علي حسين صالح علماني.. رحيل ساعي بريد ماركيز

في مرات كثيرة يحالفني الحظ .. ولم يكن هذا الحظ منصبا او مالاً ، وانما اصدقاء ، وشخصيات تشع بهجة وفكرا وعلما التقيت بها وحاورتها .. ومن بين هؤلاء كان الحظ ناصحا معي ذات مرة حين وجدت نفسي وجها لوجه امام المترجم القدير صالح علماني الذي رحل عن عالمنا صباح هذا اليوم .. بعد ان انجز ترجمة مئة كتاب وكتاب نقلها عن الاسبانية ، وكان اولها " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" لماركيز والتي صدرت نهاية السبعينيات عن دار الفارابي .. كان الرجل الذي يجلس قبالتي يبدو في حالة من النشوة وهو يستمع الى اغنيات ناظم الغزالي ضمن حفل فني اقيم في اسبوع المدى الثقافي عام 2007 الذي اقيم في اربيل ، وكنت انا انظر اليه أتذكر المرة الاولى التي قرات فيها رواية ماركيز " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه " ، وهو العمل الذي كتبه ماركيز عام 1956 ونشر عام 1961 حين كان ماركيز يعيش في باريس. وكان آنذاك يعاني البطالة وقد استوحى ماركيز الشخصية الرئيسية من جد له، كان ضابطاً كبيراً في الجيش ، جاعلاً من ذلك الجد، في الرواية ، ضابطاً متقاعداً يعيش مع زوجته ، ليس لهما من الحياة سوى ذكرى أليمة، وهي موت ابنهما الشاب أعمال القمع السياسي، مخلفاً لهما، ، ديكاً يصطحبه العجوز كل اسبوع ، ليخوض به مباريات ورياضة صراع الديوك، ، وكان الكولونيل يخرج في شكل منتظم الى دائرة البريد، ومنذ خمسة عشر عاماً، يسأل، إذا كانت قد وصلته رسالة ، الكولونيل، الذي لا اسم له ، كان يسأل عن رسالة واحدة ينتظرها منذ سنوات فهو قبل اكثر من خمسة عشر عاما شارك في انقلاب عسكري سرعان ما قمع ، ليفصل من الجيش ، لكنهم وعدوه انه سينال معاشاً تقاعدياً. لكن الرسالة التي تعلن بدء إرسال التقاعد ، لم تصل ولن تصل ، رغم ان الكولونيل يؤمن بأن الرسالة ستصل. لكن الجميع كانوا يعرفون أن الرسالة لن تصل أبداً ، في مذكراته " عشت لاروي " يكتب ماركيز إنه، استلهم شخصية الكولونيل من شخصية جده، الذي شارك في انتفاضة عسكرية ضد الحكم الفاشي وتقاعد من دون معاش. لكن اضافة الى حكاية الجد ، كانت هذه الرواية تتحدث ايضا عن وضع ماركيز الخاص الذي كان يعيشه في باريس، من دون عمل ، وكان ينتظر كل يوم ان تاتيه رسالة تقول له ان موضوعاته الصحفية نشرت .. اتذكر بعد ان قرأت الرواية تحدثت مع الراحل عزيز السيد جاسم عنها ، فطلب ان اعيرها اياه ، لاجده بعد شهر ينشر موضوعا قيما وشيقا عنها في مجلة الفكر العربي المعاصر التي كان يصدرها آنذاك مطاع صفدي .
قلت لصالح علماني ، وانا اجلس الى جانبه كيف تسنى له ترجمة كل هذه الكتب ، ابتسم وهو يشير الى " لابتوب " يحمله معه : " انا امارس الترجمة كهواية .. تجدني اقرأ واترجم في نفس الوقت ..ثم صمت قليلا قبل ان يقول ، ماركيز كان له الفضل الاول في ان اصبح مترجما ، فبعد ان لاقت ترجمة " ليس لدى الكونوليل من يكاتبه " استحسان الاوساط الادبية واشادت بها الصحافة ، قررت ان يصبح مترجما" . . يخبرنا علماني ان كتابة رواية كانت هاجس يطارده فقد كان يحلم ان يصبح روائيا :" عام 1970، غادرت إلى برشلونة لدراسة الطب، ثم تركته لدراسة الصحافة ، لكنني صمدت سنة واحدة فقط، عملت بعدئذ في الميناء، واختلطت بعالم القاع كأي متشرد. وبينما كنت أتسكع في أحد مقاهي برشلونة ذات مساء، قابلت صديقاً كان يحمل كتاباً. نصحني بقراءته. كانت الطبعة الأولى من" مئة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز. عندما بدأت قراءتها، أصبت بصدمة. لغة عجائبية شدتني بعنف إلى صفحاتها. قررت أن أترجمها إلى العربية. وبالفعل ترجمت فصلين ثم أهملتها… عندما عدت إلى دمشق نسيت الرواية في غمرة انشغالاتي. لكن ماركيز ظل يشدني، فترجمت قصصاً قصيرة له، ونشرتها في الصحف المحلية، ثم ترجمت " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" وقلت لنفسي: أن تكون مترجماً مهماً أفضل من أن تكون روائياً سيئاً. هكذا مزقت مخطوط روايتي الأولى من دون ندم وانخرطت في ترجمة روايات الآخرين" ..هكذا قررعلماني ان يصبح ساعي بريد لاعمال ماركيز ينقلها للقراء العرب ، ومعها اعمال ماريو فارغاس يوسا، إدواردو غاليانو، إيزابيل اليندي، خوزيه سارماغو، إدواردو ميندوثا، ميغل أنخل أستورياس، أنطونيو سكارميتا، وخوان رولفو وآخرين .
يرحل علماني وهو الذي قال إنه لا توجد ترجمة أفضل من النص الأصلي في أية لغة، خاصة الشعر، معترفاً بأنه لا يقدم على ترجمة عمل ما لم يقع في حُبه، حيث رفض بعض الأعمال التي لم ترق له واعتذر عن ترجمتها .



علي حسين
أعلى