إيليا إهرنبورغ ( 1891 – 1967) كاتب روسي بارز ، كتب الشعر ، والقصة القصيرة ، والرواية ، وعمل في الصحافة ، بيد أنه معروف في المقام الأول كروائي عالمي ، احتلت موضوعة الحرب مكانة بارزة في نتاجاته ، التي نال من اجلها عدة جوائز مرموقة . وقد ترجمت أعماله الروائية الى لغات العالم الرئيسية. ولعل أهم هذه الروايات : " سقوط باريس " و " العاصفة " و " الموجة التاسعة " و " ذوبان الثلوج " ، التي ترجمت الى اللغة العربية ايضا ولكن عن طريق لغة وسيطة ، مثل الإنجليزية والفرنسية .
لم يكتب اهرنبورغ رواياته في برجه العاجي ، أو في مكتبه الأنيق ، بل كتب عن الحرب من داخل الحرب – من الخنادق الأمامية لجبهات القتال – فقد عمل لفترة طويلة مراسلاً حربيا في مدريد ابان الحرب الأهلية الإسبانية ، ثم في باريس التي شهد سقوطها بيد الجيش النازي ، وقد اضطر اثر ذلك الى الإختباء داخل السفرة السوفيتية في باريس، لأن رأسه كان مطلوباً للقيادة الألمانية كأحد أبرز الكتاب الأوروبيين المعادين للنازية والفاشية .كان وهو داخل السفارة يبعث بمقالاته النارية الى الصحف الأوروبية يفضح فيها جرائم الهتلريين ، وقد تمكن من العودة الى بلاده بعد عدة أسابيع بمعونة السفارة. وحين هاجم الجيش الألماني اراضي الإتحاد السوفييتي في صيف عام 1941 ، إلتحق اهرنبورغ بالجبهة مراسلاً حربياً ، منذ اليوم الأول للحرب . ومن خطوط النار كان يبعث تقاريره الصحفية الى الصحف المركزية ، ويكتب المقالات النارية ضد الهتلريين ، ويتحدث في اذاعة موسكو وكذلك في الإذاعات الموجهة الى المستمع الغربي باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية. ومن أشهر مقالات اهرنبورغ الساخرة ، التي كتبها عن النازي الألماني المتعجرف و سلوكه الدموي الوحشي . تلك السلسلة التي تحمل عنوان " فريتس " وهو إسم أطلقه إهرنبورغ على العدو الهتلري . ومن هذه المقالات : " فريتز الفيلسوف " و " فريتز العدمي " و " فريتز النرجسي " و " فريتز البيولوجي " و غيرها على هذا المنوال . وقد أصدر هتلر أمراً بإعدام إهرنبورغ فور احتلال موسكو ، وهو حلم هتلري بائس لم يتحقق بفضل الصمود الأسطوري للجيش السوفييتي . وليس بسبب البرد ، كما يزعم بعض المؤرخين الغربيين .
كانت معايشة اهرنبورغ للوحدات القتالية معينا لا ينضب لإبداعه ، وقد اصدر خلال الحرب العالمية الثانية والسنوات التي اعقبتها العديد من الدواوين الشعرية والمجاميع القصصية المكرسة للمآسي التي خلفتها الحرب ، إضافة الى رواياته التي أشرنا اليها آنفاً . ولعل هذه الأقصوصة وهي بعنوان " السعادة " هي اول نتاج لإهرنبورغ يترجم عن الأصل الروسي مباشرة . وقد كتبها اهرنبورغ في العام 1944 ، وهي مثال جيد لأدب الحرب ، وتمتاز بمضمونها الأنساني واسلوبها الواضح الذي اطلق عليه هيمنجواي ، اسم " الأسلوب البرقي " .
القصة :
عندما كان الجنرال بريانتسوف يضحك يبدو مفعما بالحيوية . لم تمس الاعوام شعره الاسود الكثيف . كان مرحا على الدوام . ففي تلك الايام المريرة التي كان المقاتلون خلالها يختنقون من الغبار والحنين , متراجعين نحو الدون كان بريانتسوف يقول : " سوف نتقدم قريبا" ، فيبتسم الجنود الذين أنهكهم التعب ، وينظر رئيس الاركان العقيد سيرينكو الى بريانتسوف في دهشة ويقول بينه وبين نفسه : هذه هي السعادة !.
كان سيرينكو يتسم بجفاء الطبع والصرامة , ربما أصبح قاسيا بسبب قرحة المعدة ،التي كان يشكو منها . ولم يكن بوسعه ان يتناول سوى الحليب . وفي احدى العربات التابعة للقيادة وبين الأسرة والمناضد والصناديق ، كانت تنقل بقرة صلعاء , ترمق دونما اكتراث مشاهد الحرب المرعبة بعينين جاحظتين , كان الانغماس الشديد في العمل يساعد العقيد في التغلب على المرض , كان يستعيد حيويته حين ينحني فوق الخارطة ، التي يرى فيها كل منحنيات الارض ومرتفعاتها ووديانها , يدرس عادات العدو ، ويعرف مكامن قوته ، وجوانب ضعفه.
كان الجنرال يقول :" انا بدون سيرينكو كأنني بلا عينين ". اما سيرينكو فقد كان يعتبر نفسه انسانا تاعسا للغاية . ملزما بالبقاء في مقر القيادة , يعيش المعارك ولا يراها . ويصرخ في التلفون بصوت مبحوح : " اعطوني تفاصيل الموقف ! " . لم يكن ثمة في حياته غير هذه الخرائط الزاخرة بالرموز والاشارات . لم يكن ينتظر الرسائل من أحد ، فقد افترق عن زوجته منذ زمن بعيد , وماتت إبنته الوحيدة في الحرب . وكان يتجنب النظر الى بريانتسوف ، عندما كان الاخير يقرأ الرسائل الطويلة . كان العقيد يعرف ان زوجة بريانتسوف – ماريا ايلينشنا تعيش في منزل وردي على ضفاف نهر الفولغا , وان اشجار التفاح اليانعة تنمو في حديقة المنزل ، فقد حدثه بريانتسوف عن ذلك أكثر من مرة . كما ذكر له ان زوجته تعمل مدرسة في معهد الموسيقى ، ولكنها الان تعاني من المرض وأنها تحب ابنهما الوحيد اوليغ حبا جما . وكان بريانتسوف يضيف في استحياء :" انه وليد طيب ". كان ابن بريانتسوف ضابطا في الجيش برتبة ملازم ثان . ذات مرة قال سيرينكو للجنرال : " ان ابنك ضابط مقدام ، ولكنه لا يشبهك يا نيكولاى بافلوفيتش ، فهو شاب ولكنه حزين " ضحك بريانتسوف :"عندما كنت في العشرين من عمري كنت أطارد الزمر المناهضة للثورة , اما ابني فأنه ينظم الشعر فهو يشبه امه".
كان ثمة كالعادة تبادل لقصف مدفعي , ثم مرت طائرة معادية ودوت المدافع المضادة للطائرات أضاءوا المصباح الزيتي في المسكن الارضي , كان بريانتسوف يأخذ قسطا من الراحة ، وسيرينكو يقرأ التقارير ويتحدث في التلفون مع الرائد سوبوليف , وفجأة أنتابه القلق وقال لبريانتسوف :
- ينبغي الحصول على (لسان) ، انهم يضمرون لنا شيئا ما ، ترى لم نقلوا الدبابات الى الغابة المجاورة للمصنع ؟
غرز سيرينكو ظفره في بقعة خضراء على الخارطة . كان يحدق دونما كلل في الدوائر الحمراء والزرقاء والاسهم والمعينات واللوالب – كانت الخارطة بالنسبة اليه نوطة موسيقية يصغى اليها .
كان ذلك في مساء صيفي قائظ وخانق , حين كان الناس ينتظرون بلهفة عاصفة رعدية. شرب بريانتسوف ماءا دافئا من الابريق وقال : "حسنا , أذا شرعوا ..... انني لا اخشى سوى على سميرنوف لان جنوده يدخلون المعركة للمرة الاولى ".
في حوالي منتصف الليل دخل معاون الجنرال منفعلا وقال :
- ايها الرفيق الجنرال , لقد وصل ضابط الاستطلاع الآن , ومعه أسير برتبة نائب ضابط .
صاح بريانتسوف فرحا:
- اسحبه الى هنا .
- كان الأسير بصحبة الملازم أول خوميكوف ، الذي أدى التحية للجنرال وشرع بتقديم تقريره اليه :
" ايها الرفيق الجنرال في طريق العودة ...." فقاطعه بريانتسوف قائلا : "ستقدم تقريرك لي فيما بعد , ينبغي استجواب الأسير أولاً . كان وجه الاسير مائلا الى الاخضرار , كالحا وممتقعا ولا حياة فيه . كان يلعق شفتيه بلسانه الجاف , ويكرر : انا لا اعرف شيئا ,أنا أمين الصندوق .انتابت سيرينكو نوبة مرض دورية ، ولم يتحمل الالم الشديد واخذ يتفوه بشتائم مقذعة . جفل الأسير ، لعق شفتيه وقال على حين غرة :
- عندي أطفال . سيبدأ الهجوم في الساعة الثالثة , الفوج الرابع والثلاثين والدبابات ، ولكن لا داعي لقتلي .
نسي سيرينكو الامه فجأة :
- هل ترى؟ الدبابات عند المصنع , واضح ! اما الرابع والثلاثين فهو ضد سميرنوف .
دب النشاط في الجميع وصاح سيرينكو في الهاتف : " هل أنتم نائمون !.. اعطوني .. العين .. حالاً .. حالاً "
وصرخ بريانتسوف : " اليوشا .. إبدأ " والتفت الى سيرينكو قائلاً " :
- انا ذاهب الى سميرنوف ، لا أدري كيف سيكون الإتصال . سأتحدث الى سيرديوك . أين ضابط الإستطلاع ؟
صاح الملازم الثاني خوميكوف بصوت تعمّد ان يكون مرتفعاً :
- ايها الرفيق الجنرال اسمحوا لي ان ابلغكم ، بان الملازم بريانتسوف قد استشهد كبطل عند اجتياز خط النار قرب المرتفع رقم 110
قال ذلك في نفس واحد متصل ثم مسح وجهه براحة يده , وصرخ سيرينكو : (ماذا ؟ ) . وساد المخبا الأرضي هدؤ عميق .. لم يكن يسمع فيه سوى نحيب الاسير , قال بريانتسوف لسيرينكو:
- ايفان سيرغيفيتش بلّغ سيرديوك ان يبدا في الساعة الثانية ، اما انا فسأذهب الى سميرنوف , وانتفض سيرينكو
- نيكولاي بافلوفيتش كيف أنت ؟
انطلقت السيارة مزمجرة تشق طريقها عبرالهضاب . كان الجو خانقا , والارض الجافة المتشققة المضاءة بمصابيح السيارة بدت وكأنها اكوام من الثلوج.
كان الظلام ما يزال سائدا عندما دوى القصف المدفعي . اهتزت الارض ثم اخذ الظلام ينقشع، ولكن الارض كانت مكسوة بالدخان ، واغصان الاشجار تحترق , وأعمدة الغبار تلتف كالنافورة .وفي الساعة الرابعة تحركت الدبابات الالمانية .استطاع سميرنوف ان يصد الضربة الأولى ، فدفع الالمان الدبابات ضد جورفلوف , لقد أدرك بريانتسوف بحدسه هدف المناورة ، وتمكن من نقل سريتين الى ايفانوفكا , عبرت الدبابات ولكن تم أيقاف تقدم المشاة .صعق الطاهي ياكوفنكو عندما شاهد ( النمر ) أمامه . تم تحطيم سبع دبابات معادية ورُدت ما تبقى منها على أعقابها , اما في الجناح الايمن فقد تقدم الالمان حتى (بولشاك) , ثم تحركت قوات سوبولوف عند الاصيل في هجوم مضاد بالقنابل اليدوية والاسلحة النار تتأخر " . ثم طلب الإتصال بسيرديوك . وبعد مضي ساعة كان يصرغ في الهاتف : " عند الطاحونة .. أتسمعني .. عند الطاحونة ". وبعد وقت وجيز حلقت الطائرات القاصفة فوق الرؤوس , استطاع النقيب شيبيليف الوصول الى المطار , كان الدم ينزف من معصمه وقال : اكتب اسقطنا طائرتي (مير) اما بريوك فقد اسقطوه ...
العريف كراسين , المحاسب السابق في مؤسسة التجارة بموسكو ، الذي جرح بشظية قنبلة زحف حتى الحفرة ومات هناك , وخلال إحتضاره خيل البه ، انه في البيت ، وعنده ضيوف لا يكفون عن الضجيج .
في الضؤ الخافت للمصباح الزيتي كان الجراح روبزن ، بصدريته الملطخة بالدماء ، يبتر ساق النقيب راشيفسكي .كانت هذه هي العملية السادسة عشر التي اجراها خلال ذلك اليوم .
غطى التراب المتطاير من اثر الانفجار جهاز اللاسلكي ، ولكن جندي المخابرة نوئوموف – رغم الدم النازف من أذنيه – كان يصيح بوضوح وينطق الكلمات مقطعا مقطعا : " ارتاميان يطلب العلبة ... العلبة ... العلبة "
جاء ثلاثة جنود وهم يقودون عددا من الاسرى ,ينبطحون جميعا على الارض عند الانفجار ، ثم ينهضون معاً ويسيرون ، ثم ينبطحون مرة أخرى . وعندما وصلوا أخيراً ، قال العريف فاسيليف : "أه ايها الفريتز " . . كان فاسيليف قد أحرق دبابة ألمانية وقال له الرائد سوبول بأنه سوف يرشحه لنيل وسام , وكان النقيب بيلاييف متوتر الاعصاب فقد بقى في الكتيبة التي يقودها ما لايزيد عن عشرين مقاتلا , وخيل الى بيلاييف أن الالمان تمكنوا من التسلل الى مكان ما , كان بريانتسوف يحاول سد الثغرات وهو يوجه الضربات من الجو , ويحرك الألوية , يقدم ويؤخر نار المدفعية , يصد محاولات العدو للأختراق , يحرك العجلات ، ويهز التلفون بصوته هزاً ، مثيراً دهشة الجميع بقوته التي لا تعرف الكلل . كان سيرينكو يؤشر على الخارطة تطور المعارك ، وفكر في غيظ : " أتأخر مرة أخرى " . أهتز الفانوس من شدة الإنفجار قرب المسكن الأرضي ،ولكنه استمر في تسجيل كل حركة . كان يعلم ان العدو يدفع بكتيبة جديدة الى الجناح الايمن والتي تم سحبها من جبهة أخرى , وكان على يقين ان برياتنسوف لم يفقد هدؤه قط ولو للحظة واحدة . وكان سيرينكو يردد بينه وبين نفسه في اعجاب : " الألمان يهجمون ، ولكن المبادرة في يد بريانتسوف ! يا للسعادة ! ".
أضيء التلفون وصاح سيرينكو : "اعطوني الموقف !" . عاد بريانتسوف في وقت متأخر من المساء في تلك الفترة القصيرة التي تفصل بين معركة واخرى .وصاح هادرا :
- لو رايت ما حدث حول ايفانوفكا ! لقد سحقوهم تماماً , وعموماً لم يعبروا في أي مكان . خسائر العدو تسعة عشر دبابة وستة نمور .-
- ماذا يقول فومين ؟ هل يدفعون بقوات جديدة ؟
- لوحظ رتل من السيارات قرب بالاشيفكا وقد لاحظ جارنا في الساعة 1900 أن الاسرى هم من الوحدات القديمة . لقد تقدموا عند جورفلوف فقط حتى الطاحونة. قال بريانتسوف :
- سنطردهم غداً. لو نمت لساعة واحدة في الاقل يا ايفان سيرغيفيتش .سحنتك فظيعة , أيوجعك ؟
- لا يوجعني شيئ –اجاب سيرينكو في تأثر - من الافضل ان تفكر بنفسك . خذ قسطا من الراحة.
- جلس بريانتسوف وقال بصوت اخر ناعم غير معهود
- سأحاول ان أستدعي خومياكوف لأسأله أين حدث ذلك ؟
- انتظر الجنرال في صمت وصول خوميكوف ، وأخذ يدخن لفافة تبغ إثر أخرى . حجب سيرينكو نفسه بالجريدة ، فقد خشي أن يكون حضوره ثقيلاً على بريانتسوف .
- ايها الرفيق الجنرال الملازم خوميكوف قتل اليوم قرب ايفانوفكا , اسمحوا لي بالذهاب .
جلس بريانتسوف بجوار سيرينكو :
- لنعمل , عندي خطة بشأن جورافلوف وفجأة ودون وعي قال :
- لا أدري كيف سأكتب الى ماشا ....
لحظ سيرينكو ان عيني الجنرال قد أغرورقتا بالدموع , ولكنه يبدو أنه يحس بالخجل من دموعه .
- أحس بالم في عيني , ينبغي أستعمال العوينات الطبية . الشيخوخة يا ايفان سيرغيفيتش .
- شد سيرينكو على يد الجنرال مصافحاً ثم شرعا بالعمل .
ahewar.org
جودت هوشيار - من أدب الحرب : قصة -السعادة- لإيليا إهرنبورغ
جودت هوشيار - من أدب الحرب : قصة -السعادة- لإيليا إهرنبورغ
لم يكتب اهرنبورغ رواياته في برجه العاجي ، أو في مكتبه الأنيق ، بل كتب عن الحرب من داخل الحرب – من الخنادق الأمامية لجبهات القتال – فقد عمل لفترة طويلة مراسلاً حربيا في مدريد ابان الحرب الأهلية الإسبانية ، ثم في باريس التي شهد سقوطها بيد الجيش النازي ، وقد اضطر اثر ذلك الى الإختباء داخل السفرة السوفيتية في باريس، لأن رأسه كان مطلوباً للقيادة الألمانية كأحد أبرز الكتاب الأوروبيين المعادين للنازية والفاشية .كان وهو داخل السفارة يبعث بمقالاته النارية الى الصحف الأوروبية يفضح فيها جرائم الهتلريين ، وقد تمكن من العودة الى بلاده بعد عدة أسابيع بمعونة السفارة. وحين هاجم الجيش الألماني اراضي الإتحاد السوفييتي في صيف عام 1941 ، إلتحق اهرنبورغ بالجبهة مراسلاً حربياً ، منذ اليوم الأول للحرب . ومن خطوط النار كان يبعث تقاريره الصحفية الى الصحف المركزية ، ويكتب المقالات النارية ضد الهتلريين ، ويتحدث في اذاعة موسكو وكذلك في الإذاعات الموجهة الى المستمع الغربي باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية. ومن أشهر مقالات اهرنبورغ الساخرة ، التي كتبها عن النازي الألماني المتعجرف و سلوكه الدموي الوحشي . تلك السلسلة التي تحمل عنوان " فريتس " وهو إسم أطلقه إهرنبورغ على العدو الهتلري . ومن هذه المقالات : " فريتز الفيلسوف " و " فريتز العدمي " و " فريتز النرجسي " و " فريتز البيولوجي " و غيرها على هذا المنوال . وقد أصدر هتلر أمراً بإعدام إهرنبورغ فور احتلال موسكو ، وهو حلم هتلري بائس لم يتحقق بفضل الصمود الأسطوري للجيش السوفييتي . وليس بسبب البرد ، كما يزعم بعض المؤرخين الغربيين .
كانت معايشة اهرنبورغ للوحدات القتالية معينا لا ينضب لإبداعه ، وقد اصدر خلال الحرب العالمية الثانية والسنوات التي اعقبتها العديد من الدواوين الشعرية والمجاميع القصصية المكرسة للمآسي التي خلفتها الحرب ، إضافة الى رواياته التي أشرنا اليها آنفاً . ولعل هذه الأقصوصة وهي بعنوان " السعادة " هي اول نتاج لإهرنبورغ يترجم عن الأصل الروسي مباشرة . وقد كتبها اهرنبورغ في العام 1944 ، وهي مثال جيد لأدب الحرب ، وتمتاز بمضمونها الأنساني واسلوبها الواضح الذي اطلق عليه هيمنجواي ، اسم " الأسلوب البرقي " .
القصة :
عندما كان الجنرال بريانتسوف يضحك يبدو مفعما بالحيوية . لم تمس الاعوام شعره الاسود الكثيف . كان مرحا على الدوام . ففي تلك الايام المريرة التي كان المقاتلون خلالها يختنقون من الغبار والحنين , متراجعين نحو الدون كان بريانتسوف يقول : " سوف نتقدم قريبا" ، فيبتسم الجنود الذين أنهكهم التعب ، وينظر رئيس الاركان العقيد سيرينكو الى بريانتسوف في دهشة ويقول بينه وبين نفسه : هذه هي السعادة !.
كان سيرينكو يتسم بجفاء الطبع والصرامة , ربما أصبح قاسيا بسبب قرحة المعدة ،التي كان يشكو منها . ولم يكن بوسعه ان يتناول سوى الحليب . وفي احدى العربات التابعة للقيادة وبين الأسرة والمناضد والصناديق ، كانت تنقل بقرة صلعاء , ترمق دونما اكتراث مشاهد الحرب المرعبة بعينين جاحظتين , كان الانغماس الشديد في العمل يساعد العقيد في التغلب على المرض , كان يستعيد حيويته حين ينحني فوق الخارطة ، التي يرى فيها كل منحنيات الارض ومرتفعاتها ووديانها , يدرس عادات العدو ، ويعرف مكامن قوته ، وجوانب ضعفه.
كان الجنرال يقول :" انا بدون سيرينكو كأنني بلا عينين ". اما سيرينكو فقد كان يعتبر نفسه انسانا تاعسا للغاية . ملزما بالبقاء في مقر القيادة , يعيش المعارك ولا يراها . ويصرخ في التلفون بصوت مبحوح : " اعطوني تفاصيل الموقف ! " . لم يكن ثمة في حياته غير هذه الخرائط الزاخرة بالرموز والاشارات . لم يكن ينتظر الرسائل من أحد ، فقد افترق عن زوجته منذ زمن بعيد , وماتت إبنته الوحيدة في الحرب . وكان يتجنب النظر الى بريانتسوف ، عندما كان الاخير يقرأ الرسائل الطويلة . كان العقيد يعرف ان زوجة بريانتسوف – ماريا ايلينشنا تعيش في منزل وردي على ضفاف نهر الفولغا , وان اشجار التفاح اليانعة تنمو في حديقة المنزل ، فقد حدثه بريانتسوف عن ذلك أكثر من مرة . كما ذكر له ان زوجته تعمل مدرسة في معهد الموسيقى ، ولكنها الان تعاني من المرض وأنها تحب ابنهما الوحيد اوليغ حبا جما . وكان بريانتسوف يضيف في استحياء :" انه وليد طيب ". كان ابن بريانتسوف ضابطا في الجيش برتبة ملازم ثان . ذات مرة قال سيرينكو للجنرال : " ان ابنك ضابط مقدام ، ولكنه لا يشبهك يا نيكولاى بافلوفيتش ، فهو شاب ولكنه حزين " ضحك بريانتسوف :"عندما كنت في العشرين من عمري كنت أطارد الزمر المناهضة للثورة , اما ابني فأنه ينظم الشعر فهو يشبه امه".
كان ثمة كالعادة تبادل لقصف مدفعي , ثم مرت طائرة معادية ودوت المدافع المضادة للطائرات أضاءوا المصباح الزيتي في المسكن الارضي , كان بريانتسوف يأخذ قسطا من الراحة ، وسيرينكو يقرأ التقارير ويتحدث في التلفون مع الرائد سوبوليف , وفجأة أنتابه القلق وقال لبريانتسوف :
- ينبغي الحصول على (لسان) ، انهم يضمرون لنا شيئا ما ، ترى لم نقلوا الدبابات الى الغابة المجاورة للمصنع ؟
غرز سيرينكو ظفره في بقعة خضراء على الخارطة . كان يحدق دونما كلل في الدوائر الحمراء والزرقاء والاسهم والمعينات واللوالب – كانت الخارطة بالنسبة اليه نوطة موسيقية يصغى اليها .
كان ذلك في مساء صيفي قائظ وخانق , حين كان الناس ينتظرون بلهفة عاصفة رعدية. شرب بريانتسوف ماءا دافئا من الابريق وقال : "حسنا , أذا شرعوا ..... انني لا اخشى سوى على سميرنوف لان جنوده يدخلون المعركة للمرة الاولى ".
في حوالي منتصف الليل دخل معاون الجنرال منفعلا وقال :
- ايها الرفيق الجنرال , لقد وصل ضابط الاستطلاع الآن , ومعه أسير برتبة نائب ضابط .
صاح بريانتسوف فرحا:
- اسحبه الى هنا .
- كان الأسير بصحبة الملازم أول خوميكوف ، الذي أدى التحية للجنرال وشرع بتقديم تقريره اليه :
" ايها الرفيق الجنرال في طريق العودة ...." فقاطعه بريانتسوف قائلا : "ستقدم تقريرك لي فيما بعد , ينبغي استجواب الأسير أولاً . كان وجه الاسير مائلا الى الاخضرار , كالحا وممتقعا ولا حياة فيه . كان يلعق شفتيه بلسانه الجاف , ويكرر : انا لا اعرف شيئا ,أنا أمين الصندوق .انتابت سيرينكو نوبة مرض دورية ، ولم يتحمل الالم الشديد واخذ يتفوه بشتائم مقذعة . جفل الأسير ، لعق شفتيه وقال على حين غرة :
- عندي أطفال . سيبدأ الهجوم في الساعة الثالثة , الفوج الرابع والثلاثين والدبابات ، ولكن لا داعي لقتلي .
نسي سيرينكو الامه فجأة :
- هل ترى؟ الدبابات عند المصنع , واضح ! اما الرابع والثلاثين فهو ضد سميرنوف .
دب النشاط في الجميع وصاح سيرينكو في الهاتف : " هل أنتم نائمون !.. اعطوني .. العين .. حالاً .. حالاً "
وصرخ بريانتسوف : " اليوشا .. إبدأ " والتفت الى سيرينكو قائلاً " :
- انا ذاهب الى سميرنوف ، لا أدري كيف سيكون الإتصال . سأتحدث الى سيرديوك . أين ضابط الإستطلاع ؟
صاح الملازم الثاني خوميكوف بصوت تعمّد ان يكون مرتفعاً :
- ايها الرفيق الجنرال اسمحوا لي ان ابلغكم ، بان الملازم بريانتسوف قد استشهد كبطل عند اجتياز خط النار قرب المرتفع رقم 110
قال ذلك في نفس واحد متصل ثم مسح وجهه براحة يده , وصرخ سيرينكو : (ماذا ؟ ) . وساد المخبا الأرضي هدؤ عميق .. لم يكن يسمع فيه سوى نحيب الاسير , قال بريانتسوف لسيرينكو:
- ايفان سيرغيفيتش بلّغ سيرديوك ان يبدا في الساعة الثانية ، اما انا فسأذهب الى سميرنوف , وانتفض سيرينكو
- نيكولاي بافلوفيتش كيف أنت ؟
انطلقت السيارة مزمجرة تشق طريقها عبرالهضاب . كان الجو خانقا , والارض الجافة المتشققة المضاءة بمصابيح السيارة بدت وكأنها اكوام من الثلوج.
كان الظلام ما يزال سائدا عندما دوى القصف المدفعي . اهتزت الارض ثم اخذ الظلام ينقشع، ولكن الارض كانت مكسوة بالدخان ، واغصان الاشجار تحترق , وأعمدة الغبار تلتف كالنافورة .وفي الساعة الرابعة تحركت الدبابات الالمانية .استطاع سميرنوف ان يصد الضربة الأولى ، فدفع الالمان الدبابات ضد جورفلوف , لقد أدرك بريانتسوف بحدسه هدف المناورة ، وتمكن من نقل سريتين الى ايفانوفكا , عبرت الدبابات ولكن تم أيقاف تقدم المشاة .صعق الطاهي ياكوفنكو عندما شاهد ( النمر ) أمامه . تم تحطيم سبع دبابات معادية ورُدت ما تبقى منها على أعقابها , اما في الجناح الايمن فقد تقدم الالمان حتى (بولشاك) , ثم تحركت قوات سوبولوف عند الاصيل في هجوم مضاد بالقنابل اليدوية والاسلحة النار تتأخر " . ثم طلب الإتصال بسيرديوك . وبعد مضي ساعة كان يصرغ في الهاتف : " عند الطاحونة .. أتسمعني .. عند الطاحونة ". وبعد وقت وجيز حلقت الطائرات القاصفة فوق الرؤوس , استطاع النقيب شيبيليف الوصول الى المطار , كان الدم ينزف من معصمه وقال : اكتب اسقطنا طائرتي (مير) اما بريوك فقد اسقطوه ...
العريف كراسين , المحاسب السابق في مؤسسة التجارة بموسكو ، الذي جرح بشظية قنبلة زحف حتى الحفرة ومات هناك , وخلال إحتضاره خيل البه ، انه في البيت ، وعنده ضيوف لا يكفون عن الضجيج .
في الضؤ الخافت للمصباح الزيتي كان الجراح روبزن ، بصدريته الملطخة بالدماء ، يبتر ساق النقيب راشيفسكي .كانت هذه هي العملية السادسة عشر التي اجراها خلال ذلك اليوم .
غطى التراب المتطاير من اثر الانفجار جهاز اللاسلكي ، ولكن جندي المخابرة نوئوموف – رغم الدم النازف من أذنيه – كان يصيح بوضوح وينطق الكلمات مقطعا مقطعا : " ارتاميان يطلب العلبة ... العلبة ... العلبة "
جاء ثلاثة جنود وهم يقودون عددا من الاسرى ,ينبطحون جميعا على الارض عند الانفجار ، ثم ينهضون معاً ويسيرون ، ثم ينبطحون مرة أخرى . وعندما وصلوا أخيراً ، قال العريف فاسيليف : "أه ايها الفريتز " . . كان فاسيليف قد أحرق دبابة ألمانية وقال له الرائد سوبول بأنه سوف يرشحه لنيل وسام , وكان النقيب بيلاييف متوتر الاعصاب فقد بقى في الكتيبة التي يقودها ما لايزيد عن عشرين مقاتلا , وخيل الى بيلاييف أن الالمان تمكنوا من التسلل الى مكان ما , كان بريانتسوف يحاول سد الثغرات وهو يوجه الضربات من الجو , ويحرك الألوية , يقدم ويؤخر نار المدفعية , يصد محاولات العدو للأختراق , يحرك العجلات ، ويهز التلفون بصوته هزاً ، مثيراً دهشة الجميع بقوته التي لا تعرف الكلل . كان سيرينكو يؤشر على الخارطة تطور المعارك ، وفكر في غيظ : " أتأخر مرة أخرى " . أهتز الفانوس من شدة الإنفجار قرب المسكن الأرضي ،ولكنه استمر في تسجيل كل حركة . كان يعلم ان العدو يدفع بكتيبة جديدة الى الجناح الايمن والتي تم سحبها من جبهة أخرى , وكان على يقين ان برياتنسوف لم يفقد هدؤه قط ولو للحظة واحدة . وكان سيرينكو يردد بينه وبين نفسه في اعجاب : " الألمان يهجمون ، ولكن المبادرة في يد بريانتسوف ! يا للسعادة ! ".
أضيء التلفون وصاح سيرينكو : "اعطوني الموقف !" . عاد بريانتسوف في وقت متأخر من المساء في تلك الفترة القصيرة التي تفصل بين معركة واخرى .وصاح هادرا :
- لو رايت ما حدث حول ايفانوفكا ! لقد سحقوهم تماماً , وعموماً لم يعبروا في أي مكان . خسائر العدو تسعة عشر دبابة وستة نمور .-
- ماذا يقول فومين ؟ هل يدفعون بقوات جديدة ؟
- لوحظ رتل من السيارات قرب بالاشيفكا وقد لاحظ جارنا في الساعة 1900 أن الاسرى هم من الوحدات القديمة . لقد تقدموا عند جورفلوف فقط حتى الطاحونة. قال بريانتسوف :
- سنطردهم غداً. لو نمت لساعة واحدة في الاقل يا ايفان سيرغيفيتش .سحنتك فظيعة , أيوجعك ؟
- لا يوجعني شيئ –اجاب سيرينكو في تأثر - من الافضل ان تفكر بنفسك . خذ قسطا من الراحة.
- جلس بريانتسوف وقال بصوت اخر ناعم غير معهود
- سأحاول ان أستدعي خومياكوف لأسأله أين حدث ذلك ؟
- انتظر الجنرال في صمت وصول خوميكوف ، وأخذ يدخن لفافة تبغ إثر أخرى . حجب سيرينكو نفسه بالجريدة ، فقد خشي أن يكون حضوره ثقيلاً على بريانتسوف .
- ايها الرفيق الجنرال الملازم خوميكوف قتل اليوم قرب ايفانوفكا , اسمحوا لي بالذهاب .
جلس بريانتسوف بجوار سيرينكو :
- لنعمل , عندي خطة بشأن جورافلوف وفجأة ودون وعي قال :
- لا أدري كيف سأكتب الى ماشا ....
لحظ سيرينكو ان عيني الجنرال قد أغرورقتا بالدموع , ولكنه يبدو أنه يحس بالخجل من دموعه .
- أحس بالم في عيني , ينبغي أستعمال العوينات الطبية . الشيخوخة يا ايفان سيرغيفيتش .
- شد سيرينكو على يد الجنرال مصافحاً ثم شرعا بالعمل .
ahewar.org
جودت هوشيار - من أدب الحرب : قصة -السعادة- لإيليا إهرنبورغ
جودت هوشيار - من أدب الحرب : قصة -السعادة- لإيليا إهرنبورغ