في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها عبد اللطيف بن إبراهيم السراوي الدنفي (عبد حنونه، هستري، ١٩٠٣-١٩٩٥، حولون) بالعربية على مسامع الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤- )، الذي نقلها بدوره إلى العبرية، نقّحها، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٢-١٢٤٣، ١٦ تموز ٢٠١٧، ص. ٤٣-٤٦. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة وستين تقريبًا في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”ذكريات، ذكريات، ذكريات
إنّ احتضان الذكريات بمثابة إحدى المتع المتبقية لي في الحياة، إذا تغاضينا عن لذّات ومُتع أخرى مثل عبادة الله القادر على كل شيء، أو قُرب أحفادي منّي، أبناء ابنيّ الذين يذكّرونني بضحكهم المرح وببكائهم المرّ، أيّامَ الصبا والشباب هناك في نابلس وجبل جريزيم بيت إيل، جبل الميراث والسكينة.
أنا ابن إبراهيم السراوي، قضيت سنواتِ حياتي العشرين الأولى في نابلس. هناك ربّتني والدتي وفيقة ابنة الأمين الغزاوي (بنياميم همطري) آخرة أبناء السبط بنياميم بيننا. تعلّمت التوراة واللغة والحساب والتقاليد على يدي خيرة معلّمي الطائفة، وعلى رأسهم الشخصية المبجّلة بالنسبة لي، الكاهن الأكبر يعقوب بن هارون، رحمه الله وأسكنه فسيح جنّاته. كنّا نجلس على مقاعد خشبية صغيرة في المدرسة السامرية الصغيرة التي أسّسها المحسن الأمريكي وارن.
في رؤيا روحي أراني واقفًا ضمن مجموعة كبيرة من تلاميذ المدرسة السامرية، مستقبلًا بأنشودة جهورية قدوم المحسن الأمريكي وارن، الذي قدم لمشاهدة المدرسة، وتفقّد إنجازات تلاميذها. رافق وارن عقيلته ونائب القنصل الأمريكي في القدس السيّد جون وايتنچ وصديق وارن الأب القسيس إلعزر بارتون الذي احترم وأجّل السامريين. حرسٌ من الجنود الأتراك اصطحب أربعتهم ومرّ الأربعة بين مقاعد تلاميذ المدرسة وهم يبتسمون ويتمتّعون بسماع الأنشودة الجهيرة:
من عند الله خرج الأمر
الله يظلل/يحمي بني العبرانيين/عيڤر
بواسطة الرجل الموقّر
عوّضه الخالق بالخير
اسمه وارن جمع …
وهكذا استرسلنا في الإنشاد وعينا الكاهن الأكبر يعقوب الواسعتان الصارمتان تتعقباننا. مشى وارن من ولد لآخر، وما أقلّ تعدادنا آنذاك، ربّت بلطف على شَعر الرأس. بالرغم من قلّة عددنا علمنا في أعماقنا أنّ هذا العدد الضئيل هو أمل مستقبل الطائفة الصغيرة.
يا حسرتي على تلك الذكريات الجميلة، إنّها عزاء كبير لي وحثّ لكفاح في مسيرة إنسان على وشك التسعين من عمره. الامتنان والحمد لله تبارك وتعالى، الذي أنع عليّ بصبوره (تسيپوراه) زوجتي التي تهتم بتلبية كلّ حاجياتي والأولاد والأحفاد يبعثون المسرّة والبهجة في قلبي.
صور الماضي تتوالى في مخيّلتي. بوسعكم أن تخمنّوا مدى صعوبة تلك الأيّام التي كانت بالنسبة لي ذكريات بهيجة بهيّة. ذاكرة الإنسان قصيرة، وهو يميل إلى تنميق أيّامه المريرة بألوان وردية أكثر كلّما ابتعد عنها مقتربًا من حاضر أفضل. في ذلك الوقت كنّا شبابًا وأشدّ َعودًا، وعليه كان بمقدورنا التعامل مع أقسى الظروف.
ثمّة حرب في العالم
صورة أولى من الأشهر الأولى للحرب العالمية الأولى. نشبت الحرب في عزّ صيف عام 1914، ولولا وجود جنود الجيش التركي، الذين كان ينتقلون من بيت إلى آخر بسرعة، لتجنيد الشباب للجيش قسْرًا وبعنف لمحاربة البريطانيين، لما علمنا بأنّ هناك حربًا في العالم.
بدت مدينة نابلس كالمرجل، صرخات شباب يتعاركون مع المجنِّدين انطلقت من كلّ منزل تقريبا. هنالك من التحق بمحض إرادته، وآخرون سلكوا كل الطرق الممكنة لإيجاد مخابىء. وكالعادة دائمًا كان هناك متعاونون من أهالي نابلس الذين جنّدوا بالقوة شبابًا كثيرين مقابل مبلغ من المال تلقوه، وفي أحيان كثيرة كانوا يُخبرون عن مخابىء الهاربين من التجنيد.
وفي هذا الموضوع، التملّص والإفلات من المجنِّدين لم يعرف خيال السامريين حدًّا، حتّى بعد أن تمّ تجنيدهم ونُقلوا إلى موقع التجنيد في ساحة السجن التركي شرقي نابلس. لقد شحذوا أفضل ما لديهم من قدرة الابتكار لكي يهربوا ويعودوا إلى بيوت أُسرهم التي كانت تعاني من ذهابهم إلى الجيش.
في البداية، وبهدف إعفاء شبابنا من التجنيد، عرض الكثير من السامريين كتاباتِهم القديمة للبيع لدفع فدية التجنيد. لكن هذا الأمر أسعف لمدّة قصيرة فقط، عندما تيقّن الجيش التركي من ضعفه أمام البريطانيين، شرع بتعبئة عامّة في صفوف شباب نابلس، ومن ضمنهم حتّى من دفع فدية من قبل. وبفضل مرسوم تركي أُعفي فقط أولاد عائلة الكهنة التي كانت صغيرة جدا.
موت صدقة بن إبراهيم بن فرج الصباحي (تسدكه بن أبراهام بن مرحيب هصفري)
حدثت حالات تنصّل أيضًا، أدّت إلى مصائبَ كتلك التي حلّت بصدقة بن إبراهيم بن فرج الصباحي، ذلك الشاب مديد القامة، الأشقر الوسيم، الذي تمارض فعولج في المستشفى المحلّي، وهناك مرض بالطاعون بعدوى من أحد المصابين الكثر به في المستشفى، وفارق الحياة بعد مدّة وجيزة.
إنّه لم يكن الحادث الوحيد الذي حصل من السيء إلى الأسوأ. من حيث المبدأُ، لا أحد رغب في التجنّد وتجنّدت كل الطائفة لحماية شبابها المجنّد. وإذا فرّ أحدهم من التجنيد هبّ الجميع لتأمين مخبأ له، ولكن ذلك لم يكن ليدوم طويلًا لوجود مُخبرين دسّاسين على الدوام من بين جيران السامريين الذين لم يفلح أبناؤهم في الهرب، ومقابل مبلغ زهيد جدّا، بضع تعاريف، كانوا يستدعون جنود الجيش التركي لإلقاء القبض على الهارب.
ملجأ في ”قُدس الأقداس“
أتذكّر الحادثة التالية وكأنّها وقعت أمام عينيّ اليوم. تسعة من شبابنا هربوا سوية من الجيش وأتوا للاختباء في الحيّ القديم. قام أقرباؤهم بأقصى جهودهم لإخفاء هذه الحقيقة عن عيون الجيران إلى أن حلّ يوم السبت. ومن المعروف أنّ لا شيء في العالَم يحول دون تأدية السامري صلاة السبت في الكنيس. وهذا ما حدث للفارّين الذين نحن بصددهم، ارتدوا ملابس السبت، خرجوا من المخبأ، وذهبوا إلى الكنيس.
هذه الحقيقة تكشّفت بالصدفة لمخبر/فسّاد/واش/دسّاس محلي لاحظ أحد الفاّرين مهرولًا داخلا الكنيس لصلاة ظهيرة يوم السبت. وسُرعان ما أبلغ المخبر الجيش التركيَّ، الذي بدوره أرسل حرس شرف إلى باحة الكنيس الكائن في الحيّ القديم.
وعلى الفور لاحظ السامريون تواجد الجيش خارج الكنيس، وعلموا أن شرًّا سيلمّ بالهاربين السبعة المتواجدين في الكنيس، وهم يرتدون الطلّيسات ( أوشحة/أردية الصلاة) البيضاء وينشدون من شعر مرقِه. شخص ما بلّغ الكاهن الأكبر يعقوب والشمّاش الكاهن توفيق بن خضر (متسليح بن فنحاس) عن نيّة الجيش. جنود الجيش التركي انتظروا بالطبع للانتهاء من الصلاة ليقبضوا على الفارّين عند مغادرتهم الكنيس. هم كانوا على علم بالتعليمات الصارمة القاضية بعدم الدخول لمكان مقدّس، وبالتأكيد عدم القيام بأي نشاط أثناء الصلاة.
الكاهن توفيق بن خضر، أبو واصف، سُرعان ما استعاد قِواه، وقبل أن وقف المصلّون لسماع بركة الكاهن في ختام الصلاة، أمر الفارّين السبعة بالصعود إلى مذبح الصلاة المخصّص للكهنة فقط والاختباء خلف ستار تابوت العهد. مذبح الصلاة مصنوع كمحراب عميق يتّسع لتابوت العهد ولشبابنا السبعة المختبئين فيه خوفًا من الجيش التركي.
جلد المخبر بالسوط خمسين جلدة
انتظر جنود الجيش التركي والواشي المحلي بفارغ الصبر انتهاء الصلاة. عندما أخذ المصلّون بمغادرة الكنيس، تبع المخبر وتعقّب كلّ واحد منهم ليشير إليه بسرعة بأنّه أحد الفارّين. ولكن ويا للعجب، لم يكن بين الخارجين أي فارّ. نعم، كان في معيّة الخارجين شباب إلا أن جديلة الشعر المربوطة والبارزة من تحت طرابيشهم دلّت على أنّهم أبناء عائلة الكهنة وهم معفيون من التجنيد.
بدأ قائد الحرس يرمق المخبر بغيظ والذي بدوره أصرّ على أنّ الفارّين ظلّوا داخل الكنيس. وقف القائد عند بوّابة الكنيس، ألقى نظرة نحو الداحل فرأى الكاهن توفيق بن خضر الوجيه لوحده في الكنيس، لا أحد معه. تظاهر الكاهن توفيق بالمفاجأة عند رؤيته الضابط التركي صديقه فسأله عن غاية زيارته هذه المباغتة.
أجاب الضابط ما أجاب ودخل ليلقي نظرة على كل محاريب الكنيس باستثناء المحراب الجنوبي، مذبح الصلاة وقدس الأقداس. إلى هناك لم يجرؤ الضابط على إلقاء نظرة بسبب تعليمات القانون الصارمة. قطع الفارّون السبعة المختبئون وراء الستار أنفاسهم. تمتم القائد كلماتِ اعتذار على الإزعاج والمضايقة أثناء الطقس الديني وخرج سريعًا من الكنيس.
أمر الضابط جنوده: إمْسكوا هذا المخبر واجلدوه خمسين جلدة على افتراءه. منذ ذلك الوقت انقطعت الوِشاية!“.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة وستين تقريبًا في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”ذكريات، ذكريات، ذكريات
إنّ احتضان الذكريات بمثابة إحدى المتع المتبقية لي في الحياة، إذا تغاضينا عن لذّات ومُتع أخرى مثل عبادة الله القادر على كل شيء، أو قُرب أحفادي منّي، أبناء ابنيّ الذين يذكّرونني بضحكهم المرح وببكائهم المرّ، أيّامَ الصبا والشباب هناك في نابلس وجبل جريزيم بيت إيل، جبل الميراث والسكينة.
أنا ابن إبراهيم السراوي، قضيت سنواتِ حياتي العشرين الأولى في نابلس. هناك ربّتني والدتي وفيقة ابنة الأمين الغزاوي (بنياميم همطري) آخرة أبناء السبط بنياميم بيننا. تعلّمت التوراة واللغة والحساب والتقاليد على يدي خيرة معلّمي الطائفة، وعلى رأسهم الشخصية المبجّلة بالنسبة لي، الكاهن الأكبر يعقوب بن هارون، رحمه الله وأسكنه فسيح جنّاته. كنّا نجلس على مقاعد خشبية صغيرة في المدرسة السامرية الصغيرة التي أسّسها المحسن الأمريكي وارن.
في رؤيا روحي أراني واقفًا ضمن مجموعة كبيرة من تلاميذ المدرسة السامرية، مستقبلًا بأنشودة جهورية قدوم المحسن الأمريكي وارن، الذي قدم لمشاهدة المدرسة، وتفقّد إنجازات تلاميذها. رافق وارن عقيلته ونائب القنصل الأمريكي في القدس السيّد جون وايتنچ وصديق وارن الأب القسيس إلعزر بارتون الذي احترم وأجّل السامريين. حرسٌ من الجنود الأتراك اصطحب أربعتهم ومرّ الأربعة بين مقاعد تلاميذ المدرسة وهم يبتسمون ويتمتّعون بسماع الأنشودة الجهيرة:
من عند الله خرج الأمر
الله يظلل/يحمي بني العبرانيين/عيڤر
بواسطة الرجل الموقّر
عوّضه الخالق بالخير
اسمه وارن جمع …
وهكذا استرسلنا في الإنشاد وعينا الكاهن الأكبر يعقوب الواسعتان الصارمتان تتعقباننا. مشى وارن من ولد لآخر، وما أقلّ تعدادنا آنذاك، ربّت بلطف على شَعر الرأس. بالرغم من قلّة عددنا علمنا في أعماقنا أنّ هذا العدد الضئيل هو أمل مستقبل الطائفة الصغيرة.
يا حسرتي على تلك الذكريات الجميلة، إنّها عزاء كبير لي وحثّ لكفاح في مسيرة إنسان على وشك التسعين من عمره. الامتنان والحمد لله تبارك وتعالى، الذي أنع عليّ بصبوره (تسيپوراه) زوجتي التي تهتم بتلبية كلّ حاجياتي والأولاد والأحفاد يبعثون المسرّة والبهجة في قلبي.
صور الماضي تتوالى في مخيّلتي. بوسعكم أن تخمنّوا مدى صعوبة تلك الأيّام التي كانت بالنسبة لي ذكريات بهيجة بهيّة. ذاكرة الإنسان قصيرة، وهو يميل إلى تنميق أيّامه المريرة بألوان وردية أكثر كلّما ابتعد عنها مقتربًا من حاضر أفضل. في ذلك الوقت كنّا شبابًا وأشدّ َعودًا، وعليه كان بمقدورنا التعامل مع أقسى الظروف.
ثمّة حرب في العالم
صورة أولى من الأشهر الأولى للحرب العالمية الأولى. نشبت الحرب في عزّ صيف عام 1914، ولولا وجود جنود الجيش التركي، الذين كان ينتقلون من بيت إلى آخر بسرعة، لتجنيد الشباب للجيش قسْرًا وبعنف لمحاربة البريطانيين، لما علمنا بأنّ هناك حربًا في العالم.
بدت مدينة نابلس كالمرجل، صرخات شباب يتعاركون مع المجنِّدين انطلقت من كلّ منزل تقريبا. هنالك من التحق بمحض إرادته، وآخرون سلكوا كل الطرق الممكنة لإيجاد مخابىء. وكالعادة دائمًا كان هناك متعاونون من أهالي نابلس الذين جنّدوا بالقوة شبابًا كثيرين مقابل مبلغ من المال تلقوه، وفي أحيان كثيرة كانوا يُخبرون عن مخابىء الهاربين من التجنيد.
وفي هذا الموضوع، التملّص والإفلات من المجنِّدين لم يعرف خيال السامريين حدًّا، حتّى بعد أن تمّ تجنيدهم ونُقلوا إلى موقع التجنيد في ساحة السجن التركي شرقي نابلس. لقد شحذوا أفضل ما لديهم من قدرة الابتكار لكي يهربوا ويعودوا إلى بيوت أُسرهم التي كانت تعاني من ذهابهم إلى الجيش.
في البداية، وبهدف إعفاء شبابنا من التجنيد، عرض الكثير من السامريين كتاباتِهم القديمة للبيع لدفع فدية التجنيد. لكن هذا الأمر أسعف لمدّة قصيرة فقط، عندما تيقّن الجيش التركي من ضعفه أمام البريطانيين، شرع بتعبئة عامّة في صفوف شباب نابلس، ومن ضمنهم حتّى من دفع فدية من قبل. وبفضل مرسوم تركي أُعفي فقط أولاد عائلة الكهنة التي كانت صغيرة جدا.
موت صدقة بن إبراهيم بن فرج الصباحي (تسدكه بن أبراهام بن مرحيب هصفري)
حدثت حالات تنصّل أيضًا، أدّت إلى مصائبَ كتلك التي حلّت بصدقة بن إبراهيم بن فرج الصباحي، ذلك الشاب مديد القامة، الأشقر الوسيم، الذي تمارض فعولج في المستشفى المحلّي، وهناك مرض بالطاعون بعدوى من أحد المصابين الكثر به في المستشفى، وفارق الحياة بعد مدّة وجيزة.
إنّه لم يكن الحادث الوحيد الذي حصل من السيء إلى الأسوأ. من حيث المبدأُ، لا أحد رغب في التجنّد وتجنّدت كل الطائفة لحماية شبابها المجنّد. وإذا فرّ أحدهم من التجنيد هبّ الجميع لتأمين مخبأ له، ولكن ذلك لم يكن ليدوم طويلًا لوجود مُخبرين دسّاسين على الدوام من بين جيران السامريين الذين لم يفلح أبناؤهم في الهرب، ومقابل مبلغ زهيد جدّا، بضع تعاريف، كانوا يستدعون جنود الجيش التركي لإلقاء القبض على الهارب.
ملجأ في ”قُدس الأقداس“
أتذكّر الحادثة التالية وكأنّها وقعت أمام عينيّ اليوم. تسعة من شبابنا هربوا سوية من الجيش وأتوا للاختباء في الحيّ القديم. قام أقرباؤهم بأقصى جهودهم لإخفاء هذه الحقيقة عن عيون الجيران إلى أن حلّ يوم السبت. ومن المعروف أنّ لا شيء في العالَم يحول دون تأدية السامري صلاة السبت في الكنيس. وهذا ما حدث للفارّين الذين نحن بصددهم، ارتدوا ملابس السبت، خرجوا من المخبأ، وذهبوا إلى الكنيس.
هذه الحقيقة تكشّفت بالصدفة لمخبر/فسّاد/واش/دسّاس محلي لاحظ أحد الفاّرين مهرولًا داخلا الكنيس لصلاة ظهيرة يوم السبت. وسُرعان ما أبلغ المخبر الجيش التركيَّ، الذي بدوره أرسل حرس شرف إلى باحة الكنيس الكائن في الحيّ القديم.
وعلى الفور لاحظ السامريون تواجد الجيش خارج الكنيس، وعلموا أن شرًّا سيلمّ بالهاربين السبعة المتواجدين في الكنيس، وهم يرتدون الطلّيسات ( أوشحة/أردية الصلاة) البيضاء وينشدون من شعر مرقِه. شخص ما بلّغ الكاهن الأكبر يعقوب والشمّاش الكاهن توفيق بن خضر (متسليح بن فنحاس) عن نيّة الجيش. جنود الجيش التركي انتظروا بالطبع للانتهاء من الصلاة ليقبضوا على الفارّين عند مغادرتهم الكنيس. هم كانوا على علم بالتعليمات الصارمة القاضية بعدم الدخول لمكان مقدّس، وبالتأكيد عدم القيام بأي نشاط أثناء الصلاة.
الكاهن توفيق بن خضر، أبو واصف، سُرعان ما استعاد قِواه، وقبل أن وقف المصلّون لسماع بركة الكاهن في ختام الصلاة، أمر الفارّين السبعة بالصعود إلى مذبح الصلاة المخصّص للكهنة فقط والاختباء خلف ستار تابوت العهد. مذبح الصلاة مصنوع كمحراب عميق يتّسع لتابوت العهد ولشبابنا السبعة المختبئين فيه خوفًا من الجيش التركي.
جلد المخبر بالسوط خمسين جلدة
انتظر جنود الجيش التركي والواشي المحلي بفارغ الصبر انتهاء الصلاة. عندما أخذ المصلّون بمغادرة الكنيس، تبع المخبر وتعقّب كلّ واحد منهم ليشير إليه بسرعة بأنّه أحد الفارّين. ولكن ويا للعجب، لم يكن بين الخارجين أي فارّ. نعم، كان في معيّة الخارجين شباب إلا أن جديلة الشعر المربوطة والبارزة من تحت طرابيشهم دلّت على أنّهم أبناء عائلة الكهنة وهم معفيون من التجنيد.
بدأ قائد الحرس يرمق المخبر بغيظ والذي بدوره أصرّ على أنّ الفارّين ظلّوا داخل الكنيس. وقف القائد عند بوّابة الكنيس، ألقى نظرة نحو الداحل فرأى الكاهن توفيق بن خضر الوجيه لوحده في الكنيس، لا أحد معه. تظاهر الكاهن توفيق بالمفاجأة عند رؤيته الضابط التركي صديقه فسأله عن غاية زيارته هذه المباغتة.
أجاب الضابط ما أجاب ودخل ليلقي نظرة على كل محاريب الكنيس باستثناء المحراب الجنوبي، مذبح الصلاة وقدس الأقداس. إلى هناك لم يجرؤ الضابط على إلقاء نظرة بسبب تعليمات القانون الصارمة. قطع الفارّون السبعة المختبئون وراء الستار أنفاسهم. تمتم القائد كلماتِ اعتذار على الإزعاج والمضايقة أثناء الطقس الديني وخرج سريعًا من الكنيس.
أمر الضابط جنوده: إمْسكوا هذا المخبر واجلدوه خمسين جلدة على افتراءه. منذ ذلك الوقت انقطعت الوِشاية!“.