لم تبرح ذهني صورة والدي وهو يتلقى صفعة من شرطي بالمحكمة ، لم يكن في وسعي أن أفعل شيئا. كنت صغيرا لكن حزني كان كبيرا.
كان قلة من الطلبة يتوزعون في المقصف استعدادا للافطار، منهم من اكتفى بكأس شاي أو قهوة وضعه على العارضة، يناوب التدخين والرشف على مهل.اثر دخولي طلبت من النادل كأس شاي على أمل أن أقضي دقائق ثم انصرف الى شارع محمد الخامس حيث مقهاي المفضل ، مقهى الكتبية الذي ارتاده للطافة نادله عبد القادر، والتملي في الغادين والرائحين على طول الشارع، والاستماع الى أغاني أم كلثوم .
كان الأمر يشبه طقسا اعتدت أداءه بنوع من الاحساس بالسعادة فريد غير أن اليوم استثائي بكل المعاني. ما أن حط النادل كأس الشاي على العارضة، وأنا بصدد رشق مصفاة الدخينة بين شفتي ، و رأسي منحني قليلا حتى فوجئت بلسان لهب قداحة أسفل ذؤابة الدخينة ، رفعت رأسي ببطء وأنا أنظر الى صاحب اليد الممدودة...
كان رجلا نحيلا، أبيض الأديم ، أنيق اللباس ، ذا شارب مقصوص بعناية ، وقتها سحبت نفسا عميقا ثم أشحت بوجهي وأنا أفكر في الكيفية التي بها أغادر المكان لأنجو. لم يكن من مخرج سوى باب واحد لا يمكنني أن ابتعد عنه الا قليلا حتى أسقط في الفخ. لقد وضح لي الأمر. الرجل الأنيق الذي أبدى أريحية، وتطوع لاشعال لفافتي لم يكن الا شرطيا... فعلا لما خرجت من المقصف وجدت نفسي مطوقا بأربعة أشخاص من ضمنهم ذو القداحة. سارعوا الى تشكيل دائرة حولي، وكان على مبعدة منا طلبة وطالبات غير آبهين لما يحدث .
كان رجال الشرطة الأربعة حازمين في اجباري على مرافقتهم ولم يكن لي خيار آخر ، ومن حسن الحظ أن الطقس دافيء فلم أكن أرتدي با لاضافة الى السراويل والحذاء غير قميص.
أولجوني السيارة، في الخلف، أولا ثم اندس اثنان بجواري، والثالث بجوار السائق الذي بادر الى تشغيل المحرك لينطلق مسرعا. فكرت في فتح الباب والانزلاق خارجا، محتملا مايحدث، ثم العدو باتجاه مكان آمن فقد كنت أعرف الحي الجامعي وما جاوره ، وبيوت بعض الأصدقاء في المدينة لكنني اكتشفت أن الباب عطل على نحو لايمكن معه فتحه فاكتفيت بالاستسلام لقدري، وتفحص الطريق الرابط بين الحي بظهر المهراز، والليدو، والأطلس، ودار دبيبغ حيث بساط من العشب المخضوضر ، وصف من الأشجار الضخمة ذات الثمار الغريبة. هذا المشهد هو ذاته الذي كنت أدمن تأمله من زجاج غرفتي بالحي الجامعي وأنا أكتب مواضيع لجريدة الكفاح الوطني التي يديرها المرحوم علي يعتة ، والتي زرت مقر طباعتها رفقة مصطفى اليزناسني حيث بت الليل في ضيافته . كان ودودا سمحا . أفرغتني ، وهذا لفظ ملائم ، السيارة في مفوضية الشرطة بشارع محمد الخامس حيث حظيت بما يليق بي من كرم الضيافة.
لم أكن على علم بدواعي الاعتقال المفاجيء الا بعد الشروع في التحقيق معي حول منشور اعتبر معاديا للنظام وجد ملصقا بجدران الحي.
في الواقع، رغم نشاطي، لم تكن لي صلة بالمنشور، ولاأعلم عن الجهة التي صدر عنها.صحيح كنت من نشطاء تعاضدية الطلاب كما كنت منتسبا الي الحزب السيوعي السري.
لم يكن استجواب الشرطة سهلا، لقد أمرت بالجلوس على مقعد طويل من طراز مقاعد باعة الحساء في جامع الفنا . قدم الي كأس شاي منعنع، واعتذرت عن تناول سيجارة مدت لي من طرف شرطي أسمر ، نحيل، مثبت الشعر
الأكرد بمرهم ذي رائحة نفاذة ، وهو الشرطي ذاته الذي عاود معي لعبة القداحة وأنا أغادر دار الشباب بمدينة آسفي حيث كنا نتمرن على مسرحيتي/ الضرب على الحديد الساخن/... لقد ظهر هنا على نحو لم يخطر ببالي كما لو بفعل معجزة الطي الشائعة.
لم أتناول السيجارة لأني كنت متحسبا للأمر ، معي علبة كازا سبور، وكيس طنجارينا، وغليون جميل بني الطلاء. هل هذا من وحي جان بول سارتر ... الغليون؟ ممكن فقد كنت لاأخطيء موعدا مع رواياته ومسرحياته وكتبه الفلسفية، وعشيقته سيمون دوبوفوار ، وغريمه ألبير كامي.
كان الشرطيون قد بدؤوا مهمتهم بلطف زائف بسؤالي عن المنشور، وعن انتمائي الحزبي. اكتفيت بالاقرار بأنني أنشط في اطار قانوني ضمن تعاضدية الطلاب / الاتحاد الوطني لطلبة المغرب/ وأمارس الصحافة متطوعا.
اهتدى الشرطيون الى حيلة للايقاع بي بأن قدموا لي ورقة وقلم حبر جاف، مطالبين اياي بكتابة مراسلة للصحيفة بهدف أن يقارنوا رسم الخطين، خطي بخط المنشور لأنه كتب بخط اليد .
لما لم يجدوا تطابقا حولوا ذلك الى أسلوب آخر. اقتادوني الى مكتب مجاور فوجدت ضابطاخلف مكتبه في الانتظار متأهبا .كانت بجواره نافذة مفتوحة ومستندة الى الجدار مما حولها الى عاكسة لماخلفي من رجال الشرطة الثلاثة المتحفزين ، حيث وقفت منتصبا أمام المكتب . شعرت بالوحدة . كنت أعزل وحيدا .
خشيت أن يدنيني تذكر والدي من الهشاشة المطلقة . صوت خفي في داخلي همس بنوع من الخذلان/ لم هؤلاءبهذا الجبروت ؟
أخرجني من هذاالكلام الغميس صوت الضابط وهو يلقي علي سؤالا لم أتمكن من سماعه كما لو أنه وجه لغيري فأمعنت النظر الى النافذة وربما استفز أحدهم الأمر فصوب لكمة قوية عنيفة الى وجهي أسقطني بمباغتتها أرضا على ظهري .فوجئت باندفاع شرطي من مكتب مقابل بابه للمكتب الذي أوجد فيه لينزل ساقطا على صدري وبطني بقدميه ....
عانيت بعدها من جراء ذلك ألما في الأمعاء والمعدة، واعوجاجا بضلع في الجانب الأعلى من صدري. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وخاصة عندما تعرض علي أسماء طلبة وطالبات مكتوبة على جذاذات منفصلة وكنت أؤكد على معرفة بها لكن في اطار التعاضدية التي تجري انتخابات أعضائها علانية ،وتعلق لوائح الفائزين، وتكون ادارة الكلية والحي الجامعي على علم بذلك .كانت استضافتي بمفوضية الشرطة بشارع محمد الخامس غاية في الكرم . لقد وضع مكتبان في تقابل بينهما فاصل من فراغ ثم ربطت رجلاي قرب الكاحل ويدي من الرسغين ثم مررت ركبتاي من فجوة مابين الذراعين ودست أسفل زاويتيها عصا رفيعة صلبة، وبهذا التشكيل أصبحت كخروف معد للشواء. وضع ثوب على وجهي كقناع وبدأ صب الماء عليه مما أدى بي الى الاختناق ، وحين بلوغي مرحلة الخطر يتم التوقف لتطرح علي أسئلة متلاحقة مع تماد في نثر رماد السجائر على وجهي المبتل .
قبل تقنيعي وصب الماء على وجهي أؤمر بأن أرفع أصبعي اذا رغبت في الجواب . حينما يشتد الضرب على الأخمصين ، والخنق أرفع أصبعي لكنني كنت أباغت الشرطيين بالنفي لأتحرر قليلا من تعذيب يمارس علي بنوع من الارتياح والالتذاذ . تبولت، دنوت من حالة الاغماء، صدري يكاد ينفجر ، أخمصاي يحترقان ... وقررت أن أستسلم للموت . وأنا في هذه البناية ذات الجدران السميكة، هل يعلم والداي اللذان ينتظران عودتي في العطلة فيفتح الباب بعد أن أقرعه لأرى تهلل وجهيهما فأنحني مقبلا كفيهما ؟ هل يعلم أصدقائي ورفاقي في الحزب ما حاق بي ؟ ... وكطائرين يمرقان في اندفاعة أشبه بلمع البرق مرفي خيالي طيفا والد ي وأمي وهما يزهوان بأنني سأصبح أستاذا ، وأكون عونا لهما في الحياة ، لم أترك لطيفيهما أن يجذباني للوشاية بأي شخص .كنت مصرا على موقفي حتى النهاية، بيد أنني كنت ممزقا بين الولاء لقناعتي، وما سأسببه لأسرتي من خيبات .
كان قلة من الطلبة يتوزعون في المقصف استعدادا للافطار، منهم من اكتفى بكأس شاي أو قهوة وضعه على العارضة، يناوب التدخين والرشف على مهل.اثر دخولي طلبت من النادل كأس شاي على أمل أن أقضي دقائق ثم انصرف الى شارع محمد الخامس حيث مقهاي المفضل ، مقهى الكتبية الذي ارتاده للطافة نادله عبد القادر، والتملي في الغادين والرائحين على طول الشارع، والاستماع الى أغاني أم كلثوم .
كان الأمر يشبه طقسا اعتدت أداءه بنوع من الاحساس بالسعادة فريد غير أن اليوم استثائي بكل المعاني. ما أن حط النادل كأس الشاي على العارضة، وأنا بصدد رشق مصفاة الدخينة بين شفتي ، و رأسي منحني قليلا حتى فوجئت بلسان لهب قداحة أسفل ذؤابة الدخينة ، رفعت رأسي ببطء وأنا أنظر الى صاحب اليد الممدودة...
كان رجلا نحيلا، أبيض الأديم ، أنيق اللباس ، ذا شارب مقصوص بعناية ، وقتها سحبت نفسا عميقا ثم أشحت بوجهي وأنا أفكر في الكيفية التي بها أغادر المكان لأنجو. لم يكن من مخرج سوى باب واحد لا يمكنني أن ابتعد عنه الا قليلا حتى أسقط في الفخ. لقد وضح لي الأمر. الرجل الأنيق الذي أبدى أريحية، وتطوع لاشعال لفافتي لم يكن الا شرطيا... فعلا لما خرجت من المقصف وجدت نفسي مطوقا بأربعة أشخاص من ضمنهم ذو القداحة. سارعوا الى تشكيل دائرة حولي، وكان على مبعدة منا طلبة وطالبات غير آبهين لما يحدث .
كان رجال الشرطة الأربعة حازمين في اجباري على مرافقتهم ولم يكن لي خيار آخر ، ومن حسن الحظ أن الطقس دافيء فلم أكن أرتدي با لاضافة الى السراويل والحذاء غير قميص.
أولجوني السيارة، في الخلف، أولا ثم اندس اثنان بجواري، والثالث بجوار السائق الذي بادر الى تشغيل المحرك لينطلق مسرعا. فكرت في فتح الباب والانزلاق خارجا، محتملا مايحدث، ثم العدو باتجاه مكان آمن فقد كنت أعرف الحي الجامعي وما جاوره ، وبيوت بعض الأصدقاء في المدينة لكنني اكتشفت أن الباب عطل على نحو لايمكن معه فتحه فاكتفيت بالاستسلام لقدري، وتفحص الطريق الرابط بين الحي بظهر المهراز، والليدو، والأطلس، ودار دبيبغ حيث بساط من العشب المخضوضر ، وصف من الأشجار الضخمة ذات الثمار الغريبة. هذا المشهد هو ذاته الذي كنت أدمن تأمله من زجاج غرفتي بالحي الجامعي وأنا أكتب مواضيع لجريدة الكفاح الوطني التي يديرها المرحوم علي يعتة ، والتي زرت مقر طباعتها رفقة مصطفى اليزناسني حيث بت الليل في ضيافته . كان ودودا سمحا . أفرغتني ، وهذا لفظ ملائم ، السيارة في مفوضية الشرطة بشارع محمد الخامس حيث حظيت بما يليق بي من كرم الضيافة.
لم أكن على علم بدواعي الاعتقال المفاجيء الا بعد الشروع في التحقيق معي حول منشور اعتبر معاديا للنظام وجد ملصقا بجدران الحي.
في الواقع، رغم نشاطي، لم تكن لي صلة بالمنشور، ولاأعلم عن الجهة التي صدر عنها.صحيح كنت من نشطاء تعاضدية الطلاب كما كنت منتسبا الي الحزب السيوعي السري.
لم يكن استجواب الشرطة سهلا، لقد أمرت بالجلوس على مقعد طويل من طراز مقاعد باعة الحساء في جامع الفنا . قدم الي كأس شاي منعنع، واعتذرت عن تناول سيجارة مدت لي من طرف شرطي أسمر ، نحيل، مثبت الشعر
الأكرد بمرهم ذي رائحة نفاذة ، وهو الشرطي ذاته الذي عاود معي لعبة القداحة وأنا أغادر دار الشباب بمدينة آسفي حيث كنا نتمرن على مسرحيتي/ الضرب على الحديد الساخن/... لقد ظهر هنا على نحو لم يخطر ببالي كما لو بفعل معجزة الطي الشائعة.
لم أتناول السيجارة لأني كنت متحسبا للأمر ، معي علبة كازا سبور، وكيس طنجارينا، وغليون جميل بني الطلاء. هل هذا من وحي جان بول سارتر ... الغليون؟ ممكن فقد كنت لاأخطيء موعدا مع رواياته ومسرحياته وكتبه الفلسفية، وعشيقته سيمون دوبوفوار ، وغريمه ألبير كامي.
كان الشرطيون قد بدؤوا مهمتهم بلطف زائف بسؤالي عن المنشور، وعن انتمائي الحزبي. اكتفيت بالاقرار بأنني أنشط في اطار قانوني ضمن تعاضدية الطلاب / الاتحاد الوطني لطلبة المغرب/ وأمارس الصحافة متطوعا.
اهتدى الشرطيون الى حيلة للايقاع بي بأن قدموا لي ورقة وقلم حبر جاف، مطالبين اياي بكتابة مراسلة للصحيفة بهدف أن يقارنوا رسم الخطين، خطي بخط المنشور لأنه كتب بخط اليد .
لما لم يجدوا تطابقا حولوا ذلك الى أسلوب آخر. اقتادوني الى مكتب مجاور فوجدت ضابطاخلف مكتبه في الانتظار متأهبا .كانت بجواره نافذة مفتوحة ومستندة الى الجدار مما حولها الى عاكسة لماخلفي من رجال الشرطة الثلاثة المتحفزين ، حيث وقفت منتصبا أمام المكتب . شعرت بالوحدة . كنت أعزل وحيدا .
خشيت أن يدنيني تذكر والدي من الهشاشة المطلقة . صوت خفي في داخلي همس بنوع من الخذلان/ لم هؤلاءبهذا الجبروت ؟
أخرجني من هذاالكلام الغميس صوت الضابط وهو يلقي علي سؤالا لم أتمكن من سماعه كما لو أنه وجه لغيري فأمعنت النظر الى النافذة وربما استفز أحدهم الأمر فصوب لكمة قوية عنيفة الى وجهي أسقطني بمباغتتها أرضا على ظهري .فوجئت باندفاع شرطي من مكتب مقابل بابه للمكتب الذي أوجد فيه لينزل ساقطا على صدري وبطني بقدميه ....
عانيت بعدها من جراء ذلك ألما في الأمعاء والمعدة، واعوجاجا بضلع في الجانب الأعلى من صدري. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وخاصة عندما تعرض علي أسماء طلبة وطالبات مكتوبة على جذاذات منفصلة وكنت أؤكد على معرفة بها لكن في اطار التعاضدية التي تجري انتخابات أعضائها علانية ،وتعلق لوائح الفائزين، وتكون ادارة الكلية والحي الجامعي على علم بذلك .كانت استضافتي بمفوضية الشرطة بشارع محمد الخامس غاية في الكرم . لقد وضع مكتبان في تقابل بينهما فاصل من فراغ ثم ربطت رجلاي قرب الكاحل ويدي من الرسغين ثم مررت ركبتاي من فجوة مابين الذراعين ودست أسفل زاويتيها عصا رفيعة صلبة، وبهذا التشكيل أصبحت كخروف معد للشواء. وضع ثوب على وجهي كقناع وبدأ صب الماء عليه مما أدى بي الى الاختناق ، وحين بلوغي مرحلة الخطر يتم التوقف لتطرح علي أسئلة متلاحقة مع تماد في نثر رماد السجائر على وجهي المبتل .
قبل تقنيعي وصب الماء على وجهي أؤمر بأن أرفع أصبعي اذا رغبت في الجواب . حينما يشتد الضرب على الأخمصين ، والخنق أرفع أصبعي لكنني كنت أباغت الشرطيين بالنفي لأتحرر قليلا من تعذيب يمارس علي بنوع من الارتياح والالتذاذ . تبولت، دنوت من حالة الاغماء، صدري يكاد ينفجر ، أخمصاي يحترقان ... وقررت أن أستسلم للموت . وأنا في هذه البناية ذات الجدران السميكة، هل يعلم والداي اللذان ينتظران عودتي في العطلة فيفتح الباب بعد أن أقرعه لأرى تهلل وجهيهما فأنحني مقبلا كفيهما ؟ هل يعلم أصدقائي ورفاقي في الحزب ما حاق بي ؟ ... وكطائرين يمرقان في اندفاعة أشبه بلمع البرق مرفي خيالي طيفا والد ي وأمي وهما يزهوان بأنني سأصبح أستاذا ، وأكون عونا لهما في الحياة ، لم أترك لطيفيهما أن يجذباني للوشاية بأي شخص .كنت مصرا على موقفي حتى النهاية، بيد أنني كنت ممزقا بين الولاء لقناعتي، وما سأسببه لأسرتي من خيبات .