مع أن الإسكندرية كانت هي الميلاد والطفولة والنشأة ، فإنى لم أجاوز »الموطن« - فى أيام الصبا - إلاّ نادراً..
الموطن هو منطقة بحرى، أصل الإسكندرية، كيلو متر مربع، من اليمين المينا الشرقية، ومن اليسار المينا الغربية، وفى المواجهة خليج الأنفوشى، لسان أرضى، شبه جزيرة فى شبه جزيرة الإسكندرية. سمى الخليج ربما لوصله بين الميناءين الشرقى والغربى. أذكر وقفتى على الشاطئ، بالقرب من قصر رأس التين، الصخرة - التى صارت بطلًا أعتز بها – فى مدى النظر.
البحر يشكل حضوراً فى حياة أهل الإسكندرية، مهن غالبيتهم ووظائفهم، والسمك الذى يحل زائراً دائماً لموائدهم، والأفق المترامى، المحيط بالمدينة من جهات ثلاث.
غالبية الشخصيات يتنقلون بين الحى المواجه للبحر، أو الذى يحيط به البحر من جهات ثلاث، وبين البحر نفسه. فى مهنة الصيد، وحلقة السمك، وورش المراكب، والمهن المتصلة بالميناء، وفى الروحانية المتمثلة فى الجوامع والزوايا وأضرحة الأولياء ومقاماتهم، وما يتصل بذلك من موالد وأذكار وطرق صوفية.
لأنى اعتدت - فى طفولتى - قراءة لافتات الدكاكين وأفيشات السينما، وكل ما يحض على القراءة، فقد تشكل وعيى بالتعرف إلى الملامح والقسمات، إلى الشوارع والأزقة والأبواب والنوافذ.
تبدأ بما يلى ميدان المنشية، وتتجه إلى ميادين وشوارع وحوار وعالم حياة، فى الموازينى وأبو العباس والبوصيرى والسيالة وحلقة السمك والمسافرخانةوالمغاورىوالحلوجى والعدوى وقبو الملاح والتمرازية والكورنيش وسراى رأس التين. سميت بقسم - أو حى - الجمرك، لوجود أبواب المنطقة الجمركية بها، فضلاً عن العديد من شركات النقل والتوكيلات الملاحية والمستودعات، وعمل عدد كبير من أبناء الحى فى الأنشطة المتعلقة بالميناء من نقل وتخزين واستيراد وتصدير وتفريغ للسفن. وثمة فئات يرتبط عملها بالبحر الذى تطل عليه المنطقة من ثلاث جهات، كالحمالين والصيادين والبحارة والعاملين فى الدائرة الجمركية، ودكاكين بيع أدوات الصيد، وتجار الأدوات البحرية.
هذا هو بحرى الذى أعرفه، داخلته ظواهر جديدة، لكن قوامه على حاله، تجلياته فى البيئة التى لم تتبدل. أهل بحرى من الصيادين والعاملين فى البحر، وفى الميناء، وفى أعمال تصل بين اليابسة والبحر. نشأت شوارع وميادين، وارتفعت بيوت جديدة، وظهرت أنشطة لم تكن موجودة، واتسم الطريق بأخلاق الزحام، لكن ناس بحرى الأصليين، أهل الحى القديم، فرضوا عاداتهم وتقاليدهم وسلوكيات حياتهم اليومية - كعادة المصريين منذ آلاف السنين – على السكان القادمين من أحياء ومدن أخرى.
فى رحلة عمل طويلة بالعاصمة العمانية مسقط، التقيت سعيد الشنفرى، وزير البترول والثروة المعدنية آنذاك. كان عائداً من زيارة عمل إلى مصر ضمن وفد من كبار المسئولين العمانيين، قال إن أشد ما جذبه إلى الإسكندرية تلك المنطقة الممتدة أمام سراى رأس التين، الناس الطيبين، نسائم الصيف القادمة من البحر، الأفق الذى يغرى بالتأمل، وغلبته عاطفته فتمنى لو أنه تحول إلى واحدة من النخلات على طول طريق الكورنيش.
لم يكن الشنفرى أول من فتنتهم الإسكندرية من غير أبنائها، مئات الرحالة والزائرين قدموا إلى المدينة لأسباب مختلفة، لكنها اجتذبتهم إليها بما أفاضوا فى شرحه عبر آلاف الصفحات التى تضمنتها مؤلفاتهم.
انطلاق مدفع الإفطار يبدد صمت لحظات الترقب. تركت الإسكندرية دون أن أعرف: هل كان ينطلق من كوم الدكة، أو من السلسلة، أو من قلعة قايتباى؟
تعددت مظاهر احتفالاتنا برمضان خارج البيوت، الفوانيس – عقب الإفطار – تهتز فى أيدينا، وأصواتنا تعلو بالغناء: الدكان ده كل عمار.. وصاحبه ربنا يغنيه. فإذا رفض صاحب الدكان أن ينقدنا المليم الذى ننتظره، تحولت الأغنية إلى نقيض كلماتها: الدكان ده كله خراب.. وصاحبه ربنا يعميه.
ونجرى.
سوق العيد يشغل مساحة ميدان الخمس فوانيس، يتفرع إلى الشوارع الجانبية فلا نستطيع أن نتبين النهايات: بشر وزينات وألعاب وصخب لا يتذمر منه السكان ، فالمناسبة روحية، تخص الجميع. يبدأ سوق العيد قبل بداية رمضان بحوالى عشرة أيام، تمتلئ المساحة المتبقية من سوق العيد بالمصلين، لأداء صلاة التراويح. يمتد إلى ما بعد أيام عيد الفطر، أسبوعين أو ثلاثة، ثم يعود إلى الميدان قبل عشرة أيام من عيد الأضحى.
ربما صحبتنا أمهاتنا إلى سراى رأس التين، ينصت الكبار إلى تلاوة الشيخ مصطفى إسماعيل، بينما ينشغل الصغار باللعب بين أشجار الحديقة الواسعة، نحتمى بجلال المناسبة من تحذيرات الأمهات، وتهديدات حاشية الملك بأذيتنا!
ولازلت أذكر انطلاق الصواريخ الملونة من ناحية السلسلة. أعرف أن المناسبة هى المولد النبوى، أو عيد شم النسيم، أو عيد ميلاد الملك.
المفردات الأجنبية متناثرة فى لغة السكندريين. ثمة ما يسهل تبين الجذور التى اشتقت المفردة منها، وثمة ما تتداوله الألسن دون أن تعنى بلغته الأصلية. لعل أغلب تلك المفردات تحقق من العلاقة بين اليابسة والبحر، أهل المدينة والوافدين من البحارة والسياح والأجانب الذين وجدوا فى المدينة نهاية لظروف قاسية عانتها بلادهم، كالشوام والإيطاليين واليونانيين والأرمن والمالطيين، أو فضلوا الإقامة فى البيئة الروحية، اختصارًا لرحلة الحج إلى الحجاز من المغرب العربى، ولا يخلو من دلالة أسماء الشوارع والأسواق فى بحرى: سوق المغاربة، سوق الترك، شارع فرنسا، إلخ.
خرجت من الساعات القليلة التى أمضيتها فى زياراتى لقهوة الفنانين بزاد من المفردات والتعبيرات التى تشكل سيم العوالم. لم تقتصر إفادتى منها على رباعية بحرى، بل احتفظت بها حتى تركت كتاباتى بحرى إلى المناصرة فى القاهرة، ضمنتها – لسنوات – أرشيفى الورقى، ما أحتفظ به من قصاصات صحف، ومعلومات، وتعبيرات، ومفردات، وآراء للآخرين، وكل ما أجد فيه تضمينًا محتملًا لكتابة إبداعية.
كثيراً ما تدعونى الإسكندرية للقائها: مشهد فى التليفزيون، مقالة تذكرنى بسنى الطفولة، مباراة بين الاتحاد السكندرى وناد آخر فى دورى كرة القدم، عبارة تعيدنى إلى موقف عشته أيام الصبا.
تحل لحظات الاستدعاء فى أوقات يختارها المكان السكندرى. قد يومض الاستدعاء، الخاطر، دون توقع، يكر الذهن - ولعله الوجدان - ما توارى فى الذاكرة. غالبية الانبثاقات من بحرى، الحى الذى عشته سنى النشأة.
للحى - رغم انقضاء السنين - خصوصيته التى يصعب تحديدها، أو لا يمكن تحديدها، لعلها التقاء البحر واليابسة، واختلاط البلانسات والمساجد والمزارات والبنايات القديمة. فقد الكثير من ملامحه، لكنه يظل قريباً إلى نفسى، لم يفصله التغير، ولا انقضاء السنين. فى داخلى يقين أن ما أسير فى شوارعه وحواريه وأزقته هو بحرى الذى عرفته، بحرى الطفولة والنشأة والذكريات التى لا تمحى. تتباطأ الخطوات، أتأمل البشر والشرفات والنوافذ والمحال المفتوحة والمغلقة والمقاهى والأكشاك، أقلها على حاله، وأغلبها تستدعيه الذكريات.
تبدو الأمكنة جميلة بحجم الحنين إليها.
أحن إلى بحرى بإحساس من يريد العودة إلى المكان الذى ينتمى إليه، ويحبه، أعرف عادات أهله، وتقاليدهم، ومشكلاتهم، حتى ألعاب الأطفال أشاهدها بألفة التكرار، أشعر فى سيرى المتأمل أنى أحب هذا المكان، وأنه يخصنى، هو التعبير عن الوطن.
البحار هى البحار فى كل الدنيا، هى الأمواج والآفاق المنبسطة والجزر والصخور ومخلوقات المياه والشواطئ والرمال، لكن البحر فى بحرى له خصوصية التى يصعب أن تتبينها ما لم تكن من أبناء الحى.
أحب بحرى، البحر والميادين والجوامع والزوايا ومقامات الأولياء والمزارات والموالد وحلقات الأذكار والميادين وسوق العيد وصيد السنارة والجرافة والطراحة والشواطئ الصخرية والرملية، يغمرنى الحب لناسه الذين أكسبتهم الروحية بساطة، وعفوية فى الكلمات والتصرفات.
منذ غادرت الإسكندرية لم تغادرنى، ظلت فى داخلى بذكرياتها، وتأثيراتها، وصور الحياة بين اليابسة والبحر.
العودة إلى الإسكندرية، إلى بحرى على وجه التحديد، حرصى الدائم منذ أبعدتنى ظروف العمل عن المدينة . لا أكف عن استعادة صور الحياة فى الحى، أو أن ذلك هو فعلها فى ابتعادى عنه.
لبحرى رائحة يصعب تمييزها، لكنها تطالعنى فى مدن بعيدة، داخل مصر وخارجها، تعيده إلىّ، وتعيدنى إليه، نلتقى فى الغربة. ثمة البخور والملح واليود والطحالب والأعشاب، تمازج روائح فى رائحة واحدة، مميزة.
بحرى عندى ليس مجرد مكان ولادة، بل هو مكان أنتمى إليه. أسير فى شوارع بحرى بمشاعر الانطلاق والألفة والطمأنينة. هذا هو المكان الذى أنتمى إليه، عشت فيه منذ الطفولة إلى الوقت الحالى.
محمد جبريل
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 04 - 2019
الموطن هو منطقة بحرى، أصل الإسكندرية، كيلو متر مربع، من اليمين المينا الشرقية، ومن اليسار المينا الغربية، وفى المواجهة خليج الأنفوشى، لسان أرضى، شبه جزيرة فى شبه جزيرة الإسكندرية. سمى الخليج ربما لوصله بين الميناءين الشرقى والغربى. أذكر وقفتى على الشاطئ، بالقرب من قصر رأس التين، الصخرة - التى صارت بطلًا أعتز بها – فى مدى النظر.
البحر يشكل حضوراً فى حياة أهل الإسكندرية، مهن غالبيتهم ووظائفهم، والسمك الذى يحل زائراً دائماً لموائدهم، والأفق المترامى، المحيط بالمدينة من جهات ثلاث.
غالبية الشخصيات يتنقلون بين الحى المواجه للبحر، أو الذى يحيط به البحر من جهات ثلاث، وبين البحر نفسه. فى مهنة الصيد، وحلقة السمك، وورش المراكب، والمهن المتصلة بالميناء، وفى الروحانية المتمثلة فى الجوامع والزوايا وأضرحة الأولياء ومقاماتهم، وما يتصل بذلك من موالد وأذكار وطرق صوفية.
لأنى اعتدت - فى طفولتى - قراءة لافتات الدكاكين وأفيشات السينما، وكل ما يحض على القراءة، فقد تشكل وعيى بالتعرف إلى الملامح والقسمات، إلى الشوارع والأزقة والأبواب والنوافذ.
تبدأ بما يلى ميدان المنشية، وتتجه إلى ميادين وشوارع وحوار وعالم حياة، فى الموازينى وأبو العباس والبوصيرى والسيالة وحلقة السمك والمسافرخانةوالمغاورىوالحلوجى والعدوى وقبو الملاح والتمرازية والكورنيش وسراى رأس التين. سميت بقسم - أو حى - الجمرك، لوجود أبواب المنطقة الجمركية بها، فضلاً عن العديد من شركات النقل والتوكيلات الملاحية والمستودعات، وعمل عدد كبير من أبناء الحى فى الأنشطة المتعلقة بالميناء من نقل وتخزين واستيراد وتصدير وتفريغ للسفن. وثمة فئات يرتبط عملها بالبحر الذى تطل عليه المنطقة من ثلاث جهات، كالحمالين والصيادين والبحارة والعاملين فى الدائرة الجمركية، ودكاكين بيع أدوات الصيد، وتجار الأدوات البحرية.
هذا هو بحرى الذى أعرفه، داخلته ظواهر جديدة، لكن قوامه على حاله، تجلياته فى البيئة التى لم تتبدل. أهل بحرى من الصيادين والعاملين فى البحر، وفى الميناء، وفى أعمال تصل بين اليابسة والبحر. نشأت شوارع وميادين، وارتفعت بيوت جديدة، وظهرت أنشطة لم تكن موجودة، واتسم الطريق بأخلاق الزحام، لكن ناس بحرى الأصليين، أهل الحى القديم، فرضوا عاداتهم وتقاليدهم وسلوكيات حياتهم اليومية - كعادة المصريين منذ آلاف السنين – على السكان القادمين من أحياء ومدن أخرى.
فى رحلة عمل طويلة بالعاصمة العمانية مسقط، التقيت سعيد الشنفرى، وزير البترول والثروة المعدنية آنذاك. كان عائداً من زيارة عمل إلى مصر ضمن وفد من كبار المسئولين العمانيين، قال إن أشد ما جذبه إلى الإسكندرية تلك المنطقة الممتدة أمام سراى رأس التين، الناس الطيبين، نسائم الصيف القادمة من البحر، الأفق الذى يغرى بالتأمل، وغلبته عاطفته فتمنى لو أنه تحول إلى واحدة من النخلات على طول طريق الكورنيش.
لم يكن الشنفرى أول من فتنتهم الإسكندرية من غير أبنائها، مئات الرحالة والزائرين قدموا إلى المدينة لأسباب مختلفة، لكنها اجتذبتهم إليها بما أفاضوا فى شرحه عبر آلاف الصفحات التى تضمنتها مؤلفاتهم.
انطلاق مدفع الإفطار يبدد صمت لحظات الترقب. تركت الإسكندرية دون أن أعرف: هل كان ينطلق من كوم الدكة، أو من السلسلة، أو من قلعة قايتباى؟
تعددت مظاهر احتفالاتنا برمضان خارج البيوت، الفوانيس – عقب الإفطار – تهتز فى أيدينا، وأصواتنا تعلو بالغناء: الدكان ده كل عمار.. وصاحبه ربنا يغنيه. فإذا رفض صاحب الدكان أن ينقدنا المليم الذى ننتظره، تحولت الأغنية إلى نقيض كلماتها: الدكان ده كله خراب.. وصاحبه ربنا يعميه.
ونجرى.
سوق العيد يشغل مساحة ميدان الخمس فوانيس، يتفرع إلى الشوارع الجانبية فلا نستطيع أن نتبين النهايات: بشر وزينات وألعاب وصخب لا يتذمر منه السكان ، فالمناسبة روحية، تخص الجميع. يبدأ سوق العيد قبل بداية رمضان بحوالى عشرة أيام، تمتلئ المساحة المتبقية من سوق العيد بالمصلين، لأداء صلاة التراويح. يمتد إلى ما بعد أيام عيد الفطر، أسبوعين أو ثلاثة، ثم يعود إلى الميدان قبل عشرة أيام من عيد الأضحى.
ربما صحبتنا أمهاتنا إلى سراى رأس التين، ينصت الكبار إلى تلاوة الشيخ مصطفى إسماعيل، بينما ينشغل الصغار باللعب بين أشجار الحديقة الواسعة، نحتمى بجلال المناسبة من تحذيرات الأمهات، وتهديدات حاشية الملك بأذيتنا!
ولازلت أذكر انطلاق الصواريخ الملونة من ناحية السلسلة. أعرف أن المناسبة هى المولد النبوى، أو عيد شم النسيم، أو عيد ميلاد الملك.
المفردات الأجنبية متناثرة فى لغة السكندريين. ثمة ما يسهل تبين الجذور التى اشتقت المفردة منها، وثمة ما تتداوله الألسن دون أن تعنى بلغته الأصلية. لعل أغلب تلك المفردات تحقق من العلاقة بين اليابسة والبحر، أهل المدينة والوافدين من البحارة والسياح والأجانب الذين وجدوا فى المدينة نهاية لظروف قاسية عانتها بلادهم، كالشوام والإيطاليين واليونانيين والأرمن والمالطيين، أو فضلوا الإقامة فى البيئة الروحية، اختصارًا لرحلة الحج إلى الحجاز من المغرب العربى، ولا يخلو من دلالة أسماء الشوارع والأسواق فى بحرى: سوق المغاربة، سوق الترك، شارع فرنسا، إلخ.
خرجت من الساعات القليلة التى أمضيتها فى زياراتى لقهوة الفنانين بزاد من المفردات والتعبيرات التى تشكل سيم العوالم. لم تقتصر إفادتى منها على رباعية بحرى، بل احتفظت بها حتى تركت كتاباتى بحرى إلى المناصرة فى القاهرة، ضمنتها – لسنوات – أرشيفى الورقى، ما أحتفظ به من قصاصات صحف، ومعلومات، وتعبيرات، ومفردات، وآراء للآخرين، وكل ما أجد فيه تضمينًا محتملًا لكتابة إبداعية.
كثيراً ما تدعونى الإسكندرية للقائها: مشهد فى التليفزيون، مقالة تذكرنى بسنى الطفولة، مباراة بين الاتحاد السكندرى وناد آخر فى دورى كرة القدم، عبارة تعيدنى إلى موقف عشته أيام الصبا.
تحل لحظات الاستدعاء فى أوقات يختارها المكان السكندرى. قد يومض الاستدعاء، الخاطر، دون توقع، يكر الذهن - ولعله الوجدان - ما توارى فى الذاكرة. غالبية الانبثاقات من بحرى، الحى الذى عشته سنى النشأة.
للحى - رغم انقضاء السنين - خصوصيته التى يصعب تحديدها، أو لا يمكن تحديدها، لعلها التقاء البحر واليابسة، واختلاط البلانسات والمساجد والمزارات والبنايات القديمة. فقد الكثير من ملامحه، لكنه يظل قريباً إلى نفسى، لم يفصله التغير، ولا انقضاء السنين. فى داخلى يقين أن ما أسير فى شوارعه وحواريه وأزقته هو بحرى الذى عرفته، بحرى الطفولة والنشأة والذكريات التى لا تمحى. تتباطأ الخطوات، أتأمل البشر والشرفات والنوافذ والمحال المفتوحة والمغلقة والمقاهى والأكشاك، أقلها على حاله، وأغلبها تستدعيه الذكريات.
تبدو الأمكنة جميلة بحجم الحنين إليها.
أحن إلى بحرى بإحساس من يريد العودة إلى المكان الذى ينتمى إليه، ويحبه، أعرف عادات أهله، وتقاليدهم، ومشكلاتهم، حتى ألعاب الأطفال أشاهدها بألفة التكرار، أشعر فى سيرى المتأمل أنى أحب هذا المكان، وأنه يخصنى، هو التعبير عن الوطن.
البحار هى البحار فى كل الدنيا، هى الأمواج والآفاق المنبسطة والجزر والصخور ومخلوقات المياه والشواطئ والرمال، لكن البحر فى بحرى له خصوصية التى يصعب أن تتبينها ما لم تكن من أبناء الحى.
أحب بحرى، البحر والميادين والجوامع والزوايا ومقامات الأولياء والمزارات والموالد وحلقات الأذكار والميادين وسوق العيد وصيد السنارة والجرافة والطراحة والشواطئ الصخرية والرملية، يغمرنى الحب لناسه الذين أكسبتهم الروحية بساطة، وعفوية فى الكلمات والتصرفات.
منذ غادرت الإسكندرية لم تغادرنى، ظلت فى داخلى بذكرياتها، وتأثيراتها، وصور الحياة بين اليابسة والبحر.
العودة إلى الإسكندرية، إلى بحرى على وجه التحديد، حرصى الدائم منذ أبعدتنى ظروف العمل عن المدينة . لا أكف عن استعادة صور الحياة فى الحى، أو أن ذلك هو فعلها فى ابتعادى عنه.
لبحرى رائحة يصعب تمييزها، لكنها تطالعنى فى مدن بعيدة، داخل مصر وخارجها، تعيده إلىّ، وتعيدنى إليه، نلتقى فى الغربة. ثمة البخور والملح واليود والطحالب والأعشاب، تمازج روائح فى رائحة واحدة، مميزة.
بحرى عندى ليس مجرد مكان ولادة، بل هو مكان أنتمى إليه. أسير فى شوارع بحرى بمشاعر الانطلاق والألفة والطمأنينة. هذا هو المكان الذى أنتمى إليه، عشت فيه منذ الطفولة إلى الوقت الحالى.
محمد جبريل
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 04 - 2019