فجأة انبعثت ذكرى قرية المزيندة التابعة لإقليم اليوسفية من رماد النسيان, وعانق ثراها نبض العشرات من أبنائها الذين غلت في عروقهم دماء النوستالجيا والحنين, واستبدت بهم حماسة الشوق فهاموا في الطرقات على وجوههم, إلى أن أفضى بهم جنون العشق إلى الارتماء في أحضان الأم التي رعتهم وشهدت على حياة كانت تعج بالحركة والنشاط, قبل أن يقول القدر كلمته على وقع رحيل الفاعل الفوسفاطي عن القرية التي تحولت إلى يباب, وتوالت هجرات أبنائها فرارا من واقع بؤس وحرمان وتهميش فرض فرضا على القرية الشبه المنكوبة, كما لو أن مصابا جللا حط الرحال بأرضها، واستمرأ المكوث والإقامة ليحول أبناءها إلى لاجئين ملؤوا كل بقاع المغرب, وتخطى كثير منهم الحدود.
ولأن قلوب الأبناء عاشقة تجري فيها دماء مجانين العشق والغرام، وتفيض حبا وهياما بالثرى الذي احتضنها, لم يكن لعامل المسافة والزمن أي سبيل إليها ليلقنها دروس التحريض على امتشاق ذاكرة النسيان والتنكر للماضي الجميل, لأنهم تربوا على قيم الوفاء والإخلاص، ولأن الأماكن التي شدوا إليها الرحال لم تستطع أن تحتل القلب الممتلئ عشقا للأم الحبيبة التي رعت طفولتهم، وسايرت كل مراحل تفتحهم على الحياة، وأحاطتهم بعنايتها، فعاطفتهم هي أقرب ما يكون إلى توصيف الشاعر العربي:
قلب فؤادك فيما شئت من الهوى..... فما الحب إلا للحبيب الأول
كما الطيور المهاجرة قررت جالية قرية المزيندة شد الرحال إلى مسقط الرأس لتخلق الحدث وتصنع مشهدا رائعا رسمته دموع اللقاء التي انسابت من عيون اختلط على أصحابها الفرح بالألم, مشاعر متضاربة توزعت بين شكر القدر على تفضله بربط أواصر القربى بين الأبناء الذين فرقت بينهم رحلة الحياة, وجعلتهم يتيهون في الأرض بحثا عن استقرار ربما تحقق ماديا, لكنه بقي على مستوى الروح معلقا بأستار الماضي، متواريا إلى الوراء، منغرسا في ذاكرة كان وأخواتها, ليجسد ثنائية ضدية صارخة بين جسد يعيش في مكان وروح متوثبة ترفض أن تبرح فضاء ارتوت من فرات مائه ورتع صباها في كل أرجائه, ومهما شطت بها الديار فهي تصر على ألا تخلف الموعد مع درس الوفاء, أو أن تسمح للزمن بمحو آثاره من ثنايا الذاكرة المثخنة بجروح الحب والهيام.
لكن هذه المشاعر المفعمة بالفرح في لحظة الوصال والاتصال بالأرض الحبيبة, وفي غمرة الانتشاء بلقاء الأحباب والخلان والأصدقاء, توزعت أصحابها كذلك تيمات الفقد والفجيعة وجعلت دموع الأسى والإحساس بالنهاية والزوال تنهمر كسيل جارف حزنا وحدادا ورثاء لواقع القرية الحالك البئيس الذي ينطق بكل مظاهر المأساة ويشهد على الانقلاب التراجيدي في مسار اختار له من اختار منحدرا عميقا هوت فيه هذه التي كانت مفعمة بالحياة, حتى وصلت لقعر النسيان دون أن يهب أحد لنجدتها وانتشالها من مخالب الاحتضار, وكأن عنترة بن شداد العبسي انبعث من لحده وقرر أن يشارك الواقفين على الأطلال, الباكين على تغير الحال أحاسيسهم الموغلة في الحداد فأنشد يقول:
بالأمس كان بك الظباء أوانسا واليوم في عرصاتك الغربان
وقفوا جميعا يبكون ذكرى الحبيب والمنزل, وذكرى المرافق التي حكموا عليها بالإغلاق أو التعطيل, كأنما هو مسعى لإخلائها من البشر الذين لم تعد هناك حاجة إليهم, لأن مبرر تواجدهم زال بإغلاق المغارات الفوسفاطية, وصار المكان أهلا للغربان لتأخذ نصيبها من المكوث والاستيطان وسط هذه الأطلال بِدَعَةٍ وطمأنينة لا يعكر وصفها كدر إنس ولا جان.
فهل ستجدي التوسلات الدامعة لبعث عنقاء المزيندة من رمادها ونفض غبار النسيان عنها، وهل ستفلح العبرات التي هطلت بسخاء في إحياء هذه الأرض الموات، أم أن القرار صدر بالإعدام ولا مجال لمراجعته، مهما انبعثت التوصيات ومهما كثرت الشفاعات من هذه الجهة أو تلك للتراجع عن الحكم القاسي الذي يريد لها أن تكون عظاما بالية مطمورة تحت لحاف سميك اسمه النسيان؟
ولأن قلوب الأبناء عاشقة تجري فيها دماء مجانين العشق والغرام، وتفيض حبا وهياما بالثرى الذي احتضنها, لم يكن لعامل المسافة والزمن أي سبيل إليها ليلقنها دروس التحريض على امتشاق ذاكرة النسيان والتنكر للماضي الجميل, لأنهم تربوا على قيم الوفاء والإخلاص، ولأن الأماكن التي شدوا إليها الرحال لم تستطع أن تحتل القلب الممتلئ عشقا للأم الحبيبة التي رعت طفولتهم، وسايرت كل مراحل تفتحهم على الحياة، وأحاطتهم بعنايتها، فعاطفتهم هي أقرب ما يكون إلى توصيف الشاعر العربي:
قلب فؤادك فيما شئت من الهوى..... فما الحب إلا للحبيب الأول
كما الطيور المهاجرة قررت جالية قرية المزيندة شد الرحال إلى مسقط الرأس لتخلق الحدث وتصنع مشهدا رائعا رسمته دموع اللقاء التي انسابت من عيون اختلط على أصحابها الفرح بالألم, مشاعر متضاربة توزعت بين شكر القدر على تفضله بربط أواصر القربى بين الأبناء الذين فرقت بينهم رحلة الحياة, وجعلتهم يتيهون في الأرض بحثا عن استقرار ربما تحقق ماديا, لكنه بقي على مستوى الروح معلقا بأستار الماضي، متواريا إلى الوراء، منغرسا في ذاكرة كان وأخواتها, ليجسد ثنائية ضدية صارخة بين جسد يعيش في مكان وروح متوثبة ترفض أن تبرح فضاء ارتوت من فرات مائه ورتع صباها في كل أرجائه, ومهما شطت بها الديار فهي تصر على ألا تخلف الموعد مع درس الوفاء, أو أن تسمح للزمن بمحو آثاره من ثنايا الذاكرة المثخنة بجروح الحب والهيام.
لكن هذه المشاعر المفعمة بالفرح في لحظة الوصال والاتصال بالأرض الحبيبة, وفي غمرة الانتشاء بلقاء الأحباب والخلان والأصدقاء, توزعت أصحابها كذلك تيمات الفقد والفجيعة وجعلت دموع الأسى والإحساس بالنهاية والزوال تنهمر كسيل جارف حزنا وحدادا ورثاء لواقع القرية الحالك البئيس الذي ينطق بكل مظاهر المأساة ويشهد على الانقلاب التراجيدي في مسار اختار له من اختار منحدرا عميقا هوت فيه هذه التي كانت مفعمة بالحياة, حتى وصلت لقعر النسيان دون أن يهب أحد لنجدتها وانتشالها من مخالب الاحتضار, وكأن عنترة بن شداد العبسي انبعث من لحده وقرر أن يشارك الواقفين على الأطلال, الباكين على تغير الحال أحاسيسهم الموغلة في الحداد فأنشد يقول:
بالأمس كان بك الظباء أوانسا واليوم في عرصاتك الغربان
وقفوا جميعا يبكون ذكرى الحبيب والمنزل, وذكرى المرافق التي حكموا عليها بالإغلاق أو التعطيل, كأنما هو مسعى لإخلائها من البشر الذين لم تعد هناك حاجة إليهم, لأن مبرر تواجدهم زال بإغلاق المغارات الفوسفاطية, وصار المكان أهلا للغربان لتأخذ نصيبها من المكوث والاستيطان وسط هذه الأطلال بِدَعَةٍ وطمأنينة لا يعكر وصفها كدر إنس ولا جان.
فهل ستجدي التوسلات الدامعة لبعث عنقاء المزيندة من رمادها ونفض غبار النسيان عنها، وهل ستفلح العبرات التي هطلت بسخاء في إحياء هذه الأرض الموات، أم أن القرار صدر بالإعدام ولا مجال لمراجعته، مهما انبعثت التوصيات ومهما كثرت الشفاعات من هذه الجهة أو تلك للتراجع عن الحكم القاسي الذي يريد لها أن تكون عظاما بالية مطمورة تحت لحاف سميك اسمه النسيان؟