بشرى الفاضل - المكتبة..

في سوق المدينة المركزي. وفي اجمل شارع فيها.. برزت مكتبة صغيرة لبيع الكتب والمخطوطات النادرة. وعلى الرغم من ضيق المساحة فان المكتبة كانت تلبي كافة الطلبات.. يزورها المهمومون بالفلسفة والتاريخ والفنون والعلوم من سائر انحاء القطر.. وكانوا دائما يجدون ما يبتغون. حتى سرت مزحة في المدينة ان الوراق صاحب تلك المكتبة البديعة جني.
ان انت زرت المكتبة وهي مصممة من الخشب العتيق الفخم المطلي باللون البني الفاتح . ورأيت النقوش السوداء على الخشب كالوشم على السواعد. ورايت نوافذها وابوابها المزخرفة ذات الاقواس والحواشي. وشممت رائحة الصندل الدائمة. وعبير الكتب الاخاذ. ثم انك ان تطلعت الى ارفف الكتب النسيقة ثم اسلمت بصرك اخيرا لجاذبية عيني الوراق ولحسن ملابسه وطلعته وحركته داخل المكتبة. لتملكك الهاجس نفسه الذي سرى في المدينة ولضحكت في سرك ولتعجبت.
عينا الوراق لامعة وابتسامته تنفرج او تضيق مع درجة اهمية الكتب التي يناولها للراغبين.. ولكنها ابتسامة في نهاية الامر.. هو وراق صامت ورشيق وعمله متقن وصارم ويعطيك احساسا اكيدا بانه قرأ كل تلك الكتب التي يتعامل معها كما مع ابنائه. كان الكشك عاليا. عاليا وارستقراطيا. وكان صاحبه عالما. عالما واريحيا.
قيل لي ان ذلك الوراق لا يظل صامتا حين يعود الى داره بل تنعقد في بيته ندوات يناقشون فيها كل اربعاء كتبا جديدا حيث _قيل لي_ تكون مداخلات الوراق شائقة ومثيرة دائما لاهتمام الحضور.
وهكذا عاشت مدينتنا سنوات تنعم بهذه الخدمة الراقية. الى ان حل يوم اتخذ فيه محافظ المدينة قرارا بنقل الكشك من موقعه ذاك النادر الى الشارع الثاني بنفس السوق.. وهناك اصبح الكشك واطئا بعض الشي. ولعل حركة النقل العنيفة كسرت بعض اضلاعه. وذهبت ببعض طلائه.. وقلت حركة البيع بالكشك شيئا فشيئا. فانتقصت ابتسامة الوراق اوقية ودرهمين.
ثم مرت سنة فتقل الكشك الى طرف السوق. وهناك لجأ الوراق الى بيع الصحف السيارة وكف عن الابتسام.
ثم حل مدير اداري للسوق فأتخذ قرارا بنقل الكشك لحي ( سواكن). وهناك نقصت ابتسامة الوراق رطلا. رغما عن كون حي سواكن راق فهو مع عمرانه الجميل ليس كمركز للمدينة على كل حال.
وبعد ستة اشهر اتخذ عمدة سواكن قرارا بنقل المكتبة الى اطراف الحي هناك حيث رأى الكشك بعينيه النافذتين المباني الحديثة التي لا يقطنها الا حراسها.
وهكذا استيقن الكشك انه لا فائدة من الاستمرار في مهمته النبيلة.. ومضت ايام اختفى خلالها الوراق. وظهر في الكشك بدوي سريع الحركات يرتدي جلبابا وتنجر خلفه عمامة عجولة. وكان البدوي يدخل بالطناجر ويخرج بالجمر والفول والصلصة ويصيح بالحناجر. وكانت الاطباق من البلاستيك.
وعندما اعلن الكشك عن تذمره برمي احى اخشابه اوجعه صاحبه الجديد بالحديد ضربا وشاكه بالمسامير ورتقه بلوح من الزنك.
واتخذ المحافظ الجديد قرارا ثوريا فحواه نقل كل الاكشاك الى سوق ( البان هسه) النائي الذي تضرب اليه اكباد الحافلات. وهناك حل بالكشك صاحب جديد.. وهو عجوز مجرب. يجلس طوال الوقت داخل الكشك تراه فتقول انه لا يبيع شيئا علما بان معظم عمليات البيع تتم بالفراسة والعيون والمناولة الصامتة. وهذا الشيخ يشبه الوراق في الصمت.
ثم اتخذ المحافظ الثائر قرارا جديدا بتوزيع الاكشاك مرة اخرى.لكن التوزيع تم على الاحياء العشوائية... وكانت المكتبة العتيقة من نصيب حي (الاميين)..
وهناك تحوات المكتبة العتيقة الى مخزن للفحم تمتلئ بالسواد كأنما تعلن بذلك عن حدادها على ماّلها.
ومرت سنوات شاخ فيها الكشك. وغلب عليه الحديد والصدأ. واتخذ المحافظ الهمام قرارا بهدم جميع الاحياء العشوائية واكشاكها معها وجاءت اليات ضخمة حملت الكشك خلف مقبرة الشاحنات وهناك ألقوا به فأقعى راسه في بطن خور وأسفله أعلاه.. وصار مخلوع الأبواب والنوافذ تمر عليه الأتربة وهو في حال انكفائه تلك دهرا الى ان طواه النسيان ثم ذهب في دورة العناصر.

=====================================
* من مجموعة (أزرق اليمامة) للقاص الدكتور بشرى الفاضل الصادرة عن دار عزة للطباعة والنشر والتوزيع.
أعلى