يوسف أبو لوز - زعماء الصعاليك يسبقون الريح والخيل

لا ينصرف مصطلح أو تعريف «مثقف» أو «المثقف» على الشاعر الجاهلي أو شاعر ما قبل أو بعد الجاهلية، أو على الناثر في ذلك الزمن القديم الذي لم تكن فيه الثقافة ممارسة، كما هي اليوم، بل كانت حياة فطرية بكل معنى الكلمة.
كان «المثقف» إذاً، متخففاً كلياً من توصيفات كبرى في زماننا هذا مثل توصيف أو مصطلح «المثقف العضوي» على سبيل المثال.. أو «المثقف المنتمي»، أو «الملتزم» وغير ذلك من «صناعات فكرية أو إيديولوجية» ظهرت بشكل خاص بعد الحرب العالمية الثانية تبعاً لعقائد سياسية بالدرجة الأولى، أو تبعاً لحركات التحرر الوطنية، والاستعمار، والاستقلال، والاستشراف وغير ذلك من بيئات سياسية نمت فيها الثقافة السياسية والأدبية، وأوجزت، وبالتالي، مصطلحات وتعريفات تتصل بالمثقف.(1)
المفاهيم السابقة للمثقف لم تكن موجودة في الجاهلية وفجر الإسلام، كان هناك شاعر فطري، وكان هناك شاعر الرمل وشاعر التيه، وشاعر الطل، وشاعر الرثاء، وشاعر المديح، وهؤلاء أوجدوا ثقافاتهم من خلال البيئة الاجتماعية والبيئة المكانية التي كانوا فيها. ولكن من هو المثقف الصعلوك؟
هل هو المتحرر كلياً من الالتزام، والواقع، والانتماء؟
هل هو الخارج على قانون وأخلاقيات المجتمع؟.. هل هو ذلك «الكائن المعرفي» الذي يدور في فلك ذاته.. أو أنه -كما يقال – الذي يغرد أو يطير خارج السرب؟
هل هو المتخلص كلياً من إملاءات السياسي إلى حد عدم الاعتراف به، بل، والقطع أو القطيعة معه؟
الشاعر الصعلوك ابن بيئة مفتوحة على التأمل، وهو ابن (معنى التنقل) و(الارتحال) بل و(ابن الليل) و(ابن الخيل).. إنه يتبع الأثر في الصحراء، ويتبع الغريزة الفطرية المتأصلة فيه وهي (الغزو)، و(الغزو) عند الشاعر الصعلوك هو رديف للفروسية والنبل والبطولة.
نشير هنا أولاً قبل الانتقال إلى بعض نماذج الشاعر الصعلوك بوصفه نتاج ثقافة الصحراء أولاً.. ثم هو أيضاً نتاج ثقافة المدينة، فقد جاءت ثقافة الصعلكة أو المثقف الصعلوك ليعلن نوعاً من الاحتجاج على الثقافة المادية الاستهلاكية في النصف الأول من القرن العشرين بشكل خاص، ليتخلص بذلك الشاعر الصعلوك من قيم مادية هي ضد قيم حريته، ورغبته العارمة في عيش الحياة حتى الثمالة كما يقولون.. أقول نشير هنا إلى ضرورة التفريق بين ظاهر المثقف الصعلوك أو الشاعر الصعلوك، وبين ظاهرتين قريبتين منه: الرصيفية، والفوضوية.
ليس بالضرورة أن يكون شاعر الرصيف صعلوكاً (ظاهرة الشاعر علي فودة، ورسمي أبو علي- بيروت – في ثمانينات القرن العشرين على سبيل المثال..) شاعر الرصيف هو شاعر ثقافة يومية منسحبة مما هو رسمي أو سلطوي أو سياسي، وإن كان الرصيف يرمز إلى ظلال سياسية.
الرصيف، أيضاً، يرمز إلى المدينة، الأرصفة هي مكون من مكونات صورة المدينة، وبالتالي، فالرصيف، هو «مديني».. بل الشاعر متصالح مع المدينة ورموزها الثقافية، فيما الشاعر الصعلوك ينطوي دائماً على نوع غامض من القطيعة مع هذه الرموز.
كان الشاعر محمد القيسي الذي كان يطلق عليه البعض (الشاعر الصعلوك)، وكانت في الثمانينات في العاصمة الأردنية وراءه (عائلة من الصعاليك).. أقول كان القيسي يردد.. «الشارع أجمل من سقف» في إشارة إلى رمزية الحرية.. رمزية الفكاك من أسر سلطة العائلة على الشاعر بشكل خاص،. ولكن القيسي مع كل ذلك لم يكن شارع رصيف.. أسميه: شاعر الهواء الطلق، شاعر مشّاء، وراءّ عائلة من المشّائين.(2)
يشكل الجزء الأول بشكل خاص من «ديوان الشعر العربي» الذي جمع مختاراته أدونيس، وصدرت الطبعة الأولى منه في كانون الثاني 1964 منصة مهمة لقراءة أوائل الشعراء الصعاليك، ولاحظ أدونيس أنه بين الجاهلية، وأواسط القرن الثامن الميلادي هناك ملامح تشير إلى خمسة اتجاهات شعرية الأول: بحسب أدونيس ما سماه: الاتجاه الميتافيزيائي القائم – كما يقول – على التأمل في معنى الحياة وفي ما وراءها، والثاني: الاتجاه القائم على الصورة الشعرية، والثالث: الاتجاه الإيديولوجي، والرابع: وهذا ما يهمنا في هذه المادة، وهو ما سماه أدونيس «اتجاه اللا منتمين» وبحسبه هم: «.. الشعراء الذين اضطروا لظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية أن يعيشوا خارج مملكة النظام والمجتمع – في مملكة الطبيعة حيث فضاء الحرية».. ويرى أدونيس أن هذا الاتجاه يمثله الصعاليك واللصوص والغاضبون إجمالاً ولشعرهم عالم متميز خاص.
غير أنه من الإجحاف أن يوضع شعراء لصوص وقطاع طرق إلى جانب الشاعر الصعلوك، فمن سيرة الشعراء الصعاليك أنهم كانوا يغيرون على قبائل الجزيرة، ويوزعون ما يغنمونه على الفقراء، لا بل إن إحدى قصائد واحد من هؤلاء الصعاليك وهو عروة بن الورد تقرأ على أنها تنطوي على شيء من «الاشتراكية الفطرية».. الاشتراكية والتضامن بين الناس على لسان ابن الورد عندما قال:

وإني امرؤ عافي إنائي شركة = وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى = بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
أقسّم جسمي في جسوم كثيرة = وأحسو قراح الماء والماء بارد

مثل هذا الشاعر الذي يلتقي على إنائه شراكة من الجائعين وهو نحيل الجسد (والنحول صفة الشعراء الصعاليك عموماً) لا يمكن أن يقرن باللصوص، وقطاع الطرق.
تحمل «لامية الشنفرى» وهو من زعماء الشعراء الصعاليك أخلاق، وثقافة، وتربية، ونفسية الصعلوك، ونبله وشجاعته أيضاً. إن الصعلوك قادر على ما سماه «الشنفرى»: «..إماتة الجوع». أي القدرة على تحمل الجوع إلى درجة قتل الجوع، ومن تمثلات هذه الفكرة عند «الشنفرى» ما يسمّى اليوم في عصرنا «حرب الأمعاء» أو الإضرابات الطويلة عن الطعام لدى بعض المعتقلين، وذلك تمثل فقط، وليس صعلكة.. إنه ببساطة نوع من البطولة.. يقول الشنفرى:

أديم مطال الجوع حتى أميته = وأضربُ عنه الذكر صفحاً فأذهلُ
وأستفّ ترب الأرض كي لا يرى له = عليّ من الطول امرؤ متطولُ

لامية الشنفرى، وهو من كبار الصعاليك.. إذا أردت القول يمكن أن تكون «دستور الصعاليك» العرب والقصيدة.. هجاء مرير للجوع، وبطولة شاعر صعلوك لا تقيم في نفسه «المرة على الضيم»، وهو يرى غيره من المتخمين من الشبع، ويكفيه أن يغدو على قليل الطعام.. يقول في «لاميته»:

ولولا اجتناب الذأم لم يُلف مشربٌ = يعاشُ به إلا لديّ، ومأكلُ
ولكن نفساً مرةً لا تقيمُ بي = على الذام، إلا ريثما أتحولُ

إلى أن يقول:
فإما تريني كابنة الرمل ضاحياً = على رقة أحفى ولا أتنعّلُ
فإني لمولى الصبر أجتاب بزّه = على مثل قلب السمع والحزمَ أفعل

من المعروف أن أمراء الصعلكة ثلاثة في الذاكرة الشعرية التي تعود إلى زمن الخيل والرمل والنبل، الذي يتدرب عليه الفارس بالفطرة، عروة بن الورد، والشنفرى، وتأبط شراً.. تقول ترجمته: «اسمه ثابت من الشعراء الفرسان المغيرين.. عرف بسرعة العدو وسبقه للخيل..» وعن سرعته في العدو يصف نفسه:
ويسبقُ وفد الريح من حيث ينتحي = بمنخرق من شدة المتدارك

ويقول:
يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي = بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك
تلك متونُ الصافنات إذا جرت = تباريه أو تدمى نسور السنابك

يمتلك أمراء الصعاليك ليس مخيلة شعرية مذهلة فقط، بل ويمتلكون مخيلة تساعدهم على اجتراح أساليب تعينهم على تفادي العطش بالذات، وقد يصبر الصعلوك على الجوع، ولكنه، قد يهلك إذا فقد الماء، ولذلك كان الواحد منهم يفرغ بيض النعام، ويملأ البيضة بالماء، ثم يدفنها في مواضع من الصحراء يعرفها جيداً، فإذا عطش ذهب من فوره إلى الموضع الذي دفن فيه البيضة ويشرب قدر ما يبعد عنه غائلة الظمأ.
تخبرنا ترجمات شعراء الجزء الأول من «ديوان الشعر العربي» عن صعاليك آخرين: (حاجز الأزدي).. عداء يسابق الخيل، يورد له أدونيس هذه الأبيات الثلاثة فقط:
ألا علاني قبل نوح النوادبِ
وقبل بكاء المعولات القرائبِ
وقبل ثوائي في ترابٍ وجندلٍ
وقبل نشوز النفس فوق الترائبِ
فإن تأتني الدنيا بيومي فجاءةً
تجدني وقد قضيت منها مآربي
من الصعاليك الفرسان أيضاً، عمرو بن براقة الهمداني، وهذا الشاعر الصعلوك يقول لنا ببساطة (ما هي ممتلكات الصعلوك) وهي سيف قاطع بلون الملح.. والصعلوك أيضاً قليل النوم.. يقول:
تقول سُليمى: لا تعرض لتلفةٍ
وليلك عن ليل الصعاليك نائمُ
وكيف ينام الليل من جل ماله
حسامٌ كلون الملح أبيض صارمُ
ألم تعلمي أن الصعاليك نومهم
قليل إذا نام الخلي المسالمُ
هذه ملامح سريعة من شخصية الشاعر الصعلوك في الجاهلية وما بعدها.. لكن ندرك تماماً أن صعلكة تلك الفترة الزمنية المحاطة بوحشة الرمل وفراغ الصحراء وسرعة الركض التي تتفوق على سرعة الخيل، والصبر على الجوع «والاشتراكية البدائية».. وغير ذلك من أخلاقيات وسلوكيات إنما تختلف كلياً عن صعلكة اليوم.. أو تحديداً صعلكة النصف الثاني من القرن العشرين (الستينات والسبعينات تحديداً) حيث أخذت الثقافة بمعناها المؤدلج المسيس تهيمن على المفهوم الفطري للصعلكة.. التي كما تختلف قيمياً وسلوكاً عن الرصيفية والعبثية والفوضوية.. هي أيضاً تختلف عن البوهيمية.. واللصوصية في الحياة والكتابة والفكر والثقافة.


أعلى