كنت في باريس عندما اندلعتْ نيران الحرب الأهلية في إسبانيا، وكنت من الناس الذين أدركوا من أول وهلة خطورة هذه الحرب التي يتوقف على نتيجتها إلى حد كبير مصير البشرية بأسرها.
عرفت لأول وهلة أن فرانكو، عبد الفاشستية الألمانية والايطالية، قد أعلن العصيان على الديمقراطية الإسبانية وخرج على شعبه، وأنه لن يتردد في تقديم بلاده لقمةً سائغة للمستعمرين الأجانب لقاء مساعدتهم له بالمؤن والذخائر والجيوش.
ولاحظت أنّ الذين يتطوعون في صفوف الجمهوريين ويؤلفون الجيش الأممي، هم خليط من فرنسيين وإنكليز وإيطاليين، وأحباش، وأميركان، وصينيين، ويابان، وأنّ فرقاً من العرب أيضاً توافدوا من مختلف الأقطار العربية، فقلت لنفسي: حقاً ليس هنالك ما يدعو إلى استثناء العرب من التطوّع. أوَ لسنا نحن أيضاً طلاب حرية وديمقراطية؟ وهلّا يتاح لمراكش العربية أن تنال حريتها الوطينة إذا اندحر الجنرالات الفاشيست؟
هلّا يؤدّي تغلّب القوى الشعبية الديمقراطية الإسبانية على القوى الإيطالية الفاستشية إلى إنقاذ طرابلس الغرب العربية من براثن الطاغية موسوليني؟
هلّا يؤدّي انتصار الجمهوريين الإسبان على المستعمرين الألمان والطليان إلى رجحان كفة الديمقراطيين أنصار الشعوب المظلومة في كل أنحاء العالم؟
لم يطُلْ بي الأمر وبعد أيام كنت في طريقي إلى إسبانيا..
كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل لمّا وصلنا المدينة الاسبانية الواقعة على الحدود. وقفنا أمام أحد البيوت وكان يشّع بالأنوار الكهربائية، يرفرف عليه علم الجمهورية بألوانه الأزرق والأصفر والأحمر، وعلم الاشتراكيين والشيوعيين واتحاد النقابات العام بلونه الأحمر.
اين هي كارمن؟
دخلنا البيت، وإذ بطائفة من فتيان الميليشيا «جيش من الشعب» الجمهورية مدججين بالسلاح، أكثرهم في لباس العمال الأزرق، وعلى رأسهم طاقية سوداء تشبه «السدارة» العراقية تدلّت من طرفها الأمامي شرابة حمراء. في هذا البيت حركة غير طبيعية.
فتيان وفتيات، رجال ونساء، يتوقدون حماسةً: هذا ينظّف سلاحه وتلك تضرب على الآلة الكاتبة، وهذا يتفقد جوازات المرور، وذاك جاء أمس من ميادين القتال وهو يدلي بأخباره الممتعة؛ وهذا جاء ليتلقى التعليمات.
هنا مشهد يبعث الرعشة في القلب، رعشة السرور والحماة: لقد لبست الفتاة الاسبانية لباس أفراد الميليشيا، وحملت البندقية على كتفها، وتمنطقت بحزام الرصاص وسارت مع الفتيان الإسبانيات للدفاع عن الحرية المقدّسة!
أين هذه الفتاة الاسبانية المسلّحة، بملبسها الخشن، وعيشها القاسي من «كارمن» الاسبانية الناعمة التي نراها على مسرح أوروبا، وقد جعّدت شعرها وغرزت فيه دبّوساً كبيراً في رأسه لؤلؤة وهّاجة، ورمت على كتفها شالاً أسود وراحت تغنّي وتعربد وتلعب بعقول أصحاب الملايين، بين أقداح الشمبانيا؛ ولا تعرف من الحياة سوى اللهو، والخفة والطيش والتيه بجسمها البض، وخصرها النحيف، وشعرها المتموج!
كلا! لم تعد كارمن هذه تمثل إسبانيا، بل هي لم تمثل أبداً إسبانيا الحقيقية، وما كانت الا تمثالاً لإسبانيا كما يريدها كبار الإقطاعيين الإسبان! أما إسبانيا الحقيقية فهي هذه الفتاة عضو الميليشيا. عنوان المدنية والتقدم!
«كارمن» الطائشة مسلّية الحكّام الإسبان البارحة هي اليوم «كارمن» المسلّحة التي تشجع أبطال الحرية بنظراتها وقوّتها وتفاؤلها، كارمن التي تواسي المناضلين الجرحى، وتلهب الحماسة وروح التضجية في صدور المتطوعين الذين يقاتاون في سبيل حماية كيانهم الوطني واستقلال بلادهم من خطر السيطرة الاستعمارية الهتلرية الموسولينية.
علّقت على الجدران بين كل مسـافة وأخرى خارطة إسبانيا غُرِزت فـي القسم الجمهوري منها دبابيـس ذات طبعة حمراء وفي القسم الفاشسـتي منها دبابيس ذات طبعة سـوداء. وقد وقف جمهور غفير حول هذه الخـرائط يتناقش بحدّة عن سير الحركات العســكرية. علّقت على الجدران بين كل مسـافة وأخرى خارطة إسبانيا غُرِزت فـي القسم الجمهوري منها دبابيـس ذات طبعة حمراء وفي القسم الفاشسـتي منها دبابيس ذات طبعة سـوداء. وقد وقف جمهور غفير حول هذه الخـرائط يتناقش بحدّة عن سير الحركات العســكرية.
ركبت القطار الذاهب إلى برشلونة. وكان المسافرون من المتطوعين كثيرين والمودّعون أكثر.. يا لها من ذكريات سترافقني ما دمت حياً، عجوز أناخ عليها الدهر جلست بجانب فلذة كبدها تودّعه والدموع تنهمر من عينيها الذابلتين، تشجعه وتحثّه على القتال في سبيل إنقاذ الجمهورية من فظائع عصابة العسكريين الفاشست. وفتاة في ريعان الصبا انفردت بحبيبها وأخذت تخاطبه بصوت خافت، وفي نظراتها من الرقّة والحنان ما لا يوصف، وها هي تنتزع من جيدها قلادة دقيقة الصنع وتثبتها حول عنقه ثم يتعانقان طويلاً طويلاً ويفترقان رويداً رويداً تبعاً لحركة القطار الذي أخذ في المسير. يفترقان على ألا يتلاقيا، إلا بعد أن تستعيد إسبانيا الديمقراطية حرّيتها. والّا فلن يتلاقيا أبداً!
القطار مزدحم. وفي كل جوانبه وعلى كل جدرانه إعلانات مصورة: هنا فتاة لبست (البنطلون) وشمرّت عن ساعديها، وعلى رأسها الطاقية ذات الشرابة الحمراء، وقد رفعت بيدها اليسرى بندقيتها إلى فوق رأسها، ومدّت يدها اليمنى مشيرة إلى الأمام وهي تقول: «أيها المواطن! إنك تستطيع حمل السلاح، وبلادك بحاجة إليك، فلماذا لا تدخل في سلك الميليشيا؟».
وهذا إعلان آخر يرينا عدة سواعد نحاسية اللون أكفّها مقبوضة مرفوعة إلى فوق، وقد كتب في أسفلها: «القوة بالاتحاد!».
وهذه صورة ثالثة: عامل رفع بندقيته بيده الواحدة وأمسك بالثانية يد رجل آخر يرتجف وجلاً وهو يقول له: «النهب عمل غير شريف وسوف أعاقبك عليه بشدة!».
أيّ روح وثّابة هذه؟ وأي نظام وثقافة يظهرهما هذا الشعب عفواً دون سابق تدريب واستعداد! إن شعباً هذه صفاته، لن يغلب على أمره حتى ولو تألّبت عليه كل القوى الفاشستية الآثمة الغاشمة.
بين دمشق وبرشلونة!
أنا في برشلونة: برشلونة الفخمة، العريقة بالمدنية، الحافل تاريخها بالنهضات التحريرية. رحت أتجول في الشوارع وفي كل خطوة ما يسترعي انتباهي ويثير إعجابي وحماستي ودهشتي. هذه شرذمة من رجال الميليشيا الأشداء. إنهم يقتربون مني ويحدّقون بي وفي أعينهم بريق جميل وغريب، إنه بريق القوة والنشاط والثقة والتفاؤل. وتقدّم رئيسهم مني، وقد ظنني دون ريب إسبانيولياً، فقال باللغة الإسبانية: لماذا لا تدخل في صفوف الميليشيا؟ فابتسمت وأجبته بالفرنسية إنني متطوع عربي جئت لأدافع عن حرية العرب في جبهة مدريد...! جئت لأدافع عن دمشق في ميدان وادي الحجارة، وعن القدس في مدينة قرطبة، وعن بغداد في ميدان طليطلة، وعن القاهرة في ميدان الأندلس، وعن تطوان في ميدان بورغوس.. فلاحت على وجهه أمارات الدهشة والسرور وقال بفرنسية لا بأس بها:
- أحقاً أنت عربي. أنت «مورو» أي مغربي ــ؟ هذا مستحيل! إنّ المغاربة يسيرون مع الأسقياء الفاشست، يهاجمون مدننا، يقتلوننا، ينهبوننا، ويغتصبون نساءنا.
- فأجبته: صحيح أن بعض المغاربة يسيرون مع الجنرالات العسكريين الرجعيين؛ مع الذين قمعوا في سنة ١٩٢٥ ثورة عبد الكريم وفتكوا بأهلهم، مع الذين سلبوا خيرات بلادهم، ولكنهم يسيئون بعملهم هذا إلى العرب والإسلام. وهم لا يمثّلون العرب والاسلام بعملهم، فهم مخدوعون؛ خدعهم فرانكو وأعوانه السفاحون، بالاشتراك مع بعض زعماء المغاربة الآثمين الذين باعوا أنفسهم، ونسوا عروبتهم وخانوا روح الإسلام. وأرسلوا شعبهم لخدمة أكبر الاستعماريين وأفظعهم.
استغرب رئيس شرذمة الميليشيا ما سمعه مني وأخذ يهزّ رأسه يمنةً ويسرةً كأنه غير مصدّق أو كأنه يرتاب في أن الذي يخاطبه هو من أبناء يعرب.
- فقلت له: إني لست العربي الوحيد هنا! فهناك كثيرون الآن في الجيش الأممي وسيأتي غيرنا أيضاً. بل إن العرب الموجودين في صفوف فرانكو الآن، لا بد أن تتفتح عيونهم، فيركنوا إلى الفرار وينضمّوا إلى قواتكم. بل إنني أعلم أن هناك كثيرين قد تفتحت عيونهم يترقبون الفرص السانحة للفرار إلى معسكر الجمهورية، وهناك في بلادنا العربية ٧٠ مليون عربي لا يعطفون إلا على الجمهورية الاسبانية، ولا يناصرون إلا الديمقراطية لأنّ مدنيتهم العربية، وتقاليدهم التاريخية الشريفة مبنيّة على الديمقراطية الحقة.
فظهر السرور على وجه الرئيس وعلى وجوه شرذمته. ولم نلبث أن تعانقنا وأخذوا يحيّوني «بالطبطبة» على الأكتاف، وهي عادة إسبانية مستحبّة جميلة، ثم هزّوا يدي مصافحين قائلين: «إلى الملتقى في الجبهة الوسطى، إلى الملتقى في طليطلة». لا تنس أنك في دفاعك عن (الكازادي توليدو ) إنما تدافع عن أجمل ما تركه أجدادكم العرب من آثار خالدة!
تابعت السير في برشلونة فلاحظت غلياناً في حياة هذه المدينة العظيمة: روح جوانية لا توصف، حماسة وأعلام حمراء ترفرف في كل مكان بجانب أعلام الجمهورية، بضاعة جديدة تباع على الأرصفة، طاقيات بشرّابات حمراء، أزرار، ونجوم، ودنتلات حريرية لوّنت بألوان تمثل مختلف الأحزاب السياسية. وقد علّقت على الجدران بين كل مسافة وأخرى خارطة إسبانيا غُرِزت في القسم الجمهوري منها دبابيس ذات طبعة حمراء وفي القسم الفاشستي منها دبابيس ذات طبعة سوداء. وقد وقف جمهور غفير حول هذه الخرائط يتناقش بحدّة عن سير الحركات العسكرية.
لن أقطع مئة متر في مسيري إلا وأنا في ساحة «قطالونيا» مركز مدينة برشلونة وقلب حركتها التجارية. فهنالك المصارف المالية والمخازن الكبرى، ودُور القناصل أصحاب الملايين، والوكالات التجارية، وفنادق كبار السائحين.
في الناحية الشمالية من هذه الساحة قامت عمارة هائلة معروفة باسم «أوتيل كولون» كانت في بدء العصيان الفاشستي معقلاً للحرس الملكي الإسباني وحصناً للفرق الفاشستية العاصية؛ غير أنه لما فاز الشعب على الخوَنة أصدرت حكومة قطالونيا مرسوماً يقضي بوضع هذا الأوتيل تحت تصرف الحزب الاشتراكي الموحّد في قطالونيا وعلى هذه البناية لوحة يناهز عرضها ٢٠ متراً كتبت عليها العبارة الآتية:
«الحزب الاشتراكي الموحد فرع الأممية الشيوعية P.S.O.- P.C.E.- U.S.C.- P.O.C»، أطلقوا على هذا الحزب اسم الحزب الموحد لأنه نشأ من اندماج أربعة أحزاب عمال توحدت أخيراً على أثر الفتنة الفاشستية وانضمت إلى الأممية الثالثة. أما الأحرف اللاتينية المنشورة أعلاه فتدلّ على أسماء هذه الأحزاب الموحدة، أولها، وهو «حزب العمال الاشتراكي»، وقد انسحب من الاممية الثانية وثانيها هو «الحزب الشيوعي القطالوني». وثالثها هو «الاتحاد الاشتراكي القطالوني». ورابعها وهو: «حزب العمال».
التطوع في كولون
دخلت «أوتيل كولون» طالباً الزيارة كمتطوع أجنبي ولم أكد أضع قدمي في المدخل الرئيسي حتى اعترضني الحرس المسلح وطلب مني الوثائق فأظهرت له أوراقي، وبعد الفحص أذنوا لي بالدخول.
صعدتُ إلى الطابق الأول والثاني فالثالث فهالني ما شاهدت: شاب مسلح وهو كشعلة من نار: شعارات، وأوامر وصور ثورية متنوعة أُلصقت على الجدران بدون ترتيب. حركة عظيمة، الكل مسرع، واينما اتجهت لا تسمع إلا كامارادا.. كوليجيا كومبانيونا، اي يا رفيقي، يا زميلي، يا صاحبي!
استوقفت أحدهم وطلبت منه أن يجمعني بالسكرتير أو وكيله ويعرّفني به كمتطوع عربي جاء ليشدّ أزر الحكوميين فاقتادني إلى غرفة وكيل السكرتير، وبعد الاستئذان دخلت على الرجل فسلّم عليّ سلاماً عسكرياً صرفاً لكنه لا يخلو من علائم الودّ والترحيب.
- قلت له: أنا متطوع عربي قدمت اليوم فقط وبما أنني أجهل الوضعية الحاضرة وكان هذا في شهر آب سنة ١٩٣٦ في قطالونيا فرجائي أن تحيطوني علماً ببعض المعلومات، فانفرجت أساريره عن ابتسامة خفيفة لطيفة
- وقال: أهلاً بالتطوع العربي الكريم.
أهلاً بحفيد مشيّدي قصر الحمراء. أهلاً بحفيد الذين مكثوا في ديارنا ٨٠٠ سنة! تأمّلْني قليلاً، ألا ترى أنني أشبه العرب أكثر منك، أنا عربي الأصل واسمي اسماعيل رباراز؟
- قلت: يسرّني جداً ما أسمعه منكم ولي الشرف بالتعرف إليكم.
- قال: والآن ما هي الأمور التي تودّ معرفتها؟
- قلت: شيء عن تاريخ حركتكم التحريرية القطالونية وكلمة إجمالية عن الوضعية العسكرية الحاضرة.
- قال: لك ما تريد: نحن القطالونيين شعبٌ قائم بذاته، لنا ثقافتنا الخاصة ولهجتنا الخاصة، ولنا نضال طويل ضد سادة قشتالية بذلنا فيه الدماء الغزيرة في سبيل استقلالنا الوطني. غير أنني أقول لك بأنه لا يمكن لقطالونيا أن تعيش بلا إسبانيا الداخلية. فالاستقلال الذي نريده هو الاستقلال الداخلي (أوتونومي) على أن نشترك فعلياً في السياسة العامة التي تنتهجها السلطات المركزية.
بلادنا هي مركز الصناعة الضخمة ومهد طبقة العمال، ومبعث حركتهم النقابية، فكان من البديهي أن نراها قد سبقت كل المقاطعات الإسبانية بتأسيس الأحزاب السياسية والنقابات الحرفية للطبقة العاملة. أما مميزات حركة العمال عندنا، فهي أنّ هؤلاء لم يفتحوا أعينهم إلا وهُم في أحضان الفوضوية المتغذية بتعاليم ميخائيل باكونين وخليفته البرنس كروبوتكين.
لعالمنا اليوم أحزاب مختلفة لها نظريات متنوعة غير أنها توحّدت أخيراً في حزب واحد غايته محاربة الفاشستية بالسلاح. وأنا جدّ سعيد برؤية هذه الوحدة التي كنت أحلم بها طوال أيام حياتي. غير أنني أقول لك والأسف يملأ قلبي: إن منظمات العمال الفوضوية لا تزال بعيدة عنا.
بعدما حاول الفاشست الاستيلاء على السلطة وأتيح لنا قمع محاولتهم بشدة، انحاز إلى جانبهم كل رجال الصناعة الضخمة، والاقطاعيون وطغاة المال من أرباب البنوك وسواهم من اصحاب الامتيازات الجائرة، وصاروا يقاتلون العمال في الشوارع ويطلقون الرصاص على الجماهير من نوافذ قصورهم، فأجابتهم الجماهير المدافعة بالمثل فقُتل منهم مَن قُتل وسجن من سجن وفرّ من فر.
فلمّا استتبّ الأمن، وعادت المياه إلى مجاريها، رأت الحكومة الجمهورية أنها أمام الأمر الواقع، وهو أنّ دور الصناعة الضخمة خالية من الرأسماليين، فترتب آنذاك على النقابات أن تضع يدها على تلك الدُور بعدما تركها أصحابها وخانوا وطنهم وإنضمّوا إلى الأعداء، وتُدير شؤونها بواسطة لجان من العمال. وعليه، إن الصناعة الضخمة في قطالونيا مصادرة والحكومة هي التي تعتني بأمر الإنتاج وتصريف المنتوجات.
وليست هذه الحالة وهذه التدابير من صميم الاشتراكية، إنما هي حالة خاصة أوجدتها الحرب الأهلية وسببها المباشر انحياز كبار الرأسماليين إلى جانب القضاة الفاشست. أقول إنها ليست بالاشتراكية لأنّ النظام الحاضر في قطالونيا هو نظام جمهوري لا يمسّ مبدئياً الملكية الفردية لدور الصناعة، فالمصادرة التي ذكرتها لكم هي مصادرة إضطرت إليها الحكومة اضطراراً وهي عقاب للخوَنة الذين انضمّوا إلى جانب أعداء الشعب.
خذ مثلاً المدعو «خوان مارش»، فهو متموّل كبير، يملك الكثير من البيوتات الصناعية والتجارية في إسبانيا ومراكش وجزر الباليار، فهذا الرجل هو من أكبر من يمدّون أعداء الجمهورية بالأموال الطائلة.. أفلا يجب على الحكومة أن تصادر أملاكه؟
وإنني أؤكد لكم أننا لم نمسّ التجارة الأهلية ولا الصناعة الخفيفة لأن أصحابها جمهوريون ديمقراطيون يناضلون في صفوف الشعب ضد الجنرالات العصاة.
وهنا توقف محدّثي ونظر إليّ صامتاً منتظراً أن ألقي عليه ما عندي من أسئلة أخرى فأدركت منه ذلك وقلت له:
- كيف الحالة الآن في جبهة ساراغوسا؟
- هي سارّة جداً وسيتحول موقفنا قريباً من الدفاع
إلى الهجوم.
- ما رأيكم بمستقبل الحرب وفي أي جانب سيكون النصر!
- ستطول الحرب الأهلية بسبب تدخّل ألمانيا وإيطاليا. ولكن النصر سيكون حليفنا بلا شك.
- هل تساعدون الحكومة المركزية بالمصنوعات الحربية؟
- يعمل الحزب الاشتراكي الموحّد كل ما بوسعه لمساعدة الحكومة المركزية بما تخرجه مصانعنا من دبابات ومصفحات ومدافع وقنابل، لكن العناصر الفوضوية تعاكس أمر المساعدات إلى حد ما، بحجة أن هذه الاشياء لازمة فقط للدفاع عن قطالونيا!
- ما رأيكم بمستقبل الفوضوية الإسبانية!
- الفوضويون قوة كبيرة هنا. غير أنهم يتمكسون بالقشور دون اللبّ يا عزيزي، والمستقبل كفيل يحل مشكلتهم.
وعلى ذلك انتهى حديثي مع السنيور اسماعيل رباراز، فودّعته شاكراً على المعلومات النفيسة التي أدلى بها إليّ، وما كدت أخرج من غرفته حتى لحق بي وسألني ضاحكاً: هل تودّ مقابلة شاب يتكلم العربية؟ فقلت: بكل امتنان. وما هي إلا دقائق حتى دخل علينا شاب في نحو العشرين من العمر ضحوك، خفيف الحركة بادرني بالسؤال: أنت تعرف العربية؟ فأجبته بالإيجاب وسألته بدوري: وأنت كيف تعلمتها؟ فردّ علي بلغة عربية مهشمة بأن أمّه عربية وأباه إسباني وأنه كان في مراكش، والجزائر ومالطه إلخ. وكان بيننا حديث ممتع.
عرفت لأول وهلة أن فرانكو، عبد الفاشستية الألمانية والايطالية، قد أعلن العصيان على الديمقراطية الإسبانية وخرج على شعبه، وأنه لن يتردد في تقديم بلاده لقمةً سائغة للمستعمرين الأجانب لقاء مساعدتهم له بالمؤن والذخائر والجيوش.
ولاحظت أنّ الذين يتطوعون في صفوف الجمهوريين ويؤلفون الجيش الأممي، هم خليط من فرنسيين وإنكليز وإيطاليين، وأحباش، وأميركان، وصينيين، ويابان، وأنّ فرقاً من العرب أيضاً توافدوا من مختلف الأقطار العربية، فقلت لنفسي: حقاً ليس هنالك ما يدعو إلى استثناء العرب من التطوّع. أوَ لسنا نحن أيضاً طلاب حرية وديمقراطية؟ وهلّا يتاح لمراكش العربية أن تنال حريتها الوطينة إذا اندحر الجنرالات الفاشيست؟
هلّا يؤدّي تغلّب القوى الشعبية الديمقراطية الإسبانية على القوى الإيطالية الفاستشية إلى إنقاذ طرابلس الغرب العربية من براثن الطاغية موسوليني؟
هلّا يؤدّي انتصار الجمهوريين الإسبان على المستعمرين الألمان والطليان إلى رجحان كفة الديمقراطيين أنصار الشعوب المظلومة في كل أنحاء العالم؟
لم يطُلْ بي الأمر وبعد أيام كنت في طريقي إلى إسبانيا..
كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل لمّا وصلنا المدينة الاسبانية الواقعة على الحدود. وقفنا أمام أحد البيوت وكان يشّع بالأنوار الكهربائية، يرفرف عليه علم الجمهورية بألوانه الأزرق والأصفر والأحمر، وعلم الاشتراكيين والشيوعيين واتحاد النقابات العام بلونه الأحمر.
اين هي كارمن؟
دخلنا البيت، وإذ بطائفة من فتيان الميليشيا «جيش من الشعب» الجمهورية مدججين بالسلاح، أكثرهم في لباس العمال الأزرق، وعلى رأسهم طاقية سوداء تشبه «السدارة» العراقية تدلّت من طرفها الأمامي شرابة حمراء. في هذا البيت حركة غير طبيعية.
فتيان وفتيات، رجال ونساء، يتوقدون حماسةً: هذا ينظّف سلاحه وتلك تضرب على الآلة الكاتبة، وهذا يتفقد جوازات المرور، وذاك جاء أمس من ميادين القتال وهو يدلي بأخباره الممتعة؛ وهذا جاء ليتلقى التعليمات.
هنا مشهد يبعث الرعشة في القلب، رعشة السرور والحماة: لقد لبست الفتاة الاسبانية لباس أفراد الميليشيا، وحملت البندقية على كتفها، وتمنطقت بحزام الرصاص وسارت مع الفتيان الإسبانيات للدفاع عن الحرية المقدّسة!
أين هذه الفتاة الاسبانية المسلّحة، بملبسها الخشن، وعيشها القاسي من «كارمن» الاسبانية الناعمة التي نراها على مسرح أوروبا، وقد جعّدت شعرها وغرزت فيه دبّوساً كبيراً في رأسه لؤلؤة وهّاجة، ورمت على كتفها شالاً أسود وراحت تغنّي وتعربد وتلعب بعقول أصحاب الملايين، بين أقداح الشمبانيا؛ ولا تعرف من الحياة سوى اللهو، والخفة والطيش والتيه بجسمها البض، وخصرها النحيف، وشعرها المتموج!
كلا! لم تعد كارمن هذه تمثل إسبانيا، بل هي لم تمثل أبداً إسبانيا الحقيقية، وما كانت الا تمثالاً لإسبانيا كما يريدها كبار الإقطاعيين الإسبان! أما إسبانيا الحقيقية فهي هذه الفتاة عضو الميليشيا. عنوان المدنية والتقدم!
«كارمن» الطائشة مسلّية الحكّام الإسبان البارحة هي اليوم «كارمن» المسلّحة التي تشجع أبطال الحرية بنظراتها وقوّتها وتفاؤلها، كارمن التي تواسي المناضلين الجرحى، وتلهب الحماسة وروح التضجية في صدور المتطوعين الذين يقاتاون في سبيل حماية كيانهم الوطني واستقلال بلادهم من خطر السيطرة الاستعمارية الهتلرية الموسولينية.
علّقت على الجدران بين كل مسـافة وأخرى خارطة إسبانيا غُرِزت فـي القسم الجمهوري منها دبابيـس ذات طبعة حمراء وفي القسم الفاشسـتي منها دبابيس ذات طبعة سـوداء. وقد وقف جمهور غفير حول هذه الخـرائط يتناقش بحدّة عن سير الحركات العســكرية. علّقت على الجدران بين كل مسـافة وأخرى خارطة إسبانيا غُرِزت فـي القسم الجمهوري منها دبابيـس ذات طبعة حمراء وفي القسم الفاشسـتي منها دبابيس ذات طبعة سـوداء. وقد وقف جمهور غفير حول هذه الخـرائط يتناقش بحدّة عن سير الحركات العســكرية.
ركبت القطار الذاهب إلى برشلونة. وكان المسافرون من المتطوعين كثيرين والمودّعون أكثر.. يا لها من ذكريات سترافقني ما دمت حياً، عجوز أناخ عليها الدهر جلست بجانب فلذة كبدها تودّعه والدموع تنهمر من عينيها الذابلتين، تشجعه وتحثّه على القتال في سبيل إنقاذ الجمهورية من فظائع عصابة العسكريين الفاشست. وفتاة في ريعان الصبا انفردت بحبيبها وأخذت تخاطبه بصوت خافت، وفي نظراتها من الرقّة والحنان ما لا يوصف، وها هي تنتزع من جيدها قلادة دقيقة الصنع وتثبتها حول عنقه ثم يتعانقان طويلاً طويلاً ويفترقان رويداً رويداً تبعاً لحركة القطار الذي أخذ في المسير. يفترقان على ألا يتلاقيا، إلا بعد أن تستعيد إسبانيا الديمقراطية حرّيتها. والّا فلن يتلاقيا أبداً!
القطار مزدحم. وفي كل جوانبه وعلى كل جدرانه إعلانات مصورة: هنا فتاة لبست (البنطلون) وشمرّت عن ساعديها، وعلى رأسها الطاقية ذات الشرابة الحمراء، وقد رفعت بيدها اليسرى بندقيتها إلى فوق رأسها، ومدّت يدها اليمنى مشيرة إلى الأمام وهي تقول: «أيها المواطن! إنك تستطيع حمل السلاح، وبلادك بحاجة إليك، فلماذا لا تدخل في سلك الميليشيا؟».
وهذا إعلان آخر يرينا عدة سواعد نحاسية اللون أكفّها مقبوضة مرفوعة إلى فوق، وقد كتب في أسفلها: «القوة بالاتحاد!».
وهذه صورة ثالثة: عامل رفع بندقيته بيده الواحدة وأمسك بالثانية يد رجل آخر يرتجف وجلاً وهو يقول له: «النهب عمل غير شريف وسوف أعاقبك عليه بشدة!».
أيّ روح وثّابة هذه؟ وأي نظام وثقافة يظهرهما هذا الشعب عفواً دون سابق تدريب واستعداد! إن شعباً هذه صفاته، لن يغلب على أمره حتى ولو تألّبت عليه كل القوى الفاشستية الآثمة الغاشمة.
بين دمشق وبرشلونة!
أنا في برشلونة: برشلونة الفخمة، العريقة بالمدنية، الحافل تاريخها بالنهضات التحريرية. رحت أتجول في الشوارع وفي كل خطوة ما يسترعي انتباهي ويثير إعجابي وحماستي ودهشتي. هذه شرذمة من رجال الميليشيا الأشداء. إنهم يقتربون مني ويحدّقون بي وفي أعينهم بريق جميل وغريب، إنه بريق القوة والنشاط والثقة والتفاؤل. وتقدّم رئيسهم مني، وقد ظنني دون ريب إسبانيولياً، فقال باللغة الإسبانية: لماذا لا تدخل في صفوف الميليشيا؟ فابتسمت وأجبته بالفرنسية إنني متطوع عربي جئت لأدافع عن حرية العرب في جبهة مدريد...! جئت لأدافع عن دمشق في ميدان وادي الحجارة، وعن القدس في مدينة قرطبة، وعن بغداد في ميدان طليطلة، وعن القاهرة في ميدان الأندلس، وعن تطوان في ميدان بورغوس.. فلاحت على وجهه أمارات الدهشة والسرور وقال بفرنسية لا بأس بها:
- أحقاً أنت عربي. أنت «مورو» أي مغربي ــ؟ هذا مستحيل! إنّ المغاربة يسيرون مع الأسقياء الفاشست، يهاجمون مدننا، يقتلوننا، ينهبوننا، ويغتصبون نساءنا.
- فأجبته: صحيح أن بعض المغاربة يسيرون مع الجنرالات العسكريين الرجعيين؛ مع الذين قمعوا في سنة ١٩٢٥ ثورة عبد الكريم وفتكوا بأهلهم، مع الذين سلبوا خيرات بلادهم، ولكنهم يسيئون بعملهم هذا إلى العرب والإسلام. وهم لا يمثّلون العرب والاسلام بعملهم، فهم مخدوعون؛ خدعهم فرانكو وأعوانه السفاحون، بالاشتراك مع بعض زعماء المغاربة الآثمين الذين باعوا أنفسهم، ونسوا عروبتهم وخانوا روح الإسلام. وأرسلوا شعبهم لخدمة أكبر الاستعماريين وأفظعهم.
استغرب رئيس شرذمة الميليشيا ما سمعه مني وأخذ يهزّ رأسه يمنةً ويسرةً كأنه غير مصدّق أو كأنه يرتاب في أن الذي يخاطبه هو من أبناء يعرب.
- فقلت له: إني لست العربي الوحيد هنا! فهناك كثيرون الآن في الجيش الأممي وسيأتي غيرنا أيضاً. بل إن العرب الموجودين في صفوف فرانكو الآن، لا بد أن تتفتح عيونهم، فيركنوا إلى الفرار وينضمّوا إلى قواتكم. بل إنني أعلم أن هناك كثيرين قد تفتحت عيونهم يترقبون الفرص السانحة للفرار إلى معسكر الجمهورية، وهناك في بلادنا العربية ٧٠ مليون عربي لا يعطفون إلا على الجمهورية الاسبانية، ولا يناصرون إلا الديمقراطية لأنّ مدنيتهم العربية، وتقاليدهم التاريخية الشريفة مبنيّة على الديمقراطية الحقة.
فظهر السرور على وجه الرئيس وعلى وجوه شرذمته. ولم نلبث أن تعانقنا وأخذوا يحيّوني «بالطبطبة» على الأكتاف، وهي عادة إسبانية مستحبّة جميلة، ثم هزّوا يدي مصافحين قائلين: «إلى الملتقى في الجبهة الوسطى، إلى الملتقى في طليطلة». لا تنس أنك في دفاعك عن (الكازادي توليدو ) إنما تدافع عن أجمل ما تركه أجدادكم العرب من آثار خالدة!
تابعت السير في برشلونة فلاحظت غلياناً في حياة هذه المدينة العظيمة: روح جوانية لا توصف، حماسة وأعلام حمراء ترفرف في كل مكان بجانب أعلام الجمهورية، بضاعة جديدة تباع على الأرصفة، طاقيات بشرّابات حمراء، أزرار، ونجوم، ودنتلات حريرية لوّنت بألوان تمثل مختلف الأحزاب السياسية. وقد علّقت على الجدران بين كل مسافة وأخرى خارطة إسبانيا غُرِزت في القسم الجمهوري منها دبابيس ذات طبعة حمراء وفي القسم الفاشستي منها دبابيس ذات طبعة سوداء. وقد وقف جمهور غفير حول هذه الخرائط يتناقش بحدّة عن سير الحركات العسكرية.
لن أقطع مئة متر في مسيري إلا وأنا في ساحة «قطالونيا» مركز مدينة برشلونة وقلب حركتها التجارية. فهنالك المصارف المالية والمخازن الكبرى، ودُور القناصل أصحاب الملايين، والوكالات التجارية، وفنادق كبار السائحين.
في الناحية الشمالية من هذه الساحة قامت عمارة هائلة معروفة باسم «أوتيل كولون» كانت في بدء العصيان الفاشستي معقلاً للحرس الملكي الإسباني وحصناً للفرق الفاشستية العاصية؛ غير أنه لما فاز الشعب على الخوَنة أصدرت حكومة قطالونيا مرسوماً يقضي بوضع هذا الأوتيل تحت تصرف الحزب الاشتراكي الموحّد في قطالونيا وعلى هذه البناية لوحة يناهز عرضها ٢٠ متراً كتبت عليها العبارة الآتية:
«الحزب الاشتراكي الموحد فرع الأممية الشيوعية P.S.O.- P.C.E.- U.S.C.- P.O.C»، أطلقوا على هذا الحزب اسم الحزب الموحد لأنه نشأ من اندماج أربعة أحزاب عمال توحدت أخيراً على أثر الفتنة الفاشستية وانضمت إلى الأممية الثالثة. أما الأحرف اللاتينية المنشورة أعلاه فتدلّ على أسماء هذه الأحزاب الموحدة، أولها، وهو «حزب العمال الاشتراكي»، وقد انسحب من الاممية الثانية وثانيها هو «الحزب الشيوعي القطالوني». وثالثها هو «الاتحاد الاشتراكي القطالوني». ورابعها وهو: «حزب العمال».
التطوع في كولون
دخلت «أوتيل كولون» طالباً الزيارة كمتطوع أجنبي ولم أكد أضع قدمي في المدخل الرئيسي حتى اعترضني الحرس المسلح وطلب مني الوثائق فأظهرت له أوراقي، وبعد الفحص أذنوا لي بالدخول.
صعدتُ إلى الطابق الأول والثاني فالثالث فهالني ما شاهدت: شاب مسلح وهو كشعلة من نار: شعارات، وأوامر وصور ثورية متنوعة أُلصقت على الجدران بدون ترتيب. حركة عظيمة، الكل مسرع، واينما اتجهت لا تسمع إلا كامارادا.. كوليجيا كومبانيونا، اي يا رفيقي، يا زميلي، يا صاحبي!
استوقفت أحدهم وطلبت منه أن يجمعني بالسكرتير أو وكيله ويعرّفني به كمتطوع عربي جاء ليشدّ أزر الحكوميين فاقتادني إلى غرفة وكيل السكرتير، وبعد الاستئذان دخلت على الرجل فسلّم عليّ سلاماً عسكرياً صرفاً لكنه لا يخلو من علائم الودّ والترحيب.
- قلت له: أنا متطوع عربي قدمت اليوم فقط وبما أنني أجهل الوضعية الحاضرة وكان هذا في شهر آب سنة ١٩٣٦ في قطالونيا فرجائي أن تحيطوني علماً ببعض المعلومات، فانفرجت أساريره عن ابتسامة خفيفة لطيفة
- وقال: أهلاً بالتطوع العربي الكريم.
أهلاً بحفيد مشيّدي قصر الحمراء. أهلاً بحفيد الذين مكثوا في ديارنا ٨٠٠ سنة! تأمّلْني قليلاً، ألا ترى أنني أشبه العرب أكثر منك، أنا عربي الأصل واسمي اسماعيل رباراز؟
- قلت: يسرّني جداً ما أسمعه منكم ولي الشرف بالتعرف إليكم.
- قال: والآن ما هي الأمور التي تودّ معرفتها؟
- قلت: شيء عن تاريخ حركتكم التحريرية القطالونية وكلمة إجمالية عن الوضعية العسكرية الحاضرة.
- قال: لك ما تريد: نحن القطالونيين شعبٌ قائم بذاته، لنا ثقافتنا الخاصة ولهجتنا الخاصة، ولنا نضال طويل ضد سادة قشتالية بذلنا فيه الدماء الغزيرة في سبيل استقلالنا الوطني. غير أنني أقول لك بأنه لا يمكن لقطالونيا أن تعيش بلا إسبانيا الداخلية. فالاستقلال الذي نريده هو الاستقلال الداخلي (أوتونومي) على أن نشترك فعلياً في السياسة العامة التي تنتهجها السلطات المركزية.
بلادنا هي مركز الصناعة الضخمة ومهد طبقة العمال، ومبعث حركتهم النقابية، فكان من البديهي أن نراها قد سبقت كل المقاطعات الإسبانية بتأسيس الأحزاب السياسية والنقابات الحرفية للطبقة العاملة. أما مميزات حركة العمال عندنا، فهي أنّ هؤلاء لم يفتحوا أعينهم إلا وهُم في أحضان الفوضوية المتغذية بتعاليم ميخائيل باكونين وخليفته البرنس كروبوتكين.
لعالمنا اليوم أحزاب مختلفة لها نظريات متنوعة غير أنها توحّدت أخيراً في حزب واحد غايته محاربة الفاشستية بالسلاح. وأنا جدّ سعيد برؤية هذه الوحدة التي كنت أحلم بها طوال أيام حياتي. غير أنني أقول لك والأسف يملأ قلبي: إن منظمات العمال الفوضوية لا تزال بعيدة عنا.
بعدما حاول الفاشست الاستيلاء على السلطة وأتيح لنا قمع محاولتهم بشدة، انحاز إلى جانبهم كل رجال الصناعة الضخمة، والاقطاعيون وطغاة المال من أرباب البنوك وسواهم من اصحاب الامتيازات الجائرة، وصاروا يقاتلون العمال في الشوارع ويطلقون الرصاص على الجماهير من نوافذ قصورهم، فأجابتهم الجماهير المدافعة بالمثل فقُتل منهم مَن قُتل وسجن من سجن وفرّ من فر.
فلمّا استتبّ الأمن، وعادت المياه إلى مجاريها، رأت الحكومة الجمهورية أنها أمام الأمر الواقع، وهو أنّ دور الصناعة الضخمة خالية من الرأسماليين، فترتب آنذاك على النقابات أن تضع يدها على تلك الدُور بعدما تركها أصحابها وخانوا وطنهم وإنضمّوا إلى الأعداء، وتُدير شؤونها بواسطة لجان من العمال. وعليه، إن الصناعة الضخمة في قطالونيا مصادرة والحكومة هي التي تعتني بأمر الإنتاج وتصريف المنتوجات.
وليست هذه الحالة وهذه التدابير من صميم الاشتراكية، إنما هي حالة خاصة أوجدتها الحرب الأهلية وسببها المباشر انحياز كبار الرأسماليين إلى جانب القضاة الفاشست. أقول إنها ليست بالاشتراكية لأنّ النظام الحاضر في قطالونيا هو نظام جمهوري لا يمسّ مبدئياً الملكية الفردية لدور الصناعة، فالمصادرة التي ذكرتها لكم هي مصادرة إضطرت إليها الحكومة اضطراراً وهي عقاب للخوَنة الذين انضمّوا إلى جانب أعداء الشعب.
خذ مثلاً المدعو «خوان مارش»، فهو متموّل كبير، يملك الكثير من البيوتات الصناعية والتجارية في إسبانيا ومراكش وجزر الباليار، فهذا الرجل هو من أكبر من يمدّون أعداء الجمهورية بالأموال الطائلة.. أفلا يجب على الحكومة أن تصادر أملاكه؟
وإنني أؤكد لكم أننا لم نمسّ التجارة الأهلية ولا الصناعة الخفيفة لأن أصحابها جمهوريون ديمقراطيون يناضلون في صفوف الشعب ضد الجنرالات العصاة.
وهنا توقف محدّثي ونظر إليّ صامتاً منتظراً أن ألقي عليه ما عندي من أسئلة أخرى فأدركت منه ذلك وقلت له:
- كيف الحالة الآن في جبهة ساراغوسا؟
- هي سارّة جداً وسيتحول موقفنا قريباً من الدفاع
إلى الهجوم.
- ما رأيكم بمستقبل الحرب وفي أي جانب سيكون النصر!
- ستطول الحرب الأهلية بسبب تدخّل ألمانيا وإيطاليا. ولكن النصر سيكون حليفنا بلا شك.
- هل تساعدون الحكومة المركزية بالمصنوعات الحربية؟
- يعمل الحزب الاشتراكي الموحّد كل ما بوسعه لمساعدة الحكومة المركزية بما تخرجه مصانعنا من دبابات ومصفحات ومدافع وقنابل، لكن العناصر الفوضوية تعاكس أمر المساعدات إلى حد ما، بحجة أن هذه الاشياء لازمة فقط للدفاع عن قطالونيا!
- ما رأيكم بمستقبل الفوضوية الإسبانية!
- الفوضويون قوة كبيرة هنا. غير أنهم يتمكسون بالقشور دون اللبّ يا عزيزي، والمستقبل كفيل يحل مشكلتهم.
وعلى ذلك انتهى حديثي مع السنيور اسماعيل رباراز، فودّعته شاكراً على المعلومات النفيسة التي أدلى بها إليّ، وما كدت أخرج من غرفته حتى لحق بي وسألني ضاحكاً: هل تودّ مقابلة شاب يتكلم العربية؟ فقلت: بكل امتنان. وما هي إلا دقائق حتى دخل علينا شاب في نحو العشرين من العمر ضحوك، خفيف الحركة بادرني بالسؤال: أنت تعرف العربية؟ فأجبته بالإيجاب وسألته بدوري: وأنت كيف تعلمتها؟ فردّ علي بلغة عربية مهشمة بأن أمّه عربية وأباه إسباني وأنه كان في مراكش، والجزائر ومالطه إلخ. وكان بيننا حديث ممتع.