من القصص التي قرأتها في 70 القرن العشرين قصة الروائي الجزائري المرحوم الطاهر وطار " اشتراكي حتى الموت"، وهي واحدة من مجموعة " الشهداء يعودون هذا الأسبوع" التي أعادت منشورات صلاح الدين في القدس طباعتها في حينه (1978)، وإن لم تخني الذاكرة فقد صدرت طبعتها الأولى في بغداد في العام 1974 وأهداها وطار في حينه " إلى رفاق الحزب الشيوعي العراقي مفخرة الأمة العربية".
تركت القصة وقصتان أخريان؛ هما " الرسام الكبير والشاعرة الناشئة" و" الشهداء يعودون هذا الأسبوع"، أثرا كبيرا في نفسي وصرت أدرسهما في الجامعة، وغالبا ما صرت أستشهد بهما في مناسبات تلائم مضمونهما.
بعد ثلاث سنوات تقريبا من قراءة القصة قرأت مجموعتي نجاتي صدقي " الأخوات الحزينات" 1951 و" الشيوعي المليونير" 1963، وصرت أيضا استحضرهما في اللحظات المناسبة.
كلا الكاتبين؛ صدقي ووطار، كان يساريا وأخذ يسخر من بعض اليساريين الذين حملوا الفكر ومارسوا نقيضه، وظلت مفارقات قصصهما تؤثر في سلوكي وفي تفكيري أيضا، وأنا غالبا ما أسخر من يساريين عرفتهم تشابه سلوكهم وسلوك شخصيات قصص الكاتبين.
ولكن يحدث أحيانا أن يمكر التاريخ فيغدو الواحد منا مثل الأشخاص الذين سخر منهم، وقد يحدث معه أن يصدق كتابته ويكذب حياته.
في روايته "أولاد الغيتو: اسمي آدم" 2016 توقف الروائي اللبناني إلياس خوري أمام ثلاثة أدباء هم غوغول وغسان كنفاني واميل حبيبي، وقال، إن الأمر ينتهي بالكاتب أن ينكتب لا أن يكتب " ألم يكن هذا هو مصير غوغول؟ ألم ينته الأمر بإميل حبيبي إلى تصديق أدبه وتكذيب حياته؟ ألم تمتزج حكايات غسان كنفاني بأشلائه الممزقة؟" فكيف صدق إميل أدبه وكذب حياته؟
ربما وجب أن يوضح لنا المؤلف الضمني في رواية إلياس خوري ماذا يقصد بعبارته.
كيف أكذب شخصيا حياتي وأصدق كتابتي؟
لقد ظللت أسخر من أصحاب الفكر الاشتراكي الذين يحيون حياة برجوازية؛ هؤلاء الذين يكدسون الثروة ويطالبون بالعدالة الاجتماعية، وكنت حين أسألهم عن تناقضهم أصغي إليهم يجيبون بأن توزيع أموالهم بطريقة فردية لن يحل المشكلة، ثم إني كنت ألاحظ أن قسما منهم يعزلون أنفسهم عن حياة الناس.
أنا شخص تيسرت أموري من راتبي في وظيفتي الجامعية، ولم أسع إلى جمع المال سعيا لحوحا أبذل فيه ماء وجهي. لقد تجمع المال معي لأسباب عديدة، وشاءت الظروف أن أكون حذرا جدا في إنفاقه فقسم من الناس يتخيل أنني أقبض من هنا وهناك وأنني المنشار، وصرت مثل شخصية قصة وطار "اشتراكي حتى الموت".
أحد زملائي في التدريس مثلا غالبا ما يمزح معي متسائلا عن مقدار رصيدي في البنك، ويسألني إن كانت البلاطة التي أخبئ تحتها النقود فاضت. وغالبا ما أبتسم له، فتحثه ابتسامتي على التمادي في حديثه.
يذكر لي هذا الزميل حكاية قائد فصيل يساري فلسطيني كان ينظر للفكر الاشتراكي ولكنه يحيا حياة برجوازية. ولما كان رفاق فصيله لاحظوا تناقضه فقد سألوه عن تناقض سلوكه وفكره. وكانت إجابته:
- هذا يساري - ويشير إلى رأسه - وأما هذا - ويشير إلى بطنه - فبرجوازي.
حين أشارك في مؤتمر علمي في خارج فلسطين واستضاف فيه أقيم في الفندق الذي يحجز لنا فيه، وغالبا ما يكون فاخرا وقد يكون فندق خمس نجوم، وغالبا ما أكتب يومياتي.
إن قارئ يومياتي لا يعرف أنني ضيف وأنني أنزل على حساب المؤتمر، وحين يقارن ما أكتبه من يوميات في الأيام العادية بما أكتبه وأنا في الفندق يرى تناقضا، وهنا يعقب القارئ "اشتراكي حتى الموت"، وقد يتذكر ما يقصه زميلي عن قائد الفصيل اليساري.
من المؤكد أن هذا القارئ، إن عرف مقدار رصيدي في البنك، فسيكرر أيضا ساخرا: "اشتراكي حتى الموت".
هل أصدق كتابتي وأكذب حياتي؟
إنني أدعو إلى العدالة الاجتماعية وإلى عدم احتكار المناصب وإلى إتاحة الفرص للآخرين ليأخذوا نصيبهم في العمل، فلا أزاحم على وظيفة ولم أسع إلى عمل في جامعة ثانية، خلافا لبعض زملاء يدرسون في جامعتين وأكثر. وتبدو حياتي - لسوء الحظ أو لحسنه أو لكليهما معا أو لأسباب عديدة - غير ذلك، فهل أنا متناقض مع نفسي وأفكاري؟
غالبا ما أتذكر قصة الطاهر وطار "اشتراكي حتى الموت" وأخاطب نفسي "اشتراكي حتى الموت".
ولمن لم يقرأ القصة فإن ملخصها هو:
مهندس جزائري يساري الفكر يناضل ضد الاستعمار الفرنسي، وعندما تستقل الجزائر يعمل مهندسا في منشأة صناعية. يقرر في بداية الاستقلال عدم الزواج ليتفرغ إلى مواصلة النضال الاجتماعي، ثم يتزوج ويبرر إقدامه على الزواج، ويقرر عدم الإنجاب حتى لا تفتر عزيمة النضال لديه، ثم ينجب ويبرر سبب الإنجاب، ويقرر ويتراجع ويبرر، وهكذا تسير حياته التي تبدو سلسلة من التناقضات والمفارقات، وتتكدس لديه الثروة ويغدو رأسماليا، وحين يشتري سيارة من دولة إمبريالية يترفع عن حمل الفقراء فيها ويشتري البضاعة التي يتهرب أصحابها من دفع الضرائب ويظل يبرر ويستمر في تبريره إلى أن تصدمه شاحنة فيموت ويسلم "النفس الأخير، دون أن يجد الفرصة ليعلق على الحدث أو ليبرر ما قد يكون ارتكبه من خطأ".
كم من يساري انتهى برجوازيا وصدق أفكاره وكذب حياته، وأخذ يعيش حياة برجوازية واستمر ينظر للفكر الاشتراكي؟!!!
وكم من شيوعي مات شيوعيا ومليونيرا، كما تقول لنا قصة نجاتي صدقي؟
إنه مكر الحياة!!.
عادل الأسطة
تركت القصة وقصتان أخريان؛ هما " الرسام الكبير والشاعرة الناشئة" و" الشهداء يعودون هذا الأسبوع"، أثرا كبيرا في نفسي وصرت أدرسهما في الجامعة، وغالبا ما صرت أستشهد بهما في مناسبات تلائم مضمونهما.
بعد ثلاث سنوات تقريبا من قراءة القصة قرأت مجموعتي نجاتي صدقي " الأخوات الحزينات" 1951 و" الشيوعي المليونير" 1963، وصرت أيضا استحضرهما في اللحظات المناسبة.
كلا الكاتبين؛ صدقي ووطار، كان يساريا وأخذ يسخر من بعض اليساريين الذين حملوا الفكر ومارسوا نقيضه، وظلت مفارقات قصصهما تؤثر في سلوكي وفي تفكيري أيضا، وأنا غالبا ما أسخر من يساريين عرفتهم تشابه سلوكهم وسلوك شخصيات قصص الكاتبين.
ولكن يحدث أحيانا أن يمكر التاريخ فيغدو الواحد منا مثل الأشخاص الذين سخر منهم، وقد يحدث معه أن يصدق كتابته ويكذب حياته.
في روايته "أولاد الغيتو: اسمي آدم" 2016 توقف الروائي اللبناني إلياس خوري أمام ثلاثة أدباء هم غوغول وغسان كنفاني واميل حبيبي، وقال، إن الأمر ينتهي بالكاتب أن ينكتب لا أن يكتب " ألم يكن هذا هو مصير غوغول؟ ألم ينته الأمر بإميل حبيبي إلى تصديق أدبه وتكذيب حياته؟ ألم تمتزج حكايات غسان كنفاني بأشلائه الممزقة؟" فكيف صدق إميل أدبه وكذب حياته؟
ربما وجب أن يوضح لنا المؤلف الضمني في رواية إلياس خوري ماذا يقصد بعبارته.
كيف أكذب شخصيا حياتي وأصدق كتابتي؟
لقد ظللت أسخر من أصحاب الفكر الاشتراكي الذين يحيون حياة برجوازية؛ هؤلاء الذين يكدسون الثروة ويطالبون بالعدالة الاجتماعية، وكنت حين أسألهم عن تناقضهم أصغي إليهم يجيبون بأن توزيع أموالهم بطريقة فردية لن يحل المشكلة، ثم إني كنت ألاحظ أن قسما منهم يعزلون أنفسهم عن حياة الناس.
أنا شخص تيسرت أموري من راتبي في وظيفتي الجامعية، ولم أسع إلى جمع المال سعيا لحوحا أبذل فيه ماء وجهي. لقد تجمع المال معي لأسباب عديدة، وشاءت الظروف أن أكون حذرا جدا في إنفاقه فقسم من الناس يتخيل أنني أقبض من هنا وهناك وأنني المنشار، وصرت مثل شخصية قصة وطار "اشتراكي حتى الموت".
أحد زملائي في التدريس مثلا غالبا ما يمزح معي متسائلا عن مقدار رصيدي في البنك، ويسألني إن كانت البلاطة التي أخبئ تحتها النقود فاضت. وغالبا ما أبتسم له، فتحثه ابتسامتي على التمادي في حديثه.
يذكر لي هذا الزميل حكاية قائد فصيل يساري فلسطيني كان ينظر للفكر الاشتراكي ولكنه يحيا حياة برجوازية. ولما كان رفاق فصيله لاحظوا تناقضه فقد سألوه عن تناقض سلوكه وفكره. وكانت إجابته:
- هذا يساري - ويشير إلى رأسه - وأما هذا - ويشير إلى بطنه - فبرجوازي.
حين أشارك في مؤتمر علمي في خارج فلسطين واستضاف فيه أقيم في الفندق الذي يحجز لنا فيه، وغالبا ما يكون فاخرا وقد يكون فندق خمس نجوم، وغالبا ما أكتب يومياتي.
إن قارئ يومياتي لا يعرف أنني ضيف وأنني أنزل على حساب المؤتمر، وحين يقارن ما أكتبه من يوميات في الأيام العادية بما أكتبه وأنا في الفندق يرى تناقضا، وهنا يعقب القارئ "اشتراكي حتى الموت"، وقد يتذكر ما يقصه زميلي عن قائد الفصيل اليساري.
من المؤكد أن هذا القارئ، إن عرف مقدار رصيدي في البنك، فسيكرر أيضا ساخرا: "اشتراكي حتى الموت".
هل أصدق كتابتي وأكذب حياتي؟
إنني أدعو إلى العدالة الاجتماعية وإلى عدم احتكار المناصب وإلى إتاحة الفرص للآخرين ليأخذوا نصيبهم في العمل، فلا أزاحم على وظيفة ولم أسع إلى عمل في جامعة ثانية، خلافا لبعض زملاء يدرسون في جامعتين وأكثر. وتبدو حياتي - لسوء الحظ أو لحسنه أو لكليهما معا أو لأسباب عديدة - غير ذلك، فهل أنا متناقض مع نفسي وأفكاري؟
غالبا ما أتذكر قصة الطاهر وطار "اشتراكي حتى الموت" وأخاطب نفسي "اشتراكي حتى الموت".
ولمن لم يقرأ القصة فإن ملخصها هو:
مهندس جزائري يساري الفكر يناضل ضد الاستعمار الفرنسي، وعندما تستقل الجزائر يعمل مهندسا في منشأة صناعية. يقرر في بداية الاستقلال عدم الزواج ليتفرغ إلى مواصلة النضال الاجتماعي، ثم يتزوج ويبرر إقدامه على الزواج، ويقرر عدم الإنجاب حتى لا تفتر عزيمة النضال لديه، ثم ينجب ويبرر سبب الإنجاب، ويقرر ويتراجع ويبرر، وهكذا تسير حياته التي تبدو سلسلة من التناقضات والمفارقات، وتتكدس لديه الثروة ويغدو رأسماليا، وحين يشتري سيارة من دولة إمبريالية يترفع عن حمل الفقراء فيها ويشتري البضاعة التي يتهرب أصحابها من دفع الضرائب ويظل يبرر ويستمر في تبريره إلى أن تصدمه شاحنة فيموت ويسلم "النفس الأخير، دون أن يجد الفرصة ليعلق على الحدث أو ليبرر ما قد يكون ارتكبه من خطأ".
كم من يساري انتهى برجوازيا وصدق أفكاره وكذب حياته، وأخذ يعيش حياة برجوازية واستمر ينظر للفكر الاشتراكي؟!!!
وكم من شيوعي مات شيوعيا ومليونيرا، كما تقول لنا قصة نجاتي صدقي؟
إنه مكر الحياة!!.
عادل الأسطة