بديعة زيدان - الروائي التونسي محمود المسعدي .. رائد في الأدب والفلسفة والتحرر والنضال ضد الاستعمار

ظل الروائي التونسي محمود المسعدي، ويعرف لدى عديد النقاد والباحثين بلقب "أبو الرواية التونسية"، في جميع آثاره يعزز مفهومه للأدب باعتباره قصة المغامرة التي يحياها الإنسان عندما يبحث في السؤال عن معنى الوجود، ومنزلته في الوجود، ومسؤوليته كموجود.

واختير المسعدي، شخصية مهرجان كتارا للرواية العربية في دورته الخامسة، بحيث انتظم معرض يلخص سيرته ومسيرته، وصدر كتيّب عنه، ونظمت ندوة حوله وأدبه وإبداعاته عامة، شارك فيها كل من د. محمود طرشونة وربطته بالمسعدي علاقة وثيقة، ود. خالد الغريبي، ود. عبد الحق بلعابد، وأدارها د. نزار شقرون، وجميعهم على تماس به وبإبداعاته المتعددة.

وأقر المسعدي في كتاباته بأن الإجابة عن هذا السؤال بشكل نهائي عملية غير متيسّرة، فالإنسان يقضي حياته كلها توّاقاً إلى الجواب الشافي .. "وشرف حياة الإنسان هو عناؤه نحو ما يتجاوز كل منزلة يصلها، لذلك يبقى يجاهد دائماً في حيرة وتساؤل وعدم رضا بما يلقاه، فلا يتوقف بل يسير دون أن ينتهي به السير، ودون أن يبلغ طريقاً نهائياً، وتلك مأساته التي يعبّر عنها الأدب أصدق تعبير، فالأدب مأساة أو لا يكون".

ولد المسعدي في "تازركة" من محافظة نابل التونسية في نهاية الشهر الأول من العام 1911، ونشأ منذ طفولته على حفظ القرآن في كتّاب القرية بفضل حرص والده الذي ربّاه على أن "الوجود الكريم مغامرة طهارة جزاؤها طمأنينة النفس الراضية في عالم أسمى فأسمى. ثم زاول تعليمه الابتدائي بالفرع الصادقي في العاصمة (1921 – 1926)، وتعليمه الثانوي بالمعهد الصادقي (1926 – 1932) فتحصل على دبلوم ختم الدروس والجزء الأول من البكالوريا، وتحصل على الجزء الثاني بمعهد كارنو العام 1933.

وقد تشبّع في هذه المرحلة من حياته الدراسية بالاطلاع على أمهات كتب التراث العربي.
وكان سفره إلى باريس منعطفاً مهماً في حياته الأدبية والعلمية، فقد استطاع أن يتعمق في دراسة الأدب الغربي من خلال دراسته في كلية الآداب بجامعة السوربون العام 1933، فتخرج منها في اختصاص اللغة والآداب العربية بشهادات الإجازة 1936، والدراسات العليا 1946، و"التبريز" 1947، وسجل موضوع دكتوراه دولة يتركب من أطروحة رئيسة حول "مدرسة أبي نواس الشعرية" وأطروحة تكميلية حول "الإيقاع في السجع العربي".

وواكب المسعدي في باريس التيارات الأدبية والفكرية والفنية، وقرأ لأعلام الحداثة الغربية فآمن باتساع أفق المعرفة، حتى أصبح لنصّه عمق فلسفي لا يمكن إغفاله.

وانخرط المسعدي في الكفاح الوطني من أجل تحرير تونس، فانتمى إلى الحزب الحر الدستوري التونسي منذ العام 1933، وكلف في نطاق حركة التحرير الوطني بشؤون التعليم، وآمن بالعمل النقابي فانتمى إلى الاتحاد التونسي للشغل، وانتخب رئيساً للجامعة القومية لنقابات التعليم، وأميناً عاماً مساعداً للمنظمة التشغيلية (1948 – 1954)، ونفته السلطات الاستعمارية الفرنسية بسبب نشاطه السياسي والنقابي إلى الجنوب التونسي في كانون الأول من العام 1952 غداة اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشّاد، وبعد عام شارك في المفاوضات التونسية الفرنسية التي أفضت إلى الاستقلال الداخلي العام 1955.

زاول المسعدي التدريس مدركاً أهمية التعليم في بناء المجتمع، ثم عيّن مديراً للتعليم بوزارة المعارف (1955 – 1958)، ثم متفقداً عاماً لتعليم الثانوية، إلى حد تقلد مسؤولية وزارة التربية فأدخل إصلاحات جذرية في المنظومة التربوية، ووضع البرنامج القومي للتعليم التونسي بخصائصه المحافظة على الثقافة القومية مع انفتاحه على الثقافة الغربية، معتبراً أن الاستثمار في التعليم ضرورة ملحمة مثل الاستثمار الاقتصادي والاجتماعي، كما ساهم في إنشاء نواة الجامعة التونسية منذ العام 1960، وأصدر قانونها الأساسي، وأحدث كلياتها ومعاهدها، ما أهله ليكون مساهماً في أنشطة اليونسكو.

يذكر أن المسعدي قاد مجموعة لبث الحياة في مجلة "المباحث" التي كان أسسها الأديب التونسي محمد البشروش، وتوقفت العام 1938 لأسباب مالية، فحوّل خطّها التحريري، ووسع من أفقها بعد أن كانت تختصّ بالأدب فحسب، وبث فيها مقومات الذاتية العربية الإسلامية في مرحلة خاض فيها الشعب التونسي بكامل مكوناته كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي، وكافح ضد محاولات طمس هويته، وهنا قامت مجلة "المباحث" التي استمر صدورها برئاسة تحرير المسعدي إلى غاية العام 1947، بتدعيم الكفاح التحريري الوطني التونسي بالخطاب الثقافي الداعم لمشروعية قضيته.

ولا يستقر أدب المسعدي على دلالة يجمع عليها النقاد فأدبه مفتوح على التأويل والقراءة، ويقدم مستويات دلالية مختلفة ونسيجاً رمزياً واسعاً، وهو ما ألمح إليه الأديب المصري طه حسين في محاضرة له ألقاها في تونس العام 1957 عن أدب المسعدي، بقوله: "قرأت السدّ مرّتين، واحتجت إلى قراءة ثالثة".

وتعددت المعاني والدلالات في نصوصه إلى درجة الألغاز أحياناً، فاستدعت فك الشفرات لطبيعتها الرمزية .. وقال عنه الناقد توفيق بكار: ذاك الذي أعطى لحياتنا الثقافية والتربوية في تونس المعاصرة معنى يفيض بالحياة وينبض بالإبداع، المسعدي لم يكن شخصاً عادياً، ولا كاتباً كُتبيّاً، ولا مفكراً سطحياً، ولا إنساناً منسياً، فالآثار الأدبية الفذّة تخلد وتستمر لأنها تظل مع الأيام قادرة على تحريك السواكن والإثارة، وعلى إحداث رد الفعل، وهي إنما تقدر على ذلك لأنها في حوار مفتوح مع القراء.

وتعكس أدبيات المسعدي موقفه من الكتابة والحياة معاً، فهو لا يرى في التجربة الذهنية مسلكاً حقيقياً لتجربة الحياة، لذا فإن أبطاله في نصوصه يعبّرون عن هذه التجارب الواقعية التي تجعل من كل بطل مرآة للإنسان المعاصر، فالأدب العريق في رأيه يتشكل حين ينصرف عن الزخرف اللفظي وعن اللغو والخداع ويكون مرآة صادقة للتجربة الإنسانية.

ولا يرى المسعدي فرقاً بين الأدب والفلسفة، فالفرق شكلي أما الجوهر فواحد، ووظيفة الأدب فلسفية وهي تساؤل الإنسان عن الإنسان وعن منزلته في الوجود، ولذلك انصرف إلى دراسة مؤلفات المفكرين والفلاسفة أمثال الغزالي ومحمد عبده ومحمد إقبال والتوحيدي وابن خلدون.
وقد تجلّى فكر فلاسفة الوجود في كتاباته كنيتشه على وجه الخصوص، واتضحت في تأملاته شظايا القضايا الوجودية المتعلقة بالوجدان والغيب والواقع والعجز والإرادة، حتى اعتبر الأدب فلسفة وجدانية.

ولم يتوقف المسعدي عن الافتخار بالذاتية التونسية إلا أنه كان يراها على الدوام في ارتباط بالعروبة والإسلام باعتبارهما أساسين للذاتية، وقد نادى بألا يكون الفهم للأدب التونسي ضيّقاً، بل تمنى أن يكون هذا الأدب فرعاً للأدب العربي الذي يكون بدوره فرعا للأدب العالمي، واعتقد أن الأدب المحلي ليس له قيمة دون أن يكون جزءاً من ثقافة أشمل تقوم بدورها الإنساني، هو الذي تجنّب أن يكون مثقفاً تقليدياً أو أن يكون فرانكفونياً، بل أصّل مباحثه فتخلص من حالة الازدواج، رغم تجربته المزدوجة في الدراسة أيضاّ ما بين المدرسة الصادقية وجامعة السوربون، كما رفض التقليد الأعمى في الأدب ودعا إلى استفادة "الكاتب الحديث" من التراث عن طريق عملية إحياء تحرّر القيم الحيوية التي قام عليها الأدب العربي القديم فشكلت عبقريته الفذة.

والحرية شرط أساسي في عملية الإبداع عند المسعدي، فهو يراها مقدسة، حيث يجب ألا ينحصر الأديب في أيديولوجية محددة أو مذهب فكري معيّن، فالثقافة قائمة على الحرية ومن تعريف المثقف أنه حر، وهو ما جعله يخاطب الكاتب الفرنسي أندري مالرو حين كان وزيراً لثقافة فرنسا داعياً إياه إلى التدخل من أجل إزالة حرية الكتابة وإزالة الرقابة وتحرير الأقلام من القيود المضروبة عليها، فالحرية في مفهومه "ملابسة لجبلّة الفكر وجوهر العقل ولا وجود لأدب يقوم على مبدأ عبودية الفكر أو يدعو إلى استرقاقه".

جدير بالذكر أن محمود المسعدي أصدر أربعة كتب في الإبداع، واثنين في النقد والبحث العلمي، وله عديد المقالات والدراسات في دوريات ومجلات تونسية وعربية، وعلى قلة إنتاجه فإنه شغل الناس والنقاد والأدباء، وعُدّت كتاباته أحد منعرجات الأدب العربي الحديث.

والحديث عن المسعدي يطول، وأختمه بما قاله ذات يوم عن زوجته شريفة الملياني التي كانت أول مناضلة نقابية، هي التي وصفها ببطلة واقعه ورفيقة دربه التي أرادت أن تكون، وأنها شكلت كينونته وأثرته، فكانت خير ند وخير عون ورفيق وخير نصف من حياة مريبة برزت كأخبر خبير بمعدن النشء، وتفجير معين العقل والإيمان فيه.




بديعة زيدان


أعلى