- أهلا يا بطل. بلاد لا تختلف عن بلادنا, نفس الدروب المتعرجة و الحقول الضيقة, ونفس الوجوه الفرحة بالنصر و التي تقف لدي رؤيتها للذي يرتدي الزي العسكري, تجري نحوه وتأخذه في حضنها, تلتف حوله تسأل عن أخبار الحرب, يقدمون الأكل و السجائر, يجرونه نحو أقرب المساطب و تخرج الطبلية العامرة بخيرها مع براد الشاي, الوجه يصبح اثنين حتي يصير جمعا كبيرا, تستمع بتلهف لما يقال; منذ أن تركت القطار و لا أقدر أن أتحرك بحرية, خطوات ثم أتوقف, حين أهم بالسؤال عن أهل دياب, تكون أسئلة كثيرة قد انهالت تستفسر عنه: هل رأيته؟ لماذا لم يعد؟ هل استشهد أم هو مجروح؟ و لم أدر بم أجيب.
حدثني فقال:
بلادنا يا جرجس الناس فيها عائلة واحدة رغم الخلافات و المشاكل التي تقع بينهم, لكنهم لا ينسون أن أباهم واحد وأمهم واحدة, قبيلة واحدة رغم تعدد النجوع.
- أهلا بالبطل.
و كنت انتزعت نفسي من بين أحضان الأهل و القرية كلها, و التي أخذت تقيم الولائم لنا نحن العائدين من الحرب, حتي الذين استشهد أبناؤهم أيضا يولمون ويأتون بالمقرئ ليقرأ القرآن و المغنواتية و تهيص الليالي, و كأنه فرح دأئم و الكل صاحبه, العائدون يتبارون في قص البطولات والأحداث التي شاهدوها, كانوا يملكون الكثير من الحكايات, و كنت أستغرب هذا, أنا الذي لم يكن لدي سوي حكاية واحدة, حكايتك يا' دياب'; كنت أحكي لهم و أراك أمامي تضحك و بعيني تنزل الدموع.
حين أيقظتني زوجتي ذات ليلة و الهلع باد في وجهها, و باقي الكلمات ما تزال بصدري' الأمانة يا جرجس.. الأمانة'. و كان صوتك با دياب فاخذت قطار الفجر المتجه جنوبا حيث أهلك, تذكر لقائنا بالجيش أول مرة, استغربت أنت و أستغربت أنا من اسمك' دياب' و تساءلت بضحكة كبيرة: هل تكثر الذئاب ببلادكم.
حدثني فقال:
للسيرة الهلالية كان أبي عاشقا, يحفظ أجزاءها شعرا يغنيه مع الشاعر و كان مغرما بالتغريبة, و كان دائما يقف في صف الزناتي خليفة و يراه أكثر فتونة من أبي زيد الهلالي في أمور الحرب و الطعان, كان يقول عنه:
في الحروب زي الخليفة ما رأيت
فتوة غايظ نديده
حربته تيتم الواد و البيت
حدش يقدر يكيده.
حين أنجب أبي أخي الأكبر أسماه خليفة, لكنه مات و هو ضغير و دياب ابن غانم جاء بحربته ليجندل الخليفة و كنت لتوي ولدت, زعل أبي كثيرا و تخانق مع الشاعر, لكنه في النهاية لنفسه قال: لابد أن يكون هذا ال' دياب' أشد من الخليفة فأسماني دياب, و ها نحن نعيش الآن في التغريبة.
و حدثني فقال:
هل تصدق يا جرجس أنك أول مسيحي أكلمه و أصاحبه أيضا, نجوعنا كلها ليس بها مسيحي واحد, أليس هذا غريبا!!
- تفضل با بطل.
عبر الدروب يقودونني إلي بيت والد دياب, موكب يأخذ في الازدياد كلما تحركنا و بصعوبة إلي الأمام, العيال تجري أمامنا تدق علي الأبواب فيخرج الرجال ينضمون للموكب, يسلمون علي, بالحضن يأخذوني و الواحد منهم يحلف بالطلاق أن آخذ تحيته, النساء يضممن لمؤخرة الموكب, هل بينهن عزيزة, تري أي واحدة هي؟
حدثني فقال:
عزيزة مهرة الروح الجموح, وقدة القلب في خضاره, ابنة العم هي, و عمي كان عاشقا للسيرة أيضا, لكنه كان يميل إلي أبي زيد, لذا أصر علي أن يسمي أخي الأصغر مني يونس, و أسمي أبنته التي ولدت بعده عزيزة, و قرأ هو و أبي فاتحتها لي, كنت وقتها أجري بالدروب ألاعب العيال بالسيف الجريد من فوق حصاني الجريد, لكنها بسرعة كبرت و رأيت خراط البنات قد خرطها و صارت عيوننا تترصد الطريق و الموردة وبيت الجد و حكايات الجدة.
- من هنا يا بطل.
يدي تمتد إلي جيب السترة تتحسس المنديل_ الأمانة- و بالجيب الآخر حافظة أوراقه, فأشعر كأن سكينا انغرزت بجنبي بغتة فأجفل وسط الطريق, تمتد أيدي الرجال تسندني, أتظاهر بأنني تعثرت بحجارة الشارع, و أبتسم للوجوه البشوشة من حولي.
حدثني فقال:
قلبك رهيف يا جرجس, قوي قلبك يا رجل, الحرب محتاجة قوة القلوب و عزم السواعد, أحسن لك تفطر بدل ما أنت صائم رمضان معنا. قلت لك: ساعة الحرب تتغير كل حاجة, و الرسول(ص) في بدر جعل المسلمين بفطرون. رحت تضحك و تقص علي حلمك الغريب:' طائر أبيض مثل الحليب يطير تجاه الشرق و بعبر فوق الماء و يجط هناك فوق أحد التلال الرملية و كتب عزيزة بلون أحمر, ثم طار تجاه السماء متحولا إلي سحابة بيضاء كبيرة'.
تقول: هناك سأموت, هذه المرة هي الحرب يا جرجس, و أنا سأموت هناك.. سنعبر إليهم و نضربهم و نطردهم من أرضنا. وجهك يشرق و يطل بريق من عينيك و هو يواجه الضفة الأخري; تقول: هانت.. سآتيك يا حبيبتي. و أنا أتساءل: هل يحدث و نعبر القناة إليهم؟ الوقت طال و الصدر ضاق, و أعلق علي حلمك: تخاريف. فتزعل و تقول: العلام كان يضرب الرمل لكني أفسر الأحلام, و إذا حدث ما قلت لك سيلزمك المشوار حتي تقابل أبي و عزيزة.
قالت زوجتي: متي تعود؟ قلت: كنت أتمني أن يقوم هو بهذا المشوار بدلا مني و يأتي إلي هنا, لكنه يومها_ الخميس الحادي عشر من أكتوبر و الخامس عشر من رمضان_ ونحن نفطر سويا قال: هذا آخر إفطار لي بالدنيا, غدا سأفطر بالجنة. و رمي ما بيده من طعام, قال: و الله كأني أشم ريح الجنة. قلت: وسط البارود و الدم؟ قال: نعم.
كنا لتونا استطعنا أن نصد الهجوم الثاني للدبابات الاسرائيلية و المدرعات في محاولة يائسة منهم لاسترداد الموقع_ تبة المثلثات- و التي تشكل بروزا مؤثرا علي خط المرتفعات في عمق15 كيلو متر شرق القناة, و تسيطر علي منطقة الهواويس و التي هي موقع حاكم للغاية في المنطقة, كنا قد استولينا علي هذه التبة أثناء تقدمنا علي الطريق الأوسط بنجاح تام و دون مقاومة تذكر حيث فر الجنود الذين لا يقهرون; قال القائد: بعد نجاحنا في صد الهجوم الثاني و الذي كان جنونيا, علينا أن نستعد للهجوم الذي سيقوم به العدو في صبح الغد. ثم راح يوضح لنا أن العدو سيقوم بقصف الموقع بطائراته و سيجري عملية إبرار واسعة للجنود و المعدات كي يسترد الموقع, لكننا هنا سنقاتل لآخر طلقة وآخر رجل; كان الحماس بداخلنا يشتد لمواجهة الغد, أكمل القائد: كما رأيتم إن خسائرنا قد زادت, لذا علينا أن نستخدم مكيدة الحرب و خداعهم. كان عددنا لا يتجاوز ال35 فردا وبعض الجرحي, لكن صهيل القتال و عزم الرجال جعلنا نصرخ: الله أكبر. قال القائد: سنقوم بدفع سرية تختبئ خلف الموقع و تظل مستعدة باستمرار لمهاجمة العدو في حالة قيامه بالإبرار.
كنت أنا و أنت يا دياب لم نفترق منذ أن دخلنا الجيش, حتي الأجازات القصيرة كنا ننزلها مع بعضنا, و هكذا أيضا كنا ضمن السرية المختبئة في أحد الوديان خلف الموقع, وفعلا في العاشرة والنصف من صباح الجمعة بدأ العدو في عملية الإبرار الواسعة خلف و أمام الموقع علي مراحل, عربات مجنزرة بأطقمها يتم إبرارها, في حين يتقدم طابور من المدرعات صوب التبة, تبة عزيزة كما أسميتها يا دياب.
فتحت أبواب الجحيم و الجنون, بدأوا يطلقون النيران في كل الاتجاهات حتي يبطلوا أي مقاومة, يصاحب ذلك قصف جوي عنيف, و الدبابات تلقي بداناتها تدك الموقع, صبر القائد.. صبر حتي أمرنا بالهجوم.
كانوا أمامنا ببطن الوادي, و رأيتك يا دياب و رأيتني و الرجال كما الوحوش نتقدم بصدورنا للاقتحام, و بدأنا في الاصطياد و أخذنا نلاعبهم مستغلين طبيعة المكان, في نفس الوقت كان القائد قد أعطي الأمر لكتيبة دبابات تؤمنها كتيبة صواريخ لصد دبابات العدو و إحباط هجومه و منعه من الوصول للتبة.
بوغت العدو بالهجوم عليه من الخلف و الأجناب أثناء اشتباكه في قتال ضار مع قوة الموقع, و أصيبت خطوطه بالارتباك و أخد في الارتداد و الفرار متعجلا فوقع في شراك حقل الألغام الذي تمت زراعته ليلا, توالي قتلاهم وخسائرهم, و افترشت الوادي الجثث و تطايرت الشظايا, وأصبت يا دياب في صدرك وأنا في ذراعي وراح الدم ينزف, و رأيت يا دياب إحدي دباباتهم تفر هاربة ومن برجها يطلق أحد الجنود النيران بجنون علينا نحن المختبئين علي جانبي الخور, قلت: ها الجنة قد قربت. بهت و رأيت وجهك يشرق بنور بهي, تزعق في: اطلق عليه النار, لا تجعله يمسك بالمدفع حتي أصل للدبابة.
ألقيت سلاحك و اندفعت تجري خلف الدبابة و أنت تجهز القنبلة التي بيدك, صرخت: دعني أقوم بهذا. لكنك جريت, و أنهمر الرصاص حولك, رأيتك تترنح, وقفت و أنا أصرخ: يا...!!.. و أطلقت النار بكل غلي علي الدبابة فنزل الجندي إلي داخلها, و أنت تجري و تلحق بها و تعتليها, تلقي بالقنبلة داخلها و تقفز للخلف, دوي الإنفجار و توقفت الدبابة وسط الصراخ منغرزة في الرمال, نحوك جريت.. ممددا علي الأرض كنت و دمك ينزف بغزارة من كل جسدك يروي الرمل/ الأرض, من جيبك أخرجت المنديل, و كبشت من الرمال المتشربة دمك و عقدت عليها المنديل و أعطيته لي, قلت: وجب عليك المشوار.. اعطي هذا المنديل ليونس أخي و قل له هو وأبي: هذا مهر عزيزة التي يجب أن تتزوج بيونس, و الذي عليه أن يحتفظ بالمنديل و بما فيه, هذه وصيتي.
حدثني فقال:
المنديل صنعته عزيزة, و في أجازتي الأخيرة يوم رحيلي أعطته لي, كانت الدموع بعينيها, هل رأت الحلم قبلي, و عرفت أن هذا منديل شرفها, منديل طهرها; حين رف المنديل أمام عيني رأيت مطرزة به صورة لدياب فوق حصانه و حربته الطويلة بيده, ناظرا صوب القلعة العالية التي يطل من فوقها خليفة الزناتي.
- خلاص وصلنا يا بطل.
فسحة صغيرة أمام بيت مطلي بالجير الأبيض حديثا, الحوائط مزينة برسوم لطائرات و دبابات و جنود و قنابل و دخان و أرض معركة و هناك علي أحد التلال يقف دياب رافعا العلم و قد أصابته طلقة فاستند لصاري العلم, و فوق الباب كتب: هذا منزل الشهيد دياب ابن البلد. أعلي الدار ترتفع رايات خضراء و كبيرة بها أهلة و نجوم بيضاء.
حين إنفتح الباب انطلقت زغرودة من داخل الدار و علي الفور تجاوبت معها زغاريد من الخلف, حيث النساء, و راحت الزغاريد تتعالي و ترتفع.
أحمد أبو خنيجر
نشر في الأهرام اليومي يوم 08 - 10 - 2010
حدثني فقال:
بلادنا يا جرجس الناس فيها عائلة واحدة رغم الخلافات و المشاكل التي تقع بينهم, لكنهم لا ينسون أن أباهم واحد وأمهم واحدة, قبيلة واحدة رغم تعدد النجوع.
- أهلا بالبطل.
و كنت انتزعت نفسي من بين أحضان الأهل و القرية كلها, و التي أخذت تقيم الولائم لنا نحن العائدين من الحرب, حتي الذين استشهد أبناؤهم أيضا يولمون ويأتون بالمقرئ ليقرأ القرآن و المغنواتية و تهيص الليالي, و كأنه فرح دأئم و الكل صاحبه, العائدون يتبارون في قص البطولات والأحداث التي شاهدوها, كانوا يملكون الكثير من الحكايات, و كنت أستغرب هذا, أنا الذي لم يكن لدي سوي حكاية واحدة, حكايتك يا' دياب'; كنت أحكي لهم و أراك أمامي تضحك و بعيني تنزل الدموع.
حين أيقظتني زوجتي ذات ليلة و الهلع باد في وجهها, و باقي الكلمات ما تزال بصدري' الأمانة يا جرجس.. الأمانة'. و كان صوتك با دياب فاخذت قطار الفجر المتجه جنوبا حيث أهلك, تذكر لقائنا بالجيش أول مرة, استغربت أنت و أستغربت أنا من اسمك' دياب' و تساءلت بضحكة كبيرة: هل تكثر الذئاب ببلادكم.
حدثني فقال:
للسيرة الهلالية كان أبي عاشقا, يحفظ أجزاءها شعرا يغنيه مع الشاعر و كان مغرما بالتغريبة, و كان دائما يقف في صف الزناتي خليفة و يراه أكثر فتونة من أبي زيد الهلالي في أمور الحرب و الطعان, كان يقول عنه:
في الحروب زي الخليفة ما رأيت
فتوة غايظ نديده
حربته تيتم الواد و البيت
حدش يقدر يكيده.
حين أنجب أبي أخي الأكبر أسماه خليفة, لكنه مات و هو ضغير و دياب ابن غانم جاء بحربته ليجندل الخليفة و كنت لتوي ولدت, زعل أبي كثيرا و تخانق مع الشاعر, لكنه في النهاية لنفسه قال: لابد أن يكون هذا ال' دياب' أشد من الخليفة فأسماني دياب, و ها نحن نعيش الآن في التغريبة.
و حدثني فقال:
هل تصدق يا جرجس أنك أول مسيحي أكلمه و أصاحبه أيضا, نجوعنا كلها ليس بها مسيحي واحد, أليس هذا غريبا!!
- تفضل با بطل.
عبر الدروب يقودونني إلي بيت والد دياب, موكب يأخذ في الازدياد كلما تحركنا و بصعوبة إلي الأمام, العيال تجري أمامنا تدق علي الأبواب فيخرج الرجال ينضمون للموكب, يسلمون علي, بالحضن يأخذوني و الواحد منهم يحلف بالطلاق أن آخذ تحيته, النساء يضممن لمؤخرة الموكب, هل بينهن عزيزة, تري أي واحدة هي؟
حدثني فقال:
عزيزة مهرة الروح الجموح, وقدة القلب في خضاره, ابنة العم هي, و عمي كان عاشقا للسيرة أيضا, لكنه كان يميل إلي أبي زيد, لذا أصر علي أن يسمي أخي الأصغر مني يونس, و أسمي أبنته التي ولدت بعده عزيزة, و قرأ هو و أبي فاتحتها لي, كنت وقتها أجري بالدروب ألاعب العيال بالسيف الجريد من فوق حصاني الجريد, لكنها بسرعة كبرت و رأيت خراط البنات قد خرطها و صارت عيوننا تترصد الطريق و الموردة وبيت الجد و حكايات الجدة.
- من هنا يا بطل.
يدي تمتد إلي جيب السترة تتحسس المنديل_ الأمانة- و بالجيب الآخر حافظة أوراقه, فأشعر كأن سكينا انغرزت بجنبي بغتة فأجفل وسط الطريق, تمتد أيدي الرجال تسندني, أتظاهر بأنني تعثرت بحجارة الشارع, و أبتسم للوجوه البشوشة من حولي.
حدثني فقال:
قلبك رهيف يا جرجس, قوي قلبك يا رجل, الحرب محتاجة قوة القلوب و عزم السواعد, أحسن لك تفطر بدل ما أنت صائم رمضان معنا. قلت لك: ساعة الحرب تتغير كل حاجة, و الرسول(ص) في بدر جعل المسلمين بفطرون. رحت تضحك و تقص علي حلمك الغريب:' طائر أبيض مثل الحليب يطير تجاه الشرق و بعبر فوق الماء و يجط هناك فوق أحد التلال الرملية و كتب عزيزة بلون أحمر, ثم طار تجاه السماء متحولا إلي سحابة بيضاء كبيرة'.
تقول: هناك سأموت, هذه المرة هي الحرب يا جرجس, و أنا سأموت هناك.. سنعبر إليهم و نضربهم و نطردهم من أرضنا. وجهك يشرق و يطل بريق من عينيك و هو يواجه الضفة الأخري; تقول: هانت.. سآتيك يا حبيبتي. و أنا أتساءل: هل يحدث و نعبر القناة إليهم؟ الوقت طال و الصدر ضاق, و أعلق علي حلمك: تخاريف. فتزعل و تقول: العلام كان يضرب الرمل لكني أفسر الأحلام, و إذا حدث ما قلت لك سيلزمك المشوار حتي تقابل أبي و عزيزة.
قالت زوجتي: متي تعود؟ قلت: كنت أتمني أن يقوم هو بهذا المشوار بدلا مني و يأتي إلي هنا, لكنه يومها_ الخميس الحادي عشر من أكتوبر و الخامس عشر من رمضان_ ونحن نفطر سويا قال: هذا آخر إفطار لي بالدنيا, غدا سأفطر بالجنة. و رمي ما بيده من طعام, قال: و الله كأني أشم ريح الجنة. قلت: وسط البارود و الدم؟ قال: نعم.
كنا لتونا استطعنا أن نصد الهجوم الثاني للدبابات الاسرائيلية و المدرعات في محاولة يائسة منهم لاسترداد الموقع_ تبة المثلثات- و التي تشكل بروزا مؤثرا علي خط المرتفعات في عمق15 كيلو متر شرق القناة, و تسيطر علي منطقة الهواويس و التي هي موقع حاكم للغاية في المنطقة, كنا قد استولينا علي هذه التبة أثناء تقدمنا علي الطريق الأوسط بنجاح تام و دون مقاومة تذكر حيث فر الجنود الذين لا يقهرون; قال القائد: بعد نجاحنا في صد الهجوم الثاني و الذي كان جنونيا, علينا أن نستعد للهجوم الذي سيقوم به العدو في صبح الغد. ثم راح يوضح لنا أن العدو سيقوم بقصف الموقع بطائراته و سيجري عملية إبرار واسعة للجنود و المعدات كي يسترد الموقع, لكننا هنا سنقاتل لآخر طلقة وآخر رجل; كان الحماس بداخلنا يشتد لمواجهة الغد, أكمل القائد: كما رأيتم إن خسائرنا قد زادت, لذا علينا أن نستخدم مكيدة الحرب و خداعهم. كان عددنا لا يتجاوز ال35 فردا وبعض الجرحي, لكن صهيل القتال و عزم الرجال جعلنا نصرخ: الله أكبر. قال القائد: سنقوم بدفع سرية تختبئ خلف الموقع و تظل مستعدة باستمرار لمهاجمة العدو في حالة قيامه بالإبرار.
كنت أنا و أنت يا دياب لم نفترق منذ أن دخلنا الجيش, حتي الأجازات القصيرة كنا ننزلها مع بعضنا, و هكذا أيضا كنا ضمن السرية المختبئة في أحد الوديان خلف الموقع, وفعلا في العاشرة والنصف من صباح الجمعة بدأ العدو في عملية الإبرار الواسعة خلف و أمام الموقع علي مراحل, عربات مجنزرة بأطقمها يتم إبرارها, في حين يتقدم طابور من المدرعات صوب التبة, تبة عزيزة كما أسميتها يا دياب.
فتحت أبواب الجحيم و الجنون, بدأوا يطلقون النيران في كل الاتجاهات حتي يبطلوا أي مقاومة, يصاحب ذلك قصف جوي عنيف, و الدبابات تلقي بداناتها تدك الموقع, صبر القائد.. صبر حتي أمرنا بالهجوم.
كانوا أمامنا ببطن الوادي, و رأيتك يا دياب و رأيتني و الرجال كما الوحوش نتقدم بصدورنا للاقتحام, و بدأنا في الاصطياد و أخذنا نلاعبهم مستغلين طبيعة المكان, في نفس الوقت كان القائد قد أعطي الأمر لكتيبة دبابات تؤمنها كتيبة صواريخ لصد دبابات العدو و إحباط هجومه و منعه من الوصول للتبة.
بوغت العدو بالهجوم عليه من الخلف و الأجناب أثناء اشتباكه في قتال ضار مع قوة الموقع, و أصيبت خطوطه بالارتباك و أخد في الارتداد و الفرار متعجلا فوقع في شراك حقل الألغام الذي تمت زراعته ليلا, توالي قتلاهم وخسائرهم, و افترشت الوادي الجثث و تطايرت الشظايا, وأصبت يا دياب في صدرك وأنا في ذراعي وراح الدم ينزف, و رأيت يا دياب إحدي دباباتهم تفر هاربة ومن برجها يطلق أحد الجنود النيران بجنون علينا نحن المختبئين علي جانبي الخور, قلت: ها الجنة قد قربت. بهت و رأيت وجهك يشرق بنور بهي, تزعق في: اطلق عليه النار, لا تجعله يمسك بالمدفع حتي أصل للدبابة.
ألقيت سلاحك و اندفعت تجري خلف الدبابة و أنت تجهز القنبلة التي بيدك, صرخت: دعني أقوم بهذا. لكنك جريت, و أنهمر الرصاص حولك, رأيتك تترنح, وقفت و أنا أصرخ: يا...!!.. و أطلقت النار بكل غلي علي الدبابة فنزل الجندي إلي داخلها, و أنت تجري و تلحق بها و تعتليها, تلقي بالقنبلة داخلها و تقفز للخلف, دوي الإنفجار و توقفت الدبابة وسط الصراخ منغرزة في الرمال, نحوك جريت.. ممددا علي الأرض كنت و دمك ينزف بغزارة من كل جسدك يروي الرمل/ الأرض, من جيبك أخرجت المنديل, و كبشت من الرمال المتشربة دمك و عقدت عليها المنديل و أعطيته لي, قلت: وجب عليك المشوار.. اعطي هذا المنديل ليونس أخي و قل له هو وأبي: هذا مهر عزيزة التي يجب أن تتزوج بيونس, و الذي عليه أن يحتفظ بالمنديل و بما فيه, هذه وصيتي.
حدثني فقال:
المنديل صنعته عزيزة, و في أجازتي الأخيرة يوم رحيلي أعطته لي, كانت الدموع بعينيها, هل رأت الحلم قبلي, و عرفت أن هذا منديل شرفها, منديل طهرها; حين رف المنديل أمام عيني رأيت مطرزة به صورة لدياب فوق حصانه و حربته الطويلة بيده, ناظرا صوب القلعة العالية التي يطل من فوقها خليفة الزناتي.
- خلاص وصلنا يا بطل.
فسحة صغيرة أمام بيت مطلي بالجير الأبيض حديثا, الحوائط مزينة برسوم لطائرات و دبابات و جنود و قنابل و دخان و أرض معركة و هناك علي أحد التلال يقف دياب رافعا العلم و قد أصابته طلقة فاستند لصاري العلم, و فوق الباب كتب: هذا منزل الشهيد دياب ابن البلد. أعلي الدار ترتفع رايات خضراء و كبيرة بها أهلة و نجوم بيضاء.
حين إنفتح الباب انطلقت زغرودة من داخل الدار و علي الفور تجاوبت معها زغاريد من الخلف, حيث النساء, و راحت الزغاريد تتعالي و ترتفع.
أحمد أبو خنيجر
نشر في الأهرام اليومي يوم 08 - 10 - 2010