاقيّة، نفس الافتراضات التي توفّر هيكلا لحياة الأسرة المثاليّة في جميع مناحي الحباة تأتي فصول الرّواية لتظهره لنا يقوم برحلات منتظمة إلى مقر الأمم المتحدة في بغداد للتّحقق من قوائم نشر أسماء أسرى الحرب العراقيّين في إيران. ذلك العمل المملّ أسبوعيّا، لكنّه هناك يلتقي امرأة فجأة، زهرة، يأسره جمالها. يضطرب من رأسه حتى أخمص قدميه.
لا يسع القارئ إلا أن يغض النظر مُباركًا وقوع منذر بالحب، على أمل أن يتمكّن من العثور على نحو ما على منفذ للهروب من بؤسه في زمن الحرب. في بوابة في الفضاء ينتهي الحب بأسلوب عراقيّ، حيث الدّين والحبّ المتأجّج بالإثارة، خارج المعركة بالرّغم من استمرار القصف الجوي. هناك فرق بين فوهة في الفضاء ورواية الغارة لغراهام غرين، في الغارة هناك ظرف استثنائيّ يقود إلى صعود إلى الدين – كحفرة تغمر الإلحاد بها. في كتاب سعيد، الحرب ظروف جديدة لا تطاق في وضع طبيعيّ، والأشخاص يندفعون في رومانسيّة نحو الحبّ كنوع من الانتحار الاجتماعيّ، ولسان حالهم يقول: “الموت معك هي الحياة”.
في هذا المعنى، فإن الرواية هي مأساة، وإن كان فيها عدد قليل من الشخصيات قادرة على التقاط بعض الّلمحات من التّجديد الذّاتي. كما هو الحال في أية مأساة جيدة، هناك شعور من التنفيس، إن لم يكن لأيّ شخص بل للبلد كلّه، نحن ملزمون لنكون مع اليسار في انتظار التّحديث خلال الحداد الجماعيّ. واحدة من الصّور الأكثر تميّزا في الكتاب هي وقوف منذر يمسح بحرًا من الناس يأتون إلى مبنى الأمم المتحدة في بغداد للتحقق من حياة أقاربهم المفقودين:
“كثيرًا ما تمنى لو درس الفنون التي أحبّها في طفولته: الفوتوغراف، الرسم، الخطّ، الزخرفة، لو كان على موهبة ضئيلة لوضع خطوط لهذه النّماذج المختلفة. لم يكن يعرف أن هناك أنواعاً كثيرة من العُقُل والكوفيّات توضع على الرؤوس بمثل هذا التنوّع! لو يعرف التصوير لصوّر العُقُل بأنواعها: غليظة من الجنوب، رقيقة حريرية من الشمال، وسط من بغداد. لصوّر الكوفيات من دون عُقُل، الأخرى المرميّة على الكتف، ثالثة بشراريب، أخرى من الصوف، رابعة غامقة. يشاميغ حمر وسود وزرق وصفر. عمائم بغداديّة وكركوكيّة وكرديّة ويزيدية، تنزل من بعض العمائم شراريب سمر وسود وبيض، عمائم جبليّة قادمة من بعشيقة وبحزاني وتلعفر. لصوّر طاقيّات بيض، ملونة، موظفين ومتقاعدين، كسبة وعاطلين؛ كلّ ذلك يذوب في محيط عائم تسود فيه عباءات النّساء الكالحة وأردية الحداد.”
ربما لم يكن منذر فنانا قادرا على التقاط مثل هذه الصّور من مواطنيه الذين تجمعهم الصّدمة، ولكن سعيد بالرغم الترجمة يبدو نثره رفيعا عالي الكعب في بعض الأحيان. (فوهة في الفضاء) ترقى إلى التّحدي، تصعد بنا إلى كآبة سببها دمويّة الحرب في العراق وتتحلى بنَفَس حيويّ يضمّ شخصيات تجعلك تحسّ بأنهم حقيقيّون، يهمّ مصيرهم القارئ. لا يمكن العثور في الرّواية على ملاحظة أمل تنهي المآسي يوما ما، لكنّ هذا يتماشى مع تاريخ العراق الحديث. آمال سعيد تقع في الماضي في ما قبل الحرب متضامنا مع أولئك الذين يعتقدون في بدايات جديدة.
تنشر رواية سعيد بعد لحظة مظلمة أخرى في تاريخ الشّرق الأوسط. إذ تحتدم حرب رهيبة في سوريا مع عدم وجود نهاية في الأفق. اثنان من القوى الإقليميّة: إيران والمملكة العربية السعودية، يتواجهان، وهناك في اليمن حرب بالوكالة ننبئ بكارثة إقليميّة أوسع. حيث يقف السّنة ضد الشّيعة في عنف طائفيّ قد ينتشر ليصبح ظاهرة في جميع أنحاء المنطقة.
بين إيران والعراق تاريخ حاسم بالنسبة لأولئك المعنيين بأحداث الشّرق الأوسط الحاليّة، ونتاج سعيد يغوص عميقاً في التّاريخ وبشكل راسخ، ليحث على التّسامح الطّائفي وللوقوف بتمهّل إزاء الاندفاع إلى الحرب. فليس من قبيل الصّدفة أنّه هو أيضا لاجئ أمريكيّ. عمله هو مثال آخر لتقويم نظام الّلجوء عندنا كدين عظيم، وحتى الهجمات الأخيرة على طالبي اللجوء في أمريكا وأوربا هي تذكير للقلق بتعصّب دينيّ خاص.
مايكل أجريستا كاتب وناقد أمريكي
أوستن، تكساس.
https://l.facebook.com/l.php?u=http...uxXfsQuGcIGFWuCD2XwfCFOOd4EXKrSjRwlTk3_q4RGo4
hamassa.com
الحياة في زمن الحرب – بقلم: مايكل أجريستا (ناقد أمريكي)
الحياة في زمن الحرب بقلم: مايكل أجريستا لوس أنجلوس رفيو محمود سعيد، مؤلف الرّواية المترجمة حديثا “فوهة في الفضاء”، مهاجر عراقي، يعيش في شيكاغو، حاصل على اللجوء الس...
سعيد هو برهان لفضائل نظام اللجوء التي يقدم ملاذا آمنا ليس فقط للمضطهدين فاقدي الجنسية، ولكن أيضا لأولئك الذين يعملون في القطاع الفكري الصّعب الخلّاق، في تخيلهم لمجتمع وطنيّ ممزّق كما هو واقع العراق.
لسعيد أكثر من 20 كتابا منع معظمها في أوقات مختلفة في العراق وسوريا ودول الخليج. هذا إضافة إلى أنّه سجن عدة مرات منذ 1960، هرب من العراق خلال حكم صدام حسين، وهو الآن يراقب من بعيد مدينته الموصل، المدمّرة تحت سيطرة داعش منذ ثمانية عشر شهرا.
سعيد هو المثل الأقرب لنقاش اللجوء ليس بسبب كل ما أساء إليه، ولا للمصائب التي عاناها، ولكن بسبب ما أنتج ككاتب. معاناة من المجتمع حيث يمكن أن يكتب وينشر ما يشاء، صمّم سعيد ببطء ودون ضجة إعلامية على تنفيذ مشروع بناء الأمة في شكل روايات وأعمال تخاطب مجتمعا مدنيّا، غير عابئ بالمخاطر كونه عانى من الصّدمة والتّرهيب الطّويل في العراق والمنفى، ومن خوفه وهو يراقب وطنا بدأ كل شيء فيها ينهار. يتذكّر سعيد عراقا كانت فيه حياة دينيّة معتدلة تحت سيادة القانون، من وجهة نظر الطّبقة المتوسطة.
رواية (فوهة في الفضاء) تروي أحداثًا وقعت عام 1980، وهي السّنة الأولى من الحرب بين إيران والعراق. بطل الرّواية هو منذر، قاض نزيه في مدينة البصرة، بالقرب من الخليج العربيّ والحدود الإيرانيّة. يمارس منذر واجبه متعاونا مع آخرين منهم قضاة دينيّون، في أجواء من تسامح سائد في أجواء ما قبل وبعد الحرب، ومن دون تشجنّج طائفيّ بين “السّنة والشّيعة” كما حدث بعدئذ، حيث أصبحوا في ساحة المعركة واحدا ضد الآخر. كان يعمل في جو من التّعايش وبخاصة عندما يظهر أبو حقي، وهو مُغَنٍ وصديق منذر يظهر في المحكمة بعد الدّوام، فيأنسون به ويطلبون منه سماع المزيد من الأغاني، كما يقول رئيس المحكمة لأبي حقي: هذا ليس بكافٍ، يجب أن نقيم حفلة في مكان مريح مع العود.
ا
ينظر أبو حقي ساخرا من عمامتي القاضيين السنيّ والجعفريّ، ويقول: مع الشّرب. يضحك الجميع ويؤكد القاضي السّنيّ: نعم مع الشّرب. بينما يضيف القاضيّ الشّيعيّ، “ليس فقط المشروبات ولكن : طق أصبع”.
انتهى أنور بن منذر في ذلك الوقت للتو من دراسته وتوجّه إلى الخدمة العسكريّة.
في مشهد مبكر، منذر يستمع من غرفة أخرى كما يصف أنور لأصدقائه خططه ليتزوج من فتاة جميلة رآها تمرّ في الشّارع وكان هو في مقهى. أنور يتباهي بأنّه سوف يبني منزلاً لها مع شرفة تطلّ على شطّ العرب، “الممر المائي الحيويّ اقتصاديّا “أحد أسباب الحرب بين إيران والعراق.” بينما يردّ صديق أنور مازحا أنّه لا يستطيع العيش في مثل هذا المنزل. ”إيران ستوجه له قذيفة في اليوم التّالي، لأنّها ستظنّه بيت أحد القادة”،يضحك الجميع.
العثور على موقع لبيت حلمه في عام 1980 لم يكن أقل مشاكل أنور، يمكن لأيّ شخص في أي وقت يقرأ رواية حرب يمكن أن تستمر. صراع دامٍ، أطول حرب في القرن ، تستمرّ لمدّة ثماني سنوات، وهي فترة زمنية من شأنها أنْ تضفي على رواية سعيد بعدًا ملحميًا على الرّغم من رهافة الحروف. بوابة في الفضاء لا تتورّط في التّفاصيل الدّبلوماسيّة والعسكريّة المعقّدة للحرب وبدلا من ذلك يركّز على قصّة الأسرة المكلومة وقصّة عاشقين..
في عام 1980، بعد مضي سنة واحدة فقط على ثورتها الإسلامية، تهيأ لصدام حسين ومؤيديه الأمريكان أنّ الوضع مهيّأ للغزّو، وبجيش صدام العسكريّ وتنظيماته الشّعبية، ظنوا أن النّصر باليد، لكنّهم أخطؤوا، فقد ورثت إيران خامس أكبر جيش في العالم من الشّاه المخلوع إضافة إلى المتطوّعين المتدينيّين، الذين يحرّكهم المخيال الدينيّ والوطنيّ. لذا انضّم العديد من هؤلاء المؤمنين إلى ميليشيات متطوّعي الباسيج، الذين ساروا بتسليح طفيف ليكونوا هجمات “الموجات البشريّة”، فأعطوا في كثير من الأحيان خسائر فادحة. استخدم الجنرالات الإيرانيّون في بعض الأحيان البشر كعلف في حقول الألغام، ليتّضح من خلال المعارك أيّ قوّات هي الأكثر خبرة. وجاء الدّعم الخارجيّ الرّئيس لإيران من سوريا، بقيادة والد بشار الأسد. في منتصف الطّريق من خلال الصّراع، ثم بدأت إدارة رونالد ريغان تزويد إيران بالأسلحة سرًّا، أيضا، في إطار ما أصبح فضيحة إيران كونترا.kh mahmood saed 6
بينما كان العراق، في الوقت نفسه، يحصل على دعم رسميّ من الولايات المتحدة وكذلك الاتحاد السوفيتي. وهذا يعني استمتاع صدام بميزة حاسمة، ولكن ثبت أنّ جيشه غير قادر على تعزيز المكاسب التي تحققت على أرض العدو. كان من نتائج الدّعم الثّنائي من القوّتين العظميين الحرب الباردة أن صدام شعر بأنّه حرّ في استخدام أسلحة الدّمار الشّامل مع الإفلات من العقاب. بعد فقدان أراضٍ كثيرة . بعد 1980 وجد صدام طريقه في استعمال غاز الأعصاب في الجبهة مع إيران وفي كردستان، فلجأ المجتمع الدّوليّ إلى الانقسام تجاه هذه الهجمات، وفي عام 1988، تراجعت إيران أخيرا وقبلت وقف إطلاق النار.
لم تبتعد (فوهة في الفضاء) عن ساحة المعركة فمنذر يزور الخنادق بالقرب من البصرة بحثا عن ابنه المفقود. سعيد ينقل شعور الضّمير العراقيّ المثقل بالذنب وجها لوجه مع قضيّة غاز الأعصاب، عندما يناقش منذر زوجته: الحرب جهاز أعمى مثل إعصار أو زلزال، تحرق كلّ شيء في طريقها. لا أحد يهرب. حتى المنتصر يشعر أنّه هزم في الدّاخل. هل تعتقدين أنّ الخميني أو صدام سيفوزان؟ هل سيشعر أيّ منهما بالسّعادة إذا انتنصر؟ لا، ستسحقه الهزيمة، في الدّاخل، حتى يموت، سيبقون يصارعون ضمائرهم. أسقط ترومان قنبلتين نوويّتين على كلّ من هيروشيما وناغازاكي. هُزمت اليابان. فازت أمريكا، لكن ترومان ظل مسكونًا بالهزيمة حتى وفاته.
الموضوع الرئيس في رواية سعيد ليس ضمير القادة العراقيّين، معاناة الشعب العراقي خلال الحرب، انهيار النّظام الاجتماعي. نحن محاصرون في هذه الدراما من الفقرة الأولى إلى النّهاية، فالقصف الجوي ينغّص إفطار العائلة، أطفال منذر يمارسون موهبة تعيين مكان سقوط القنبلة من أصواتها في اختراق الهواء، لكلّ قنبلة تسقط مكان. وفي وقت لاحق، بعد اختفاء أنور، يعرض سعيد بطريقة فائقة موهبة نقل المشاعر في حالة الرّعب من الحرب، من خلال ملاحظة ضبط النفس: “في اليوم الثالث على بدء المعركة بدأ المستشفى يستقبل برّادات، في البدء جاء براد واحد ضخم بطول أربعين قدمًا وحده، أوّل برّاد بمثل ذلك الحجم يقف هناك، ترى ماذا فيه؟ تعكس أشعة الشمس على صفائح الألمنيوم، التي تغلفه وميضًا حادًا يحرق المُقَل، ثم تكاثر عدد البرّادات، كما تنقسم الأميبيا، نافت على الخمسين ثم سرت شائعة أنّها تحمل جثث الشّباب القتلى، كانت البرّادات تنتظر دورها لتنزل الجثث، لم تستطع أمّ أنور إحصاءها، كانت تراقبها وتبكي فقط.
لا تجلب الحرب الموت فحسب بل تغير المبادئ، فمنذر ينتقد نفسه بقوة مُدينًا حالة الانطواء التي كان يعيشها في التّعاملات اليومية، وإيمانه بسيادة القانون، واحتقاره للطّموح في الحياة السّياسة، وتغليبه التّفكير العقليّ في الحياة “لقد بقيت القاضي العاديّ” كان معروفًا بنزاهته ويترفع عن دفع رشوة بسيطة تنقذ ابنه من الموت، بتعييينه بالخطوط الخلفيّة للجيش، حيث لا خطر من الحرب. “ظللت قاضيًا عاديّا يشار إليه بالاستقامة، لكنّه لا يحلّ ولا يربط، كالسّمكة تموت ما إن تغادر محيطها، هذه هي النّتيجة، شاب يعدل الدنيا، وما فيها، راح ثمن مبادئك”.
واستمرارا لافتراضاته الأخلاقيّة، نفس الافتراضات التي توفّر هيكلا لحياة الأسرة المثاليّة في جميع مناحي الحباة تأتي فصول الرّواية لتظهره لنا يقوم برحلات منتظمة إلى مقر الأمم المتحدة في بغداد للتّحقق من قوائم نشر أسماء أسرى الحرب العراقيّين في إيران. ذلك العمل المملّ أسبوعيّا، لكنّه هناك يلتقي امرأة فجأة، زهرة، يأسره جمالها. يضطرب من رأسه حتى أخمص قدميه.
لا يسع القارئ إلا أن يغض النظر مُباركًا وقوع منذر بالحب، على أمل أن يتمكّن من العثور على نحو ما على منفذ للهروب من بؤسه في زمن الحرب. في بوابة في الفضاء ينتهي الحب بأسلوب عراقيّ، حيث الدّين والحبّ المتأجّج بالإثارة، خارج المعركة بالرّغم من استمرار القصف الجوي. هناك فرق بين فوهة في الفضاء ورواية الغارة لغراهام غرين، في الغارة هناك ظرف استثنائيّ يقود إلى صعود إلى الدين – كحفرة تغمر الإلحاد بها. في كتاب سعيد، الحرب ظروف جديدة لا تطاق في وضع طبيعيّ، والأشخاص يندفعون في رومانسيّة نحو الحبّ كنوع من الانتحار الاجتماعيّ، ولسان حالهم يقول: “الموت معك هي الحياة”.
في هذا المعنى، فإن الرواية هي مأساة، وإن كان فيها عدد قليل من الشخصيات قادرة على التقاط بعض الّلمحات من التّجديد الذّاتي. كما هو الحال في أية مأساة جيدة، هناك شعور من التنفيس، إن لم يكن لأيّ شخص بل للبلد كلّه، نحن ملزمون لنكون مع اليسار في انتظار التّحديث خلال الحداد الجماعيّ. واحدة من الصّور الأكثر تميّزا في الكتاب هي وقوف منذر يمسح بحرًا من الناس يأتون إلى مبنى الأمم المتحدة في بغداد للتحقق من حياة أقاربهم المفقودين:
“كثيرًا ما تمنى لو درس الفنون التي أحبّها في طفولته: الفوتوغراف، الرسم، الخطّ، الزخرفة، لو كان على موهبة ضئيلة لوضع خطوط لهذه النّماذج المختلفة. لم يكن يعرف أن هناك أنواعاً كثيرة من العُقُل والكوفيّات توضع على الرؤوس بمثل هذا التنوّع! لو يعرف التصوير لصوّر العُقُل بأنواعها: غليظة من الجنوب، رقيقة حريرية من الشمال، وسط من بغداد. لصوّر الكوفيات من دون عُقُل، الأخرى المرميّة على الكتف، ثالثة بشراريب، أخرى من الصوف، رابعة غامقة. يشاميغ حمر وسود وزرق وصفر. عمائم بغداديّة وكركوكيّة وكرديّة ويزيدية، تنزل من بعض العمائم شراريب سمر وسود وبيض، عمائم جبليّة قادمة من بعشيقة وبحزاني وتلعفر. لصوّر طاقيّات بيض، ملونة، موظفين ومتقاعدين، كسبة وعاطلين؛ كلّ ذلك يذوب في محيط عائم تسود فيه عباءات النّساء الكالحة وأردية الحداد.”
ربما لم يكن منذر فنانا قادرا على التقاط مثل هذه الصّور من مواطنيه الذين تجمعهم الصّدمة، ولكن سعيد بالرغم الترجمة يبدو نثره رفيعا عالي الكعب في بعض الأحيان. (فوهة في الفضاء) ترقى إلى التّحدي، تصعد بنا إلى كآبة سببها دمويّة الحرب في العراق وتتحلى بنَفَس حيويّ يضمّ شخصيات تجعلك تحسّ بأنهم حقيقيّون، يهمّ مصيرهم القارئ. لا يمكن العثور في الرّواية على ملاحظة أمل تنهي المآسي يوما ما، لكنّ هذا يتماشى مع تاريخ العراق الحديث. آمال سعيد تقع في الماضي في ما قبل الحرب متضامنا مع أولئك الذين يعتقدون في بدايات جديدة.
تنشر رواية سعيد بعد لحظة مظلمة أخرى في تاريخ الشّرق الأوسط. إذ تحتدم حرب رهيبة في سوريا مع عدم وجود نهاية في الأفق. اثنان من القوى الإقليميّة: إيران والمملكة العربية السعودية، يتواجهان، وهناك في اليمن حرب بالوكالة ننبئ بكارثة إقليميّة أوسع. حيث يقف السّنة ضد الشّيعة في عنف طائفيّ قد ينتشر ليصبح ظاهرة في جميع أنحاء المنطقة.
بين إيران والعراق تاريخ حاسم بالنسبة لأولئك المعنيين بأحداث الشّرق الأوسط الحاليّة، ونتاج سعيد يغوص عميقاً في التّاريخ وبشكل راسخ، ليحث على التّسامح الطّائفي وللوقوف بتمهّل إزاء الاندفاع إلى الحرب. فليس من قبيل الصّدفة أنّه هو أيضا لاجئ أمريكيّ. عمله هو مثال آخر لتقويم نظام الّلجوء عندنا كدين عظيم، وحتى الهجمات الأخيرة على طالبي اللجوء في أمريكا وأوربا هي تذكير للقلق بتعصّب دينيّ خاص.
مايكل أجريستا كاتب وناقد أمريكي
أوستن، تكساس.
https://l.facebook.com/l.php?u=http...uxXfsQuGcIGFWuCD2XwfCFOOd4EXKrSjRwlTk3_q4RGo4
hamassa.com
الحياة في زمن الحرب – بقلم: مايكل أجريستا (ناقد أمريكي)
الحياة في زمن الحرب بقلم: مايكل أجريستا لوس أنجلوس رفيو محمود سعيد، مؤلف الرّواية المترجمة حديثا “فوهة في الفضاء”، مهاجر عراقي، يعيش في شيكاغو، حاصل على اللجوء الس...