لا شك أن الشاعر المغربي الكبير محمد علي الرباوي ، وثلة من إخوانه المبدعين في المنطقة الشرقية من المغرب ؛ حينما أنظر إليهم ، أنظر من خلال ماقدموا للمغرب ، وللثقافة ، والإبداع المغربيين ؛ من ذلك أنهم لحموا المنطقة الشرقية من المغرب بجذورها الإسلامية عامة ، وبالعالم العربي الكبير !! .
وذلك في حدود المواكبة لما هو عليه الفكر ، والإبداع .. فضلا عن العمل - في صمت - من أجل رفع التهميش عن المنطقة التي أرادها الاستعمار منطقة حدودية ليس إلا !! .. ومن يشتغل بالفكر ، وعلى الفكر يعرف صعوبة هذا الدور العظيم ، والمهم في حياة تقدم الشعوب و الأمم .. لكن ماذا لو قلنا : إن هذه الثلة - ومنها الشاعر محمد علي الرباوي - قد اعتمدت في إنجاز هذا المنجز المهم ، والخطير على إمكاناتها الذاتية ؛ لغاية تحقيق الأهداف العليا للمغرب ، والمغاربة ، وللأمتين العربية ، والإسلامية ؛ وذلك لخلق المعادل الثقافي ؛ والإبداعي لما هو عليه الحال عربيا ، وفي الوطن / المغرب .. بل ولخلق الفرادة المغربية ، والتميز المغربي ! .
وقد كرس الشاعر محمد علي الرباوي هذا الطرح بمجموعاته الخمسة عشر ( 1 ) بدءا من ديوانه المشترك الأول مع الشاعرين حسن الأمراني ، والمرحوم الطاهر دحاني (( البريد يصل غدا )) ( 2 ) إلى حدود آخر ديوانيه (( قمر أسرير )) و (( من مكابدات السندباد المغربي )) ( 3 ) باعتبارهما صدرا معا سنة 2002 .. ويعتبر شاعرنا في هذا الخضم علامة فارقة ومتميزة جدا ؛ وهذا ماحرضني على قراءة ديوانه (( من مكابدات السندباد المغربي )) بهذه القراءة العجلى !! .
في البداية أشير إلى أن ديوان (( من مكابدات السندباد المغربي )) - في الأساس - هو عبارة عن قصيدة واحدة مطولة ؛ تتلون في بنيتها التفعيلية . وهي تتكون من اثنين وعشرين مقطعا ، تختلف في الطول ، والقصر ، والشكل ، كل مقطع منها مرقم ، منها ما هو في جملتين قصيرتين فقط . ( المقطع الأول ) ، ومنها مقاطع طويلة ( المقطع السابع ) ، وبعضها أطول بكثير ( المقطع العشرين ) . وما يجمع بين هذه المقاطع هو السردية التي وسمت بعض مقاطعها ، وكونها ازدادت من رحم الفقد ، والوطن .
عمم الشاعر صفحة الغلاف الأول باللون الأصفر ، الممتد إلى ظهر الغلاف ؛ محملا بما به يؤجج الشكوى ، ويؤشر للمفارقة ، ويبعث على الشجن !! من الديوان / القصيدة (( المغرب الأقسى / أدمى أمانينا / ندنو هوى منه / وهو يجافينا / .............. / المغرب الأقصى / أقصى أهالينا / لأننا عشنا / فيه مساكينا / .............. / المغرب الأقصى / أدنى أعادينا / للروم قد أعطى / كل أراضينا / بيض لياليهم / سود ليالينا / .............. )) . استعمل الشاعر اللون الأصفر باعتباره من الألوان الرئيسة في الضوء والصباغة ، ، ولكونه يرمز إلى النور لأنه مستمد من الشمس ( 4 ) .. أما الشاعر فقد استعمله محملا بدلالة غير بعيدة ؛ لعلها مايعقب الموت من شحوب وصفرة الجسد المسجى لوالده الميت ، وهو اختيار ذكي وموفق للغلاف خاصة .
قراءة في العنوان من مكابدات السندباد المغربي
أول ما يطالع قاريء هذا العنوان ؛ اشتماله على ثلاثة مكونات اسمية ، تختلف في دلالاتها ، وصيغها الصرفية ، وتركيباتها ، وتموقعاتها في العنوان ، وماتحيل عليه من مرجعيات .. استهله الشاعر بما دلت عليه أداة الجر (( مِنْ )) المفيدة لابتداء الغاية ، ومقصدية بعضها لاكلها ؛ وهي هنا المكابدات .
(( مكابدات )) : صيغة جمع لكلمة أصلها صحيح ؛ هو ( الكاف ، والباء ، والدال ) ( كَبَدَ ) ، فالكَبَدُ ( بفتحتين ) : الشدة ، والمشقة ، والضيق ، والعناء ، والقوة في الفعل والعمل . جاء في سورة البلد ( آية : 4 ) : (( لقد خلقنا الإنسان في كبد )) . وفيه مايدل على المكابدة في العمل لأمر الدنيا والآخرة .. ومما نصت عليه معاجم اللغة ؛ ومنها لسان العرب ارتباط الكلمة بالكَبِدْ الذي هو معدن الحرارة والدم حينما يكون مجهداً بشدة البرد . واستدلوا على ذلك بحديث نبوي شريف كشاهد ( 5 ) .. والمقصود بالمكابدات في الديوان : معاناة حدثت بالفعل لوالد الشاعر محمد علي الرباوي ، وهو يتنقل بين أوراش العمل الشاقة ،التي كانت مصدر ما اعتاش عليه وبنى به أسرته طيلة حياته ؛ وهو ماصرح به الشاعر في الديوان باعتباره مصدر اعتزاز :
عضلات أبي صنعتني
عضلات أبي فتلت عضلاتي
غطت بالنور زهو حياتي
عضلات أبي أعطتني الدنيا
عضلات أبي أعطتني الحُبَّ
وأعطتني الدفء وأعطتني السكنا
أعطتني هذا الوجه الشامخَ
حيث به طاولت الزمنا ( 6 )
جملة (( السندباد المغربي ))
الكلمة الأولى : (( السندباد ))
اسم معرف ب (( أل )) فيه إشارة إلى الشخصية المذكورة في قصة مجهولة الكاتب والمصدر (( ألف ليلة وليلة )) . وقد صار هذا الاسم رمزا ملازما لمجموعة من الأدباء ، والشعراء ، تعبيرا عن خيالاتهم ، ومعاناتهم ، وأفكارهم .. كان (( السندباد )) ممثلا للمغامرة ، والرحيل ، والإياب المظفر ، المحمل بالكنوز ، والثروات .. وقد تمسك الشاعر محمد علي الرباوي هنا ب ( السندباد ) كرمز لوالده المرحوم في رحلته الحياتية ذات الخصوصية المغربية (( . . . ماجلست إليه طويلا ، ولكنه حين مات حملتُ طويلا على كتفي نعشَهُ ، وجلست إليه طويلا . أكان جلوسيَ ينفعه ، ماشبعتُ أنا منه ، فالسندبادُ كما البحرِِ لايستقر . له عودة بعد كل رحيل . . . )) ( 7 )
الكلمة الثانية (( المغربي )) :
اسم معرف ب (( أل )) لزمته في الأخير اللاحقة الصرفية ( ياء النسبة ) .. وهذا الاسم يرتبط بحميمية الهوية . كما يرتبط بالدلالة على مادل عليه وطن الشاعر بهويته المكانية ؛ باعتباره بلدا إفريقيا ، وبالهوية القومية باعتباره بلدا عربيا ، وبالهوية الدينية باعتباره بلدا مسلما ... وقد ربطته اللاحقة الصرفية بالسندباد على سبيل النسبة .
وبناء عليه فمدار الدلالة في العبارة (( السندباد المغربي )) يرمز بها الشاعر محمد علي الرباوي لوالده المرحوم الذي خاض أهوال المغامرة من أجل العمل الشريف رغم ما فيه من مشقة في كل من المغرب والجزائر وفرنسا . وكان يلقى نفس الأهوال التي يواجه السندباد التراثي . ربطه بالمغرب تأكيدا للسير على نهج الشعراء ؛ شعراء كبار ، وليرفع سقف أفق انتظارات المتلقي حول مايمكن أن يجده في هذا المنجز الشعري السندبادي ، بخصوصيته المغربية ! . لاباعتباره رمزا للمغامرة والرحيل ، والأياب ؛ محملا بكنوز وثروات الأرض . وإنما باعتباره إنسانا مغربيا تحمل المشاق من أجل أبنائه ، وفي سبيل الوطن ؛ فكان جزاؤه أن تنكر له الوطن !!! .
1 ) في رمزية السندباد :
الشاعر محمد علي الرباوي في هذا الديوان / القصيدة يؤشر للمتلقي على أنه امتلك - لما كتب من مكابدات السندباد - وعيا شموليا بالمرحلة التي كتب فيها ، وامتلك وعيا بما تقتضيه المرحلة من المبدع من أسلحة علمية ، وأدوات فنية ، وثقافية ، وفكرية ، لايمتلكها غيره ، وهو بامتلاكها أولى . لذلك فهو بهذا النص - كما أسلفت - لحم الإبداع في المنطقة الشرقية المغربية بجذورها ؛ فهو هنا - ولاشك - يذكر بقصيدة (( وجوه السندباد )) للشاعر خليل سليم حاوي ( 1919 - 1982 ) المنشورة في مجلة (( الحكمة )) حين كان يديرها بنفسه ، قبل أن تظهر في ديوانه (( الناي والريح )) في عدد 1960 م .. وهذا فيه ربط للأدب المغربي ، والنبوغ المغربي ، بما في الشرق العربي من إبداع !! . وهي - كذلك - تربط بالشعر المغربي المعاصر ، على مستوى توظيف أسطورة (( السندباد )) ؛ لاباعتبارها تخدم الجانب الفني في النص الشعري ، وإنما لإدانة ( الإنسانية ) المعاصرة ؛ باعتبارها منتهكة لحقوق الفقراء والعمال ، كما هو الشأن عند الشاعر المغربي بنسالم حميش في قصيدته (( ميتا في شواطئكم )) .. وإن كنت أرى أن الشاعر محمد علي الرباوي في هذا المنجز الرائع يصدر عن رؤيا شعرية جديدة ، ومتقدمة ، استطاع من خلالها أن يمزق قشرة واقع مغربي متأزم في علاقته بالإنسان المتفاني في بنائه وطنا قوي الأركان ! . وهو - كذلك - قد استطاع أن يمرر تجربة إنسانية خاصة ، هو أدرى بتفاصيلها الدقيقة ؛ وذلك عبر تجربة الفقد ؛ فقد الوالد ، وماترك من آثار نفسية عميقة على الشاعر باعتباره ابنا للهالك . وقد ترجم الشاعر أحاسيسه تلك في قصيدة رائعة أعتبرها جدارية من جداريات الموت الإنساني البطيء في الشعر العربي المعاصر ؛ المنذرة بوجود واقع متفسخ ، عفن ، سياسيا ، واجتماعيا ، وأخلاقيا ، وإنسانيا ، لم يرع حق العامل المغربي ، خادم الوطن حتى الموت ! .
وقد تجاوز الشاعر في الإحساس بالموت - انسجاما مع عقيدته الإسلامية السمحة - مفهومها عند شعراء آخرين ؛ منهم من قال بفكرة تناسخ الأرواح - المهجريين : جبران خليل جبران ، ميخائيل نعيمة ، إيليا أبوماضي - وهي أقرب ماتكون إلى مفهومها عند الشاعر الحديث الذي استدعى الأساطير ذات العلاقة بأعماقه الذاتية ، في بعدها الإنساني ، يستدعي رغبة وجدانية لإثارة الرواسب الكامنة في اللاشعور .. وحسب مؤشرات نصية يمكن ترجمة إحساس الشاعر بالموت وفقا لسنن رباوي إسلامي عكسه النص عزفا على أوتار جملة من القيم الإنسانية ، والدينية ، ، والاجتماعية ، والبنوة ، والأبوة ، والفقد ،والوطن ! . كل ذلك أورده الشاعر في النص مشحونا بالسوداوية ، والفجيعة ، واليأس .. كما أورده مشحونا بالتطلع للحظة الاحتفاء بالإنسان المغربي ، العامل اعترافا له بالفضل ؛ حيث المستفيد - دائما - هو الوطن ! .
2 ) في دلالة الرثاء :
عكس الشاعر محمد علي الرباوي - باقتدار - جدارته الإبداعية ، وفهمه الدقيق لماجريات تطور القصيدة العربية الحديثة ، وملاءمتها لشعر الرثاء ، وماعرفته من تحولات . فإذا كان الشعر ؛شعر الرثاء - قديما - يقوم بالتعبير عن الموت ، فإن مفهومه في هذا النص لم يعد كما كان .. فالموت صار له وجهه النقدي السياسي ، والاجتماعي ، متسلحا بما هوشذرات فلسفية ، وبما هو فلسفة اجتماعية ، وبما هو مسكوت عنه يبرز في سطور ملأتها النقط ، وغاب عنها الحرف ، والكلمة ، والدلالة . وأفكار من صميم الحياة المغربية ، ومن حياة الشاعر ، و . . . حيث النص ظل مفتوحا يشي باستسلام الشاعر للقضاء والقدر، أمام هول حدث الموت باعتباره من مطلقات قدر الله :
لله ما أعطى
لله ما أخذ ( 8 )
إن تأمل هاتين العبارتين القصيرتين الدالتين على الاستسلام المطلق لقدر الله وقضائه تعكسان مدى تماسك الشاعر - نفسيا - أمام هول الموت ؛ موت الأب المتواري خلف الشخصية المستمدة من الإرث الثقافي التراثي العربي (( السندباد )) رمز الرحلة في هذا الإرث ، لاباعتباره صاحب الرحلات الطويلة في الغياب ؛ وإنما باعتباره ال (( سندباد )) المغربي الذي كانت تتكسر انتظاراته بالحضور والغياب . إلى أن استسلم - اليوم ( 9 ) - لقدره المحتوم ؛ في رحلة لن يعود بعدها !! ..
إن الاستهلال بهذه الجملة هو خاتمة هذه القصيدة / الديوان ، وهو إشارة - صريحة - لمدى تمكن الدين من الشاعر ، والتسلح بما يدعو له ، لمواجهة الموت ، وفيه الإعلان على انحياز الشاعر للسواد الأعظم من أمته الإسلامية بعقيدتها الصحيحة الصافية .
كان رثاء الشاعر محمد علي الرباوي لسندباده المغربي / والده شجيا ، لما استحضر فتوحاته ، وعمله الشاق ، وعنايته بأسرته ؛ خاصة الأبناء ، لما اعتنى بهم ؛ سلوكا ، وتربية ، ومنهج حياة !! .. لذلك عز على الشاعر إلا أن يكون منخرطا في جوقة عزف سمفونية الحزن والألم ، بفرادة مغربية ، رباوية بامتياز ؛ تشتد ، وتخفت كلما حضر أحد أطراف المتوالية : السندباد / الأب ، الابن / الشاعر ، الولد / زكرياء .. وكأني بالشاعر في هذا الرثاء كاللحن الأشجي ، وفقد ربابة الشجية ؛ لكنه كان يعوضها بما يناسب من إيقاع تفعيلي ، وكلمات بدلالاتها المحملة بالضيق ، والحرج ، والانقباض ، المعتلج في صدره ، وهو مايؤدي إلى خلق تشكيلات تفعيلية ؛ تارة يحافظ لها عما يعتريها من زحافات وعلل . وتارة يعمد إلى خرق التغييرات منحازا إلى الدلالة التي يريد . بل إن النظرة البصرية في المقاطع ( 3 - 13 - 19 ) تجعل من لادراية له بمكونات الإيقاع ، يعتقد أن الشاعر ينثر . لكنه في الواقع يكتب الشعر الجديد المتأبي على من ليس بشاعرمجدد . وتلك خصوصية رباوية في أكثر من ديوان . ومن الطريف أنها تتوارى في مقاطع لها علاقة بفن الرثاء في القصيدة / الديوان .
وكم هو الشاعر مهووس بالنقد السياسي والاجتماعي ، كما في أكثر من ديوان . وهو يقف على الجسد المسجى ؛ جسد السندباد المغربي ، الذي عوضه الحفيد (( زكرياء )) في هذه الفانية الجديرة بالملاحظة . ملاحظة ماعليه شريحة اجتماعية من بؤس في مغرب مابعد الاستقلال ، شريحة أجبرتها السياسات المتعاقبة على تحمل المشاق ، والهجرة إلى بلدان الجوار العربي ، وبعض دول أروبا . وعلى ضوء ذلك كله ؛ فالأب لم يكن غير مفرد بصيغة الجمع .. وهو مااستدعى إدانة ضمنية لتلك السياسات !! .
3 ) جدلية الفقد والوطن في الديوان :
يبدو في ديوان (( من مكابدات السندباد المغربي )) أن الشاعر محمد علي الرباوي قد طرح مفهوم الجدلية فيه من خلال إشارته الصريحة إلى أنه والديوان يتفاعلان من خلال تصوره للحياة التي ابتدأت بالموت ، موت السندباد الذي استدعى آلية السرد للربط بين لحمة النص وفق خلفية جدلية اعتورها التبئير ، واعتماد آليتي الفقد والوطن كمحركين لقاعدة النص ، وما بين هذين المحركين تجاذبت إطارات صور ، وصور إطارات ، طالت جوانب من حياة الشاعر ، وجوانب من حياة والده ، بل وما عرفه مغرب مابعد الاستقلال من تحولات سياسية ، واجتماعية ، واقتصادية ، وإنسانية . كانت لها انعكاسات على حياة العامل المغربي ، والمبدع المغربي أيضا !! .
وعلى ضوء هذا التصور منح الشاعر هذا النص القدرة على احتواء مضمون متشعب ، جمع فيه بين موضوعتي الفقد والوطن في شكل تجاذب جدلي !
أولا : الفقد :
ورد في ( لسان العرب ) : (( فَقَدَ الشيءَ يَفْقِدُه فَقْداً وفِقْداناً وفقُوداً ، فهو مَفْقُودٌ وفَقِيدٌ : عَدِمَه ؛ وأَفْقَدَه الله إِياه )) والفاقِدُ من النساءِ : التي يموتُ زَوْجُها أَو ولدُها أَو حميمها .. وللفقد في هذا النص عدة أشكال وعدة تمظهرات ؛ منها استرجاع محمد علي الرباوي لبعض تفاصيل حياته ؛ في علاقته بوالده ؛ وبالحياة ، وبأسرته ، مركزا على حياة الأب .. وعلى لقطات حياتية عاشها هنا وهناك . مستحضرا لحظة الدفن بقوة . وما يشكل الخيط الناظم بين كل هذه التمظهرات هو الشخصية (( السندباد المغربي )) ، وما عرفته من ضنك ومشقة ، وتنكر، لعالمها الإنساني والوطني !!! . . ومن تمظهراته - أيضا - نقل رسالة من الشاعر لابنه (( زكرياء )) محملة بالرغبة في استفادته من درسي الحضور والغياب ؛ حضور الأب وغيابه في حياة الأبناء ، ناهيك عن الاعتراف للسندباد المغربي بالفضل ؛ فضل التربية الدينية لأبنائه في التنشئة ، تنشئة كان الولد محمد علي إحدى ثمراتها ؛ شاعرا ملتزما ضمن حظيرة (( الأدب الإسلامي ))
ثانيا : الوطن :
في أغلب دواوين الشاعر محمد علي الرباوي ، وجدته يذبج ملحمة عشق للوطن إلى حد الفناء فيه ، ودفاعا عنه إلى حد الموت المحقق فداء له ، وهو في ديوان (( من مكابدات السندباد المغربي )) ، وبتأثر من الفقد أراه يفتح علبته المختومة بالشمع الأحمر - الحب - على البوح ، مشيرا ومصرحا بمايراه مطبات تحول دون تقدم الوطن . باح بذلك لمن هو خليفة جده ، وخليفة أبيه ؛ ابنه زكرياء ، وللشباب المغربي عامة ؛ رمز الطموح من أجل بناء الوطن !! .
ما أنفس البوح ؛ بوح الرباوي ؛ حينما يكون معززا بالتوجيه والتربية !! .. لما هده الفقد وهو يحاول تجاوز الموت إلى الحياة ، اعتصره الإحساس بالفقد ، فكان للوطن موضع جلله الوقوف على مفارقات حالت دون تقدمه ؛ أجملها في :
1 ) مفارقة الانتماء في مقابل التنكر .
2 ) مفارقة الحب في مقابل االقسوة .
3 ) مفارقة البناء في مقابل الهدم .
4 ) مفارقة الفقر في مقابل الثراء .
5 ) مفارقة استسلام المواطن المسكين لقوارب الموت في مقابل استئثار الغير بخيرات الوطن .
إن اكتواء الشاعر بنار الفقد ، وإحساسه العميق بهذه المفارقات في الواقع المغربي / الوطن ، قد ضاعف من إحساسه بالحزن ؛ وشجعه ذلك على البوح المحرق له وللمتلقي ، لا لشيء ، إلا لأن الوطن قاس ، قاس ، قاس على فلذات الأكباد :
( المغرب الأقسى
أدمى أمانينا
ندنو هوى منه
وهو يجافينا
.......................
المغرب الأقصى
أقصى أهالينا
لأننا عشنا
فيه مساكينا
......................
المغرب الأقصى
أدنى أعادينا
للروم قد أعطى
كل أراضينا
بيض لياليهم
سود ليالينا ) ( 10 )
ومن يقرأ ديوان الشاعر محمد علي الرباوي يجده هو هذا في وطنيته الصادقة ، فهو يغوص في ذاته محملا بقسمات الواقع المرير ، حتى لايكاد يقوى على التنفس لإحساسه بدوامة تنكر الوطن ، وكأنها ما وجدت إلا لتعصف بمن أخلص في بنائه .. لنقرأ ماكتب وهو يداري لحظة الفقد ، والارتماض ، وحرج الصدر وانقباضه ، ، والبوح الصادق ، والوطنية الحقة ، وقدسيتها في النفس ، وقسوة عصر مضطرب ، والملامة تتخطفه ، والمُلام - دائما - الوطن !!! . يقول متعجبا :
ما أقسى بلدي !
ياولدي .
ماأقساه !
العيش به قاس .
الهم به قاس . ( 11 )
ومن اللوم إلى الإدانة الصريحة .. ها هو ذا - مباشرة عقب دفن الوالد / السندباد المغربي - ينبري له في المقبرة من يطالبه بأجرة القبر ! فبدا له أن الدفن لم يبق كما كان ، بل صار لحفار القبور عند الشاعر ثمن قبر ألحد فيه والده :
حتى الموت بهذا البلد المنهار
حين يدق بعنف باب الدار
يطلب أجرته نقداً
قبل ذبول الأنوارْ ( 12 )
وفي ملحمة الانتصار للذات ، وللوطن يراكم الشاعر وحدة معجمية صدر بها جل شطرات جزء من مقطع ؛ إنها الأداة الاسمية المستفهمة لابدلالتها على الكيفية ( كيف ) ؛ وإنما تعبيرا عن واقع ، وعن حالة نفسية ؛ فالشاعر تلبسته الحيرة ، فمال إلى الرفع من النفس الملحمي في النص ، مستخدما آلية التبكيت بواقع الهجرة السرية ، المدان صانعوها الذين يسمحون لقوارب الموت بالمجازفة ، دون التفكير في سياسة حمائية ؛ تحمي المهاجر السري من الموت المحقق :
كيف تلام حبيبي هذه الأطيار
إن هجرت تطلب أعشاشا دافئة
عبر بحار وقفار
كيف تلام الأطيار وهذي الأشجار
ماعادت تعطي فاكهة
ماعادت تستقطب أسراب الأقمار ؟
كيف تلام الأطيار ؟
إن أحرقت هذا البحر الجبار ؟
كيف تلام وهذا بلد قهار
كيف تلام الأطيار ؟
كيف تلام الأطيار ؟ ( 13 )
الجواب بداهة لن يكون غير : لالوم على الأطيار المنتحرة في لج البحر الجبار !!! .
وكم هي ألفاظ النص محرقة - دلالة ومبتى - حينما تخرج من أعماق أعماق الشاعر محمد علي الرباوي المكلوم بجروح الوطن والفقد ! . هذا هو مدلول نداء الشاعر لابنه زكرياء : (( ولدي . . . )) المدعم بالتكرار في مساحات النص ، وهو مايبقي على نبرة الشجو والبثّ حاضرة في النص !! .
لقد كانت رحلة السندباد الطويلة الشاقة ، هي مبعثه في الحياة بعد مماته ، وإنصافا له في إبداع ابنه محمد علي ، وعبرة لحفيده زكرياء ، وللشباب المغربي رمز تجديد وتجدد الوطن . فالأب الجدير بكل هذا :
اتخذ بلاد الروم له وطنا
لكن لم ينس الوطنا
لم ينس الوطنا . . ( 14 )
وسافر (( السندباد المغربي )) - كما سندباد البصرة - لكنه لم يقطع هبات أنسامه على الوطن :
كان أبي من أرض الغَََربْ
يبعث لي بسلال الحَبْ
وسلالِ الحُبّ
لأصير الولد الصَُلْبْ
........................................ ( 15 )
هكذا هو الوالد ، بل ظل يجلد بسياط المعاناة مسلوخا من جلده بالعمل الشاق ، وهذا ما نطق به بوح الشاعر لابنه (( زكرياء )) :
ولدي . . .
جدك لما أوراش الروم امتصت عضلاته
ألقت ببقايا هيكله العظمي
إلى قمم الأطلس والريف الضائع
لم يربض بين الأهل طويلا
لم يجلس قدام (( التلفاز )) طويلا
كان يهيء بعض الزاد
ليرحل قبل الفجر رحيلا
............................................ ( 16 )
إجمالا للشاعر محمد علي الرباوي في هذا الديوان / القصيدةالجدارية ، عدة رسائل منها أنه وضع على الطاولة تجربة فريدة من تجارب الفقد ، وما تناسل عنها من تشريح لجوانب آسنة في الواقع المغربي ، جديرة بالتجاوز ، لأنها ضاعفت من توجد وتضور الشاعر .. وقد كان موفقا في نقل إحساس عام عانت وتعاني منه البشرية لا المغرب فقط ، منذ الخلق الأول ؛ المتمثل في الاستغلال البشع للعمال ، وهضم مالهم من حق . وفي مغرب مابعد الاستقلال .. وقد عالج ذلك ضمن ثنائية الموت ، والحياة ، وهو ينشد العدالة الاجتماعية ، وإحقاق الحق ، قيمة إنسانية ، عليها مدار تقدم الأمم .
------------------------------------
1 ) صدر للشاعر أخيرا ثلاث دواوين شعرية دفعة واحدة - فبراير 2009 - هي : (( دم كذب - كتاب الشدة -كتاب الخراب )) .
2 ) ط 1 :1395 - 1985 .
3 ) الديوانين صدرا في نفس السنة عن ( دار النشر الجسور 40 شارع رمضان الكاضي - وجدة .
4 ) نذكر على سبيل المثال " الهنود الحمر " الأرتيك والأنكا في أمريكا .
5 ) حديث بلال : أذنت في ليلة باردة فلم يأت أحد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكبدهم البرد .
6 ) من مكابدات السندباد المغربي ص 50 - ط 1 : 2002 دار النشر الجسور - وجدة .
7 ) نفسه . ص 39 .
8 ) نفسه . ص 7 .
9 ) أرخ الشاعر لهذه القصيدة بتاريخ : 17 / 12 / 1994 . وهو ما يعني أن موت والده كان قبل هذا التاريخ بقليل .
10 ) من مكابدات السندباد المغربي ص. ص 45 - 46 . ط 1 : 2002 دار النشر الجسور - وجدة .
11 ) نفسه . ص 47 .
12 ) نفسه . ص 47 .
13 ) نفسه . ص 48 .
14 ) نفسه . ص 49 .
15 ) نفسه . ص 49 .
16 ) نفسه . ص 52 .
وذلك في حدود المواكبة لما هو عليه الفكر ، والإبداع .. فضلا عن العمل - في صمت - من أجل رفع التهميش عن المنطقة التي أرادها الاستعمار منطقة حدودية ليس إلا !! .. ومن يشتغل بالفكر ، وعلى الفكر يعرف صعوبة هذا الدور العظيم ، والمهم في حياة تقدم الشعوب و الأمم .. لكن ماذا لو قلنا : إن هذه الثلة - ومنها الشاعر محمد علي الرباوي - قد اعتمدت في إنجاز هذا المنجز المهم ، والخطير على إمكاناتها الذاتية ؛ لغاية تحقيق الأهداف العليا للمغرب ، والمغاربة ، وللأمتين العربية ، والإسلامية ؛ وذلك لخلق المعادل الثقافي ؛ والإبداعي لما هو عليه الحال عربيا ، وفي الوطن / المغرب .. بل ولخلق الفرادة المغربية ، والتميز المغربي ! .
وقد كرس الشاعر محمد علي الرباوي هذا الطرح بمجموعاته الخمسة عشر ( 1 ) بدءا من ديوانه المشترك الأول مع الشاعرين حسن الأمراني ، والمرحوم الطاهر دحاني (( البريد يصل غدا )) ( 2 ) إلى حدود آخر ديوانيه (( قمر أسرير )) و (( من مكابدات السندباد المغربي )) ( 3 ) باعتبارهما صدرا معا سنة 2002 .. ويعتبر شاعرنا في هذا الخضم علامة فارقة ومتميزة جدا ؛ وهذا ماحرضني على قراءة ديوانه (( من مكابدات السندباد المغربي )) بهذه القراءة العجلى !! .
في البداية أشير إلى أن ديوان (( من مكابدات السندباد المغربي )) - في الأساس - هو عبارة عن قصيدة واحدة مطولة ؛ تتلون في بنيتها التفعيلية . وهي تتكون من اثنين وعشرين مقطعا ، تختلف في الطول ، والقصر ، والشكل ، كل مقطع منها مرقم ، منها ما هو في جملتين قصيرتين فقط . ( المقطع الأول ) ، ومنها مقاطع طويلة ( المقطع السابع ) ، وبعضها أطول بكثير ( المقطع العشرين ) . وما يجمع بين هذه المقاطع هو السردية التي وسمت بعض مقاطعها ، وكونها ازدادت من رحم الفقد ، والوطن .
عمم الشاعر صفحة الغلاف الأول باللون الأصفر ، الممتد إلى ظهر الغلاف ؛ محملا بما به يؤجج الشكوى ، ويؤشر للمفارقة ، ويبعث على الشجن !! من الديوان / القصيدة (( المغرب الأقسى / أدمى أمانينا / ندنو هوى منه / وهو يجافينا / .............. / المغرب الأقصى / أقصى أهالينا / لأننا عشنا / فيه مساكينا / .............. / المغرب الأقصى / أدنى أعادينا / للروم قد أعطى / كل أراضينا / بيض لياليهم / سود ليالينا / .............. )) . استعمل الشاعر اللون الأصفر باعتباره من الألوان الرئيسة في الضوء والصباغة ، ، ولكونه يرمز إلى النور لأنه مستمد من الشمس ( 4 ) .. أما الشاعر فقد استعمله محملا بدلالة غير بعيدة ؛ لعلها مايعقب الموت من شحوب وصفرة الجسد المسجى لوالده الميت ، وهو اختيار ذكي وموفق للغلاف خاصة .
قراءة في العنوان من مكابدات السندباد المغربي
أول ما يطالع قاريء هذا العنوان ؛ اشتماله على ثلاثة مكونات اسمية ، تختلف في دلالاتها ، وصيغها الصرفية ، وتركيباتها ، وتموقعاتها في العنوان ، وماتحيل عليه من مرجعيات .. استهله الشاعر بما دلت عليه أداة الجر (( مِنْ )) المفيدة لابتداء الغاية ، ومقصدية بعضها لاكلها ؛ وهي هنا المكابدات .
(( مكابدات )) : صيغة جمع لكلمة أصلها صحيح ؛ هو ( الكاف ، والباء ، والدال ) ( كَبَدَ ) ، فالكَبَدُ ( بفتحتين ) : الشدة ، والمشقة ، والضيق ، والعناء ، والقوة في الفعل والعمل . جاء في سورة البلد ( آية : 4 ) : (( لقد خلقنا الإنسان في كبد )) . وفيه مايدل على المكابدة في العمل لأمر الدنيا والآخرة .. ومما نصت عليه معاجم اللغة ؛ ومنها لسان العرب ارتباط الكلمة بالكَبِدْ الذي هو معدن الحرارة والدم حينما يكون مجهداً بشدة البرد . واستدلوا على ذلك بحديث نبوي شريف كشاهد ( 5 ) .. والمقصود بالمكابدات في الديوان : معاناة حدثت بالفعل لوالد الشاعر محمد علي الرباوي ، وهو يتنقل بين أوراش العمل الشاقة ،التي كانت مصدر ما اعتاش عليه وبنى به أسرته طيلة حياته ؛ وهو ماصرح به الشاعر في الديوان باعتباره مصدر اعتزاز :
عضلات أبي صنعتني
عضلات أبي فتلت عضلاتي
غطت بالنور زهو حياتي
عضلات أبي أعطتني الدنيا
عضلات أبي أعطتني الحُبَّ
وأعطتني الدفء وأعطتني السكنا
أعطتني هذا الوجه الشامخَ
حيث به طاولت الزمنا ( 6 )
جملة (( السندباد المغربي ))
الكلمة الأولى : (( السندباد ))
اسم معرف ب (( أل )) فيه إشارة إلى الشخصية المذكورة في قصة مجهولة الكاتب والمصدر (( ألف ليلة وليلة )) . وقد صار هذا الاسم رمزا ملازما لمجموعة من الأدباء ، والشعراء ، تعبيرا عن خيالاتهم ، ومعاناتهم ، وأفكارهم .. كان (( السندباد )) ممثلا للمغامرة ، والرحيل ، والإياب المظفر ، المحمل بالكنوز ، والثروات .. وقد تمسك الشاعر محمد علي الرباوي هنا ب ( السندباد ) كرمز لوالده المرحوم في رحلته الحياتية ذات الخصوصية المغربية (( . . . ماجلست إليه طويلا ، ولكنه حين مات حملتُ طويلا على كتفي نعشَهُ ، وجلست إليه طويلا . أكان جلوسيَ ينفعه ، ماشبعتُ أنا منه ، فالسندبادُ كما البحرِِ لايستقر . له عودة بعد كل رحيل . . . )) ( 7 )
الكلمة الثانية (( المغربي )) :
اسم معرف ب (( أل )) لزمته في الأخير اللاحقة الصرفية ( ياء النسبة ) .. وهذا الاسم يرتبط بحميمية الهوية . كما يرتبط بالدلالة على مادل عليه وطن الشاعر بهويته المكانية ؛ باعتباره بلدا إفريقيا ، وبالهوية القومية باعتباره بلدا عربيا ، وبالهوية الدينية باعتباره بلدا مسلما ... وقد ربطته اللاحقة الصرفية بالسندباد على سبيل النسبة .
وبناء عليه فمدار الدلالة في العبارة (( السندباد المغربي )) يرمز بها الشاعر محمد علي الرباوي لوالده المرحوم الذي خاض أهوال المغامرة من أجل العمل الشريف رغم ما فيه من مشقة في كل من المغرب والجزائر وفرنسا . وكان يلقى نفس الأهوال التي يواجه السندباد التراثي . ربطه بالمغرب تأكيدا للسير على نهج الشعراء ؛ شعراء كبار ، وليرفع سقف أفق انتظارات المتلقي حول مايمكن أن يجده في هذا المنجز الشعري السندبادي ، بخصوصيته المغربية ! . لاباعتباره رمزا للمغامرة والرحيل ، والأياب ؛ محملا بكنوز وثروات الأرض . وإنما باعتباره إنسانا مغربيا تحمل المشاق من أجل أبنائه ، وفي سبيل الوطن ؛ فكان جزاؤه أن تنكر له الوطن !!! .
1 ) في رمزية السندباد :
الشاعر محمد علي الرباوي في هذا الديوان / القصيدة يؤشر للمتلقي على أنه امتلك - لما كتب من مكابدات السندباد - وعيا شموليا بالمرحلة التي كتب فيها ، وامتلك وعيا بما تقتضيه المرحلة من المبدع من أسلحة علمية ، وأدوات فنية ، وثقافية ، وفكرية ، لايمتلكها غيره ، وهو بامتلاكها أولى . لذلك فهو بهذا النص - كما أسلفت - لحم الإبداع في المنطقة الشرقية المغربية بجذورها ؛ فهو هنا - ولاشك - يذكر بقصيدة (( وجوه السندباد )) للشاعر خليل سليم حاوي ( 1919 - 1982 ) المنشورة في مجلة (( الحكمة )) حين كان يديرها بنفسه ، قبل أن تظهر في ديوانه (( الناي والريح )) في عدد 1960 م .. وهذا فيه ربط للأدب المغربي ، والنبوغ المغربي ، بما في الشرق العربي من إبداع !! . وهي - كذلك - تربط بالشعر المغربي المعاصر ، على مستوى توظيف أسطورة (( السندباد )) ؛ لاباعتبارها تخدم الجانب الفني في النص الشعري ، وإنما لإدانة ( الإنسانية ) المعاصرة ؛ باعتبارها منتهكة لحقوق الفقراء والعمال ، كما هو الشأن عند الشاعر المغربي بنسالم حميش في قصيدته (( ميتا في شواطئكم )) .. وإن كنت أرى أن الشاعر محمد علي الرباوي في هذا المنجز الرائع يصدر عن رؤيا شعرية جديدة ، ومتقدمة ، استطاع من خلالها أن يمزق قشرة واقع مغربي متأزم في علاقته بالإنسان المتفاني في بنائه وطنا قوي الأركان ! . وهو - كذلك - قد استطاع أن يمرر تجربة إنسانية خاصة ، هو أدرى بتفاصيلها الدقيقة ؛ وذلك عبر تجربة الفقد ؛ فقد الوالد ، وماترك من آثار نفسية عميقة على الشاعر باعتباره ابنا للهالك . وقد ترجم الشاعر أحاسيسه تلك في قصيدة رائعة أعتبرها جدارية من جداريات الموت الإنساني البطيء في الشعر العربي المعاصر ؛ المنذرة بوجود واقع متفسخ ، عفن ، سياسيا ، واجتماعيا ، وأخلاقيا ، وإنسانيا ، لم يرع حق العامل المغربي ، خادم الوطن حتى الموت ! .
وقد تجاوز الشاعر في الإحساس بالموت - انسجاما مع عقيدته الإسلامية السمحة - مفهومها عند شعراء آخرين ؛ منهم من قال بفكرة تناسخ الأرواح - المهجريين : جبران خليل جبران ، ميخائيل نعيمة ، إيليا أبوماضي - وهي أقرب ماتكون إلى مفهومها عند الشاعر الحديث الذي استدعى الأساطير ذات العلاقة بأعماقه الذاتية ، في بعدها الإنساني ، يستدعي رغبة وجدانية لإثارة الرواسب الكامنة في اللاشعور .. وحسب مؤشرات نصية يمكن ترجمة إحساس الشاعر بالموت وفقا لسنن رباوي إسلامي عكسه النص عزفا على أوتار جملة من القيم الإنسانية ، والدينية ، ، والاجتماعية ، والبنوة ، والأبوة ، والفقد ،والوطن ! . كل ذلك أورده الشاعر في النص مشحونا بالسوداوية ، والفجيعة ، واليأس .. كما أورده مشحونا بالتطلع للحظة الاحتفاء بالإنسان المغربي ، العامل اعترافا له بالفضل ؛ حيث المستفيد - دائما - هو الوطن ! .
2 ) في دلالة الرثاء :
عكس الشاعر محمد علي الرباوي - باقتدار - جدارته الإبداعية ، وفهمه الدقيق لماجريات تطور القصيدة العربية الحديثة ، وملاءمتها لشعر الرثاء ، وماعرفته من تحولات . فإذا كان الشعر ؛شعر الرثاء - قديما - يقوم بالتعبير عن الموت ، فإن مفهومه في هذا النص لم يعد كما كان .. فالموت صار له وجهه النقدي السياسي ، والاجتماعي ، متسلحا بما هوشذرات فلسفية ، وبما هو فلسفة اجتماعية ، وبما هو مسكوت عنه يبرز في سطور ملأتها النقط ، وغاب عنها الحرف ، والكلمة ، والدلالة . وأفكار من صميم الحياة المغربية ، ومن حياة الشاعر ، و . . . حيث النص ظل مفتوحا يشي باستسلام الشاعر للقضاء والقدر، أمام هول حدث الموت باعتباره من مطلقات قدر الله :
لله ما أعطى
لله ما أخذ ( 8 )
إن تأمل هاتين العبارتين القصيرتين الدالتين على الاستسلام المطلق لقدر الله وقضائه تعكسان مدى تماسك الشاعر - نفسيا - أمام هول الموت ؛ موت الأب المتواري خلف الشخصية المستمدة من الإرث الثقافي التراثي العربي (( السندباد )) رمز الرحلة في هذا الإرث ، لاباعتباره صاحب الرحلات الطويلة في الغياب ؛ وإنما باعتباره ال (( سندباد )) المغربي الذي كانت تتكسر انتظاراته بالحضور والغياب . إلى أن استسلم - اليوم ( 9 ) - لقدره المحتوم ؛ في رحلة لن يعود بعدها !! ..
إن الاستهلال بهذه الجملة هو خاتمة هذه القصيدة / الديوان ، وهو إشارة - صريحة - لمدى تمكن الدين من الشاعر ، والتسلح بما يدعو له ، لمواجهة الموت ، وفيه الإعلان على انحياز الشاعر للسواد الأعظم من أمته الإسلامية بعقيدتها الصحيحة الصافية .
كان رثاء الشاعر محمد علي الرباوي لسندباده المغربي / والده شجيا ، لما استحضر فتوحاته ، وعمله الشاق ، وعنايته بأسرته ؛ خاصة الأبناء ، لما اعتنى بهم ؛ سلوكا ، وتربية ، ومنهج حياة !! .. لذلك عز على الشاعر إلا أن يكون منخرطا في جوقة عزف سمفونية الحزن والألم ، بفرادة مغربية ، رباوية بامتياز ؛ تشتد ، وتخفت كلما حضر أحد أطراف المتوالية : السندباد / الأب ، الابن / الشاعر ، الولد / زكرياء .. وكأني بالشاعر في هذا الرثاء كاللحن الأشجي ، وفقد ربابة الشجية ؛ لكنه كان يعوضها بما يناسب من إيقاع تفعيلي ، وكلمات بدلالاتها المحملة بالضيق ، والحرج ، والانقباض ، المعتلج في صدره ، وهو مايؤدي إلى خلق تشكيلات تفعيلية ؛ تارة يحافظ لها عما يعتريها من زحافات وعلل . وتارة يعمد إلى خرق التغييرات منحازا إلى الدلالة التي يريد . بل إن النظرة البصرية في المقاطع ( 3 - 13 - 19 ) تجعل من لادراية له بمكونات الإيقاع ، يعتقد أن الشاعر ينثر . لكنه في الواقع يكتب الشعر الجديد المتأبي على من ليس بشاعرمجدد . وتلك خصوصية رباوية في أكثر من ديوان . ومن الطريف أنها تتوارى في مقاطع لها علاقة بفن الرثاء في القصيدة / الديوان .
وكم هو الشاعر مهووس بالنقد السياسي والاجتماعي ، كما في أكثر من ديوان . وهو يقف على الجسد المسجى ؛ جسد السندباد المغربي ، الذي عوضه الحفيد (( زكرياء )) في هذه الفانية الجديرة بالملاحظة . ملاحظة ماعليه شريحة اجتماعية من بؤس في مغرب مابعد الاستقلال ، شريحة أجبرتها السياسات المتعاقبة على تحمل المشاق ، والهجرة إلى بلدان الجوار العربي ، وبعض دول أروبا . وعلى ضوء ذلك كله ؛ فالأب لم يكن غير مفرد بصيغة الجمع .. وهو مااستدعى إدانة ضمنية لتلك السياسات !! .
3 ) جدلية الفقد والوطن في الديوان :
يبدو في ديوان (( من مكابدات السندباد المغربي )) أن الشاعر محمد علي الرباوي قد طرح مفهوم الجدلية فيه من خلال إشارته الصريحة إلى أنه والديوان يتفاعلان من خلال تصوره للحياة التي ابتدأت بالموت ، موت السندباد الذي استدعى آلية السرد للربط بين لحمة النص وفق خلفية جدلية اعتورها التبئير ، واعتماد آليتي الفقد والوطن كمحركين لقاعدة النص ، وما بين هذين المحركين تجاذبت إطارات صور ، وصور إطارات ، طالت جوانب من حياة الشاعر ، وجوانب من حياة والده ، بل وما عرفه مغرب مابعد الاستقلال من تحولات سياسية ، واجتماعية ، واقتصادية ، وإنسانية . كانت لها انعكاسات على حياة العامل المغربي ، والمبدع المغربي أيضا !! .
وعلى ضوء هذا التصور منح الشاعر هذا النص القدرة على احتواء مضمون متشعب ، جمع فيه بين موضوعتي الفقد والوطن في شكل تجاذب جدلي !
أولا : الفقد :
ورد في ( لسان العرب ) : (( فَقَدَ الشيءَ يَفْقِدُه فَقْداً وفِقْداناً وفقُوداً ، فهو مَفْقُودٌ وفَقِيدٌ : عَدِمَه ؛ وأَفْقَدَه الله إِياه )) والفاقِدُ من النساءِ : التي يموتُ زَوْجُها أَو ولدُها أَو حميمها .. وللفقد في هذا النص عدة أشكال وعدة تمظهرات ؛ منها استرجاع محمد علي الرباوي لبعض تفاصيل حياته ؛ في علاقته بوالده ؛ وبالحياة ، وبأسرته ، مركزا على حياة الأب .. وعلى لقطات حياتية عاشها هنا وهناك . مستحضرا لحظة الدفن بقوة . وما يشكل الخيط الناظم بين كل هذه التمظهرات هو الشخصية (( السندباد المغربي )) ، وما عرفته من ضنك ومشقة ، وتنكر، لعالمها الإنساني والوطني !!! . . ومن تمظهراته - أيضا - نقل رسالة من الشاعر لابنه (( زكرياء )) محملة بالرغبة في استفادته من درسي الحضور والغياب ؛ حضور الأب وغيابه في حياة الأبناء ، ناهيك عن الاعتراف للسندباد المغربي بالفضل ؛ فضل التربية الدينية لأبنائه في التنشئة ، تنشئة كان الولد محمد علي إحدى ثمراتها ؛ شاعرا ملتزما ضمن حظيرة (( الأدب الإسلامي ))
ثانيا : الوطن :
في أغلب دواوين الشاعر محمد علي الرباوي ، وجدته يذبج ملحمة عشق للوطن إلى حد الفناء فيه ، ودفاعا عنه إلى حد الموت المحقق فداء له ، وهو في ديوان (( من مكابدات السندباد المغربي )) ، وبتأثر من الفقد أراه يفتح علبته المختومة بالشمع الأحمر - الحب - على البوح ، مشيرا ومصرحا بمايراه مطبات تحول دون تقدم الوطن . باح بذلك لمن هو خليفة جده ، وخليفة أبيه ؛ ابنه زكرياء ، وللشباب المغربي عامة ؛ رمز الطموح من أجل بناء الوطن !! .
ما أنفس البوح ؛ بوح الرباوي ؛ حينما يكون معززا بالتوجيه والتربية !! .. لما هده الفقد وهو يحاول تجاوز الموت إلى الحياة ، اعتصره الإحساس بالفقد ، فكان للوطن موضع جلله الوقوف على مفارقات حالت دون تقدمه ؛ أجملها في :
1 ) مفارقة الانتماء في مقابل التنكر .
2 ) مفارقة الحب في مقابل االقسوة .
3 ) مفارقة البناء في مقابل الهدم .
4 ) مفارقة الفقر في مقابل الثراء .
5 ) مفارقة استسلام المواطن المسكين لقوارب الموت في مقابل استئثار الغير بخيرات الوطن .
إن اكتواء الشاعر بنار الفقد ، وإحساسه العميق بهذه المفارقات في الواقع المغربي / الوطن ، قد ضاعف من إحساسه بالحزن ؛ وشجعه ذلك على البوح المحرق له وللمتلقي ، لا لشيء ، إلا لأن الوطن قاس ، قاس ، قاس على فلذات الأكباد :
( المغرب الأقسى
أدمى أمانينا
ندنو هوى منه
وهو يجافينا
.......................
المغرب الأقصى
أقصى أهالينا
لأننا عشنا
فيه مساكينا
......................
المغرب الأقصى
أدنى أعادينا
للروم قد أعطى
كل أراضينا
بيض لياليهم
سود ليالينا ) ( 10 )
ومن يقرأ ديوان الشاعر محمد علي الرباوي يجده هو هذا في وطنيته الصادقة ، فهو يغوص في ذاته محملا بقسمات الواقع المرير ، حتى لايكاد يقوى على التنفس لإحساسه بدوامة تنكر الوطن ، وكأنها ما وجدت إلا لتعصف بمن أخلص في بنائه .. لنقرأ ماكتب وهو يداري لحظة الفقد ، والارتماض ، وحرج الصدر وانقباضه ، ، والبوح الصادق ، والوطنية الحقة ، وقدسيتها في النفس ، وقسوة عصر مضطرب ، والملامة تتخطفه ، والمُلام - دائما - الوطن !!! . يقول متعجبا :
ما أقسى بلدي !
ياولدي .
ماأقساه !
العيش به قاس .
الهم به قاس . ( 11 )
ومن اللوم إلى الإدانة الصريحة .. ها هو ذا - مباشرة عقب دفن الوالد / السندباد المغربي - ينبري له في المقبرة من يطالبه بأجرة القبر ! فبدا له أن الدفن لم يبق كما كان ، بل صار لحفار القبور عند الشاعر ثمن قبر ألحد فيه والده :
حتى الموت بهذا البلد المنهار
حين يدق بعنف باب الدار
يطلب أجرته نقداً
قبل ذبول الأنوارْ ( 12 )
وفي ملحمة الانتصار للذات ، وللوطن يراكم الشاعر وحدة معجمية صدر بها جل شطرات جزء من مقطع ؛ إنها الأداة الاسمية المستفهمة لابدلالتها على الكيفية ( كيف ) ؛ وإنما تعبيرا عن واقع ، وعن حالة نفسية ؛ فالشاعر تلبسته الحيرة ، فمال إلى الرفع من النفس الملحمي في النص ، مستخدما آلية التبكيت بواقع الهجرة السرية ، المدان صانعوها الذين يسمحون لقوارب الموت بالمجازفة ، دون التفكير في سياسة حمائية ؛ تحمي المهاجر السري من الموت المحقق :
كيف تلام حبيبي هذه الأطيار
إن هجرت تطلب أعشاشا دافئة
عبر بحار وقفار
كيف تلام الأطيار وهذي الأشجار
ماعادت تعطي فاكهة
ماعادت تستقطب أسراب الأقمار ؟
كيف تلام الأطيار ؟
إن أحرقت هذا البحر الجبار ؟
كيف تلام وهذا بلد قهار
كيف تلام الأطيار ؟
كيف تلام الأطيار ؟ ( 13 )
الجواب بداهة لن يكون غير : لالوم على الأطيار المنتحرة في لج البحر الجبار !!! .
وكم هي ألفاظ النص محرقة - دلالة ومبتى - حينما تخرج من أعماق أعماق الشاعر محمد علي الرباوي المكلوم بجروح الوطن والفقد ! . هذا هو مدلول نداء الشاعر لابنه زكرياء : (( ولدي . . . )) المدعم بالتكرار في مساحات النص ، وهو مايبقي على نبرة الشجو والبثّ حاضرة في النص !! .
لقد كانت رحلة السندباد الطويلة الشاقة ، هي مبعثه في الحياة بعد مماته ، وإنصافا له في إبداع ابنه محمد علي ، وعبرة لحفيده زكرياء ، وللشباب المغربي رمز تجديد وتجدد الوطن . فالأب الجدير بكل هذا :
اتخذ بلاد الروم له وطنا
لكن لم ينس الوطنا
لم ينس الوطنا . . ( 14 )
وسافر (( السندباد المغربي )) - كما سندباد البصرة - لكنه لم يقطع هبات أنسامه على الوطن :
كان أبي من أرض الغَََربْ
يبعث لي بسلال الحَبْ
وسلالِ الحُبّ
لأصير الولد الصَُلْبْ
........................................ ( 15 )
هكذا هو الوالد ، بل ظل يجلد بسياط المعاناة مسلوخا من جلده بالعمل الشاق ، وهذا ما نطق به بوح الشاعر لابنه (( زكرياء )) :
ولدي . . .
جدك لما أوراش الروم امتصت عضلاته
ألقت ببقايا هيكله العظمي
إلى قمم الأطلس والريف الضائع
لم يربض بين الأهل طويلا
لم يجلس قدام (( التلفاز )) طويلا
كان يهيء بعض الزاد
ليرحل قبل الفجر رحيلا
............................................ ( 16 )
إجمالا للشاعر محمد علي الرباوي في هذا الديوان / القصيدةالجدارية ، عدة رسائل منها أنه وضع على الطاولة تجربة فريدة من تجارب الفقد ، وما تناسل عنها من تشريح لجوانب آسنة في الواقع المغربي ، جديرة بالتجاوز ، لأنها ضاعفت من توجد وتضور الشاعر .. وقد كان موفقا في نقل إحساس عام عانت وتعاني منه البشرية لا المغرب فقط ، منذ الخلق الأول ؛ المتمثل في الاستغلال البشع للعمال ، وهضم مالهم من حق . وفي مغرب مابعد الاستقلال .. وقد عالج ذلك ضمن ثنائية الموت ، والحياة ، وهو ينشد العدالة الاجتماعية ، وإحقاق الحق ، قيمة إنسانية ، عليها مدار تقدم الأمم .
------------------------------------
1 ) صدر للشاعر أخيرا ثلاث دواوين شعرية دفعة واحدة - فبراير 2009 - هي : (( دم كذب - كتاب الشدة -كتاب الخراب )) .
2 ) ط 1 :1395 - 1985 .
3 ) الديوانين صدرا في نفس السنة عن ( دار النشر الجسور 40 شارع رمضان الكاضي - وجدة .
4 ) نذكر على سبيل المثال " الهنود الحمر " الأرتيك والأنكا في أمريكا .
5 ) حديث بلال : أذنت في ليلة باردة فلم يأت أحد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكبدهم البرد .
6 ) من مكابدات السندباد المغربي ص 50 - ط 1 : 2002 دار النشر الجسور - وجدة .
7 ) نفسه . ص 39 .
8 ) نفسه . ص 7 .
9 ) أرخ الشاعر لهذه القصيدة بتاريخ : 17 / 12 / 1994 . وهو ما يعني أن موت والده كان قبل هذا التاريخ بقليل .
10 ) من مكابدات السندباد المغربي ص. ص 45 - 46 . ط 1 : 2002 دار النشر الجسور - وجدة .
11 ) نفسه . ص 47 .
12 ) نفسه . ص 47 .
13 ) نفسه . ص 48 .
14 ) نفسه . ص 49 .
15 ) نفسه . ص 49 .
16 ) نفسه . ص 52 .